مقدمة طبعة عام 2004
تمهيد
الجزء الأول: الجذور
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الجزء الثاني: شيكاغو
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الجزء الثالث: كينيا
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الخاتمة
مقدمة طبعة عام 2004
تمهيد
الجزء الأول: الجذور
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الجزء الثاني: شيكاغو
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الجزء الثالث: كينيا
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الخاتمة
أحلام من أبي
أحلام من أبي
قصة عرق وإرث
تأليف
باراك أوباما
ترجمة
هبة نجيب مغربي
إيمان عبد الغني نجم
مراجعة
مجدي عبد الواحد عنبة
«لأننا نحن غرباء أمامك، ونزلاء مثل كل آبائنا.»
أخبار الأيام الأول 29: 15
مقدمة طبعة عام 2004
مر ما يقرب من عقد من الزمان منذ نشر هذا الكتاب للمرة الأولى. وكما أذكر في التمهيد الأصلي، تسنت لي فرصة تأليف هذا الكتاب وأنا في كلية الحقوق، بعد انتخابي كأول أمريكي من
عرضا من أحد الناشرين وحصلت منه على دفعة مقدمة من مبلغ التعاقد، وبدأت العمل وأنا أومن أن قصة عائلتي، ومحاولاتي لفهم تلك القصة، قد تخاطب بصورة ما صدوع العنصرية التي كانت سمة التجربة الأمريكية، وأيضا حالة الهوية غير الثابتة - القفزات عبر الزمن وتصادم الثقافات - التي تمثل سمة حياتنا العصرية.
وعلى غرار من يؤلف كتابا للمرة الأولى غمرتني مشاعر الأمل واليأس فور نشر الكتاب؛ أمل في أن يحقق الكتاب نجاحا يتجاوز ما يجول في أحلامي الشابة، ويأس من أن أكون قد فشلت في أن أقول شيئا كان ينبغي أن أقوله. أما الحقيقة فكانت تقع في مكانة بين هذا وذاك. فجاءت المقالات النقدية عن الكتاب إيجابية نوعا ما، وكانت الجماهير تحضر بالفعل الندوات التي نظمها الناشر وتجري فيها قراءة أجزاء من الكتاب. لم تكن المبيعات مبهرة. وبعد بضعة أشهر مضيت قدما في حياتي المهنية وكلي ثقة بأن مستقبلي في تأليف الكتب سيكون قصيرا، لكني كنت سعيدا بأني خضت تلك التجربة وخرجت منها دون مساس بكرامتي.
لم يتسن لي الكثير من الوقت للتفكير طوال السنوات العشر التالية؛ فقد أدرت مشروعا لتسجيل الناخبين في انتخابات عام 1992م، وبدأت العمل محاميا في مجال الدفاع عن الحقوق المدنية، وبدأت أدرس مادة القانون الدستوري في جامعة شيكاغو. واشتريت أنا وزوجتي منزلا، ورزقنا طفلتين رائعتين ومشاغبتين تتمتعان بصحة جيدة، وكنا نجاهد لدفع تكاليف معيشتنا. وعندما أصبح أحد المقاعد في المجلس التشريعي في ولاية إلينوي شاغرا عام 1996م، أقنعني بعض الأصدقاء أن أرشح نفسي، وبالفعل فزت بالمقعد. حذرني البعض قبل أن أشغل المنصب من أن السياسات داخل الولاية تفتقد إلى البريق الذي يشع من نظيرتها في واشنطن؛ فالمرء يكدح لكن وراء الستار، وغالبا في موضوعات تعني الكثير للبعض، ولكن رجل الشارع يمكنه أن يغض طرفه عنها دون أن يشوب تصرفه هذا شائبة (مثل اللوائح المتعلقة بالمنازل المتنقلة، أو التداعيات الضريبية لانخفاض قيمة معدات الزراعة). ومع ذلك وجدت العمل مرضيا، غالبا لأن نطاق السياسات داخل الولاية يسمح بالتوصل إلى نتائج ملموسة - توسيع خدمة التأمين الصحي لتشمل أطفال الفقراء، أو تعديل القوانين التي تتسبب في موت الأبرياء - في ظل إطار زمني معقول. وأيضا لأنه بداخل مبنى المجلس التشريعي لولاية صناعية كبيرة مثل إلينوي يرى المرء كل يوم وجه أمة في حوار مستمر: أمهات من الأحياء المكتظة بالسكان، ومزارعي الذرة والفول، والعمال من المهاجرين الذين يعملون باليومية، إلى جانب المصرفيين في البنوك الاستثمارية في الضواحي، جميعهم يتدافعون ليحصلوا على فرصة لسماعهم، وجميعهم مستعدون بقصص ليرووها.
قبل بضعة شهور فزت بترشيح الحزب الديمقراطي لمقعد في مجلس الشيوخ الأمريكي عن ولاية إلينوي. كان سباقا صعبا في ساحة تزدحم بالمرشحين الماهرين البارزين الذين يحظون بتمويل كبير. وكان ينظر إلي - وأنا رجل أسود له اسم مضحك لا يحظى بأي دعم مؤسسي ولا يمتلك ثروة شخصية - على أن إمكانية فوزي مسألة بعيدة المنال. وهكذا عندما فزت بأغلبية الأصوات في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، في مناطق البيض والسود على حد السواء، وفي الضواحي وكذلك في شيكاغو، كان رد الفعل الذي تلا هذا يشبه رد الفعل الذي تلا انتخابي رئيسا لمجلة «هارفارد لو ريفيو». وقد عبر معظم المعلقين عن دهشتهم وأملهم الحقيقي في أن يشير انتصاري إلى تغير كبير في سياساتنا العنصرية. وفي مجتمع السود كان هناك إحساس بالفخر تجاه الإنجاز الذي حققته، فخر يمتزج بخيبة الأمل لأنه بعد 50 عاما من قضية براون ضد مجلس التعليم، وبعد أربعين عاما من إقرار قانون حق التصويت، لا نزال نحتفل بإمكانية (وفقط إمكانية؛ لأنه كانت لا تزال أمامي انتخابات عامة صعبة قادمة) أن أكون الأمريكي الوحيد من أصل أفريقي في مجلس الشيوخ والثالث على مر التاريخ منذ مرحلة إعادة التأسيس التي تلت الحرب الأهلية الأمريكية. انتابتني، كما انتابت عائلتي وأصدقائي، مشاعر الحيرة من هذا الاهتمام، وكنا دائما نعي الفرق بين بريق تقارير وسائل الإعلام وحقائق الحياة العادية الفوضوية كما نعيشها في الواقع.
وبالضبط مثلما أثارت تلك الموجة من الشهرة اهتمام الناشر قبل عقد من الزمان تسببت هذه الجولة الجديدة من الأخبار الصحفية في إعادة نشر الكتاب مرة أخرى. ولأول مرة منذ سنوات أخذت نسخة من الكتاب وقرأت بعض الفصول لأرى إلى أي مدى تغير صوتي بمرور الزمن. وأعترف بأني كنت أشعر ببعض الخجل من حين لآخر كلما رأيت كلمة أسأت اختيارها أو جملة مشوهة أو تعبيرا عن العاطفة يبدو متلطفا أو مبالغا فيه. وكانت داخلي رغبة ملحة كي أحذف من الكتاب ما يقرب من 50 صفحة؛ فقد أصبحت أميل كثيرا إلى الاختصار. ولكني لا أستطيع حقا أن أقول إن الصوت الذي يتردد في الكتاب ليس صوتي، وأني كنت سأكتب القصة بصورة مختلفة إلى حد بعيد اليوم عما كتبتها قبل 10 أعوام، حتى وإن كان قد ثبت أن بعض الفقرات غير مناسبة سياسيا، وهو ما يخلق ساحة لتعليقات الخبراء وأبحاث المعارضة.
ما تغير بالطبع تغيرا شديدا وقاطعا هو السياق الذي قد يقرأ فيه الكتاب الآن. لقد بدأت أكتب في ظل خلفية يميزها وادي السليكون، وازدهار البورصة، وانهيار سور برلين، وخروج مانديلا من السجن بخطى ثابتة متأنية ليقود دولة، وتوقيع اتفاقيات السلام في أوسلو. وعلى المستوى المحلي بدت المناظرات الثقافية، حول الأسلحة والإجهاض وموسيقى الراب، قوية للغاية لأن سياسة بيل كلينتون «الطريق الثالث»، وهي سياسة دولة الرفاهية المتقلصة التي تفتقد الطموح العظيم وتعوزها القوة الحازمة، بدت أنها تصف إجماعا ضمنيا واسع النطاق على المسائل المتعلقة بقوت الحياة اليومية؛ إجماعا ستوافق عليه حملة جورج دبليو بوش في فترة رئاسته الأولى بسياستها «المحافظة الرحيمة». وعلى المستوى العالمي أعلن المؤلفون نهاية التاريخ، وبزوغ نجم السوق الحرة والديمقراطية الليبرالية، وزوال الكراهيات القديمة والحروب بين الأمم ليحل محلها المجتمعات والمعارك الافتراضية من أجل الحصول على نصيب في السوق.
ثم في الحادي عشر من سبتمبر 2001م تمزق العالم.
ومهارتي في الكتابة لا تؤهلني لوصف ذلك اليوم، والأيام التي تلته؛ كانت الطائرات مثل الأشباح تختفي بين الحديد والزجاج، انهيار البرجين كشلال يتدفق بالتصوير البطيء، أناس يكسوهم الرماد يجولون الشوارع، والألم والخوف. ولا أتظاهر بأني أفهم العدمية الشديدة التي كانت تحرك الإرهابيين في ذلك اليوم والتي لا تزال تحرك إخوانهم اليوم. وقدرتي على التقمص، على الوصول إلى قلوب الآخرين، لا يمكن أن تخترق تلك النظرات الخاوية لأولئك الذين غمرتهم مشاعر الارتياح الهادئة غير المنطقية وهم يغتالون الأبرياء.
ولكن ما أعرفه هو أن التاريخ قد أعاد ذلك اليوم حاملا معه الانتقام، وفي الحقيقة، كما يذكرنا فولكنر، الماضي لا يموت أبدا ولا يدفن تحت الثرى؛ بل إنه حتى ليس ماضيا. هذا التاريخ الجماعي، هذا الماضي، يمس ماضي مباشرة. ليس فقط لأن قنابل القاعدة قد تركت بصماتها بدقة غريبة على بعض معالم حياتي؛ المباني والطرقات والوجوه في نيروبي وبالي ومانهاتن، ولم يكن ذلك فحسب لأن أحداث الحادي عشر من سبتمبر تسببت في أن يصبح اسمي هدفا لا يقاوم للسخرية من أنصار الحزب الجمهوري الشديدي الحماس، بل أيضا لأن الصراع الضمني - بين عوالم الرخاء وعوالم الفقر المدقع، بين الحديث والقديم، بين الذين يعتنقون تنوعنا الشديد والمتضارب والمسبب للمشكلات ويتمسكون بمجموعة من القيم التي تربطنا معا، وأولئك الذين يسعون، تحت أية راية أو شعار أو نص مقدس، إلى يقين وتبسيط يبرران القسوة تجاه من ليسوا مثلنا - هو الصراع الموضح على نطاق أصغر بين دفتي هذا الكتاب.
أعلم، ورأيت بنفسي، اليأس والاضطراب الذي يشعر به العاجز، كيف يشوهان حياة الأطفال في شوارع جاكرتا أو نيروبي بالطريقة نفسها تقريبا التي يشوهان بها حياة الأطفال في الجزء الجنوبي من شيكاغو، كيف يكون الطريق ضيقا بالنسبة إليهم بين الذل والغضب العارم، كيف ينزلقون بسهولة إلى أحضان العنف واليأس. أعلم أن رد فعل من يمتلك القوة على هذه الفوضى - الذي يكون إما رضا متبلد الحس أو، عندما تزيد تلك الفوضى عن حدودها، تطبيقا صارما غير عاقل للقوة، وإصدار أحكام بالسجن لمدد أطول، ومزيد من العتاد الحربي المتطور - غير مناسب لهذه المهمة. وأعلم أن التعصب واعتناق الأصولية والقبلية يحكم علينا جميعا بالهلاك.
وهكذا تحول ما كان مجهودا داخليا شخصيا من جانبي لفهم هذا الصراع والعثور على مكاني فيه ليلتقي مع مناظرة شعبية أوسع مجالا، مناظرة تورطت فيها مهنيا، مناظرة ستشكل حياتنا وحياة أطفالنا لسنوات طويلة قادمة.
أما التداعيات السياسية لكل هذا فهي موضوع كتاب آخر، فدعوني أنتهي بدلا من هذا بملحوظة شخصية: معظم شخصيات هذا الكتاب تظل جزءا من حياتي، وإن كان بدرجات متفاوتة؛ عملا وأطفالا وجغرافية ومصائر.
الاستثناء الوحيد هو أمي التي فقدناها بسرعة وحشية بسبب مرض السرطان، بعد بضعة أشهر من نشر هذا الكتاب.
كانت قد قضت السنوات العشر السابقة تفعل ما تحب؛ فكانت تجوب العالم تعمل في القرى النائية في آسيا وأفريقيا تساعد النساء على شراء ماكينات خياطة أو بقرات حلوب، أو الحصول على فرصة للتعليم قد تمنحهن موطئ قدم في اقتصاد العالم. وكان لديها أصدقاء من كل مكان، وكانت تتنزه سيرا على الأقدام وتحدق في القمر وتبحث في الأسواق المحلية في دلهي أو مراكش عن شيء صغير مثل وشاح أو قطعة حجرية منحوتة يجعلها تضحك أو يسعد ناظريها. وكتبت التقارير وقرأت الروايات وأزعجت أطفالها وحلمت بأحفادها.
كنا كثيرا ما نرى بعضا، فصلتنا لم تنقطع، وخلال تأليف هذا الكتاب، كانت تقرأ المسودات وتصحح القصص التي أسأت فهمها، وتحرص على عدم التعليق على وصفي لها لكن تهرع إلى تفسير أو دفاع عن الصفات الأقل جاذبية في شخصية أبي. وقد تعاملت مع مرضها بلطف ودعابة، وساعدتني أنا وأختي على أن نستمر في حياتنا، رغم خوفنا ورفضنا وانقباضات قلبينا المفاجئة.
في بعض الأحيان أفكر أنني لو كنت أعلم أنها لن تنجو من مرضها لكتبت كتابا مختلفا، أقل تأملا في الأب الغائب، وأكثر حفاوة بالأم التي كانت موجودة دائما في حياتي. وإنني أراها في ابنتي كل يوم، فرحتها وقدرتها على التعجب، ولن أحاول أن أصف كيف لا أزال في غاية الحزن لرحيلها. وأعرف أنها كانت أطيب وأكرم روح عرفتها في حياتي، وأني أدين لها بأجمل ما في.
تمهيد
اعتزمت في الأصل تأليف كتاب مختلف تماما، وقد لاحت أول فرصة لتأليف هذا الكتاب وأنا ما زلت طالبا في كلية الحقوق بعد انتخابي أول رئيس أسود لمجلة «هارفارد لو ريفيو»، وهي مجلة قانونية غير معروفة إلى حد بعيد خارج الوسط القانوني. وتبع انتخابي هذا موجة مفاجئة من الشهرة حيث نشرت عدة مقالات في الصحف التي شهدت للمكانة المتميزة لكلية الحقوق بجامعة هارفارد في المعتقدات الأمريكية، وكذلك توق أمريكا الشديد لأية إشارة تدعو إلى التفاؤل على جبهة العنصرية؛ أي دليل بسيط على أن هناك تقدما أحرز، أكثر من شهادتها لإنجازاتي المتواضعة. واتصل بي بضعة ناشرين ووافقت، وأنا أتخيل أن لدي شيئا جديدا يمكن أن أقوله عن الوضع الراهن للعلاقات العنصرية، أن أقتطع عاما بعد التخرج وأنقل أفكاري إلى الورق.
وفي ذلك العام الأخير من الدراسة في كلية الحقوق بدأت أرتب في ذهني، بثقة مخيفة، كيف سيسير العمل في الكتاب بالضبط: مقال عن قصور قضايا الحقوق المدنية في تحقيق المساواة العنصرية، وأفكار عن معنى المجتمع وإصلاح الحياة العامة عن طريق القاعدة الشعبية من المجتمع التي تحتاج إلى تنظيم، وأفكار عن سياسة التمييز الإيجابي ومركزية أفريقيا، وملأت قائمة الموضوعات صفحة كاملة. وكنت سأضيف بالطبع بعض النوادر الشخصية وأحلل أسباب المشاعر التي تنتابني بصورة متكررة. ولم يكن الأمر بصفة عامة إلا رحلة فكرية كاملة تخيلتها لنفسي، بالخرائط ونقاط التوقف ووضع خط السير الدقيق، اعتزمت أن ينتهي الجزء الأول في مارس وأن أرسل الجزء الثاني للمراجعة في أغسطس ...
ومع ذلك فعندما جلست وبدأت أكتب وجدت عقلي ينجرف إلى شواطئ أكثر اضطرابا. فقفزت مشاعر اشتياق قديمة لتجتاح قلبي، وظهرت أصوات بعيدة وخفتت، ثم عادت لتظهر مرة أخرى. تذكرت القصص التي كانت أمي ووالداها يقصونها علي وأنا طفل، قصص عائلة تحاول تفسير نفسها. وتذكرت عامي الأول كمنظم للمجتمع الأهلي في شيكاغو، وخطواتي المتعثرة تجاه مرحلة البلوغ. وسمعت صوت جدتي وهي تجلس أسفل شجرة مانجو تضفر شعر أختي وتصف لي الأب الذي لم أعرفه حق المعرفة قط.
ومقارنة بذلك الفيضان من الذكريات، بدت جميع نظرياتي المرتبة واهية وغير ناضجة. ومع ذلك ظللت أقاوم بشدة فكرة عرض ماضي على صفحات كتاب، ذلك الماضي الذي جعلني أشعر أني عار، بل أشعر بالخزي بعض الشيء. ليس لأن ذلك الماضي مؤلم للغاية أو غير لائق؛ بل لأنه يخاطب تلك الجوانب من ذاتي التي تقاوم الاختيار الواعي والتي تناقض - على الأقل ظاهريا - العالم الذي أعيش فيه الآن. وعلى أية حال أنا الآن في الثالثة والثلاثين من عمري أعمل محاميا نشطا في الحياة الاجتماعية والسياسية في شيكاغو، المدينة التي اعتادت جراحها العنصرية وتفتخر للغاية بافتقادها العاطفة. فإذا كنت قادرا على مقاومة اليأس والشك فإنني مع ذلك أحب أن أرى نفسي حكيما في الحكم على العالم وحريصا على ألا أتوقع الكثير.
ومع ذلك فإن أكثر ما يدهشني عندما أفكر في قصة عائلتي هي تلك السلسلة الممتدة من البراءة؛ براءة تبدو مستحيلة حتى بمقاييس الطفولة. لكن أحد أقرباء زوجتي فقد هذه البراءة بالفعل وهو لا يزال في السادسة من عمره؛ إذ أخبر أبويه قبل بضعة أسابيع أن بعض زملائه في الصف الأول رفضوا اللعب معه لأن بشرته سوداء حالكة. ومن الواضح أن أبويه - اللذين ولدا وترعرعا في مدينتي شيكاغو وجاري - قد فقدا براءتهما قبل ذلك بوقت طويل، ومع أنهما لم يظهرا استياءهما - فكلاهما يتمتع بالقدر نفسه من القوة والفخر وسعة الحيلة مثل كل الآباء الذين أعرفهم - فإن المرء يسمع نبرة الألم التي تتردد في صوتيهما وهما يعيدان النظر في فكرة انتقالهما من المدينة إلى ضاحية معظم قاطنيها من البيض، وقد انتقلا لحماية ابنهما من احتمال أن يقع ضحية تبادل لإطلاق النيران بين العصابات، ولثقتهما بأنه سيتلقى تعليمه في مدرسة لا تحظى بالتمويل المادي الكافي مما يجعلها متواضعة المستوى.
إنهما يعرفان الكثير؛ فقد رأينا جميعا الكثير، ولنأخذ قصة زواج والدي القصير - رجل أسود وسيدة بيضاء، أفريقي وأمريكية - دليلا على ذلك. ونتيجة لذلك الاقتران يجد بعض الناس صعوبة في تقبلي. فعندما يكتشف البعض ممن لا يعرفونني معرفة وثيقة - البيض أو السود على حد سواء - قصة عائلتي (وعادة ما يكون هذا اكتشافا بحق؛ إذ إنني توقفت عن إعلان عرق أمي وأنا في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة من عمري عندما بدأت أشك أن في هذا توددا وتملقا للبيض)، أرى التغيير الذي يستغرق جزءا من الثانية الذي عليهم أن يقوموا به، وبحثهم في عيني عن أية إشارة لكشف مكنون نفسي. إنهم لم يعودوا يعرفون من أنا، وأظن أنهم يفكرون في أنفسهم في قلبي المضطرب والدم الخليط والروح الممزقة والصورة المخيفة للإنسان الخليط البائس المولود من أب زنجي وأم بيضاء الذي يقع أسيرا بين عالمين. وإذا كنت أنوي أن أقول لهم لا، المأساة ليست مأساتي، أو على الأقل ليست مأساتي وحدي، إنها مأساتكم يا أبناء صخرة بلايموث وجزيرة إيليس، إنها مأساتكم يا أطفال أفريقيا، إنها مأساة قريب زوجتي ذي السنوات الست وزملائه البيض في السنة الأولى، ومن ثم فإنكم لستم بحاجة لأن تتخيلوا ما يكدر حياتي؛ فإنه يظهر في النشرة المسائية ليراه الجميع، وإننا إذا كان بإمكاننا الاعتراف على الأقل فإن الدائرة المأسوية ستبدأ في الانكسار ... حسنا، أظن أنني أبدو شديد السذاجة، أتمسك بآمال ضائعة مثل أولئك الشيوعيين الذين يروجون صحفهم على أطراف كثير من المدن الجامعية، أو الأسوأ من هذا، أبدو وكأني أحاول الاختباء من نفسي.
لا أستطيع انتقاد شكوك الناس. فقد تعلمت منذ وقت طويل أن أرتاب في طفولتي والقصص التي شكلتها. ولم أستطع أن ألتفت وأقيم هذه القصص القديمة لنفسي إلا بعد مرور سنوات كثيرة، بعد أن جلست على قبر أبي وتحدثت إليه عبر تربة أفريقيا الحمراء. أو كي أكون أكثر دقة، حينها فقط فهمت أنني قضيت جزءا كبيرا من حياتي أحاول أن أعيد كتابة هذه القصص وأن أسد الثغرات في القصة، وأن أتكيف مع التفاصيل غير المحببة، وأن أسلط الضوء على الخيارات الفردية في مواجهة الانجراف الأعمى للتاريخ، كل هذا على أمل أن أستخرج لوحا صلبا من الحقيقة يمكن أن يقف عليه أولادي - الذين لم يولدوا بعد - بأقدام ثابتة.
ثم في مرحلة ما، ومع الرغبة القوية في أن أحمي نفسي من التدقيق المفرط، ومع الحافز الذي كان يدفعني من حين لآخر إلى أن أترك المشروع بأكمله، فإن ما وجد طريقه إلى هذه الصفحات هو سجل لرحلة شخصية داخلية، رحلة بحث صبي عن والده، ومن خلال ذلك البحث يجد معنى عمليا لحياته كأمريكي أسود البشرة. وكانت النتيجة سيرة ذاتية، مع أنه كلما سألني أحد على مدار تلك السنوات الثلاث الأخيرة عن موضوع الكتاب، كنت عادة أتجنب استخدام هذا الوصف. فالسيرة الذاتية تعد بالحديث عن إنجازات جديرة بأن تسجل، وأحاديث مع مشاهير، ودور محوري في أحداث مهمة. ولا يوجد شيء من هذا في الكتاب. أو على الأقل، تعني السيرة الذاتية ضمنا أنها ملخص أو نهاية محددة وهو ما لا يناسب شخصا في مثل عمري لا يزال منشغل الذهن برسم الطريق الذي سيسلكه في العالم. إنني حتى لا أستطيع أن أعتبر تجربتي تمثل تجربة الأمريكيين السود (كما أوضح لي ناشر من مانهاتن: «فرغم كل شيء، إنك لا تنتمي إلى خلفية محرومة ومعدمة») وفي الواقع فإن تعلم قبول تلك الحقيقة بالذات - أنني يمكنني معانقة إخوتي وأخواتي السود، سواء في هذا البلد أو في أفريقيا، والتأكيد على وجود مصير مشترك دون أن أتظاهر بالتحدث إلى، أو عن، جميع صراعاتنا المختلفة - جزء مما يدور حوله هذا الكتاب.
وفي النهاية هناك المخاطر المتأصلة في تأليف أية سيرة ذاتية؛ إغراء أن يلون المؤلف الأحداث بالطريقة التي يفضلها هو، والنزعة للمبالغة في تقدير أهمية تجربة الفرد للآخرين، وزلات الذاكرة المتعمدة. وتتعاظم مثل هذه المخاطر عندما يفتقر الكاتب إلى الحكمة التي يكتسبها المرء بتقدم العمر؛ أي المسافة التي يمكن أن تداوي المرء من تفاهات بعينها. ولا يمكنني أن أقول إنني تجنبت كل هذه المخاطر بنجاح، أو أيا منها. ومع أن جزءا كبيرا من هذا الكتاب يعتمد على تسجيل متزامن للأحداث أو التاريخ الشفهي لعائلتي فإن الحوار تقريب ضروري لما قيل بالفعل أو ما روي لي. وبدافع الاختصار فإن بعض الشخصيات التي ظهرت ما هي إلا مركب من أناس عرفتهم، وبعض الأحداث تظهر خارج الترتيب الزمني الدقيق لها. وباستثناء عائلتي وحفنة من الشخصيات العامة، فإن أسماء معظم الشخصيات قد غيرت للحفاظ على الخصوصية.
ومهما كان الوصف الذي سيلتصق بهذا الكتاب؛ سيرة ذاتية أم مذكرات أم تاريخ أسرة أم شيئا آخر، فإن ما حاولت أن أفعله هو كتابة سرد صادق لجزء محدد من حياتي. وعندما شردت بذهني استعنت بوكيلة أعمالي جين ديستل لإخلاصها وصلابتها، وبالمحرر هنري فيريس لتصحيحاته التي يقدمها بأسلوب لطيف لكن حازم، وبروث فيسيش وفريق العمل في شركة تايمز بوكس لحماسهم واهتمامهم بالاعتناء بالنص في مراحله المختلفة، وبأصدقائي، ولا سيما روبرت فيشر، لقراءتهم الكريمة للنص، وبزوجتي الرائعة ميشيل لخفة ظلها ورقتها وصراحتها وقدرتها على دفعي للأمام .
لكنني أدين بعميق الفضل لعائلتي، أمي وجدي وجدتي وإخوتي المنتشرين عبر المحيطات والقارات، وإليهم أهدي هذا الكتاب. فمن دون حبهم ودعمهم المستمرين، ومن دون استعدادهم لأن يتركوني أتحدث بلسانهم وتسامحهم مع ما أقع فيه من أخطاء بين الحين والآخر، لم يكن بإمكاني حتى أن آمل أن أنتهي من الكتاب. وأتمنى أن يسطع الحب والاحترام، إذا لم يكن شيء آخر، اللذان أشعر بهما تجاههم على كل صفحة من صفحات هذا الكتاب.
الجزء
الجذور
الفصل الأول
بعد بضعة أشهر من عيد ميلادي الحادي والعشرين، جاءني اتصال من شخص غريب ليبلغني الخبر. كنت أعيش في ذلك الوقت في نيويورك في شارع رقم 94 بين الجادتين الثانية والأولى، وهو جزء من ذلك الحد المتغير الذي لا يحمل اسما بين شرق هارلم وباقي مانهاتن. كان شكل المجمع السكني غير جذاب ويخلو من الأشجار والنباتات، تصطف على جانبيه مبان سكنية طلاؤها أسود وبلا مصاعد تلقي بظلال كئيبة معظم أوقات اليوم. كانت الشقة صغيرة وأرضيتها مائلة ودرجة حرارتها غير مستقرة ولها جرس كهربائي أسفل المبنى لا يعمل، ومن ثم كان على أي زائر أن يتصل قبل مجيئه من هاتف عمومي في محطة البنزين في زاوية الشارع، حيث كان يوجد كلب أسود من نوع دوبرمان في حجم الذئب يقطع المكان جيئة وذهابا طوال الليل في دورة حراسة يقظة، يقبض بأنيابه على زجاجة جعة فارغة.
لم أكن أهتم بذلك كثيرا؛ فلم أكن أستقبل الكثير من الزوار. في تلك الأيام كنت ضيق الصدر، مشغولا بالعمل وخطط لم تنفذ، وأميل إلى اعتبار الأشخاص الآخرين مصدرا لتشتيت الانتباه لا ضرورة له، وليس ذلك لأني لا أقدر الرفقة؛ فقد كنت أستمتع بتبادل الدعابات باللغة الإسبانية مع جيراني الذين كان أغلبهم من بورتوريكو، وفي طريق عودتي من المحاضرات كنت عادة أتوقف لأتحدث مع الصبية الذين كانوا يقضون وقتهم عند مدخل المبنى طوال فترة الصيف يتحدثون عن فريق نيكس لكرة السلة أو الطلقات النارية التي سمعوها الليلة السابقة. وعندما يكون الطقس جيدا يمكن أن أجلس أنا ورفيقي في الشقة على سلم الحريق ندخن السجائر ونتأمل الغسق وهو يغرق المدينة في الظلام، أو نشاهد البيض من المناطق السكنية الأفضل بالقرب منا يسيرون بكلابهم أسفل العمارة التي نقطن فيها ويتركون الحيوانات تتبرز على حافة رصيف الشارع، كان رفيقي يصرخ فيهم بغضب مؤثر: «تخلصوا من هذا البراز أيها الأوغاد!» وكنا نسخر من وجهي السيد الأبيض والحيوان وهما يتجهمان دون إبداء أية نية للاعتذار وينزلان على ركبتيهما للقيام بفعلتهما.
كنت أستمتع بتلك اللحظات، ولكن لوهلة قصيرة. فإذا بدأ الحديث يخرج عن مساره أو يعبر الحدود التي تفضي إلى الشعور بالألفة والحميمية، كنت سريعا ما أجد سببا للانصراف. فقد أصبحت أشعر براحة شديدة في عزلتي، فهي آمن مكان عرفته.
أتذكر رجلا عجوزا كان يعيش في الشقة المجاورة يشاركني نزعتي. كان ضامر الجسد منحني الظهر يعيش وحده، يرتدي في المناسبات القليلة التي يترك فيها شقته معطفا أسود ثقيلا وقبعة قبيحة الشكل. وبين الفينة والفينة كنت ألتقي به مصادفة وهو عائد من المتجر، وكنت أعرض عليه أن أحمل عنه البقالة في رحلة الصعود الطويلة على سلالم العمارة، فكان ينظر إلي ويهز كتفيه ونبدأ الصعود، وكنا نتوقف على كل بسطة كي يلتقط أنفاسه. وعندما نصل في النهاية إلى شقته أضع الحقائب بحرص على الأرض ويومئ لي شكرا قبل أن يجر قدميه إلى داخل شقته ويغلق مزلاج الباب. لم يدر بيننا أي حديث قط، ولم يقل لي قط كلمة شكر على صنيعي.
كان صمت الرجل العجوز يثير إعجابي فكنت أراه قريبا مني روحيا. وفيما بعد وجده رفيقي في الشقة ملقى على بسطة سلم الطابق الثالث وعيناه مفتوحتان عن آخرهما وأطرافه متيبسة ومتكورة كطفل صغير. تجمع الناس حوله، وحركت بعض النساء أيديهن بعلامة الصليب على أجسادهن وتهامس الأطفال الصغار فيما بينهم بانفعال. وفي النهاية وصل المسعفون ليأخذوا الجثة، ودخلت الشرطة إلى شقة العجوز. كانت الشقة مرتبة وخاوية تقريبا إلا من مقعد ومكتب وصورة باهتة - أعلى الحافة البارزة للمدفأة - لسيدة لها حاجبان كثان وابتسامة رقيقة. فتح أحدهم الثلاجة ووجد ما يقرب من 1000 دولار في عملات صغيرة مغلفة داخل أوراق جرائد قديمة وموضوعة بحرص خلف برطمانات المايونيز والمخلل.
أثرت في العزلة التي عبر عنها المشهد، ولوهلة قصيرة تمنيت لو أنني قد عرفت اسم العجوز. ثم ندمت على الفور على هذه الأمنية وما صاحبها من حزن. وشعرت كما لو أن تفاهما قد نشأ بيننا، كما لو أن العجوز كان يهمس في تلك الشقة الخاوية تاريخا لم يروه أحد، يخبرني بأشياء لا أحب أن أسمعها.
بعد ذلك بشهر أو أكثر على ما أظن، في صباح يوم بارد كئيب من أيام شهر نوفمبر، كانت الشمس باهتة خلف ضباب السحب؛ جاءت المكالمة الهاتفية. كنت أعد الفطور لنفسي والقهوة على الموقد والبيض في المقلاة، عندما ناولني رفيقي الهاتف، كان الصوت بعيدا ومشوشا: «باري؟ باري، أهذا أنت؟» «نعم ... من المتحدث؟» «نعم يا باري ... أنا عمتك جين من نيروبي، هل تسمعني؟» «عفوا، قلت من؟» «عمتك جين، استمع إلي يا باري، لقد توفي أبوك. مات في حادث سيارة. باري؟ هل تسمعني؟ أقول إن أباك قد توفي. باري من فضلك اتصل بعمك في بوسطن وأخبره. لا يمكنني التحدث الآن. سأحاول الاتصال بك مرة أخرى ...»
كان هذا هو كل ما جاء في المحادثة. وانقطع الخط فجلست على الأريكة وانتشرت رائحة البيض وهو يحترق في المطبخ، أخذت أحملق في شقوق طلاء الحائط أحاول أن أقدر حجم خسارتي. •••
لم يكن أبي عندما توفي إنسانا عاديا من وجهة نظري؛ بل كان أسطورة. ترك أبي هاواي عام 1963حينها لم أكن قد تجاوزت الثانية من عمري؛ لذا لم أعرف أبي حين كنت طفلا إلا من حكايات أمي وجدي. وكان لكل منهم حكاياته المفضلة، وكل منها مترابط وسلس من كثرة التكرار. ولا يزال بإمكاني تخيل صورة جدي وهو ينحني إلى الوراء في مقعده الوثير بعد العشاء ويرتشف الويسكي وينظف أسنانه بورق سيلوفان من علبة سجائره ويحكي لي كيف كاد أبي أن يرمي برجل من على جرف «بالي لوك أوت» بسبب غليون: «قرر والداك أن يصطحبا صديق أبيك في جولة سياحية حول الجزيرة. ذهبا بالسيارة إلى جرف لوك أوت، وكان باراك على الأرجح يسير على الجانب الخاطئ طوال الطريق إلى هناك.»
عقبت أمي قائلة: «كان والدك سائقا سيئا.» وتابعت: «وكان ينتهي به الحال إلى الجانب الأيسر من الطريق بالطريقة التي يقود بها البريطانيون، وإذا قلت له شيئا، تجده يبدي سخطه على القواعد الأمريكية السخيفة ...» «حسنا، في تلك المرة نجحوا في الوصول سالمين، وخرجوا من السيارة ووقفوا على الحاجز المعدني المقام على الجرف ليتأملوا المشهد. كان باراك يدخن من الغليون الذي أعطيته إياه في عيد ميلاده، ويشير بمقدمته إلى جميع المشاهد مثل قبطان بحري ...»
وهنا تقاطع أمي مرة أخرى: «لقد كان أبوك فخورا حقا بذلك الغليون.» وتابعت: «كان يدخن منه طوال الليل وهو يذاكر، وفي بعض الأحيان ...» «حسنا يا آن، هل تودين أن تحكي أنت القصة أم ستدعينني أكملها؟» «آسفة يا أبي. تفضل.» «على أية حال، كان ذلك الفتى المسكين طالبا أفريقيا أيضا، أليس كذلك؟ كان قد وصل لتوه إلى أمريكا. ولا بد أن ذلك الفتى المسكين قد أعجب بالطريقة التي يتحدث بها باراك وهو يشير بالغليون؛ إذ طلب أن يجربه، فكر والدك في الأمر لدقيقة ثم وافق في النهاية، وما إن بدأ الفتى في التدخين منه حتى داهمته نوبة سعال. وأخذ يسعل بقوة حتى إن الغليون انزلق من يده وسقط من فوق الحاجز، من ارتفاع مائة قدم ليستقر أسفل الجرف.»
ثم يتوقف جدي ليرتشف من زجاجته قبل أن يستأنف كلامه. قال: «حسنا، كان أبوك لطيفا بما يكفي لأن ينتظر حتى ينتهي صديقه من السعال ثم أمره أن يقفز من فوق الحاجز ويعيد له الغليون. فنظر الرجل أسفل الجرف الذي يهبط بزاوية قائمة وقال لباراك إنه سيشتري له واحدا آخر عوضا عنه ...»
قالت جدتي من المطبخ: «أمر معقول جدا.» (كنا نطلق على جدتي توتو، أو اختصارا توت، وتعني «الجدة» بلغة هاواي لأنها رأت في اليوم الذي ولدت فيه أنها لا تزال صغيرة للغاية كي يخاطبها أحد بلقب جدتي.) فيعقد جدي ما بين حاجبيه ويقرر أن يتجاهلها: «لكن باراك كان مصرا على استعادة غليونه؛ لأنه كان هدية ولا شيء يعوضه عنه. فألقى الفتى نظرة أخرى وهز رأسه مرة أخرى، وهنا رفعه والدك من على الأرض وبدأ يؤرجحه على الحاجز!»
ويطلق جدي صيحة ويضرب على ركبته بمرح. ويضحك وفي هذه اللحظة أتخيل نفسي أنظر إلى والدي الأسمر البشرة واقفا قبالة الشمس الساطعة، وذراعا صديقه المذنب تلوحان في الهواء وأبي يحمله عاليا؛ يا لها من رؤية مخيفة لتحقيق العدالة.
فتقول أمي وهي تنظر إلي بقلق: «إنه لم يكن يحمله فوق الحاجز بالضبط يا أبي»، ولكن جدي يأخذ رشفة أخرى من الويسكي ويستمر في الحديث: «عندئذ، بدأ الناس يحدقون فيما يحدث، وأمك تناشد باراك أن يتوقف، وأظن أن صديقه كان يحبس أنفاسه ويتلو صلواته. وعلى أية حال، بعد بضع دقائق ترك والدك الرجل يهبط على قدميه مرة أخرى، وربت على ظهره واقترح بهدوء أن يذهبوا جميعا ويحتسوا الجعة. وما لا يخطر لك على بال أن أباك استمر في التصرف بهذه الطريقة لما تبقى من الرحلة، وكأن شيئا لم يكن. وبالطبع كانت والدتك عندما عادا إلى المنزل ما زالت غاضبة إلى حد بعيد. في الحقيقة كانت تتحدث إلى والدك بالكاد، ولم يكن والدك يساعد على تحسين الأمور. فعندما حاولت والدتك أن تخبرنا بما حدث، هز رأسه وبدأ يضحك، وقال لها: «اهدئي يا آنا»، كان صوت والدك عميقا جهوريا ويتحدث باللكنة البريطانية. وهنا يثني جدي ذقنه إلى عنقه ليحقق التأثير الكامل. ويستكمل: «اهدئي يا آنا.» ويتابع: «ما أردت إلا تعليم ذلك الشاب درسا عن العناية اللائقة بممتلكات الآخرين!»»
كان جدي يبدأ في الضحك مرة أخرى حتى يأتيه السعال، وتغمغم جدتي بصوت خافت أنها رأت أنه من الأفضل أن والدي قد أدرك أن إسقاط الغليون كان مجرد حادث عارض لأنه من يدري ماذا كان سيحدث غير ذلك، وكانت والدتي توجه نظرها إلي وتقول إنهما يبالغان.
كانت أمي تعترف وعلى شفتيها يرتسم شبح ابتسامة: «قد تكون شخصية والدك مسيطرة إلى حد ما.» ثم تستدرك: «لكن هذا في الواقع لأنه شخص صادق للغاية. وذلك يجعله عنيدا في بعض الأحيان.»
كانت أمي تفضل أن ترسم صورة أكثر رقة لوالدي، فتحكي لي أنه حضر لتسلم مفتاح الجمعية الفخرية «في بيتا كابا» مرتديا ثيابه المفضلة؛ بنطلون جينز وقميصا قماشيا قديما عليه صورة نمر. وتقول: «لم يخبره أحد أن الأمر شرف كبير؛ لذا فقد دخل ووجد الجميع يقفون في تلك الغرفة الأنيقة يرتدون سترات رسمية. وكانت تلك هي المرة الوحيدة التي رأيته يشعر فيها بالخجل.»
وكان جدي، بعد أن يستغرق فجأة في التفكير العميق، يبدأ يومئ لنفسه ويقول: «إنها حقيقة يا باري.» ويتابع: «لقد كان بإمكان والدك أن يتعامل مع أي موقف فجعل هذا الجميع يحبونه. أتذكر أنه كان عليه أن يغني في مهرجان الموسيقى الدولي؟ لقد وافق على غناء بعض الأغاني الأفريقية، لكن عندما وصل اتضح أن الأمر ليس هينا، كانت السيدة التي قدمت العرض السابق له مطربة شبه محترفة؛ فتاة من هاواي لديها فرقة موسيقية كاملة تدعمها. كان يمكن لأي شخص عندئذ أن يتوقف، ويتعلل بأن خطأ ما قد حدث إلا باراك. فلم تكن تلك طبيعته؛ فقد نهض وبدأ يغني أمام ذلك الجمع الكبير، وأنا أقول لك إن هذا ليس بالأمر الهين، وهو لم يكن رائعا، لكنه كان واثقا من نفسه فحصل على الفور على الإعجاب نفسه الذي حصل عليه الآخرون.»
وكان جدي يهز رأسه وينهض من على مقعده ويقلب قنوات التليفزيون. وكان يقول لي: «هناك شيء يمكنك أن تتعلمه من والدك.» ثم يستكمل: «الثقة. إنها سر نجاح الإنسان.» •••
كانت جميع القصص تسير على هذه الوتيرة؛ موجزة ومشكوكا في صحتها وتروى في تتابع سريع على مدار أمسية واحدة، ثم تطويها ذاكرة عائلتي لشهور، وفي بعض الأحيان لسنوات. بالضبط مثل الصور القليلة لوالدي التي ظلت في المنزل، وهي صور فوتوغرافية بالأبيض والأسود كنت أعثر عليها عرضا وأنا أبحث في الخزانات عن زينة رأس السنة أو جهاز قديم للتنفس تحت سطح الماء . وفي الوقت الذي بدأت فيه ذكرياتي، كانت أمي قد بدأت بالفعل علاقتها العاطفية بالرجل الذي سيصبح زوجها الثاني، وشعرت دون تفسير لماذا تعين أن توضع الصور بعيدا. ولكن بين الحين والآخر، كنت أحدق - وأنا أجلس مع أمي على الأرض، ورائحة الغبار والنفتلين تنبعث من الألبوم الممزق - في صورة أبي؛ الوجه الأسمر المبتسم، الجبهة البارزة والنظارة السميكة التي تجعله يبدو أكبر سنا من عمره الحقيقي، وأستمع وأحداث حياته تتدفق في قصة يرويها طرف واحد.
علمت أن أبي كان أفريقيا، كينيا من قبيلة «لوو» ولد على شواطئ بحيرة فيكتوريا في قرية يطلق عليها «أليجو». كانت القرية فقيرة، لكن والده - جدي الآخر حسين أونيانجو أوباما - كان مزارعا بارزا وأحد كبار القبيلة، وطبيبا يمتلك قوى شفائية. ترعرع أبي يرعى ماعز والده ويدرس في المدرسة المحلية التي أنشأتها حكومة بريطانيا الاستعمارية، وقد أظهر تفوقا كبيرا في دراسته، بعد ذلك فاز بمنحة دراسية بجامعة نيروبي، ثم في عشية استقلال كينيا اختاره القادة الكينيون والرعاة الأمريكيون للدراسة بجامعة في الولايات المتحدة لينضم إلى أول موجة كبيرة من الأفارقة تبعث لتتقن تكنولوجيا الغرب وتعود بها تبني أفريقيا عصرية جديدة.
عام 1959م وصل أبي إلى جامعة هاواي وهو في الثالثة والعشرين من عمره، ليكون أول طالب أفريقي في تلك الجامعة. ودرس الاقتصاد القياسي واجتهد في دراسته بتركيز ليس له نظير، وتخرج بعد ثلاث سنوات أول دفعته. كان له عدد ضخم من الأصدقاء، وساعد في تنظيم الاتحاد الدولي للطلاب، وكان أول رئيس له. وفي دورة لدراسة اللغة الروسية، قابل فتاة أمريكية خجولة مرتبكة كانت في الثامنة عشرة من عمرها فجمعهما الحب. وأسر والدا الفتاة - اللذان كانا متحفظين في البداية - بجاذبية الرجل وعقليته، وتزوج الشابان وأنجبا طفلا أورثه والده اسمه. ثم فاز الأب بمنحة دراسية أخرى، هذه المرة ليحصل على درجة الدكتوراه من جامعة هارفارد، لكنه لم يحصل على النقود التي تجعله يصطحب أسرته الجديدة معه. وحدث الانفصال، وعاد هو إلى أفريقيا ليفي بوعده للقارة. وظلت الأم والطفل في أمريكا، لكن بعد المسافة لم يؤثر على رباط الحب.
وهنا تنتهي صور الألبوم، وأبتعد أنا راضيا متدثرا بالقصة التي وضعتني في منتصف عالم شاسع ومرتب. وحتى في الرواية الموجزة التي قصتها علي والدتي وجداي، كان هناك الكثير من الأشياء التي لم أفهمها. لكني نادرا ما سألت عن التفاصيل التي من الممكن أن تحدد معنى كلمة «دكتوراه» أو «استعمار» أو أن أحدد موقع أليجو على الخريطة. بدلا من ذلك، احتل مسار حياة أبي المكان نفسه الذي احتله كتاب اشترته لي أمي ذات مرة، كتاب يسمى «الجذور»، وهو مجموعة من قصص الخلق من جميع أنحاء العالم، قصص لسفر التكوين والشجرة التي ولد عندها الإنسان، وبروميثيوس ونعمة النار، والأسطورة الهندوسية للسلحفاة التي تطفو في الفضاء وتحمل ثقل العالم على ظهرها. وفي وقت لاحق، عندما أصبحت أكثر اعتيادا على طريق السعادة الضيق الذي يوجد في التليفزيون والسينما، أصبحت الأسئلة تعصف بذهني؛ ما الذي يحمل السلحفاة؟ لماذا يترك إله قدير ثعبانا يسبب كل هذا الحزن؟ لماذا لم يعد أبي؟ لكن في سن الخامسة أو السادسة، رضيت أن أترك هذه الألغاز البعيدة دون المساس بها، كل قصة قائمة بذاتها وحقيقية كالتي تليها، تنجرف إلى أحلام هادئة.
وحقيقة أن أبي لم يكن يبدو مثل أي شخص ممن حولي، أنه أسود كالفحم وأمي بيضاء كاللبن، لم تعلق بذهني.
في الحقيقة لا أتذكر سوى قصة واحدة تتناول بصراحة موضوع العرق، وعندما كبرت كانت تتكرر كثيرا، كما لو أنها تعبر عن جوهر القصة الأخلاقية التي أصبحت حياة أبي تمثلها. ووفقا للقصة، انضم أبي، بعد ساعات طويلة من المذاكرة، إلى جدي وعدد من الأصدقاء الآخرين في حانة محلية في منطقة وايكيكي. كان الجميع في مزاج مرح يأكلون ويشربون على صوت الجيتار الذي تشتهر به هاواي عندما أعلن رجل أبيض فجأة لساقي الحانة بصوت عال أسمع الجميع أنه لم يكن من المفترض أن يحتسي الخمر الجيد «بجوار زنجي». غرقت الحانة في الصمت واستدار الجميع إلى أبي متوقعين أن يشب شجار . لكن أبي نهض، وسار إلى الرجل وابتسم وبدأ يلقنه درسا عن حماقة التعصب الأعمى ووعد الحلم الأمريكي والحقوق العالمية للإنسان. وكان جدي يقول: «تملك الرجل شعور بالأسف الشديد عندما انتهى باراك من حديثه حتى إنه وضع يده في جيبه وأخرج 100 دولار أعطاها لباراك في الحال، ودفع مقابل جميع المشروبات والمقبلات التي تناولناها لباقي السهرة، بل إيجار سكن والدك لباقي الشهر.»
عندما بلغت سن المراهقة أصبحت أشك في صدق هذه القصة وطرحتها جانبا مع باقي القصص، حتى تلقيت مكالمة هاتفية بعد مرور سنوات كثيرة من رجل أمريكي من أصل ياباني قال إنه كان زميل والدي في هاواي وأنه يدرس في إحدى جامعات الغرب الأوسط. كان الرجل لطيفا للغاية، ويشعر بشيء من الخجل من اندفاعه، وأوضح لي أنه رأى حوارا معي منشورا في الصحيفة المحلية، وأن رؤية اسم والدي جعلت موجة من الذكريات تتدفق إلى ذهنه. ثم في أثناء الحوار الذي دار بيننا أعاد على أسماعي القصة نفسها التي أخبرني إياها جدي عن الرجل الأبيض الذي حاول أن يشتري عفو والدي، وقال لي الرجل عبر الهاتف: «لن أنسى هذا أبدا»، وسمعت في صوته النبرة نفسها التي سمعتها من جدي قبل سنوات كثيرة؛ نبرة عدم التصديق والأمل. ••• «اختلاط الأجناس». مصطلح يبدو قميئا مشوها ينذر بنتيجة بشعة، بالضبط مثل عبارة «ما قبل الحرب الأهلية الأمريكية» أو وصف شخص بأن «ثمن أسلافه من الزنوج»، إنها تستدعي صورا من عصر آخر، عالم بعيد من السياط والنيران، ونباتات المنغولية الميتة وأروقة المعابد المتداعية. ومع ذلك فلم تنجح المحكمة العليا بالولايات المتحدة في إقناع ولاية فيرجينيا أن منعها الزواج بين الأجناس المختلفة خرق للدستور إلا عام 1967م، وهو العام الذي احتفلت فيه بعيد ميلادي السادس، والعام الذي عزف فيه جيمي هندريكس في مونتيري وغنى، وبعد ثلاث سنوات من حصول الدكتور كينج على جائزة نوبل للسلام، وهو وقت كانت أمريكا قد بدأت فيه بالفعل تسأم مطالبة السود بالمساواة، وانتهت على ما يفترض مشكلة التمييز العنصري. أما عام 1960م، العام الذي تزوج فيه والداي، فكان اختلاط الأجناس لا يزال يوصف بأنه جريمة عظمى في أكثر من نصف ولايات الاتحاد. وفي أجزاء عديدة من الجنوب كان من الممكن أن يعلق أبي على شجرة لمجرد أنه ينظر إلى أمي نظرة غير لائقة؛ وفي أكثر مدن الشمال تحضرا كان من الممكن أن تدفع النظرات العدائية والهمسات أية امرأة في مأزق والدتي أن تقوم بعملية إجهاض غير شرعية، أو على الأقل أن تلجأ لدير بعيد يمكن أن يرتب لعملية التبني، وكان من الممكن اعتبار مجرد صورتهما معا مسألة فظيعة وشاذة؛ بمنزلة رد فعال على القلة من المتحررين الأغبياء الذين يدعمون أجندة الحقوق المدنية.
لكن السؤال: هل كنت ستدع ابنتك تتزوج واحدا منهم؟
ورد جداي بالإيجاب على هذا السؤال - بصرف النظر إلى أي مدى كان ذلك على مضض - يظل لغزا ملحا علي. فلم يكن هناك أي شيء في ماضيهما ينبئ بمثل هذه الإجابة، فلا يوجد مؤمنون بالفلسفة المتعالية من نيو إنجلاند أو اشتراكيون متطرفون في شجرة عائلتيهما. صحيح أن كانساس حاربت إلى جانب الاتحاد في الحرب الأهلية، وكان جدي يحب أن يذكرني بأن فروعا مختلفة من شجرة العائلة كانت تضم مناهضين متحمسين للعبودية. وإذا سألت جدتي فإنها ستدير رأسها إلى الجانب لتستعرض أنفها الأعقف الذي يدل - بالإضافة إلى عينيها الشديدتي السواد - على أنها من نسل قبيلة شيروكي (من السكان الأصليين للولايات المتحدة).
لكن صورة قديمة بنية اللون على رف الكتب كانت تعبر بوضوح عن جذورهما. يظهر فيها جدا جدتي، وهما من أصل اسكتلندي وإنجليزي، واقفين متجهمين أمام منزل متداع، يرتديان ملابس من صوف خشن، وعيونهما شبه مغمضة تنظر إلى الحياة الصعبة القاسية التي تمتد أمامهما. وكان لهما وجهان كاللذين يظهران في اللوحة التي رسمها جرانت وود التي حملت اسم القوطي الأمريكي وهم الأقارب الفقراء من نسل البروتستانت الأنجلو ساكسونيين البيض (واسب)، وفي عيونهما يرى المرء الحقائق التي سأعلم فيما بعد أنها وقائع؛ أن كانساس لم تنضم إلى الاتحاد حرة إلا بعد الأحداث العنيفة التي سبقت نشوب الحرب الأهلية في المعركة التي تذوق فيها سيف جون براون طعم الدماء لأول مرة، وأنه في حين كان أحد أجدادي الأوائل، وهو كريستوفر كولومبس كلارك، جنديا في جيش الاتحاد وحاصلا على أوسمة، كانت الشائعات تطارد أم زوجته أنها تمت بصلة قرابة من الدرجة الثانية لجيفرسون دافيس، رئيس الولايات الكونفدرالية التي انشقت عن الاتحاد، ومع أن أحد أجدادها الأوائل كان من قبيلة شيروكي فقد كان ذلك النسل مصدرا للخزي الشديد لوالدة جدتي، وكلما ذكر أحدهم هذا الأمر شحب وجهها، وتمنت أن تحمل هذا السر معها إلى قبرها.
هذا هو العالم الذي نشأ فيه جداي، وسط الدولة بالضبط المحاط بالأرض من جميع الاتجاهات، وهو مكان ترتبط فيه اللياقة وقوة التحمل وروح الريادة ارتباطا وثيقا بالامتثال لقواعد المجتمع، والشك واحتمال التعرض للقسوة التي لا يطرف لها جفن. لقد نشأ أحدهما على بعد أقل من 20 ميلا من الآخر؛ فجدتي نشأت في أوجوستا وجدي نشأ في إلدورادو وهما مدينتان أصغر من أن تظهرا بحروف بارزة على خريطة للطريق، ورسمت مرحلة الطفولة - التي كانا يحبان أن يقصاها كي أستفيد منها - بلدة صغيرة، كما رسمت أمريكا أثناء عصر الكساد بجميع مظاهر مجدها البريء؛ الاستعراض العسكري في الرابع من يوليو وعروض الأفلام التي كانت تقام على جوانب الحظائر، واليراعات الموضوعة في برطمان، والمذاق الحلو كالتفاح للطماطم الناضجة، والعواصف الترابية والثلجية، والفصول المكتظة بأطفال المزارع الذين لا يبدلون أبدا ملابسهم الداخلية الصوفية التي تلتصق بأجسادهم منذ بداية الشتاء، وتنبعث منهم رائحة كريهة مثل الخنازير مع مرور الشهور.
حتى أزمة انهيار المصارف ونزع ملكية المزارع بدت أمرا رومانسيا بعد أن غزلته ذاكرة جدي، وعندئذ كان الجميع يشترك في الشدائد التي تعد وسيلة عظيمة للمساواة بين الناس والتقريب بينهم. لذا كان على المرء أن يستمع بحرص ليدرك الترتيب الهرمي الدقيق والقوانين غير المعلنة التي كانت تحكم حياتهم في بدايتها، والتمييز بين الأشخاص الذين لا يملكون الكثير ويعيشون في مناطق نائية. لقد كان الأمر يتعلق بشيء يطلق عليه الاحترام؛ فقد كان هناك أناس محترمون وآخرون لا يحظون بقدر كبير من الاحترام، ومع أن المرء لا يجب أن يكون ثريا لينعم باحترام الناس؛ ففي الواقع عليه أن يبذل كثيرا من الجهد لينال هذا الاحترام إن لم يكن ثريا.
كانت عائلة جدتي محترمة. فكان والدها يعمل بوظيفة ثابتة طوال فترة الكساد، فيدير عقود تأجير الأراضي التي سينقب فيها عن البترول لشركة ستاندرد أويل. وكانت والدتها قبل أن تنجب تدرس في مدارس إعداد المعلمين. كانت الأسرة تحافظ على منزلها نظيفا، وتطلب كتبا من التي ترد في قائمة «جريت بوكس» عبر البريد، وتقرأ الكتاب المقدس ولكنها بصفة عامة كانت تتجنب الذهاب إلى الخيام التي تعقد بها اجتماعات النهضة المسيحية، وتفضل شكلا قويما من تعاليم الكنيسة الميثودية التي تقدر العقل على العاطفة والاعتدال على كليهما.
أما وضع جدي فقد كان أصعب. ولم يعرف أحد لماذا؛ فلم يكن جداه اللذان ربياه هو وشقيقه الأكبر ثريين، لكنهما كانا مهذبين ومعمدانيين يخافان الله، وينفقان على العائلة من أجرهما كعاملين في منصات النفط بالقرب من مدينة ويتشيتا. ومع ذلك فقد تحول جدي بطريقة ما إلى شخص طائش إلى حد ما. وأرجع بعض الجيران سبب ذلك إلى انتحار والدته؛ فقد كان ستانلي - الذي لم يتجاوز الثامنة - هو الذي وجد جثتها. وكان آخرون أقل رفقا به يهزون رءوسهم ويقولون إن الولد يحذو حذو والده زير النساء، ويرون أن هذا هو السبب الأكيد لمصير والدته التعس.
ومهما كان السبب، فعلى ما يبدو كان جدي يستحق السمعة التي عرف بها. ففي سن الخامسة عشرة، طرد من المدرسة الثانوية لأنه لكم الناظر في أنفه. وفي السنوات الثلاث التالية كان ينفق على نفسه من أعمال مختلفة؛ يتنقل بين عربات القطارات المتجهة إلى شيكاغو ثم كاليفورنيا ثم يعود أدراجه مرة أخرى، وأثناء هذا التنقل ينخرط في الهراء ولعب الورق وإقامة علاقات مع النساء. وكما كان يحب أن يقول، فإنه كان يعرف طريقه جيدا في ويتشيتا حيث انتقلت عائلته وعائلة جدتي في ذلك الوقت، وهي من جانبها لا تناقض ما يقوله، وبالطبع صدق والدا جدتي القصص التي سمعاها عن الشاب واستنكرا علاقته بها من البداية. وأول مرة أحضرت فيها جدتي جدي إلى منزلها ليقابل أسرتها ألقى والدها نظرة واحدة على شعر جدي الأسود الأملس الممشط إلى الخلف، ثم ابتسم ابتسامة الرجل الحكيم التي يرسمها دائما على شفتيه وعبر عن تقييمه الصريح: «إنه يشبه المتبخترين من الإيطاليين.»
ولكن جدتي لم تأبه. فهي كمتخصصة في التدبير المنزلي حديثة التخرج في المدرسة الثانوية سئمت الامتثال لقواعد المجتمع، ولا بد أن جدي كان أنيقا وجذابا لها. في بعض الأحيان أتخيلهما في كل مدينة أمريكية في تلك السنوات التي سبقت الحرب، وهو يرتدي سروالا فضفاضا وفانلة بيضاء وقبعة عريضة الحواف يرجعها إلى الخلف على رأسه، وهو يقدم سيجارة إلى هذه الفتاة العذبة الحديث التي تفرط في طلاء شفتيها باللون الأحمر وتصبغ شعرها ليصبح أشقر ولها ساقان جميلتان تصلحان لاستعراض جوارب المتجر المحلي. أتخيله وهو يحدثها عن المدن الكبيرة، والطريق السريع الذي لا ينتهي، وهروبه الوشيك من السهول الخاوية التي يغطيها الغبار، حيث تعني الخطط الكبيرة العمل مديرا لبنك، وتعني التسلية آيس كريم بالصودا وحضور حفل في نهار يوم الأحد، وحيث يخنق الخوف وضيق الخيال أحلام المرء حتى إنه يعرف بالفعل في اليوم الذي يولد فيه أين بالضبط سيموت ومن سيدفنه. ويصر جدي على أنه لن ينتهي به الحال هكذا، فلديه أحلامه، ولديه خططه، وسينقل لجدتي عدوى التنقل التي جعلت أجدادهما يعبرون المحيط الأطلنطي ونصف قارة قبل سنوات كثيرة.
وهربا سرا ليتزوجا في توقيت قصف بيرل هاربور بالضبط، وجند جدي في الجيش. وعندئذ تسير أحداث القصة في ذهني بسرعة شديدة مثل مشهد نزع أوراق نتيجة حائط بوتيرة أسرع فأسرع في أحد تلك الأفلام القديمة بيد خفية، فتدور بسرعة في مخيلتي عناوين أخبار عن هتلر وتشرشل وروزفلت ونورماندي، إلى أن تصل العناوين لدوي القصف بالقنابل وصوت إدوارد آر. مورو وإذاعة بي بي سي. وأشاهد أمي وهي تولد في قاعدة الجيش حيث كان يتمركز جدي، وكانت جدتي إحدى النساء اللاتي عملن في المصانع الحربية أثناء الحرب العالمية الثانية، وكانت تعمل في خط تجميع قاذفة قنابل، وجدي يخوض في الوحل في فرنسا ضمن قوات الجنرال باتون.
وعاد جدي من الحرب دون أن يرى حربا حقيقية قط، واتجهت الأسرة إلى كاليفورنيا حيث التحق جدي بجامعة بيركلي بموجب قانون إعادة تأهيل رجال الجيش العائدين من الحرب. لكن غرفة الدراسة لم تتسع لطموحاته ونفاد صبره، ومن ثم انتقلت الأسرة مرة أخرى عائدة في البداية إلى كانساس، ثم عبر سلسلة من المدن الصغيرة في تكساس، وأخيرا إلى سياتل حيث استقر بهما المقام لفترة طويلة سمحت لوالدتي أن تنهي دراستها في المدرسة الثانوية. وعمل جدي بائعا للأثاث، واشتريا منزلا ووجدا شركاء يلعبون معهما لعبة البريدج. وكانا سعيدين لأن والدتي أثبتت تفوقها في المدرسة، مع أنها عندما عرض عليها الالتحاق المبكر بجامعة شيكاغو منعها جدي من الذهاب مقررا أنها لا تزال أصغر من أن تعيش بمفردها. •••
وعندئذ كان من الممكن أن تتوقف القصة؛ منزل وأسرة وحياة محترمة. فيما عدا أن شيئا واحدا كان لا يزال يقض مضجع جدي. ويمكنني أن أتخيله وهو يقف على حافة المحيط الهادي، وقد شاب شعره مبكرا، وأصبح جسده الطويل النحيل ممتلئا، ينظر إلى الأفق يراه وهو ينحني، ولا يزال يشم رائحة منصات النفط وقشر الذرة والحياة الصعبة التي ظن أنه تركها بعيدا وراءه. ولذلك عندما ذكر أمامه بالصدفة مدير شركة الأثاث التي يعمل بها أن متجرا جديدا على وشك أن يفتتح في هونولولو، وأن فرص ازدهار العمل هناك غير محدودة نظرا لأنها قريبا ما ستحقق استقلالها، أسرع إلى البيت في اليوم نفسه وتحدث إلى جدتي عن بيع المنزل وحزم حقائبهم مرة أخرى للشروع في آخر جولة في رحلتهم غربا، في اتجاه غروب الشمس ...
سيكون دائما بهذا الشكل، أعني جدي، دائما ما يبحث عن هذه البداية الجديدة، دائما ما يهرب من الأمور المألوفة. وعندما وصلت الأسرة إلى هاواي كانت شخصيته قد نضجت تماما على ما أظن؛ تلك الشهامة والرغبة في إسعاد الآخرين، ذلك المزيج الغريب من الخبرة والمعرفة وضيق الأفق، وسذاجة المشاعر التي من الممكن أن تجعله فجأة غير لبق ومن السهل جرح مشاعره. لقد كانت شخصيته شخصية أمريكية، نموذجا للرجال من جيله، الرجال الذين اعتنقوا مفهوم الحرية والفردية والطريق المفتوح دون أن يكونوا دائما على دراية بثمن ذلك، والذين من الممكن أن تقود حماستهم بالسهولة نفسها إلى جبن المكارثية أو إلى أعمال الحرب العالمية الثانية البطولية، الرجال الذين كانوا خطيرين وواعدين في آن واحد، وكانوا كذلك بسبب براءتهم المتأصلة، وهم الرجال الذين سيصابون بالإحباط في النهاية.
ومع ذلك فحتى عام 1960 لم يكن جدي قد تعرض للاختبار بعد، أوقات الإحباط ستأتي بعد ذلك، وحتى عندما تأتي فإنها ستأتي ببطء ومن دون العنف الذي كان من الممكن أن يغيره للأفضل أو للأسوأ. وقد أصبح يعتبر نفسه مفكرا حرا مخالفا لمن حوله، بل بوهيميا. وكان يكتب الشعر أحيانا ويستمع إلى موسيقى الجاز، ويعتبر عددا من اليهود الذين قابلهم في عمله في مجال الأثاث أقرب أصدقائه. وفي محاولته الوحيدة للدخول إلى الدين المنظم، كان يدرج أسماء الأسرة في الاجتماع المحلي للمتبعين لمذهب الكونية التوحيدية، وكانت تروقه فكرة أن التوحيديين يستخدمون نصوص جميع الأديان العظيمة (وكان يقول: «كما لو أن لديك خمسة أديان في دين واحد»). كانت جدتي تحاول أن تقنعه بالعدول عن آرائه في الكنيسة (فتقول: «بحق السماء يا ستانلي، ليس من المفترض أن يكون الدين مثل شراء حبوب الإفطار!»)، لكن إذا كانت جدتي أكثر شكا بطبيعتها، ولم تكن تتفق مع جدي في بعض مفاهيمه الغريبة، فإن الاستقلال العنيد لشخصيتها وإصرارها على التفكير في الأمور بنفسها، جعلهما بصفة عامة متقاربين.
كل هذا جعلهما متحررين إلى حد ما، مع أن أفكارهما لن تتحد أبدا لتكون ما يشبه أيديولوجية ثابتة، وفي هذا كانا أيضا أمريكيين. ولذا عندما عادت أمي إلى المنزل ذات يوم وتحدثت عن صديق قابلته في جامعة هاواي، وهو طالب أفريقي يدعى باراك، كان أول ما بدر إلى ذهنهما هو دعوته إلى العشاء. وأظن أنه جال في خاطر جدي أن ذلك الشاب المسكين على الأرجح وحيد وبعيد عن وطنه، وكانت جدتي ستقول لنفسها من الأفضل أن نلقي نظرة عليه. وعندما وصل أبي إلى باب منزلهما، من المحتمل أن جدي قد صدم على الفور بمدى تشابه الأفريقي مع أحد مطربيه المفضلين؛ نات كينج كول، وأستطيع أن أتخيله وهو يسأل أبي هل بإمكانه أن يغني، دون أن يفهم نظرة الارتياع التي ارتسمت على وجه والدتي، وكان جدي على الأرجح مشغولا للغاية يحكي إحدى دعاباته أو يتجادل مع جدتي حول كيفية طهي شرائح اللحم حتى إنه لم يلحظ أن والدتي مدت يدها وضغطت على اليد القوية الملساء إلى جوار يدها. ولاحظت جدتي ذلك لكنها كانت مهذبة بما يكفي لأن تقدم الحلوى وهي تعض على شفتيها؛ فقد حذرتها غريزتها من أن تبالغ في رد فعلها. وعندما انتهت الأمسية علق كلاهما على حدة ذكاء الشاب ومدى اعتزازه بنفسه الواضح في الإيماءات المحسوبة وجلسته الأنيقة وهو يضع ساقا فوق أخرى، وما أجمل اللكنة!
ولكن هل يتركان ابنتهما «تتزوج» واحدا مثله؟
إننا لا نعرف بعد، فالقصة حتى ذلك الحين لا تقدم تفسيرا مناسبا. الحقيقة أنهما - على غرار معظم الأمريكيين البيض في ذلك الوقت - لم يفكرا كثيرا في السود. فقد سلكت قوانين الفصل العنصري طريقها شمالا إلى كانساس قبل أن يولد جداي بزمن طويل، لكن هذه التفرقة بدت على الأقل حول ويتشيتا أكثر لطفا وأقل رسمية، ولم تتضمن ذلك القدر الكبير من العنف الذي سيطر على ولايات أقصى الجنوب. فقد أبقت القوانين نفسها غير المعلنة التي حكمت الحياة بين البيض التعامل بين الأجناس المختلفة عند أدنى مستوياته، وعندما يظهر السود في ذكريات جدي وجدتي عن كانساس، تكون صورا قصيرة؛ رجال سود يأتون بالقرب من حقول النفط من حين لآخر يبحثون عن عمل كعمال بالأجرة، أو سيدات سوداوات يأخذن ملابس البيض للتنظيف أو يساعدن في تنظيف منازل البيض. فالسود كانوا موجودين وغير موجودين، مثل سام عازف البيانو أو بولا الخادمة أو أموس وأندي على شبكات الإذاعة؛ حضور صامت غير ملحوظ لا يثير عاطفة ولا خوفا.
ولم تبدأ الأسئلة حول العرق تظهر في حياة عائلتي إلا عندما انتقلت إلى تكساس بعد الحرب. فقد تلقى جدي في أسبوعه الأول من العمل هناك نصيحة من زميله البائع في محل الأثاث عن كيفية التعامل مع الزبائن السود والمكسيكيين: «إذا أراد الملونون أن يلقوا نظرة على البضائع يجب أن يأتوا بعد ساعات العمل الرسمية، ويتولوا بأنفسهم ترتيبات توصيلها لأماكنهم.» وبعد ذلك تعرفت جدتي في المصرف الذي كانت تعمل فيه إلى الحارس، وهو رجل أسود طويل محترم من محاربي الحرب العالمية الثانية، ولا تتذكر إلا أن اسمه كان السيد ريد. وبينما كانا يتبادلان أطراف الحديث في الرواق في أحد الأيام ثارت ثائرة سكرتيرة في المكتب وهمست بغضب لجدتي بأنها لا ينبغي أن تخاطب أبدا «زنجيا بلقب السيد». وبعد ذلك بوقت قصير وجدت جدتي السيد ريد في ركن من المبنى يبكي بصوت منخفض، وعندما سألته ما الخطب نصب قامته وجفف عينيه ورد بسؤال.
قال: «ماذا فعلنا حتى نعامل بهذا الاحتقار؟!»
لم تكن جدتي تعرف إجابة عن هذا السؤال في ذلك اليوم، لكن السؤال علق في ذهنها، وكانت تناقشه في بعض الأحيان مع جدي حين تأوي أمي إلى الفراش. وقررا أن تستمر جدتي في مخاطبة السيد ريد بلقب «سيد»، مع أنها تفهمت، بمزيج من الارتياح والحزن، المسافة التي أصبح الحارس يراعي الحفاظ عليها كلما مر أحدهما بجانب الآخر في الأروقة. وبدأ جدي يرفض دعوات زملائه في العمل للخروج واحتساء الجعة، ويخبرهم أن عليه العودة إلى المنزل كي يسعد زوجته. وأصبحا انطوائيين وقلقين وملأهما خوف مجهول وكأنهما غريبان دائمان في المدينة.
وكانت أمي هي أكثر المتضررين من ذلك المناخ السيئ الجديد. كانت في ذلك الوقت في الحادية عشرة أو الثانية عشرة من عمرها، طفلة وحيدة لم تتعاف من حالة ربو شديدة إلا منذ وقت قليل. وقد جعلها المرض - بالإضافة إلى كثرة التنقل - وحيدة نوعا ما، كانت مرحة وخفيفة الظل لكنها تميل إلى أن تدفن رأسها في كتاب أو تخرج في نزهات سير فردية، وبدأت جدتي تقلق من أن ذلك الانتقال الأخير زاد من وضوح غرابة سلوكيات ابنتها. وكانت لأمي صداقات قليلة في مدرستها الجديدة، وكانت تتعرض بلا رحمة لمضايقات بسبب اسمها، ستانلي آن (أحد أفكار جدي التي تفتقد إلى الحكمة؛ إذ كان يريد ابنا). فكانوا يطلقون عليها ستانلي ستيمر أو الرجل ستان. وكانت جدتي عندما تعود من عملها تجدها عادة وحدها في الحديقة الأمامية تؤرجح ساقيها من فوق الشرفة أو تستلقي على الحشائش مستغرقة في عالمها المنعزل.
لكن ذلك الوضع اختلف في أحد الأيام. فعندما كانت جدتي عائدة إلى المنزل في أحد الأيام الحارة الهادئة وجدت جمعا من الأطفال محتشدين خارج السياج المحيط بمنزلهم. وعندما اقتربت جدتي استطاعت تمييز أصوات ضحكات ساخرة، وعلامات الغضب والاشمئزاز ترتسم على وجوه الأطفال. وكانوا يغنون بصوت حاد وبإيقاع متناوب: «محبة الزنوج!» «يانكي قذرة!» «محبة الزنوج!»
تفرق الأطفال عندما رأوا جدتي، لكن ليس قبل أن يقذف ولد حجرا كان في يده فوق السياج، وتتبعت عينا جدتي مسار الحجر وهو يهبط أسفل شجرة، هناك رأت سبب كل هذه الإثارة: كانت والدتي وبصحبتها فتاة سوداء في نفس عمرها تقريبا تستلقيان على بطنيهما إحداهما بجوار الأخرى على الأعشاب وجونلتاهما مرفوعتان فوق ركبتيهما، وأصابع أقدامهما تخترق تربة الحديقة، ورأساهما يستندان على يديهما أمام أحد كتب والدتي. ومن بعيد بدت الفتاتان ساكنتين تحت ظل أوراق الشجر. ولم تدرك جدتي أن الفتاة السوداء كانت ترتعش وعينا أمي مليئة بالدموع إلا عندما فتحت البوابة. ظلت الفتاتان بلا حراك، مشلولتين من الخوف، حتى انحنت جدتي في النهاية ووضعت يدها على رأسيهما.
وقالت: «إذا كنتما ستلعبان، فبحق السماء تعاليا إلى الداخل، أنتما الاثنتان.» وتابعت: «تعاليا!» ثم رفعت والدتي من على الأرض ومدت يدها إلى يد الفتاة الثانية، لكن قبل أن تستطيع التفوه بكلمة أخرى ركضت الفتاة بأقصى سرعتها، وبدت ساقاها الطويلتان كسيقان الكلاب من نوع الوبت السريعة حتى اختفت في الشارع.
استشاط جدي غضبا عندما سمع ما حدث، واستجوب أمي عما حدث ودون الأسماء. وفي اليوم التالي أخذ فترة الصباح إجازة من عمله لزيارة ناظر المدرسة. واتصل شخصيا بأولياء أمور بعض الأطفال الذين أهانوا ابنته ليصب عليهم جام غضبه. وقد حصل على الإجابة نفسها من كل ولي أمر تحدث إليه: «من الأفضل أن تتحدث إلى ابنتك يا سيد دونهام؛ فبنات البيض لا يلعبن مع الملونين في هذه المدينة.» •••
من الصعب أن يعرف المرء كيف يقدر أهمية هذه الأحداث، وما الإخلاص الدائم للقضية الذي تكون أو انهار، أو ما إذا كانت هذه الأحداث بارزة فقط في ضوء ما تبعها من أحداث. فكلما تحدث جدي معي عنها أصر أن عدم ارتياح الأسرة مع هذه العنصرية كان من بين الأسباب التي دفعتها لمغادرة تكساس. وكانت جدتي أكثر حرصا؛ فذات مرة عندما كنا وحدنا أخبرتني أنهم لم ينتقلوا من تكساس إلا لأن الأمور لم تكن تسير على ما يرام مع جدي في العمل، ولأن صديقا من سياتل وعده بشيء أفضل. ووفقا لها فلم يكن حتى مصطلح «العنصرية» في مفرداتهم في ذلك الوقت. فتقول: «كنت أرى أنا وجدك أنه علينا معاملة الناس بأسلوب مهذب يا باري. هذا هو كل ما في الأمر.»
إنها حكيمة بهذه الطريقة، فجدتي - التي تميل للشك في العواطف المفرطة أو الادعاءات المبالغ فيها - تقبل حكم الفطرة السليمة. لذا أميل إلى الثقة بروايتها للأحداث، فإنها تتفق مع ما أعرفه عن جدي من ميله لأن يعيد كتابة تاريخه ليكون متوافقا مع الصورة التي يتمناها لنفسه.
ومع ذلك فلا أستبعد تماما ما يقصه علي جدي من أحداث وأعتبره عملا من أعمال الثناء المفرط على الذات، أي صورة أخرى من إعادة كتابة التاريخ بشكل مغاير لدى البيض. لا يمكنني هذا، بالتحديد لأني أعرف مدى إيمان جدي الشديد بالقصص التي يرويها، ورغبته الشديدة في أن تكون حقيقية، حتى لو لم يعرف دائما كيف يجعلها كذلك. بعد تكساس لا أظن أن السود أصبحوا جزءا من القصص التي يرويها، القصص التي كانت تجد طريقها عبر أحلامه. وستصبح حالة العرق الأسود وآلامه وجراحه، تختلط في عقله مع آلامه الخاصة؛ الأب الغائب والإشارة إلى الفضيحة، والأم التي رحلت، وقسوة الأطفال الآخرين، وإدراكه أنه لم يكن صبيا أشقر الشعر، وأنه يبدو مثل «إيطالي متبختر». وأخبرته غريزته أن العنصرية كانت جزءا من ذلك الماضي، جزءا من التقاليد والجدارة بنيل الاحترام والمكانة، وجزءا من تكلف الابتسام والهمسات ونشر الإشاعات التي أبقته في الخارج يحاول أن يسترق النظر إلى الداخل.
أظن أن هذه الغريزة لها أهمية؛ فقد اتجهت عند كثير من البيض من جيل جدي وجدتي ممن لهم نفس خلفياتهما العائلية إلى الاتجاه المضاد؛ اتجاه الجماهير. ومع أن علاقة جدي بوالدتي كانت قد توترت بالفعل في الوقت الذي وصلوا فيه إلى هاواي - فهي لم تتقبل قط عدم استقراره ومزاجه العنيف في معظم الأوقات وستصبح خجولة من قسوته وأخلاقه الفظة - فقد كانت تلك الرغبة في طمس الماضي، وتلك الثقة بإمكانية إعادة تشكيل العالم من الخيال هو الميراث الباقي له. وسواء أدرك جدي هذا أم لم يدركه، فإن رؤية ابنته في صحبة رجل أسود قدمت له على مستوى عميق غير مستكشف من ذاته نافذة تطل على قلبه.
ولكن معرفة الذات هذه - حتى إذا كان قد توصل إليها - لم تكن لتجعل تقبل خطوبة أمي أسهل له. في الحقيقة تظل مسألة كيف حدث الزواج ومتى حدث أمرا غير واضح، وهي التفاصيل التي لم أملك الشجاعة قط لاستكشافها. فلا يوجد تسجيل لحفل زواج بالمعنى المعروف، لا كعكة أو خاتم زواج أو إمساك والد العروس بيد ابنته ليسلمها لزوجها. ولم تحضره عائلات، حتى يبدو أن الناس في كانساس في ذلك الوقت لم يكونوا على علم به. مجرد حفل زواج مدني صغير، وقاض لإتمام مراسم الزواج القانونية. الأمر برمته يبدو هشا عند تأمله، عشوائيا للغاية ودون أي تنظيم. وربما يكون هذا هو الأسلوب الذي أراد جداي أن يتم به الأمر، تجربة ستمر، مسألة وقت فحسب، ما دام أنهما يحافظان على ثبات موقفهما ولم يقوما بأي سلوك عنيف.
وإذا كان الأمر كذلك، فإنهما لم يخطئا في تقدير حزم أمي الهادئ فحسب، بل أخطآ أيضا في تقدير تذبذب مشاعرهما. وعندما ولد طفل، يزن ثمانية أرطال وأوقيتين وله عشر أصابع في قدميه ومثلها في يديه ويريد أن يأكل، ماذا كان يمكن أن يفعلا؟
بدأ الزمان والمكان يتآمران ويحولان الموقف العصيب إلى شيء يمكن تقبله، بل يمكن أن يصبح مصدرا للفخر. وكان جدي يجلس يشارك أبي احتساء الجعة ويستمع إلى زوج ابنته الجديد وهو يتحدث بجرأة عن السياسة أو الاقتصاد وعن أماكن بعيدة للغاية مثل الوايتهول أو الكريملين ويتخيل نفسه يستطلع المستقبل. ثم يبدأ يقرأ الصحيفة بحرص أكبر، ويجد أول التقارير التي تحدثت عن عقيدة الاندماج العنصري الجديدة في أمريكا، ويقرر أن العالم ينكمش، وأن العواطف تتغير، وأن الأسرة من ويتشيتا قد انتقلت في الواقع إلى مقدمة سياسة «الحدود الجديدة» التي تبناها كينيدي، وحلم الدكتور كينج الرائع. كيف يمكن لأمريكا أن ترسل رجالها إلى الفضاء وهي لا تزال تبقي مواطنيها السود في العبودية؟ وكانت إحدى أوائل الذكريات في حياتي؛ أن أجلس على كتفي جدي أشاهد رواد الفضاء يصلون من إحدى مهام بعثة أبوللو إلى قاعدة هيكام الجوية بعد هبوط ناجح. وأتذكر أن رواد الفضاء بنظاراتهم التي يضعها الطيارون كانوا على مسافة بعيدة للغاية، ولا أكاد أراهم عبر مدخل غرفة العزل. ولكن جدي كان يقسم دائما أن أحد رواد الفضاء قد لوح لي وأنا لوحت له. كان هذا جزءا من القصة التي يرويها لنفسه. لقد دخل جدي مع زوج ابنته الأسود وحفيده الأسمر البشرة إلى عصر الفضاء.
وأي ميناء يكون أفضل من هاواي، أحدث عضو في الاتحاد، لبدء هذه المغامرة الجديدة؟ حتى في الوقت الحاضر - بعد أن تضاعف تعداد سكان الولاية أربعة أضعاف، وبعد أن أصبحت وايكيكي تتاخم مطاعم الوجبات السريعة المختلفة والمتاجر التي تبيع شرائط الفيديو الإباحية والتقسيم الفرعي الذي يزحف دون رحمة إلى كل جزء من التل الأخضر - حتى في هذا الوقت يمكنني تعقب الخطوات الأولى التي خطوتها وأنا طفل منبهر بجمال الجزر. والسطح الأزرق المرتجف للمحيط الهادي. والمنحدرات التي تغطيها نباتات الأشنة الخضراء، والاندفاع الرائع لشلالات مانوا، وزهور الزنجبيل والظلال العالية المليئة بأصوات طيور غير مرئية. وأمواج الشاطئ الشمالي العنيفة، تتحطم كما لو أنها في بكرة شريط سينمائي في عرض بطيء. وظلال قمم بالي الجبلية، والهواء الرطب ذي الرائحة الطيبة النفاذة.
إنها هاواي! ولا بد أنها كانت في نظر عائلتي التي وصلت عام 1959 كما لو أن الأرض نفسها - بعد أن سئمت تدافع الجيوش والحضارة المريرة - أجبرت هذه السلسلة من الصخور الزمردية اللون على البروز حيث يستطيع الرواد من جميع أنحاء العالم أن يملئوا الأرض بأطفالهم الذين ستصبغهم الشمس باللون البرونزي. أما الغزو القبيح لسكان هاواي الأصليين عن طريق المعاهدات الفاشلة، والأمراض العضال التي أحضرتها البعثات التبشيرية، وتجريف التربة البركانية الغنية على يد الشركات الأمريكية من أجل زراعة قصب السكر والأناناس، ونظام التعاقد بين صاحب العمل والأجير الذي جعل المهاجرين من اليابانيين والصينيين والفلبينيين يكدحون دون توقف من شروق الشمس إلى غروبها في هذه الحقول، واعتقال الأمريكيين من أصل ياباني خلال الحرب؛ كل ذلك كان تاريخا حديثا. ومع ذلك ففي الوقت الذي وصلت فيه عائلتي كان ذلك قد اختفى بطريقة ما من الذاكرة الجماعية، مثل ضباب الصباح الذي بددته الشمس. كان هناك الكثير جدا من الأجناس - والسلطة مشتتة للغاية فيما بينهم - مما جعل من الصعب فرض النظام الطبقي الصارم المطبق في الدولة الأم، وعدد قليل للغاية من السود حتى إن أكثر أنصار الفصل العنصري حماسة يمكنهم الاستمتاع بإجازة بأمان في ظل معرفة أن الاختلاط بين الأجناس في هاواي ليس له علاقة بالنظام القائم في الوطن.
ومن ثم، نسجت خيوط أسطورة تقول إن هاواي بوتقة الانصهار الحقيقية، وتجربة في التجانس العرقي. وقد أقحم جدي وجدتي - ولاسيما جدي الذي كان يتعامل مع أناس كثيرين بحكم عمله في الأثاث - نفسيهما في قضية التفاهم المتبادل. ولا تزال هناك نسخة قديمة من كتاب ديل كارنيجي «كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس» على رف مكتبته. وعندما كبرت كنت أسمعه يتحدث بذلك الأسلوب المرح الودود الذي رأى أنه سيساعده في عمله مع زبائنه. فكان من السهل عليه أن يخرج بسرعة صور العائلة ويروي قصة حياته على أول شخص غريب يقابله، ويصافح ساعي البريد ويشد على يديه، أو يلقي دعابات بذيئة على النادلات في المطاعم.
كانت مثل هذه السلوكيات الغريبة تجعلني أشعر بالخجل ولكن كان هناك أشخاص أكثر تسامحا من حفيده يقدرون صفاته الغريبة، حتى إنه كانت له دائرة واسعة من الأصدقاء، مع أنه لم يكن لديه تأثير كبير قط. فقد كان بالقرب من منزلنا متجر صغير يديره رجل أمريكي من أصل ياباني يدعو نفسه فريدي يحتفظ لنا بأفضل شرائح التونة من نوع سكيب جاك لصنع طبق الساشيمي، ويعطيني حلوى رايس كاندي المغلفة بورق أرز يمكن أكله. وفي أوقات كثيرة كان سكان هاواي الأصليون الذين يعملون في متجر جدي عمال توصيل للطلبات يدعوننا لتناول طبق «بوي» المميز لهاواي مع لحم الخنزير المشوي، الذي كان جدي يلتهمه بنهم (أما جدتي فكانت تدخن السجائر حتى تعود إلى المنزل وتقلي لنفسها بيضا). وفي بعض الأحيان كنت أذهب مع جدي إلى متنزه أليئي حيث كان يحب أن يلعب الداما مع فلبينيين كبار السن يدخنون سجائر رخيصة ويبصقون بكميات كبيرة عصارة بذور نبات التنبول التي تبدو كما لو أنها دم. ولا أزال أذكر كيف اصطحبنا رجل برتغالي - كان جدي قد باعه أريكة بثمن جيد - في وقت مبكر من صباح أحد الأيام قبل شروق الشمس بساعات لاصطياد سمك بالحربة من خليج كايلوا. كان هناك مصباح يعمل بالغاز يتدلى من الكابينة في قارب الصيد الصغير وأنا أشاهد الرجلين وهما يغوصان في المياه المظلمة السوداء كالفحم، وضوء كشافيهما يتوهج أسفل السطح حتى يظهرا ومعهما سمكة كبيرة ملونة تضرب بذيلها في طرف أحد الرمحين. وقد أخبرني جدي باسمها في لغة هاواي، وهو هومو-هومو-نوكو-نوكو- أبوا، وقد أخذنا نردده طوال رحلتنا إلى المنزل.
في مثل هذه البيئة، لم يسبب أصلي العرقي لجدي وجدتي الكثير من المشكلات، وسرعان ما تبنيا سلوك الازدراء الذي يتبعه السكان المحليون تجاه الزوار الذين يعبرون عن عدم ارتياحهم فيما يخص هذا الشأن. وفي بعض الأحيان عندما يرى جدي السياح يشاهدونني وأنا ألعب على الرمال، فإنه يقترب منهم ويهمس، باحترام لائق، قائلا إنني حفيد الملك كاميهاميها أول ملوك هاواي. وكان يحب أن يقول لي وهو يرسم ابتسامة عريضة على شفتيه: «أنا واثق من أن صورتك توجد في ألف كتاب للقصاصات يا باري، من ولاية إيداهو إلى ولاية مين.» أظن هذه القصة بالتحديد غامضة، وأرى فيها استراتيجية لتجنب الموضوعات الصعبة، لكن جدي كان يروي قصة أخرى بالسرور نفسه عن تلك السائحة التي رأتني أسبح يوما ما، ودون أن تعرف مع من تتحدث علقت قائلة: «لا بد أن سكان هاواي هؤلاء يولدون ماهرين بالسباحة.» فأجابها جدي إن هذا أمر يصعب اكتشافه إذ إن «هذا الصبي هو حفيدي، وأمه من كانساس ووالده من قلب كينيا، ولا يوجد محيط لمسافة عدة أميال من كلا المكانين.» ففي نظر جدي لم يعد العرق شيئا يستحق أن يقلق المرء بشأنه، فإذا كان الجهل لا يزال باقيا في أماكن بعينها، فسيكون من الباعث على الطمأنينة أن تفترض أن باقي العالم سرعان ما سيلحق بركب الحضارة والتقدم. •••
وفي النهاية أظن أن هذا هو ما كانت تدور حوله جميع القصص عن أبي. فإنهم لم يتحدثوا عن الرجل نفسه بقدر ما تحدثوا عن التغيرات التي حدثت في الأشخاص المحيطين به، والعملية المترددة التي تغير بها موقف جدي وجدتي تجاه العنصرية. لقد أعطت القصص صوتا لروح ستستحوذ على الأمة طوال الفترة القصيرة بين انتخاب كينيدي وإقرار قانون حق التصويت؛ الذي يعد الانتصار الظاهري للعالمية على محدودية التفكير وضيق الأفق، إنه عالم جديد مشرق حيث ستكون الاختلافات في العرق والثقافة مصدرا للتوجيه والتسلية، بل ربما تقود المرء للمجد. إنها قصة خيالية جيدة تطاردني قدر ما كانت تطارد عائلتي، وتستحضر بعض جوانب جنة مفقودة تمتد لأبعد من مجرد حدود الطفولة.
ولم تكن هناك سوى مشكلة واحدة؛ أن أبي لم يكن موجودا. لقد ترك الجنة، ولم يكن شيء مما أخبرتني به أمي أو جدي وجدتي بإمكانه أن يلغي هذه الحقيقة الواضحة. وقصصهم لم تخبرني لماذا رحل. ولم يستطيعوا أن يصفوا كيف كانت ستبدو الأمور إذا لم يرحل. وعلى غرار الحارس السيد ريد أو الفتاة السوداء التي أثارت الغبار وهي تقطع أحد طرق تكساس مسرعة، أصبح والدي مجرد شخصية في قصة يرويها شخص ما. شخصية جذابة - شخص غريب قلبه من ذهب، الغريب الغامض الذي ينقذ المدينة ويفوز بالفتاة - ولكنه لا يزال شخصية في قصة مع ذلك.
إنني لا ألوم حقا والدتي أو جدي على هذا. فربما كان والدي يفضل الصورة التي رسموها له، بل ربما كان مشتركا في تصويرها. فهو يظهر، في مقال نشر في صحيفة «هونولولو ستار-بوليتين» عند تخرجه، شخصا متحفظا ومسئولا، في صورة الطالب النموذجي سفير قارته، وينتقد الجامعة بلباقة لأنها تحشد الطلاب الزائرين في مبنى خاص ملحق بالجامعة وتجبرهم على حضور برامج دراسية مصممة لتعزيز التفاهم الثقافي، وقال إن هذا يشتت انتباهه عن التدريب العملي الذي يسعى إليه. ومع أنه لم يتعرض شخصيا لأية مشكلات، فقد لاحظ أن البعض يعزلون أنفسهم عمن حولهم وأن هناك تمييزا عنصريا واضحا بين الجماعات العرقية المختلفة، وعبر بمرح ساخر عن حقيقة أن «القوقازيين» في هاواي يتعرضون أحيانا للتحيز. لكن إذا كان تقييمه يعبر عن بصيرة نافذة نسبيا، فقد كان حريصا على أن ينهي حديثه بملحوظة إيجابية؛ إذ قال إن أحد الأشياء التي يمكن أن تتعلمها الأمم الأخرى من هاواي هي استعداد الأجناس للعمل معا من أجل تحقيق التنمية المشتركة، وهو سلوك وجد المواطنين البيض في أماكن أخرى غير مستعدين للقيام به في معظم الأحيان.
اكتشفت وجود هذه المقالة مطوية بين شهادة ميلادي واستمارات تطعيم قديمة، عندما كنت في المدرسة الثانوية. كانت قصاصة صغيرة بها صورة له، دون ذكر لأمي أو لي، وتركت أنا لأتساءل عما إذا كان الحذف متعمدا من جانب أبي، استعدادا لرحيله الطويل. وربما لم يطرح الصحفي عليه أسئلة شخصية خوفا من أسلوب أبي المتعجرف، أو ربما كان الأمر قرارا من مجلس تحرير الصحيفة بصفته ليس جزءا من القصة البسيطة التي كانوا يبحثون عنها. وأتساءل أيضا هل سبب ذلك الحذف شجارا بين أبوي.
في ذلك الوقت ما كنت سأعرف لأني كنت أصغر سنا من أن أدرك أنه كان من المفترض أن يكون لي أب يعيش معي، بالضبط كما كنت أصغر من أن أعرف أني بحاجة لأن يكون لي عرق. ولفترة قصيرة للغاية بدا أن أبي قد سقط تحت تأثير التعويذة التي سقط تحت تأثيرها أمي وجداي، وحتى عندما كسرت تلك التعويذة، واستعادت العوالم - التي ظنوا أنهم تركوها خلفهم - سيطرتها عليهم، شغلت أنا المكان الذي كانت تحتله أحلامهم في السنوات الست الأولى من حياتي.
الفصل الثاني
كان الطريق إلى السفارة مختنقا بحركة المرور؛ السيارات، والدراجات البخارية، وعربات الأجرة الصغيرة التي تسير على ثلاث عجلات (ريكشا)، والحافلات الكبيرة والصغيرة التي تحمل ضعف سعتها من الركاب؛ موكب من العجلات والأذرع والسيقان، كل يحارب ليجد لنفسه مكانا أثناء قيظ ما بعد الظهيرة. استطعنا أن نشق طريقنا بضعة أقدام إلى الأمام، ثم توقفنا. ووجدنا مخرجا ننفذ منه ثم توقفنا مرة أخرى، ولوح سائق سيارة الأجرة التي نستقلها مبعدا مجموعة من الصبية الذين كانوا يبيعون اللبان والسجائر المفردة، وكاد أن يصطدم بدراجة بخارية تحمل عائلة كاملة على ظهرها؛ أبا وأما وابنا وابنة، مالوا جميعا معا كأنهم شخص واحد عند أحد المنعطفات، وكانوا يكممون أفواههم بمناديل للتخفيف من تأثير العوادم عليهم جعلتهم يبدون كعائلة من قطاع الطرق. وعلى جانب الطريق كانت مجموعة من النساء السمراوات ذوات البشرة الذابلة يلففن حول أجسادهن رداء بنيا باهت اللون يرتبن في أكوام سلالا من القش ممتلئة بفاكهة ناضجة، وميكانيكيان يجلسان أمام مرأب في الهواء الطلق، ويهشان الذباب بخمول وهما يفككان محركا. ومن خلفهما تنحدر بعض أجزاء التربة الطينية لتصبح مقلبا للنفايات المحترقة حيث كان طفلان مستديرا الرأس يطاردان بجنون دجاجة سوداء هزيلة. وانزلق الطفلان في الوحل وقشر الذرة وأوراق شجر الموز، يصرخان في سعادة حتى اختفيا في الطريق القذر خلفهما.
وما إن وصلنا إلى الطريق السريع حتى قل الزحام، خرجنا من سيارة الأجرة أمام السفارة حيث استقبلتنا إيماءات الترحيب من اثنين من رجال المارينز يرتديان ملابس أنيقة. وداخل فناء السفارة حل صوت الإيقاع المنتظم لتقليم الأشجار محل ضوضاء الشارع. كان رئيس أمي في العمل رجلا أسود بدينا قصير الشعر بدأ الشيب يخط صدغيه. ويتدلى علم الولايات المتحدة من على عصا طويلة بجوار مكتبه. وقد مد إلي يده مصافحا بقوة قائلا: «كيف حالك أيها الشاب؟» كانت تنبعث منه رائحة عطر ما بعد الحلاقة وياقة القميص المشدودة تحيط عنقه بإحكام. ووقفت منتصب القامة وأنا أجيب أسئلته عن تقدمي في الدراسة. وكان الهواء في غرفة المكتب باردا وجافا، مثل هواء قمم الجبال، نسيم نقي عليل.
انتهت مقابلتنا، وأجلستني أمي في المكتبة في حين ذهبت هي لإنجاز بعض الأعمال. انتهيت من قراءة كتب الرسوم المسلية ومن الواجب الدراسي الذي جعلتني أمي أحضره معي قبل أن أصعد على مقعدي لأستعرض الكتب على الأرفف. كانت معظم الكتب لا تثير اهتمام صبي في التاسعة من عمره؛ تقارير البنك الدولي، ودراسات جيولوجية، وخطط خمسية للتنمية. لكني وجدت في أحد الأركان مجموعة من أعداد مجلة «لايف» معروضة بشكل أنيق في غلاف بلاستيكي شفاف. قلبت في الإعلانات الجذابة - شركة جوديير للإطارات، وشركة دودج فيفر، وشركة زينيث لأجهزة التليفزيون («لماذا ليس أفضل الأنواع؟») وحساء كامبل (ممم، شهي!) - ورجال يرتدون بلوفرات بيضاء ذات رقبة طويلة يسكبون الخمر على الثلج ونساء يرتدين جونلات حمراء قصيرة يشاهدن بإعجاب، ولسبب غريب بث هذا في نفسي الطمأنينة. وعندما رأيت صورا إخبارية، حاولت أن أخمن موضوع القصة قبل قراءة التعليق. رأيت صورة لأطفال فرنسيين ينطلقون في شوارع معبدة بالحصى الكبير، كان مشهدا سعيدا يلعبون فيه لعبة الاستغماية بعد يوم من الكتب المدرسية والواجبات اليومية المملة، وكانت ضحكاتهم تعبر عن الحرية. ثم صورة سيدة يابانية تضع برفق فتاة صغيرة عارية في حوض غير عميق ، كان ذلك المشهد حزينا؛ فالفتاة كانت مريضة وساقاها ملتويتان ورأسها ملقى إلى الخلف على صدر الأم، كان الحزن محفورا على ملامح وجه الأم، ربما كانت تلقي باللوم على نفسها ...
وفي النهاية صادفت صورة لرجل عجوز يرتدي نظارة سوداء ومعطف مطر يسير في طريق خاو. لم أستطع تخمين ما الذي تدور حوله هذه الصورة؛ فلم يبد بها أي شيء غير عادي عن الموضوع. وفي الصفحة التالية وجدت صورة أخرى، هذه المرة صورة أقرب ليدي الرجل نفسه. وكانتا شاحبتين شحوبا غير طبيعي، كما لو أن الدماء قد سحبت من الجسد. فعدت إلى الصورة الأولى، وفي تلك اللحظة فقط رأيت أن شعر الرجل المجعد وشفتيه الغليظتين وأنفه العريض الضخم جميعها لها نفس اللون الشاحب المخيف.
وجال في خاطري أن الرجل يعاني مرضا شديدا، أو ربما يكون ضحية التعرض لإشعاع أو ربما يكون أمهق؛ فقد رأيت أحد هؤلاء الناس في الشارع قبل بضعة أيام، وشرحت لي أمي هذه الأشياء. لكن عندما قرأت ما صحب الصورة من تعليق أدركت أنه ليس واحدا من هؤلاء؛ فقد جاء في المقال أن الرجل تلقى علاجا كيميائيا لتفتيح لون بشرته. وقد دفع نقود العملية من أمواله الخاصة. ثم أبدى بعض الندم على محاولة تغيير نفسه إلى رجل أبيض، وكان يشعر بالأسف للنتيجة السيئة التي آلت إليها الأمور. لكن لا يمكن إعادة بشرته إلى ما كانت عليه. آلاف الأشخاص مثله، رجال ونساء سود في أمريكا كانوا سيودون الخضوع لهذا العلاج استجابة للدعاية التي تعدهم بحياة سعيدة إذا أصبحوا من البيض.
تدفقت الدماء الساخنة إلى وجهي وعنقي، وبدأت معدتي تتقلص، وبدت الحروف غير واضحة أمام عيني. هل كانت أمي تعلم بشأن هذا؟ ماذا عن رئيسها، لماذا كان شديد الهدوء وهو يقرأ التقارير على مقربة منها في الرواق؟ وكانت لدي رغبة قوية في أن أقفز من على مقعدي لأريهم ما رأيته، وأن أطلب منهم تفسيرا أو طمأنة. لكن شيئا ما أوقفني. وكما يحدث في الأحلام لم يكن هناك صوت لمخاوفي الجديدة، وعندما عادت أمي لتصطحبني إلى المنزل كانت الابتسامة تعلو وجهي وعادت المجلات إلى مكانها الصحيح. والغرفة والجو عادا هادئين كما كانا من قبل. •••
كنا قد قضينا في إندونيسيا في ذلك الوقت ما يزيد عن ثلاثة أعوام نتيجة زواج والدتي من رجل إندونيسي اسمه لولو كان هو الآخر طالبا قابلته أمي في جامعة هاواي. واسمه يعني بلغة هاواي «مجنون»، الأمر الذي جعل جدي ينفجر ضحكا بلا توقف، لكن المعنى لم يكن مناسبا للرجل؛ إذ كان لولو يتمتع بكياسة وأخلاق شعبه. فهو قصير القامة أسمر البشرة وسيم الطلعة أسود الشعر كثيفه، له ملامح من الممكن أن تكون ملامح أحد أبناء المكسيك أو ساموا أو إندونيسيا، ويجيد لعب التنس، وله ابتسامة هادئة رائعة، وكان رابط الجأش أيضا. ولمدة عامين - منذ أن كنت في الرابعة حتى أصبحت في السادسة - احتمل عددا لا حصر له من ساعات لعب الشطرنج مع جدي وجولات طويلة من المصارعة معي. وعندما أجلستني أمي في أحد الأيام لتخبرني أن لولو قد عرض عليها الزواج ويريدنا أن ننتقل معه إلى مكان بعيد، لم أتفاجأ ولم أبد أي اعتراض أيضا. لكني سألتها هل تحبه؛ فقد أصبحت على خبرة كافية لأن أدرك أهمية مثل هذه الأشياء. فبدأ ذقن أمي يرتجف مثلما يحدث عندما تقاوم دموعها، وضمتني بين ذراعيها لوقت طويل مما جعلني أشعر بأني شجاع، مع أني لم أكن واثقا من سبب هذا الشعور.
ترك لولو هاواي فجأة بعد ذلك، وقضيت أنا وأمي شهورا نجري استعداداتنا؛ جوازات السفر والتأشيرات وتذاكر الطيران وحجز الفنادق وسلسلة لا تنتهي من الصور. وبينما كنا نحزم حقائبنا، أخرج جدي أطلس جغرافية العالم ووضع علامات على أسماء سلسلة جزر إندونيسيا: جاوة وبورنيو وسومطرة وبالي. وقال إنه يتذكر بعض الأسماء من قراءة أعمال جوزيف كونراد وهو صبي. كان يطلق عليها في ذلك الوقت «جزر البهار»، ولهذه الجزر أسماء ساحرة محاطة بالغموض. وقال: «يقول الكتاب إنه لا تزال توجد هناك نمور.» وتابع: «وإنسان الغاب.» ونظر إلى الكتاب واتسعت عيناه وقال: «يقول إنه يوجد هناك صائدو رءوس!» في ذلك الوقت اتصلت جدتي بوزارة الخارجية لتعرف هل البلد مستقر. وأيا كان من تحدثت إليه فقد أخبرها أن الموقف تحت السيطرة، لكنها أصرت على أن نحمل معنا عدة صناديق مليئة بالأطعمة: مسحوق عصير تانج، وحليب مجفف، وعلب من سمك الساردين. وقالت بحزم: «من يدري ماذا يأكل أولئك الناس!» فتنهدت أمي، لكن جدتي قذفت بعدة علب من الحلوى كي تكسبني إلى صفها.
أخيرا صعدنا على متن طائرة تابعة لشركة «بان أمريكان» لنبدأ رحلتنا حول العالم. كنت أرتدي قميصا أبيض اللون طويل الأكمام وربطة عنق مثبتة بدبوس، وقد أمطرتني المضيفات بألعاب ألغاز وكمية إضافية من الفول السوداني، وأجنحة طيار معدنية وضعتها فوق جيب القميص. وفي أثناء التوقف لثلاثة أيام في اليابان سرنا تحت أمطار شديدة البرودة لنرى تمثال بوذا الفضي العظيم في كاماكورا المصنوع من البرونز وتناولنا آيس كريم بالشاي الأخضر في معدية تنتقل عبر البحيرات الجبلية المرتفعة. وفي المساء كانت أمي تذاكر بطاقات تعليم اللغات الأجنبية المصورة. وما إن هبطنا من الطائرة في جاكرتا - كان مهبط الطائرات شديد الحرارة والشمس متوهجة كأنها فرن - حتى أمسكت بيد أمي عاقدا العزم على حمايتها من أي شيء قد نجابهه.
كان لولو هناك في استقبالنا، وقد ازداد وزنه بضعة أرطال، وأصبح هناك شارب كث يلوح فوق ابتسامته. وقد احتضن أمي ورفعني لأعلى في الهواء، وأخبرنا أن نتبع الرجل الصغير النحيل الذي يحمل حقائبنا في الطابور الطويل في الجمارك ثم إلى السيارة التي كانت بانتظارنا. ابتسم الرجل بابتهاج وهو يضع الحقائب في حقيبة السيارة، وحاولت أمي أن تقول له شيئا، لكن الرجل ضحك وأومأ برأسه. التف الناس حولنا يتحدثون بسرعة بلغة لا أعرفها وتنبعث منهم رائحة غريبة. ولوقت طويل شاهدت لولو يتحدث إلى مجموعة من الجنود الذين يرتدون زيا موحدا بني اللون. وكان بحوزتهم مسدسات يضعونها في جرابها، لكنهم بدوا في مزاج مرح، يضحكون على شيء ما قاله لولو. وعندما انضم إلينا لولو أخيرا، سألته أمي هل يريد الجنود فحص حقائبنا .
فقال وهو يستقل السيارة ويشغل مقعد السائق : «لا تقلقي ... لقد اهتممت بكل شيء.» وتابع: «إنهم أصدقائي.»
أخبرنا لولو أنه استعار السيارة، لكنه اشترى دراجة بخارية جديدة يابانية الصنع، وستفي بالغرض في الوقت الراهن. كان قد انتهى من إعداد المنزل الجديد ولم يتبق سوى قليل من اللمسات الأخيرة. وقد سجل اسمي بالفعل في مدرسة قريبة، وأقرباؤه يتوقون لمقابلتنا. وبينما كان يتحدث هو وأمي، أخرجت رأسي من النافذة الخلفية وأخذت أحدق فيما نمر به من مناظر طبيعية بنية وخضراء متعاقبة، وقرى تتبعها غابات، ورائحة وقود الديزل واحتراق الأخشاب. وكان الرجال والنساء يسيرون برشاقة مثل طيور الغرنوق عبر حقول الأرز، والقبعات القشية العريضة تخفي وجوههم. وكان هناك صبي مبتل وأملس مثل ثعلب الماء يجلس على ظهر جاموسة ماء لها وجه مضحك ويضربها على فخذها بعصا من الخيزران. أصبحت الشوارع أكثر ازدحاما؛ إذ ظهرت المحال الصغيرة والأسواق والناس يجرون عربات محملة بحصى وأخشاب، ثم أصبحت المباني أكثر ارتفاعا مثل المباني الموجودة في هاواي - فندق إندونيسيا الذي يقول عنه لولو إنه حديث للغاية والمركز التجاري الجديد، أبيض ومتألق - ولكن قليلا منها فقط كان أطول من الأشجار التي كانت ترطب الهواء على الطريق. وعندما مررنا بصف من المنازل الكبيرة العالية الحواجز وبها مخافر للحراسة، قالت أمي شيئا لم أستطع تمييزه بوضوح عن الحكومة ورجل يسمى سوكارنو.
فصحت أنا من المقعد الخلفي للسيارة: «من هو سوكارنو؟» لكن بدا أن لولو لم يسمعني. وبدلا من ذلك لمس ذراعي وتحرك أمامنا. قال: «انظر»، وهو يشير إلى الأعلى. وهناك كان يقف منفرج الساقين على جانبي الطريق عملاق ضخم يصل طوله إلى ارتفاع 10 طوابق على الأقل، وله جسد إنسان ووجه قرد.
قال لولو ونحن ندور حول التمثال: «هذا هو هانومان، الإله القرد.» فاستدرت في مقعدي وتسمرت وأنا أنظر إلى التمثال الوحيد الذي بدا شديد السواد في مقابل الشمس، ومتأهبا للقفز نحو السماء في الوقت الذي تدور فيه حركة المرور الضعيفة حول قدميه. وقال لولو بحزم: «إنه محارب عظيم.» وتابع: «يتمتع بقوة 100 رجل. وعندما يحارب الشياطين يهزمهم دائما.»
كان المنزل في منطقة تحت التطوير في ضواحي المدينة. والطريق يمتد عبر جسر ضيق فوق نهر واسع مياهه بنية اللون، وعندما مررنا رأيت فلاحين يستحمون ويغسلون ملابسهم على طول الضفاف المنحدرة بالأسفل. وبعد ذلك انعطف الطريق المعبد إلى الطرق المغطاة بالحصى، ثم طريق ترابي عندما انعطف ليمر أمام متاجر صغيرة وبيوت من طابق واحد مطلية بالجير حتى توقفت أخيرا عند ممرات المشاة الضيقة للقرى الصغيرة. كان المنزل نفسه متواضعا من الجص والطوب الأحمر، لكنه مفتوح ويدخله الهواء، وبه شجرة مانجو كبيرة في الفناء الأمامي الصغير. وعندما دخلنا من البوابة قال لولو إن لديه مفاجأة لي، وقبل أن يذكرها سمعنا صوت عواء يصم الآذان من أعلى الشجرة. فقفزت أنا وأمي إلى الوراء بهلع ورأينا مخلوقا كبيرا كثيف الشعر له رأس صغير مسطح وذراعان طويلتان تسببان الرعب يهبط إلى غصن متدل.
فصرخت: «سعدان!»
صححت أمي: «بل قرد.»
فأخرج لولو حبة فول سوداني من جيبه ووضعها بين أصابع الحيوان. وقال: «اسمه تاتا.» وتابع: «وقد أحضرته من غينيا الجديدة إلى هنا من أجلك.»
فبدأت أتقدم قليلا كي أنظر إليه عن قرب، لكن تاتا هدد بأن يندفع فجأة للأمام، وكانت عيناه السوداوان الدائريتان شرستين ومليئتين بالشك. فقررت أن أظل حيث أنا.
فقال لولو وهو يعطي تاتا حبة أخرى من السوداني: «لا تقلق.» وتابع: «إنه مقيد بحبل. تعال، هناك المزيد.»
فنظرت إلى أمي، فابتسمت لي بتردد. وفي الفناء الخلفي وجدنا ما يشبه حديقة حيوان صغيرة: دجاج وبط يركض في كل مكان، وكلب أصفر كبير له نباح مخيف، واثنان من طيور الفردوس، وببغاء كوكاتو أبيض اللون، وأخيرا تمساحان صغيران كانا شبه مغمورين في بحيرة محاطة بسياج باتجاه نهاية المنزل. حدق لولو في التمساحين وقال: «لقد كانوا ثلاثة، لكن أكبرها خرج زاحفا عبر حفرة في السياج. وتسلل إلى حقل أرز ملك شخص ما وأكل إحدى بطات صاحب الحقل. وكان علينا أن نصطاده على ضوء الكشافات.»
كان الليل قد أوشك أن يرخي ستائره ، ولكننا أخذنا نزهة قصيرة على الطريق الطيني إلى القرية. ولوحت مجموعات من أطفال الجيران الضاحكين لنا وهم في منازلهم. وجاء بعض كبار السن من الرجال حفاة القدمين لمصافحتنا. وقفنا أمام منطقة عامة، حيث كان أحد رجال لولو يرعى بعض الماعز، وجاء ولد صغير إلى جواري يمسك يعسوبا يرفرف بجناحيه في طرف خيط. وعندما عدنا إلى المنزل، كان الرجل الذي حمل متاعنا يقف في الفناء الخلفي يطوي أسفل ذراعه دجاجة لونها بني يميل إلى الأحمر ويحمل في يده اليمنى سكينا طويلا. وقال شيئا للولو، الذي أومأ له ثم نادى على أمي وعلي. لكن أمي طلبت مني أن أنتظر حيث أنا ونظرت إلى لولو متسائلة. «ألا ترى أنه لا يزال صغيرا؟»
فهز لولو كتفيه ونظر إلي. قال: «على الصبي أن يعرف من أين يأتي عشاؤه. ما رأيك يا باري؟» فنظرت إلى أمي ثم استدرت لمواجهة الرجل الذي يحمل الدجاجة. فأومأ لولو مرة أخرى، وشاهدت الرجل وهو يضع الطائر أرضا، ويثبته برفق أسفل إحدى ركبتيه، ثم أبعد عنقه عن جسده ليصبح فوق بالوعة قريبة. ولدقيقة أخذ الطائر يناضل، ويضرب بجناحيه الأرض بقوة، وتطايرت بضع ريشات في الهواء لترقص مع الرياح. ثم سكن تماما، فمرر الرجل شفرة السكين على عنق الطائر في حركة واحدة هادئة. واندفعت الدماء في شريط قرمزي طويل. ونهض الرجل وهو يحمل الطائر بعيدا عن جسده، ثم ألقاه فجأة عاليا في الهواء. وسقط الطائر بصوت مكتوم على الأرض ثم جاهد ليقف على قدميه، ورأسه يتدلى بشكل غريب على جانبه ورجلاه تدوران بجنون في دوائر غير منتظمة. وشاهدت الدائرة التي يلف فيها الطائر تضيق، وأصبح الدم يسيل ببطء محدثا صوتا كالقرقرة، حتى انهار الطائر على الحشائش وقد فارق الحياة.
مسح لولو على رأسي بيديه وأخبرني أنا وأمي أن نذهب ونغتسل قبل العشاء. تناولنا نحن الثلاثة الطعام؛ دجاجا وأرزا بهدوء على ضوء مصباح أصفر خافت، ثم كانت الحلوى فاكهة حمراء قشرها كثير الشعر، رائعة المذاق في منتصفها حتى إنه لم يوقفني عن تناولها إلا آلام المعدة. وبعد ذلك سمعت - وأنا أنام وحيدا أسفل مظلة للحماية من الناموس - صوت صراصير الليل أسفل ضوء القمر، وتذكرت الانتفاضة الأخيرة للحياة التي شاهدتها قبل ساعات قليلة. ولم أكد أصدق حظي السعيد. ••• «أول شيء تتذكره هو كيف تحمي نفسك.»
وقفت في مواجهة لولو في الفناء الخلفي. وقبل ذلك بيوم عدت إلى المنزل وعلى جانب رأسي تورم في حجم البيضة. فنظر إلي لولو وهو يغسل دراجته البخارية وسألني ماذا حدث، فأخبرته عن مشادة وقعت بيني وبين صبي أكبر مني يقطن في آخر الشارع. وأخبرته أن هذا الصبي أخذ كرة قدم صديقي وجرى ونحن في منتصف اللعبة. وعندما طاردته التقط حجرا من الأرض. ثم قلت وصوتي يختنق من الحزن هذا ليس عدلا. لقد غشني.
مرر لولو أصابعه في شعري وفحص الجرح بهدوء. ثم قال في النهاية قبل أن يعود إلى عمله: «إنه لا ينزف.»
ظننت بذلك أن الموضوع قد انتهى. ولكن عندما عاد إلى المنزل من العمل في اليوم التالي، كان معه زوجان من قفازات الملاكمة. وكانت لهما رائحة الجلد الجديد، الزوج الأكبر كان أسود اللون وكان الأصغر أحمر، وأربطتهما معقودة، وملقيان على كتفه.
انتهى لولو من عقد الرباط في قفازي وتراجع إلى الخلف ليرى نتيجة عمله. تدلت يداي إلى جانبي مثل مصابيح تتدلى في طرف سلك رفيع. فهز رأسه ورفع القفازين ليغطيا وجهي.
قال لولو: «أبق يديك مرفوعتين لأعلى.» وأخذ يضبط وضع مرفقي وتراجع ليتخذ وقفة مناسبة وبدأ يتحرك في مكانه. وقال: «عليك أن تستمر في التحرك، ولكن اخفض رأسك لأسفل دائما، لا تمنحهم هدفا يضربونه. بماذا تشعر؟» أومأت برأسي وأنا أقلده بقدر ما أستطيع. وبعد بضع دقائق، توقف ورفع راحة يده في مواجهة أنفي.
وقال: «حسنا. دعنا نر ضربتك.»
هذا شيء أعرف كيف أقوم به. فتراجعت خطوة للخلف، وشحذت قواي وسددت أفضل ضربة لدي. وتمايلت يده بالكاد.
فقال لولو: «ليس سيئا.» وأومأ لنفسه ولم تتغير تعبيرات وجهه. وتابع: «ليس سيئا على الإطلاق. لكن انظر أين يداك الآن. ماذا قلت لك؟ ارفعهما لأعلى ...»
رفعت ذراعي وسددت ضربات خفيفة لراحة يد لولو وأنا ألقي نظرة عليه على نحو متكرر وأدركت إلى أي مدى أصبح وجهه مألوفا لي بعد سنتين معا، مألوفا بالضبط كالأرض التي كنا نقف عليها. استغرقت أقل من ستة شهور كي أتعلم اللغة الإندونيسية والعادات والأساطير فيها. وتعرضت للإصابة بالجديري المائي والحصبة وتعافيت منهما، وتذوقت لسعة عصي المدرسين المصنوعة من الخيزران. وأصبح أقرب أصدقائي هم أبناء الفلاحين والخدم والموظفين الحكوميين العاملين بوظائف قليلة الأهمية، وكنا نركض في الشوارع مساء وصباحا، ونقوم بأعمال غريبة؛ فنمسك بصراصير الليل، ونحارب الطيارات الورقية بأسلاك حادة كالأمواس، وكان الخاسر يرى طائرته الورقية وهي تحلق بعيدا مع الرياح، ويعرف أنه في مكان ما هناك أطفال آخرون كونوا صفا يتحرك من جانب لآخر على نحو غير مستقر، ورءوسهم تتجه إلى السماء منتظرين أن تهبط عليهم جائزتهم. ومع لولو تعلمت كيف آكل الفلفل الأخضر الصغير نيئا على العشاء (مع كثير من الأرز)، وبعيدا عن مائدة العشاء، جربت لحم الكلاب (صعب المضغ)، ولحم الثعابين (أصعب) والجراد المشوي (مقرمش). وعلى غرار معظم الإندونيسيين، تبع لولو فرقة من الإسلام يمكن أن تتسع معتقداتها لتشمل بقايا العقائد القديمة الأكثر روحانية والهندوسية. وكان يرى أن الرجل يستمد قوته مما يأكله، ووعدني أنه سيحضر لنا قريبا قطعة من لحم نمر لنأكلها معا.
هكذا كانت تسير الأمور، مغامرة واحدة طويلة، إثراء لحياة صبي صغير. وفي خطابات لجدي كنت أسجل بصدق الكثير من هذه الأحداث، وأنا واثق بأن طرودا من الشيكولاتة وزبدة الفول السوداني الأكثر رقيا ستتبع هذه الخطابات. لكن لم تكن الخطابات تحمل كل ما أمر به؛ فبعض الأشياء وجدت أنه من الصعب تفسيرها. فلم أخبر جدي عن وجه الرجل الذي جاء يطرق بابنا في أحد الأيام وفي وجهه حفرة عميقة في المكان الذي من المفترض أن يكون فيه أنفه، وصوت الصفير الذي صدر منه وهو يسأل أمي بعض الطعام. ولم أذكر لهما أيضا تلك المرة التي أخبرني فيها أحد زملائي في منتصف فسحة اليوم الدراسي أن شقيقه الرضيع توفي الليلة السابقة بسبب روح شريرة جلبتها الرياح، والرعب الذي تراقص في عيني صديقي لوهلة قبل أن يطلق ضحكة غريبة ويلكمني في ذراعي ويطلق ساقيه للريح. ولم أذكر تلك النظرة الخاوية التي ارتسمت على وجوه الفلاحين في العام الذي لم تهطل فيه الأمطار قط، وانحناء أكتافهم وهم يتجولون حفاة في الحقول القاحلة المتشققة وينحنون كثيرا ليفتتوا التربة الزراعية بين أصابعهم، ولم أكتب عن إحباطهم العام التالي عندما هطلت الأمطار دون توقف لما يزيد عن شهر، مما أدى إلى ارتفاع منسوب المياه في النهر والحقول حتى إن المياه كانت تتدفق في الشوارع وقد وصلت إلى مستوى خصري، والعائلات تتزاحم لإنقاذ ما يملكون من الماعز والدجاج حتى بعد أن جرفت المياه أجزاء من أكواخهم.
عرفت أن العالم عنيف، ولا يمكن توقع ما سيحدث فيه وغالبا ما يكون قاسيا. ورأيت أن جدي لا يعرفان شيئا عن مثل هذا العالم، ولم يكن هناك مغزى من إزعاجهما بأسئلة لا يستطيعان الإجابة عنها. وفي بعض الأحيان، عندما كانت أمي تعود من العمل كنت أخبرها عن الأشياء التي رأيتها أو سمعت عنها، وكانت تضرب براحة يدها على جبهتي وتستمع إلي باهتمام، وتبذل قصارى جهدها في تفسير ما تستطيع. وكنت دائما أقدر هذا الاهتمام؛ فصوتها ولمسة يدها كانا يمثلان لي الأمان. لكن معلوماتها عن الفيضانات والتعاويذ ومصارعة الديوك جعلت هناك الكثير من الأشياء التي أود تعلمها. فكل شيء جديد علي كان جديدا عليها، وكنت أخرج من تلك الحوارات وأنا أشعر بأن أسئلتي قد منحتها سببا غير ضروري للقلق.
لذا فقد اتجهت للولو أطلب منه الإرشاد والنصح. ولم يكن لولو شخصا كثير الكلام، لكن من المريح أن تكون معه، وكان يقدمني لعائلته وأصدقائه بصفتي ابنه، لكن الأمور بيننا لم تتطور إلى أكثر من نصائح مباشرة، ولم يتظاهر أن علاقتنا أكثر مما هي عليه حقا. وأنا تفهمت هذه المسافة؛ فقد كانت تعني ضمنا وجود ثقة بيننا كرجلين. وبدت معلوماته عن العالم لا تنضب. فلم تتضمن هذه المعلومات كيفية تغيير الإطار الذي تسرب منه الهواء، أو الثغرات في لعبة الشطرنج فحسب. بل كان يعرف أمورا تتصف بقدر كبير من المراوغة، وطرقا للتعامل مع المشاعر التي كانت تنتابني، وطرقا لشرح ألغاز القدر المستمرة.
على سبيل المثال مسألة كيفية التعامل مع المتسولين. بدوا أنهم كانوا ينتشرون في كل مكان؛ فقد كانوا معرض للمرضى من الرجال والنساء والأطفال الذين يرتدون ملابس رثة تغطيها القاذورات، وبعضهم فقد ذراعيه والبعض الآخر فقد قدميه، وبعضهم ضحايا لمرض الإسقربوط أو شلل الأطفال أو الجذام يسيرون على أيديهم أو يتدحرجون على الأرصفة المزدحمة في عربات بالية، وسيقانهم ملتوية خلفهم مثل البهلوانات المتخصصين في تنفيذ حركات صعبة بأجسادهم. في البداية كنت أرى أمي تعطي نقودا لأي شخص يتوقف عند باب بيتنا أو يمد لها يده ونحن نسير في الشوارع. بعد ذلك عندما أصبح من الجلي أن فيضان الآلام لا ينتهي كانت تنتقي من تمنحهم نقودا بعد أن تعلمت تقييم درجة البؤس. ورأى لولو أن حساباتها الأخلاقية مثيرة للإعجاب لكنها سخيفة، وكلما رآني أنهج نهجها وأمنح المتسولين العملات القليلة التي أمتلكها رفع حاجبيه وانتحى بي جانبا وسألني: «كم معك من النقود؟»
فكنت أفرغ جيبي. وأقول: «30 روبية.» «وكم عدد المتسولين في الشارع؟»
حاولت أن أتخيل عدد من مر إلى جوار منزلنا في الأسبوع المنصرم. فيقول بمجرد أن يظهر علي أني لا أستطيع إحصاء العدد: «أرأيت؟» ويتابع: «من الأفضل أن تدخر أموالك وتحرص على ألا ينتهي بك الأمر أنت شخصيا في الشارع.»
وكان يطبق المبدأ نفسه مع الخدم الذين كان معظمهم فلاحين. كانوا شبابا وصلوا إلى المدينة حديثا ويعملون غالبا لدى عائلات ليسوا أحسن حالا منهم بكثير، ويرسلون النقود إلى أهلهم في القرية أو يدخرون ما يكفي لأن يبدءوا مشاريعهم الخاصة. وعندما كان لولو يرى أن لديهم طموحا، كان يساعدهم ليبدءوا أعمالهم الخاصة، ويتسامح بصفة عامة مع صفاتهم الشخصية غير المألوفة؛ فقد استأجر لأكثر من عام شابا طيبا يحب أن يرتدي ملابس نسائية في عطلة نهاية الأسبوع ، وكان لولو يحب الطعام الذي يطهوه، لكنه من الممكن أن يطرد الخدم دون أي شعور بالذنب إذا كانوا غير مهرة أو كثيري النسيان أو يكلفونه نقودا كثيرة، وكان يشعر بالحيرة عندما أحاول أنا أو أمي أن نحميهم من حكمه عليهم.
وقد قال لي لولو في أحد الأيام بعد أن حاولت أمي أن تتحمل هي اللوم لإسقاط جهاز راديو من على الخزانة: «إن أمك رقيقة القلب.» وتابع: «وهذه صفة جميلة في النساء. لكنك ستكون رجلا يوما ما، ويجب على الرجل أن يتحلى بمزيد من العقل.»
وقال إن هذا ليس له علاقة بما إذا كان المرء طيبا أم شريرا، أو يحب الناس أو يكرههم. إنها مسألة تقبل الحياة بشروطها.
شعرت بضربة عنيفة في الفك، ونظرت إلى أعلى إلى وجه لولو الذي يتصبب عرقا. «انتبه. وأبق يديك مرفوعة لأعلى.»
تدربنا نصف ساعة أخرى قبل أن يقرر لولو أن وقت الراحة قد حان. كانت ذراعاي تؤلمانني، ورأسي يخفق بألم مستمر. أخذنا إبريقا مليئا بالماء وجلسنا بالقرب من بحيرة التماسيح.
وسألني: «أتشعر بالتعب؟»
سقط جسدي للأمام وأنا أومئ له بالإيجاب بصعوبة. فابتسم وشمر عن إحدى ساقيه ليحك الجزء الخلفي من ساقه. فلاحظت سلسلة من الندبات المسننة التي تمتد من الكاحل لأعلى حتى منتصف قصبة ساقه. «ما هذه؟» «إنها علامات تركتها الطفيليات.» وتابع: «ذلك منذ أن كنت في غينيا الجديدة. إنها تزحف داخل حذاء الجيش أثناء السير في المستنقعات. وعندما تنزع الجوارب في المساء تجدها ملتصقة في هذا المكان منتفخة من امتصاص الدماء. وعندما تنثر عليها الملح تموت، لكن عليك أن تحفر في جسدك بسكين ساخن لاستخراجها.»
مررت أصبعي على إحدى الندبات البيضاوية الشكل. وكانت ناعمة وخالية من الشعر في الأماكن التي تعرض فيها الجلد للحرق. وسألت لولو عما إذا كانت قد آلمته.
فقال وهو يرتشف جرعة ماء من الإبريق: «بالطبع كانت مؤلمة.» واستدرك: «لكن في بعض الأحيان لا يهمك هل الأمر مؤلم أم لا. إنما يهمك فقط القيام بما عليك أن تقوم به.»
ساد بيننا صمت لبعض الوقت وكنت أراقبه بطرف عيني . وأدركت أنني لم أسمعه قط يتحدث عما يشعر به. لم أره قط غاضبا أو حزينا. لقد بدا وكأنه يعيش في عالم من الأسطح الصلبة والأفكار المحددة بدقة. وفجأة قفزت إلى ذهني فكرة غريبة.
فسألته: «هل رأيت في حياتك شخصا يقتل؟»
فنظر إلى الأسفل وقد باغته السؤال.
فأعدته عليه مرة أخرى: «هل رأيت؟»
فقال: «نعم.» «هل كان المشهد داميا؟» «نعم.»
فكرت لدقيقة وسألت. «لماذا قتل الرجل؟ أعني الرجل الذي رأيت؟» «لأنه كان ضعيفا.» «هذا كل شيء؟!»
فهز لولو كتفيه وعاد ليغطي ساقه التي كشفها. وقال: «عادة ما يكون هذا كافيا، فالناس تستغل ضعف الآخرين. إنهم بالضبط مثل الدول في هذا الأمر. فالرجل القوي يستولي على أرض الضعيف. ويجعل الضعيف يعمل في حقوله. وإذا كانت زوجة الرجل الضعيف جميلة فإن القوي سيأخذها.» وتوقف ليأخذ رشفة أخرى من الماء ثم سألني: «أيهما تفضل أن تكون؟»
لم أجب عليه، فنظر بعينين شبه مغمضتين إلى السماء. وقال في النهاية وهو ينهض على قدميه: «من الأفضل أن تكون قويا.» وتابع: «وإذا لم تستطع أن تكون قويا، فكن ذكيا وتحالف مع شخص قوي. لكن من الأفضل دائما أن تكون أنت نفسك قويا. دائما.» •••
كانت أمي تراقبنا من داخل المنزل، وهي تجلس إلى مكتبها تصحح الأوراق. وتتساءل في نفسها: ما الذي يتحدثان عنه؟ دماء وأحشاء على الأرجح، وربما ابتلاع المسامير. فمثل هذه الأمور تروق للرجال.
وأطلقت ضحكة عالية ثم توقفت. فهذا ليس عدلا. إنها ممتنة بالفعل لاهتمام لولو بي. فلم يكن سيعامل ابنه بطريقة مختلفة. وتعلم أنها محظوظة لطيبة قلب لولو. وضعت أمي أوراقها جانبا وراقبتني وأنا أمارس تمارين الضغط. وأخذت تفكر في أن ابنها يكبر بسرعة. وحاولت أن تتخيل نفسها يوم وصولنا؛ أم في الرابعة والعشرين من عمرها ومعها طفل في رعايتها، ومتزوجة من رجل لا تكاد تعرف تاريخه أو بلده. وأدركت في ذلك الوقت أنها لم تكن تعلم حينها إلا أمورا قليلة، وأنها كانت تحمل براءتها مع جواز سفرها الأمريكي. وكان من الممكن أن تصبح الأمور أسوأ، بل أسوأ بكثير.
لقد توقعت أن تكون هذه الحياة الجديدة صعبة. وقبل أن تغادر هاواي حاولت أن تعلم كل ما يمكنها عن إندونيسيا: تعداد سكانها؛ فهي خامس دولة في العالم من حيث تعداد السكان وبها المئات من القبائل واللهجات المحلية، وحاولت معرفة تاريخها مع الاستعمار؛ إذ احتلتها في بادئ الأمر هولندا أكثر من ثلاثة قرون، ثم اليابان إبان الحرب العالمية الثانية، سعيا وراء التحكم في مخزونها الكبير من النفط والمعادن والأخشاب، ومعركتها من أجل الاستقلال بعد الحرب وظهور مقاتل من أجل الحرية اسمه سوكارنو ليكون أول رئيس للبلاد. ومنذ عهد قريب نحي سوكارنو لكن التقارير تقول إنه كان انقلابا غير دموي، وإن الشعب أيد التغيير. إذ قالوا إن سوكارنو أصبح فاسدا، مستبدا يعتمد على الخطب المتوهجة لإثارة مشاعر الجماهير، وشديد الانجذاب للشيوعيين.
وإندونيسيا دولة فقيرة ومتخلفة وغريبة تماما، هذا هو ما كانت تعرفه. وكانت مستعدة لمواجهة الدوسنتاريا والحمى، واستعدت لعدم وجود الماء الساخن في الحمامات، وأن عليها أن تجلس القرفصاء على حفرة في الأرض لتتبول، واستعدت لانقطاع الكهرباء كل بضعة أسابيع، وللجو الحار وللناموس المستمر. إنها أمور مزعجة حقا، لكنها كانت أقوى مما تبدو عليه، بل أقوى حتى مما كانت تعرف عن نفسها. وعلى أية حال كان هذا أحد أسباب انجذابها للولو بعد رحيل باراك؛ الوعد بشيء جديد ومهم، مساعدة زوجها في إعادة بناء بلد في مكان مشحون ومليء بالتحديات بعيدا عن متناول يد والديها.
لكنها لم تكن مستعدة للوحدة، الوحدة الدائمة مثل ضيق التنفس. لم يكن بإمكانها أن تشير إلى شيء محدد بدقة. لقد رحب بها لولو ترحيبا حارا وبذل كل ما في وسعه ليجعلها تشعر بالألفة ووفر لها جميع سبل الراحة التي يستطيع. وعاملتها عائلته بلباقة وكرم، وعاملت ابنها كما لو أنه أحد أبنائها.
لكن شيئا ما حدث بينها وبين لولو في العام الذي افترقا فيه. في هاواي كان لولو مفعما بالحياة، وشديد التوق لتنفيذ خططه. وليلا عندما يكونان وحدهما كان يخبرها كيف ترعرع وهو صبي إبان الحرب ثم رأى والده وشقيقه الأكبر يرحلان عن الأسرة لينضما إلى جيش الثورة، وسمع نبأ مقتلهما وضياع كل شيء، وكيف أضرم الجيش الهولندي النيران في منزلهم فهربوا إلى الريف، وكيف كانت والدته تبيع مجوهراتها قطعة في مقابل الطعام. وقد أخبرها لولو أن الأمور ستتغير بعد رحيل الهولنديين وأنه سيعود للتدريس في الجامعة، وسيكون جزءا من ذلك التغيير.
لكنه لم يعد يتحدث بهذه الطريقة. في الواقع أصبح نادرا ما يتحدث إليها على الإطلاق، إلا عندما تكون هناك ضرورة لذلك أو عندما تتحدث هي إليه، وغالبا لا يكون ذلك إلا عن مهمة حالية مثل إصلاح تسرب ما، أو التخطيط لرحلة لزيارة أحد أقربائه البعيدين. كان الأمر كما لو أنه انجذب إلى مكان مظلم سري، لا يمكن لأحد الوصول إليه مصطحبا معه أكثر جزء مشرق من ذاته. وفي بعض الليالي كانت تسمعه وهو مستيقظ - بعد أن يأوي الجميع إلى الفراش - يتجول في المنزل ومعه زجاجة من الويسكي المستورد غارقا في أسراره. وفي ليال أخرى كان يضع مسدسا أسفل وسادته قبل أن يخلد للنوم. وكلما سألته أمي ما الخطب صدها بلباقة قائلا إنه متعب. وأصبح كما لو أنه لم يعد يثق بالكلمات. لم يعد يثق بالكلمات وبما تحمله من مشاعر.
ساورت والدتي الشكوك بأن هذه المشكلات تتعلق بعمل لولو. فعندما وصلت كان يعمل جيولوجيا في الجيش، يفحص الطرق والأنفاق. كان عملا مرهقا للعقل وغير مجز ماديا؛ فشراء الثلاجة وحدها كلفه مرتبه في شهرين. وأصبح معه زوجة وطفل يتكفل بهما ... فلا عجب أنه كان مكتئبا. ورأت أمي أنها لم تقطع كل هذه المسافة لتكون عبئا عليه. فقررت أن تتحمل هي الأخرى الجزء الخاص بها من المسئولية.
وسرعان ما عثرت على عمل في تدريس اللغة الإنجليزية في السفارة الأمريكية لرجال الأعمال الإندونيسيين - وهو جزء من برنامج مساعدات الولايات المتحدة للدول النامية. وساعدتها النقود لكنها لم تخفف من وحدتها. ولم يكن رجال الأعمال الإندونيسيون مهتمين كثيرا بتفاصيل اللغة الإنجليزية الدقيقة ، وحاول العديد منهم التقرب منها. في السفارة كان الأمريكيون في الغالب رجالا متقدمين في السن يهتمون بعملهم في وزارة الخارجية، أما رجال الاقتصاد أو الصحافة - الذين كانوا يختفون فجأة لشهور - فلم يكن من الواضح ما وظيفتهم أو صلتهم بالسفارة. وبعضهم كان صورة للوجه القبيح للأمريكيين، فكانوا يميلون إلى السخرية من الإندونيسيين حتى يكتشفوا أنها متزوجة من إندونيسي، وعندها يحاولون التذرع بحجة للإفلات من الإحراج كأن يقول أحدهم: لا تعتبري كل ما أقوله جديا، فإن الجو الحار يذهب بعقلي، وكيف حال ابنك، إنه ولد رائع.
ومع ذلك فهؤلاء الرجال كانوا يعرفون البلد جيدا، أو أجزاء منها على الأقل، وحتى المخابئ التي دفنت فيها الهياكل العظمية. وعلى الغداء أو أثناء محادثات عابرة كانوا يخبرونها أشياء لم تكن تعرفها من الأخبار الصحفية التي تنشر. شرحوا لها كيف أن سوكارنو قد سبب قلقا شديدا للحكومة الأمريكية التي كانت تنتابها الهواجس بالفعل بسبب زحف الشيوعية عبر الهند الصينية، وخطبه الرنانة وسياسة عدم الانحياز، لقد كان سيئا بالضبط مثل لومومبا أو جمال عبد الناصر، لكنه كان أسوأ بسبب الأهمية الاستراتيجية لإندونيسيا. وانتشرت شائعات تقول إن وكالة الاستخبارات الأمريكية قد لعبت دورا في الانقلاب، مع أن أحدا لم يكن متأكدا من هذا. لكن الأمر الأكيد هو أن القوات العسكرية بعد الانقلاب اجتاحت الريف بحثا عن متعاطفين مع النظام الشيوعي. وكان عدد القتلى عرضة للتقديرات المختلفة؛ فالبعض قدره ببضع مئات من الآلاف أو ربما نصف مليون. وحتى رجال المخابرات المحنكون لم يعرفوا العدد.
وقد علمت أمي من التلميحات والهمسات الجانبية أننا وصلنا إلى جاكرتا بعد أقل من عام من أكثر حملات القمع وحشية وسرعة في العصر الحديث. وامتلأت نفسها خوفا من فكرة أنه يمكن ابتلاع التاريخ بهذا الشكل، بالطريقة نفسها التي يمكن للأرض الثرية والخصبة ابتلاع أنهار الدماء التي كانت تتدفق في الشوارع، والطريقة التي استطاع بها الناس استكمال أعمالهم وفوق رءوسهم صور عملاقة للرئيس الجديد كما لو أن شيئا لم يحدث، كشعب منشغل بتطوير نفسه. وعندما اتسعت دائرة أصدقائها من الإندونيسيين كان بعضهم على استعداد لأن يخبرها بقصص أخرى عن الفساد الذي تفشى في الجهات الحكومية، وعمليات الابتزاز التي تنفذها الشرطة والجيش، والصناعات التي نشأت من أجل عائلة الرئيس وحاشيته. وبعد كل قصة جديدة كانت تذهب إلى لولو وتسأله سرا: «هل هذا صحيح؟»
وهو لم يكن يخبرها شيئا. وكلما ازدادت أسئلتها أصبح هو أكثر تمسكا بصمته الهادئ. وكان يسألها: «لماذا تقلقين نفسك بمثل هذه الأحاديث؟» ويستفسر منها قائلا: «لم لا تشترين ثوبا جديدا للحفل؟» وفي النهاية، اشتكت لأحد أقرباء لولو، وهو طبيب أطفال كان يرعى لولو أثناء الحرب.
وقد قال لها قريبه برفق: «إنك لا تفهمين.» «أفهم ماذا؟» «ظروف عودة لولو. إنه لم يخطط للعودة من هاواي بهذه السرعة كما تعرفين. ففي أثناء التطهير استدعي جميع الطلاب الذين يدرسون بالخارج دون تفسير، وسحبت منهم جوازات السفر. وعندما هبط لولو من الطائرة لم تكن لديه فكرة عما قد يحدث بعد ذلك. إننا حتى لم نره؛ فقد اصطحبه المسئولون بالجيش واستجوبوه، وأخبروه أنه جرى تجنيده وسيذهب لأدغال غينيا الجديدة لمدة سنة. لقد كان من المحظوظين. إذ كان حال الطلاب الذين كانوا يدرسون في دول الكتلة الشرقية أسوأ كثيرا. الكثير منهم لا يزالون في السجن. أو اختفوا.»
وقال لها مرة أخرى: «ينبغي ألا تقسي على لولو.» وتابع: «من الأفضل أن ينسى المرء مثل هذه الأوقات.»
غادرت أمي منزل قريبه وهي تشعر بدوار. وفي الخارج كانت الشمس في كبد السماء والهواء مليء بالغبار، لكن بدلا من أن تستقل سيارة أجرة إلى المنزل بدأت تسير دون أن تعرف إلى أين تتجه. ووجدت نفسها في حي للأثرياء حيث يقطن الدبلوماسيون وقادة الجيش في منازل واسعة لها بوابات عالية من الحديد المطروق. ورأت سيدة حافية القدمين ترتدي شالا ممزقا تعبر بوابة مفتوحة وتسير على الطريق الذي يقود إلى داخل المنزل حيث كان مجموعة من الرجال يغسلون أسطولا من السيارات من طراز مرسيدس-بنز، ولاند روفر. صاح فيها أحد الرجال وأمرها أن تغادر، لكن المرأة وقفت في مكانها، ومدت أمامها يدا ضامرة تستجدي بها والظلال تخفي وجهها. وفي النهاية وضع رجل آخر يده في جيبه ورمى إليها بضع عملات. ركضت المرأة خلف العملات بسرعة مذهلة وهي ترفع عينيها من حين لآخر تتفحص الطريق في شك، وهي تجمع النقود وتضعها في جيب صدرها. «القوة». علقت الكلمة في ذهن أمي مثل اللعنة. في أمريكا تظل مسألة القوة هذه بصفة عامة مختفية عن الأنظار حتى يبحث المرء بنفسه أسفل السطح؛ أي حتى يزور أحد الأماكن المغلقة المخصصة لقبائل الهنود الحمر أو يتحدث إلى شخص أسود بعد أن يكسب ثقته. لكن القوة هنا واضحة لا تعرف تمييزا، عارية، دائما حية في ذاكرتك. لقد أخذت القوة لولو وأعادته مرة أخرى في الوقت الذي ظن فيه أنه هرب منها، مما جعله يشعر بأهميتها، وجعلته يدرك أن حياته ليست ملكه. هكذا سارت الأمور؛ فالمرء لا يستطيع أن يغير شيئا، كل ما يمكنه فعله هو أن يعيش وفقا للقواعد، وهي قواعد بسيطة إذا تعلمها. وهكذا عقد لولو معاهدة سلام مع القوة، وتعلم حكمة النسيان. بالضبط كما فعل زوج أخته الذي جمع الملايين من عمله كمسئول رفيع المستوى في شركة نفط قومية، وبالضبط كما حاول شقيق آخر له أن يفعل إلا أنه أخطأ في حساباته وآل به الحال الآن إلى سرقة قطع من الفضة كلما جاء في زيارة، وبيعها بعد ذلك مقابل السجائر.
وتذكرت ما أخبرها به لولو ذات مرة عندما مست أسئلتها المتواصلة موضوعا حساسا. إذ قال: «الإحساس بالذنب رفاهية لا يقدر عليها سوى الأجانب، مثل قول ما يبدر إلى ذهنك.» إنها لم تكن تعرف ما يبدو عليه الأمر عندما يخسر المرء كل شيء، عندما يستيقظ ويجد أحشاءه تتقطع من الجوع. لم تعرف كم من الممكن أن يكون الطريق إلى الأمن مزدحما وغادرا. فمن دون التركيز المطلق، من السهل أن ينزلق المرء ويعود إلى الوراء.
إنه محق بالطبع. إنها أجنبية، بيضاء من الطبقة المتوسطة جذورها تحميها، سواء أكانت تريد الحماية أم لا. فبإمكانها دائما أن تغادر إذا ما ساءت الأمور . وهذه الإمكانية كانت تنفي أي شيء من الممكن أن تقوله للولو، وهذا هو الحاجز الذي لا يمكن اختراقه بينهما. وفي تلك اللحظة نظرت من النافذة ووجدت أنني ولولو قد انتقلنا من مكاننا والحشائش أصبحت مسطحة في المكان الذي كنا نجلس فيه. هذا المشهد جعلها ترتجف، فنهضت على قدميها وقد ملأها رعب مفاجئ.
إن القوة تأخذ ابنها. •••
وعندما أعود وأفكر في تلك الفترة أجد أنني لست واثقا بأن لولو كان يفهم جيدا ما كانت أمي تمر به في تلك السنوات، ولماذا كانت الأشياء التي كان يبذل قصارى جهده ليوفرها لها تزيد المسافة بينهما. إنه لم يكن رجلا يطرح على نفسه مثل هذه الأسئلة، بل كان يحافظ على تركيزه، وعلى مدار الفترة التي عشناها في إندونيسيا استمر نجمه في الصعود. وبمساعدة زوج شقيقته حصل على عمل جديد في مكتب العلاقات الحكومية بشركة نفط أمريكية. وانتقلنا إلى منزل في حي أفضل، وحلت السيارة محل الدراجة البخارية، وحل التليفزيون ومذياع لبث الصوت بكفاءة عالية محل التماسيح والقرد تاتا، وأصبح بإمكان لولو أن يحجز لنا عشاء في نادي الشركة. وفي بعض الأحيان كنت أسمعه وأمي يتجادلان في غرفة نومهما عن رفضها حضور حفلات العشاء التي تقيمها الشركة حيث يربت رجال الأعمال الأمريكيون من تكساس ولويزيانا على ظهر لولو ويتفاخرون بالرشا التي دفعوها للحصول على حقوق التنقيب عن النفط في الحقول البحرية الجديدة، في حين تشتكي زوجاتهم لأمي من طبيعة المساعدة الإندونيسية. وكان يسألها كيف سيكون شكله إذا ذهب وحده، ويذكرها بأنهم شعبها، وهنا يعلو صوت أمي ليصبح صراخا تقريبا.
كانت تقول: «إنهم ليسوا شعبي.»
ومع ذلك فمثل هذه المناقشات نادرا ما كانت تحدث، وقد ظلت علاقة لولو وأمي يسودها الود عند ميلاد أختي مايا وانفصالهما وطلاقهما في النهاية، وحتى المرة الأخيرة التي رأيت فيها لولو بعد 10 سنوات عندما ساعدته أمي على السفر إلى لوس أنجلوس للعلاج من مرض في الكبد تسبب في وفاته وهو في الحادية والخمسين من عمره. أما التوتر الذي لاحظته فكان يتعلق في المقام الأول بالتغير التدريجي في سلوك أمي تجاهي. لقد كانت دائما تشجعني على أن أتشرب الثقافة الإندونيسية بسرعة، وقد جعلني هذا إلى حد ما أتمتع باكتفاء ذاتي ولا أطلب الكثير نظرا للميزانية المحدودة، وجعلني حسن الخلق بالمقارنة بالأطفال الأمريكيين الآخرين. لقد علمتني أن أحتقر المزيج من الجهل والغرور الذي كان في أغلب الأحيان صفة للأمريكيين بالخارج. لكنها أصبحت تدرك - مثل لولو بالضبط - الهوة الكبيرة التي تفصل بين فرص الحياة المتاحة أمام أمريكي وتلك المتاحة أمام إندونيسي. وعرفت إلى أي جانب تريد أن يكون ابنها. فقررت أنني أمريكي، وحياتي الحقيقية توجد في مكان آخر.
تركزت جهودها المبدئية على التعليم. ومع عدم توفر النقود المناسبة كي ألتحق بالمدرسة الدولية حيث يدرس معظم الطلاب الأجانب في جاكرتا؛ فقد رتبت منذ لحظة وصولنا كي تضيف إلى تعليمي في المدارس الإندونيسية منهجا دراسيا أمريكيا أدرسه بالمراسلة.
وفي ذلك الوقت تضاعفت جهودها. فطوال خمسة أيام في الأسبوع كانت تدخل إلى غرفتي في الرابعة صباحا، وتجبرني على تناول طعام الإفطار وتعطيني دروسا في اللغة الإنجليزية لمدة ثلاث ساعات قبل أن أذهب إلى المدرسة وتذهب هي إلى عملها. وقد قاومت هذا النظام بشدة، لكن في مقابل كل وسيلة كنت أتدبرها، سواء أكانت غير مقنعة (مثل ألم في معدتي) أو حقيقية بصورة لا تقبل النقاش (مثل أن تغمض عيني كل خمس دقائق)، كانت أمي تكرر على مسامعي بصبر أقوى وسيلة دفاعية لديها: «هذا الأمر ليس نزهة لي أنا أيضا أيها الصبي.»
ثم كانت هناك المخاوف التي تظهر من حين لآخر فيما يخص سلامتي، وصوت جدتي يتصاعد. وأذكر أني عدت إلى المنزل بعد أن أسدل الليل ستائره في أحد الأيام لأجد أن هناك فرقة بحث كبيرة محتشدة في فناء منزلنا. لم تبد أمي سعيدة ولكنها شعرت بارتياح شديد لرؤيتي حتى إنها استغرقت عدة دقائق لتلاحظ أن جوربا مبتلا ومتسخا بالوحل ملفوفا حول ساعدي. «ما هذا؟» «ماذا؟» «هذا! لماذا تلف ساعدك بجورب؟» «لقد جرحت نفسي.» «دعني أر.» «الأمر ليس بهذه الخطورة.» «باري. دعني أر.»
فنزعت الجورب لأريها جرحا طويلا يمتد من الرسغ إلى المرفق. كان بعيدا عن الوريد ببوصة واحدة لكنه عميق عند العضلة حيث يظهر لحم دام من أسفل الجلد. وعلى أمل أن تهدأ شرحت لها ما حدث وهو أنني وصديقي سافرنا متطفلين إلى مزرعة عائلته، ثم بدأت الأمطار تهطل، وفي المزرعة كان هناك مكان رائع للتزلق على الوحل، وكانت هناك أسلاك شائكة تعين حدود المزرعة، و...
صاحت أمي: «لولو!»
وعندما تقص أمي هذه القصة الآن فإنها تضحك عند هذه النقطة، ضحكة أم سامحت ابنها على الأخطاء التي مضت. لكن نبرتها تتغير تغيرا طفيفا عندما تتذكر أن لولو اقترح أن ننتظر إلى الصباح لتضميد الجرح، وأنه كان عليها أن ترهب جارنا الوحيد الذي يمتلك سيارة بالصياح في وجهه ليصطحبنا إلى المستشفى. وتتذكر أمي أن معظم الأضواء كانت مطفأة في المستشفى عندما وصلنا، ولا يوجد أي موظف في الاستقبال، وتتذكر صوت خطواتها المضطربة تتردد عبر الرواق حتى وجدت أخيرا شابين يرتديان شورت لعبة الملاكمة يلعبان الدومينو في غرفة صغيرة في الخلف. وعندما سألتهما أين الأطباء، أجابها الرجل بابتهاج: «نحن الأطباء»، واستكملا لعبتهما قبل أن يرتديا سرواليهما ويخيطان ذراعي بعشرين غرزة تركت ندبة قبيحة المنظر. وطوال ذلك الوقت، كان هناك شعور يسيطر عليها أن حياة طفلها ربما تضيع عندما يغيب عن ناظريها، وأن جميع من حولها سيكون مشغولا في محاولة النجاة بنفسه حتى إنه لن يلاحظ، وأنه عندما نظرت حولها وجدت أنه سيكون معها الكثير من المتعاطفين لكن لا أحد سيقف إلى جوارها وهي تقاوم المصير الذي يهددها.
وأدرك الآن أن مثل تلك الأمور، غير الملموسة مثل النصوص الدراسية والخدمات الطبية، هي التي أصبحت محور تركيز دروسها معي. فكانت تقول لي: «إذا أردت أن تكون إنسانا فإنك بحاجة إلى بعض القيم»:
الأمانة: ما كان ينبغي للولو أن يخبئ الثلاجة في حجرة التخزين عندما جاء مسئولو الضرائب، حتى إذا كان الجميع - ومنهم مسئولو الضرائب أنفسهم - يتوقعون مثل هذه الأمور. العدالة: لا ينبغي لأولياء أمور الطلاب الأكثر ثراء أن يهدوا المدرسين أجهزة تليفزيون في شهر رمضان، وليس من حق أطفالهم أن يفتخروا بالدرجات العالية التي يحصلون عليها. الصراحة: إذا لم يكن القميص الذي اشتريته لك في عيد ميلادك قد أعجبك، كان يجب أن تقول هذا بدلا من أن تتركه في قاع خزانة ملابسك. استقلال الرأي: إذا كان الأطفال يستهزئون بالصبي الفقير بسبب الطريقة التي يقص بها شعره فلا يعني هذا أن تفعل مثلهم.
لقد كان الأمر كما لو أنه بالسفر حول منتصف العالم - بعيدا عن الاعتداد بالنفس والنفاق الذي كشفته الألفة - استطاعت أمي أن تعبر عن فضائل ماضيها الغرب أوسطي وتعرضها بصورة مركزة. المشكلة هي أنه لم يكن لديها سوى قليل من وسائل التأكيد؛ فكلما انتحت بي جانبا لتقدم لي إحدى هذه النصائح أومأت لها موافقا، لكن كان يجب أن تعرف أن الكثير من أفكارها غير عملي. وكل ما فعله لولو هو أنه شرح لي فقط الفقر والفساد والتدافع المستمر من أجل الأمان، لكنه لم يخترعها. فقد ظلت تحيط بي وولدت داخلي شكا لا يعرف الرحمة. فثقة أمي في الفضائل الجمالية تعتمد على إيمان لم يكن عندي، إيمان رفضت هي أن تصفه بأنه دين، إيمان أخبرتها خبرتها أنه تدنيس للمقدسات؛ إنه إيمان بأن الأشخاص العقلانيين المتفكرين يمكنهم أن يشكلوا قدرهم. وفي أرض ظلت الحتمية فيها أداة ضرورية لتحمل الصعاب، حيث كانت الحقائق المطلقة تظل منفصلة عن حقائق الحياة اليومية، كانت هي شاهدة وحيدة للإنسانية العلمانية، جندية لصفقة كينيدي الجديدة، وقوات السلام، والليبرالية التي تقول بها المنظمات.
ولم يكن لها في كل هذا سوى حليف واحد؛ السلطة البعيدة لأبي. فأصبحت بصورة متزايدة تذكرني بقصته؛ كيف نشأ فقيرا في دولة فقيرة في قارة فقيرة، وكيف كانت حياته صعبة، صعبة مثل أي شيء قد يكون لولو واجهه. لكنه لم يختر أسهل الطرق ولم يلجأ إلى استخدام كل وسيلة تتاح أمامه لتحقيق أهدافه. لقد كان مجتهدا وأمينا مهما كلفه الأمر . وعاش حياته وفقا لمبادئ تطلبت نوعا مختلفا من الصلابة، مبادئ وعدته بشكل أرقى من القوة. ورأت أمي أني سأسير على نهجه. ولم يكن لدي خيار. فهذا الأمر مستقر في جيناتي. «يمكنك أن تشكرني على شكل حاجبيك ... فقد كان حاجبا أبيك خفيفين وصغيرين. لكنك ورثت عقلك وشخصيتك عنه.»
أصبحت رسالتها تضم السود بصفة عامة. فكانت تعود إلى المنزل محملة بكتب عن حركة الحقوق المدنية، وتسجيلات لماهاليا جاكسون وأحاديث الدكتور كينج. وعندما قصت علي قصصا عن أطفال المدارس في الجنوب الذين كانوا مجبرين على قراءة كتب تنازلت عنها لهم مدارس البيض الأكثر ثراء، لكنهم استكملوا تعليمهم ليصبحوا أطباء ومحامين وعلماء، شعرت بخجل لأني أعارض الاستيقاظ مبكرا والمذاكرة في الصباح. وإذا أخبرتها عن مسيرات الاستعراض العسكري التي قام بها فريق الكشافة الإندونيسي أمام الرئيس، فقد تذكر مسيرة من نوع آخر، مسيرة أطفال لا يكبرونني سنا من أجل الحرية. فكل رجل أسود كان ثورجود مارشال أو سيدني بواتييه، وكانت كل سيدة سوداء فاني لو هامر أو لينا هورن. وأن يكون المرء أسود يعني أن يكون المستفيد من ميراث عظيم، ومصير خاص، وأعباء مجيدة لا يقوى على تحملها سوانا.
إنها أعباء قدر لنا أن نتحملها بأناقة. فقد أشارت أمي أكثر من مرة إلى أن «هاري بيلافونت هو أكثر الرجال وسامة على ظهر الكوكب.» •••
كان هذا هو السياق الذي رأيت فيه صورة الرجل الأسود في مجلة «لايف» الذي حاول أن يخلع عنه بشرته. وأتخيل أطفالا سودا آخرين في ذلك الوقت والآن يمرون بلحظات مشابهة من تجلي الحقائق. ربما تتجلى هذه اللحظات في أوقات مبكرة للبعض؛ فيحذر الآباء أبناءهم من عبور حدود منطقة محددة بعينها، أو يشعرون بالإحباط لأن شعرهم ليس كشعر الدمية «باربي» بصرف النظر عن كيف تمشط وتتعذب، أو قصة إهانة الوالد أو الجد على يد صاحب عمل أو ضابط، التي يسمعها الطفل صدفة عندما يكون من المفترض أنه نائم. قد يكون من الأسهل لطفل أن يتلقى الأخبار السيئة في جرعات صغيرة ويسمح لنظام دفاع أن يتكون داخله، مع أني أشك أني كنت من المحظوظين؛ إذ تمتعت بفترة طفولة خالية من الشك في الذات.
أعلم أن رؤية ذلك المقال كانت قاسية، كمين تعرضت فيه للهجوم. لقد حذرتني أمي من المتعصبين؛ فهم جهلة غير مثقفين يجب أن يتجنبهم المرء. وإذا لم أكن قادرا بعد على التفكير في كوني مخلوقا فانيا، فقد ساعدني لولو على فهم احتمال التعرض لعجز المرض، أو تشوهات الحوادث، أو أفول نجم الحظ. فاستطعت بنجاح التعرف على طمع منتشر أو قسوة في الآخرين، وفي بعض الأحيان في نفسي. لكن تلك الصورة أخبرتني بشيء آخر: أن هناك عدوا خفيا، عدوا يمكنه أن يصل إلي دون علم أحد، أو حتى دون علمي أنا شخصيا. وعندما عدت إلى المنزل في تلك الليلة من مكتبة السفارة، ذهبت إلى الحمام ووقفت أمام المرآة ووجدت جميع حواسي وأطرافي كما هي، وبدوت كما أنا دائما، وتساءلت هل ألم بي شيء. أما البديل الآخر الذي كان أمامي فلم يكن أقل إثارة للرعب وهو أن جميع الكبار ممن حولي يعيشون في غمرة الجنون.
ستمر تلك النوبة القوية الأولى من القلق، وسأقضي عامي المتبقي في إندونيسيا كما أمضيت ما قبله. وحافظت على ثقة لم تجد ما يبررها دائما، ومهارة لا يمكن كبتها للإزعاج. لكن نظرتي تغيرت للأبد. وفي عروض التليفزيون الأجنبية التي بدأت تذاع في المساء، بدأت ألاحظ أن «كوسبي» لم يفز قط بالفتاة في مسلسل «أنا أتجسس» (آي سباي)، وأن الرجل الأسود في فيلم «مهمة مستحيلة» (ميشن إمبوسيبل) ظل طوال الوقت تحت الأرض. ولاحظت أنه لا يوجد أحد مثلي في كتيب الكريسماس الدعائي لشركة «سيرز وروباك وشركاه» الذي كان جدي وجدتي يرسلانه لنا، وأن بابا نويل كان رجلا أبيض اللون.
احتفظت بهذه الملاحظات لنفسي، مقررا أن أمي إما أنها لم تشاهدها أو أنها تحاول حمايتي، وإنني يجب ألا أريها أن محاولتها قد فشلت. وكنت لا أزال أثق بحب أمي، لكني أصبحت أواجه احتمال أن ما ترويه عن العالم ومكانة أبي فيه غير كاملة بطريقة ما.
الفصل الثالث
استغرقت بعض الوقت حتى تعرفت عليهما في الزحام. في البداية عندما انفتحت الأبواب الجرارة كان كل ما استطعت أن أميزه هو صورة غير واضحة لوجوه مبتسمة متلهفة تنظر باتجاه الحاجز. ثم التقطت عيناي في النهاية رجلا طويل القامة يميل شعره إلى اللون الأبيض يقف في آخر الزحام، ومعه سيدة قصيرة لا تكاد تظهر وهي تقف إلى جواره ذات وجه دائري وترتدي نظارة دائرية. بدأ الاثنان يلوحان لي، لكن قبل أن ألوح لهما اختفيا وراء زجاج نصف شفاف.
نظرت إلى مقدمة الصف فرأيت عائلة صينية يبدو أنها تواجه بعض المشكلات مع مسئولي الجمارك. كانت رفقة تلك الأسرة ممتعة طوال الرحلة من هونج كونج، فكان الأب يخلع حذاءه ويسير جيئة وذهابا في الممرات، والأطفال يصعدون فوق المقاعد، والأم والجدة تجمعان الوسائد والأغطية وتثرثران معا دون توقف. وفي تلك اللحظة كانت العائلة تقف ساكنة تماما، تحاول أن تختفي عن الأنظار، وعيونهم تتابع بصمت الأيدي التي تقلب في جوازات سفرهم وأمتعتهم بهدوء يثير الخوف. وكان الأب يذكرني بلولو بشكل ما، فنظرت إلى القناع الخشبي الذي كنت أحمله في يدي والذي أهداني إياه صديق أمي مساعد الطيار الإندونيسي الذي اصطحبني في حين وقفت هي ولولو وأختي الجديدة مايا على البوابة. أغلقت عيني ووضعت القناع على وجهي. كانت تنبعث من الخشب رائحة جوز الهند والقرفة، وشعرت بنفسي أنجرف عبر المحيطات وفوق السحب إلى الأفق البنفسجي عائدا إلى المكان الذي كنت فيه يوما ما ...
صاح أحد باسمي. فسقط القناع إلى جانبي ومعه حلم يقظتي، ورأيت مرة أخرى جدي يقفان يلوحان لي بحماس. هذه المرة لوحت لهما، ثم دون أن أفكر أعدت القناع على وجهي مرة أخرى، وجعلت رأسي يتمايل في رقصة قصيرة غريبة. ضحك جداي وأشارا إلي ولوحا مرة أخرى حتى ربت مسئول الجمارك على كتفي وسألني هل أنت أمريكي، فأومأت له بالإيجاب وسلمته جواز سفري.
فقال لي: «تفضل» ثم طلب من العائلة الصينية أن تتنحى جانبا.
أغلقت الأبواب الجرارة خلفي. واحتضنتني جدتي ووضعت حول رقبتي عقدا من الحلوى واللبان. وألقى جدي ذراعه حول كتفي وقال إن القناع تحسن لا جدال فيه. واصطحباني إلى السيارة الجديدة التي اشترياها، وعلمني جدي كيف أشغل جهاز التكييف. قدنا السيارة في الطريق السريع، ومررنا بمطاعم الوجبات السريعة، والنزل الرخيصة التكلفة، وأسواق لبيع السيارات المستعملة محاطة بسياج مزين. وأخذت أحدثهم عن الرحلة وعن كل شخص تركته في جاكرتا. وأخبرني جدي بما خططاه لحفل عشاء الترحيب بعودتي. وقالت جدتي إنني سأحتاج إلى ملابس جديدة للمدرسة.
ثم فجأة، توقف الحوار. فأدركت أنني سأعيش مع غريبين عني.
لم تبد الترتيبات الجديدة سيئة عندما شرحتها لي أمي في البداية. فقالت إنه حان الوقت كي ألتحق بمدرسة أمريكية، وإني سأراجع سريعا جميع دروس المنهج الذي درسته بالمراسلة. وقالت إنها ومايا ستلحقان بي في هاواي قريبا للغاية - عام على الأكثر - وإنها ستحاول أن تأتي في الكريسماس. وذكرتني كم كان الوقت الذي قضيته مع جدي الصيف السابق ممتعا؛ الآيس كريم وأفلام الكرتون والأيام التي أمضيناها على الشاطئ. وقالت: «لن يكون عليك أن تستيقظ في الرابعة صباحا»، وهو أمر وجدت أنه أكثر جاذبية لي.
لم أدرك أن جدي تغيرا كثيرا إلا في ذلك الوقت عندما بدأت أتكيف في الحياة معهما لفترة غير محددة ورأيت كيف تسير حياتهما. فبعد أن رحلت أنا وأمي باعا المنزل الكبير القديم الذي كان قريبا من الجامعة، واستأجرا شقة صغيرة بها غرفتان للنوم في مبنى شاهق الارتفاع في شارع بيريتانيا. وترك جدي عمله في تجارة الأثاث ليعمل وسيطا في مجال بيع بوالص التأمين على الحياة، ونظرا لأنه لم يكن قادرا على إقناع نفسه بأن الناس تحتاج ما يحاول بيعه لهم، ولكونه حساسا تجاه الرفض، لم يسر العمل على ما يرام. ومساء كل يوم أحد، كنت أشاهده وهو يصبح أكثر عصبية عندما يمسك بحقيبته، ويضع منضدة قابلة للطي أمام مقعده، ويلاحق أي شيء قد يشتت انتباهه حتى يدفعنا في النهاية للخروج من غرفة المعيشة، ويحاول أن يحدد مواعيد مع عملاء محتملين عبر الهاتف. وفي بعض الأحيان عندما كنت أتسلل على أطراف أصابعي إلى المطبخ كي أحضر زجاجة مياه غازية، كنت أسمع اليأس وهو يتسلل إلى صوته، وفترة الصمت التي تتبع هذا اليأس عندما يفسر له الشخص على الطرف الآخر من الهاتف لماذا يوم الخميس غير مناسب والثلاثاء ليس أفضل كثيرا، ثم أسمع تنهيدة جدي العميقة بعد أن يضع سماعة الهاتف، ويده تتحسس الملفات على حجره باضطراب مثل لاعب الورق الذي يواجه ورطة كبيرة.
وفي النهاية، يرق بعض الناس، فيذهب عنه الألم، ثم يدخل جدي إلى غرفتي ليحكي لي قصصا عن شبابه أو الدعابة الجديدة التي قرأها في مجلة «ريدرز دايجست». وإذا كانت المكالمات التي أجراها سارت على ما يرام في تلك الليلة فقد يناقش معي بعض الأمور التي لا يزال يفكر فيها؛ مثل ديوان الشعر الذي بدأ يكتبه، والرسم التخطيطي الذي يوشك أن يتحول إلى لوحة، ومخططات المساقط الأفقية لمنزل أحلامه المتكامل الذي تتاح فيه وسائل الراحة والرفاهية التي سيحصل عليها بضغطة زر، وسيحتوي على حديقة خلابة. ورأيت كيف أن خططه كلما ابتعدت عن نطاق إمكانية تحقيقها ازدادت جرأة، لكني رأيت فيها بعضا من حماسه القديم، وكنت أحاول عادة أن أبتكر أسئلة مشجعة تساعد على إبقاء حالته النفسية جيدة. ثم عند نقطة ما أثناء حديثه، نلاحظ نحن الاثنين أن جدتي تقف في الردهة خارج غرفتي، ورأسها يميل جانبا في انتقاد. «ماذا تريدين يا مادلين؟» «هل انتهيت من مكالماتك الهاتفية يا حبيبي؟» «نعم يا مادلين. انتهيت من مكالماتي الهاتفية. إنها العاشرة مساء!» «لا داعي للصراخ يا ستانلي. لقد أردت فقط أن أعرف هل بإمكاني الذهاب إلى المطبخ.» «أنا لا أصرخ! يا إلهي، لا أفهم لماذا ...» وقبل أن ينتهي من عبارته تكون جدتي قد انسحبت إلى غرفة نومهما، فيترك جدي غرفتي ونظرة الاكتئاب والغضب ترتسم على وجهه.
أصبحت مثل هذه الأحاديث أمرا معتادا لي؛ إذ كانت المناقشات بين جدي وجدتي تسير بنمط روتيني يتكرر كثيرا، نمط نشأ نتيجة الحقيقة التي نادرا ما تذكر وهي أن دخل جدتي كان أعلى من جدي . وقد أثبتت أنها رائدة في مجال عملها إلى حد ما؛ فقد كانت أول سيدة تعمل نائبة رئيس بنك محلي، ومع أن جدي كان يحب دائما أن يقول إنه كان يشجعها لتتقدم في عملها، فقد أصبح عملها موضوعا حساسا ومريرا بينهما؛ فالعمولات التي كان يتلقاها كانت لا تسدد سوى أقل القليل من فواتير الأسرة.
لم تكن جدتي تتوقع تحقيق هذا النجاح. فنظرا لأنها لم تكن حاصلة على درجة جامعية فقد بدأت العمل سكرتيرة للمساعدة في تحمل نفقات مجيئي غير المتوقع إلى الدنيا. ولكنها كانت سريعة البديهة وسديدة الرأي ولديها القدرة على العمل المتواصل. وأخذت تتقدم في عملها ببطء، وكانت تتصرف مع من حولها بأمانة وشرف حتى وصلت إلى باب لم تكن الكفاءة كافية لاجتيازه. وظلت في وظيفتها 20 عاما، نادرا ما تحصل على إجازات وتشاهد نظراءها من الرجال وهم يواصلون الصعود على درجات السلم الوظيفي، ويلجئون للغش قليلا باستخدام معلومات تتسرب أثناء لعب الجولف وأثناء الطريق إلى مبنى النادي، ويصبحون رجالا أثرياء.
وأكثر من مرة، قالت أمي لجدتي إنه لا ينبغي أن يفلت البنك من العقاب على سياسة التفرقة الجنسية الصارخة التي يتبعها. لكن جدتي كانت تستخف بملاحظات أمي وتقول إن كل شخص بإمكانه أن يجد سببا للشكوى من شيء معين. ولم تشتك جدتي قط، وكل صباح كانت تستيقظ في الخامسة صباحا، وتبدل الموو موو - رداء النساء التقليدي في هاواي - غير المهندم الذي كانت ترتديه في المنزل، وترتدي بذلتها الأنيقة وحذاء عالي الكعب. وتضع المساحيق على وجهها، وترتدي مشدا للوسط (كورسيه)، وتزين شعرها الخفيف ثم تستقل حافلة السادسة والنصف صباحا لتصل إلى مكتبها في وسط المدينة قبل الجميع. ومن حين لآخر، كان يأخذها التفاخر بعملها رغما عنها وتستمتع بإخبارنا بالقصة الخفية وراء الأخبار المالية المحلية. وعندما كبرت أسرت إلي بأنها لم تتوقف قط عن الحلم بمنزل له سياج خشبي أبيض، وقضاء الأيام وهي تخبز أو تلعب البريدج أو تعمل متطوعة في المكتبة المحلية. وقد فاجأني هذا الاعتراف؛ إذ إنها نادرا ما كانت تعبر عن أمنياتها أو الأشياء التي تندم عليها. قد يكون صحيحا، أو لا يكون، أنها كانت ستفضل الحياة البديلة التي تخيلتها لنفسها، لكني أصبحت أفهم أن حياتها المهنية كانت في وقت لم يكن فيه عمل الزوجة خارج منزلها مصدرا للتباهي، سواء لها أو لجدي، وأنه لم يكن يمثل إلا سنوات تضيع، ووعودا تتحطم. والشيء الذي كانت جدتي تعتقد أنه يجعلها قادرة على الاستمرار هو احتياجات أحفادها، والجلد الذي كان يتميز به أجدادها.
فقد قالت أكثر من مرة: «المهم حقا يا باري، هو أنكم بخير أيها الأولاد.»
هكذا أصبح جدي وجدتي يعيشان. كانا لا يزالان يعدان طبق الساشيمي للضيوف الذين أصبحوا قليلي التردد على منزلهما. وكان جدي لا يزال يرتدي قميص هاواي عند ذهابه إلى المكتب، وكانت جدتي لا تزال تصر على أن نخاطبها بلقب «توت». ولكن فيما عدا ذلك، فقد جف نبع الطموح الذي حملاه معهما إلى هاواي، حتى أصبح الانتظام - انتظام المواعيد والتسلية والطقس - هو العزاء الوحيد لهما. وكانا يتذمران من حين لآخر من أن اليابانيين قد استولوا على الجزر، وكيف تحكم الصينيون في الموارد المالية للجزيرة. وفي أثناء جلسات استماع قضية ووترجيت، انتزعت أمي منهما اعترافا بأنهما انتخبا نيكسون، مرشح القانون والنظام، في انتخابات عام 1968م. ولم نعد نذهب إلى الشاطئ أو نتنزه معا، وفي المساء كان جدي يشاهد التليفزيون في حين كانت جدتي تجلس في غرفتها تقرأ قصص ألغاز جرائم القتل. وأصبح مصدر الإثارة في حياتهما هو شراء ستائر جديدة أو مجمد منفصل. لقد بدا كما لو أنهما تجنبا تلك القناعة التي تأتي في منتصف العمر؛ أي التقاء النضج النابع من الخبرة الحياتية بما تبقى من العمر، والتقاء طاقة الإنسان بما هو متاح له من وسائل، والاعتراف بالإنجازات التي تحرر الروح. لقد قررا في وقت ما أثناء غيابي أن يقللا من خسائرهما ويقبلا مجرد البقاء. ولم يعودا يريان أية غاية يتمنيان تحقيقها. •••
وعندما اقترب الصيف من نهايته، تزايد شوقي لبدء الدراسة. وكان اهتمامي الرئيسي هو أن أجد رفاقا في مثل عمري، ومن وجهة نظر جدي كان قبولي في «أكاديمية بوناهو» إعلانا ببداية شيء عظيم وسموا في مكانة العائلة حتى إنهما لم يدخرا جهدا كي يجعلا الجميع يعلم بهذا. فقد أصبحت أكاديمية بوناهو، بعد أن أسستها البعثات التبشيرية عام 1841م، مدرسة إعدادية لها مكانتها، مكانا يدرس فيه أبناء علية القوم في الجزيرة. وقد ساعدت سمعتها في إثناء أمي عن قرار إرسالي إلى إحدى الولايات الأمريكية. فقد أخبرها جدي وجدتي أن التحاقي بها لم يكن أمرا سهلا؛ إذ كانت هناك قائمة انتظار طويلة، ولم أحظ بفرصة القبول إلا بعد تدخل رئيس جدي في العمل الذي كان أحد خريجي الأكاديمية (يبدو أن أول تجربة لي مع سياسة التمييز الإيجابي لم يكن لها علاقة بالعرق).
كنت قد أجريت عدة مقابلات شخصية مع المسئولة عن القبول في أكاديمية بوناهو الصيف السابق. وكانت سيدة مفعمة بالحيوية وتبدو شخصا كفئا لم يزعجها أن قدمي لا تكادان تلمسان الأرض وهي تسألني بإلحاح عن أهدافي المهنية. وبعد المقابلة أرسلتني السيدة أنا وجدي في جولة في حرم المدرسة، الذي كان مجمعا يمتد لعدة أفدنة من الحقول الوافرة الخضرة والأشجار الظليلة، ومبان مدرسية قديمة مبنية بالحجارة وأخرى حديثة من المعدن والزجاج. وكانت هناك ملاعب تنس وحمامات سباحة واستديوهات تصوير. وفي أثناء الجولة تخلفنا قليلا عن المرشد، وأمسك جدي ذراعي وهمس.
قال: «اللعنة يا باري، هذه ليست مدرسة. إنها جنة. يمكنك أن تجعلني أعود مرة أخرى لصفوف الدراسة معك.»
وصل مع خطاب القبول مظروف سميك يحتوي على المعلومات وضعته جدتي جانبا لنقرأه بتأن بعد ظهر أحد أيام السبت. وجاء في الخطاب: «مرحبا بك في عائلة بوناهو.» وجاء فيه أنه خصصت لي خزانة، وأدرج اسمي في برنامج تناول الوجبة إلا إذا وضعنا علامة في المربع المخصص لغير ذلك، وكانت هناك قائمة بالأشياء التي ينبغي لي شراؤها؛ زي موحد للتربية البدنية، ومقص ومسطرة وأقلام رصاص رقم 2، وآلة حاسبة (اختياري). قضى جدي المساء يقرأ كتاب المدرسة الإرشادي بالكامل وهو كتاب كبير يوضح التقدم المتوقع لي خلال السنوات السبع القادمة؛ مناهج المدرسة الإعدادية، والأنشطة خارج المقرر، وأسلوب تحقيق التفوق الشامل في عدة مجالات. ومع كل نقطة جديدة يزداد حماس جدي؛ فقد نهض عدة مرات وهو يضع إبهامه حيث توقف ويتجه إلى الغرفة حيث كانت جدتي تقرأ ويقول لها وصوته مليء بالدهشة: «ألقي نظرة على هذا يا مادلين.»
ولهذا صحبني جدي بحماس شديد في يومي الأول في المدرسة. وأصر على أن نصل مبكرا، ولم يكن مبنى «كاسل هول» المخصص للطلاب في الصفين الخامس والسادس قد فتح أبوابه بعد. ولم يصل سوى حفنة من الأطفال، وكانوا منشغلين بمعرفة أخبار ما حدث في الصيف. جلسنا إلى جوار صبي صيني رشيق يضع جهازا ضخما لتقويم الأسنان يلتف بشرائط حول عنقه.
قال جدي للصبي: «مرحبا بك.» وتابع: «هذا باري. وأنا جد باري. يمكنك أن تخاطبني جدي.» وصافح الصبي الذي كان اسمه فريدريك. وقال له: «باري جديد هنا.»
فقال فريدريك: «وأنا أيضا»، واشتركا معا في حوار شائق. وجلست وأنا أشعر بالخجل حتى فتحت الأبواب أخيرا وصعدنا السلم إلى الفصل. وعند الباب، ربت جدي على ظهر كلينا.
وقال وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة عريضة: «لا تفعلا أي شيء كنت سأفعله أنا.»
وقال فريدريك وهو يشاهد جدي يقدم نفسه للآنسة هيفتي مدرسة الفصل: «إن جدك خفيف الظل.» «نعم، إنه كذلك.»
جلسنا إلى الطاولة ومعنا أربعة أطفال وبدأت الآنسة هيفتي، وهي سيدة متوسطة العمر مفعمة بالحيوية لها شعر رمادي قصير، تسجل الحضور. وعندما قرأت اسمي بالكامل، سمعت ضحكات مكتومة تتردد في أرجاء الغرفة، وانحنى فريدريك علي.
قال: «ظننت أن اسمك هو باري.»
وسألتني الآنسة هيفتي: «هل تفضل أن نناديك باسم باري؟» وتابعت: «إن باراك اسم جميل للغاية. يقول جدك إن أباك كيني الجنسية. لقد كنت أعيش في كينيا. أدرس لأطفال في مثل عمرك تقريبا. وإنه لبلد رائع حقا. هل تعلم إلى أية قبيلة ينتمي والدك؟»
أثار سؤالها المزيد من الضحكات، وظللت أنا صامتا دون أن أتفوه بكلمة لدقيقة. وعندما قلت في النهاية «لوو»، أعاد صبي أشقر الشعر يجلس خلفي الاسم بصيحة استهزاء عالية مقلدا صوت القرد. ولم يستطع الأطفال بعد ذلك السيطرة على أنفسهم، وتطلب الأمر من الآنسة هيفتي أن توبخ الفصل بقوة حتى يهدأ وانتقلنا، رحمة بي، إلى الشخص التالي في قائمة أسماء التلاميذ.
قضيت باقي اليوم حائرا، وطلبت مني فتاة حمراء الشعر أن تلمس شعري، وكان من الواضح أن رفضي قد آلمها. وسألني ولد أحمر الوجه عما إذا كان أبي من آكلي لحوم البشر. وعندما عدت إلى المنزل كان جدي مستغرقا في إعداد العشاء. «كيف كان الحال؟ أليس من الرائع أن الآنسة هيفتي كانت تعيش في كينيا؟ أراهن أن هذا جعل اليوم الأول في المدرسة أسهل.»
ذهبت إلى غرفتي وأغلقت الباب.
وسرعان ما اعتاد الأطفال الآخرون على وجودي في الفصل، ومع ذلك فقد استمر شعوري بأنني لا أنتمي إلى المكان يزداد. وكانت الملابس التي اخترتها أنا وجدي قديمة الطراز للغاية، وبدا مظهر الصندل الإندونيسي مزريا بعد أن كان جيدا للغاية في جاكرتا. وكان معظم زملائي في الفصل معا منذ الحضانة، ويعيشون في مناطق متجاورة في منازل من طابقين بها حمامات سباحة، وآباؤهم دربوا الفرق نفسها التي تلعب في مسابقة البيسبول التي تنظمها «ليتل ليج»، وأمهاتهم ممن يدعمن أنشطة بيع المخبوزات لجمع التبرعات. ولم يكن أي منهم يلعب كرة القدم أو كرة الريشة أو الشطرنج، وأنا لم تكن لدي أدنى فكرة عن كيفية إلقاء الكرة بشكل حلزوني أو الحفاظ على توازني وأنا على لوح التزلج.
كان الأمر بمنزلة كابوس لطفل في العاشرة من عمره. إلا أنه مع عدم ارتياحي في الشهر الأول، فلم أكن أسوأ من الأطفال الآخرين المستبعدين الذين يصنفون في فئة من لا يمكن تقبلهم بسهولة؛ وقد ضمت هذه الفئة الفتيات اللائي كن شديدات الطول أو الخجل، والصبي الذي كان نشيطا شيئا ما، والأطفال الذين منعتهم إصابتهم بالربو من حضور فصول التربية البدنية.
ومع ذلك فكانت هناك طفلة أخرى في فصلي تذكرني بألم من نوع آخر. اسمها كوريتا، وقبل وصولي كانت هي الفتاة السوداء الوحيدة في الصف. كانت ممتلئة الجسد وسوداء البشرة ولا يبدو أن لديها أصدقاء كثيرين. ومنذ اليوم الأول كل منا تجنب الآخر لكنه راقبه من بعيد، كما لو أن أي اتصال مباشر بيننا سيذكرنا بشدة بعزلتنا.
وفي النهاية في أثناء فترة الفسحة في يوم حار سماؤه صافية من الغيوم وجدنا نفسينا في الركن نفسه من الفناء. لا أذكر ما دار بيننا من حديث، لكني أذكر أنها فجأة كانت تركض خلفي عبر القضبان الأفقية والعمودية التي يستعملها التلاميذ في اللعب. وكانت تضحك بسعادة وكنت أنا أغيظها وأراوغ بالركض بين تلك القضبان، حتى أمسكتني في النهاية وسقطنا على الأرض لا نستطيع التقاط أنفاسنا. وعندما نظرت لأعلى رأيت مجموعة من الأطفال لم أر وجوههم بوضوح أمام وهج الشمس يشيرون إلينا.
قالوا: «كوريتا لديها حبيب! كوريتا لديها حبيب!»
ارتفع صوت الغناء عندما التف حولنا أولاد آخرون.
تمتمت: «إنها ليست حبيبتي.» ونظرت إلى كوريتا أنتظر منها الدعم، لكنها كانت تقف مكانها تنظر إلى الأرض. «كوريتا لديها حبيب! لماذا لا تمنحها قبلة أيها الحبيب؟»
فصرخت: «أنا لست حبيبها.» وركضت باتجاه كوريتا ودفعتها برفق، فترنحت إلى الخلف ونظرت إلي دون أن تقول شيئا. فصرخت أنا مرة أخرى: «دعيني وشأني!» وفجأة أطلقت كوريتا ساقيها للريح وأخذت تركض أسرع فأسرع حتى اختفت عن الأنظار. وتصاعدت ضحكات السعادة من حولي. ثم دق جرس انتهاء الفسحة، وظهر المدرسون ليعيدونا إلى الفصول.
ظلت تلك النظرة التي ارتسمت على وجه كوريتا قبل أن تركض تطاردني فيما تبقى من ظهيرة ذلك اليوم؛ نظرة خيبة الأمل والاتهام. وأردت أن أشرح لها بطريقة ما أن المسألة ليست شخصية؛ كل ما في الأمر أنه لم تكن لدي حبيبة قط ولا أرى حاجة لأن تكون لدي واحدة الآن. لكني لم أعرف حتى هل كان ذلك صحيحا، كل ما كنت أعرفه هو أن وقت التفسير قد فات، وأنني تعرضت للاختبار، وكانت النتيجة أنني غير كفء، وكلما اختلست النظر إلى مقعد كوريتا رأيتها ورأسها ينحني على كتبها تبدو كما لو أن شيئا لم يحدث، منطوية على نفسها ولا تطلب عطفا من أحد.
خلقت خيانتي هذه مسافة بيني وبين الأطفال الآخرين، وعلى غرار كوريتا تركوني وشأني تقريبا. كان لدي عدد قليل من الأصدقاء وتعلمت ألا أتحدث كثيرا في الفصل، وتعلمت أن ألقي بكرة متذبذبة. لكن منذ ذلك اليوم شعرت أن جزءا مني قد سحق ودمر، ووجدت ملاذا في الحياة التي كان جداي يحييانها. فبعد انتهاء اليوم الدراسي كنت أسير مسافة المجمعات السكنية الخمسة التي تفصل المدرسة عن منزلنا، وإذا كان في جيبي نقود أتوقف في بعض الأحيان عند كشك صحف يديره رجل أعمى كان يدعني أعرف المجلات المصورة الجديدة التي ظهرت في الأسواق. وكان جدي يبقى في المنزل ليفتح لي الباب، وعندما ينام بعد الظهر أشاهد أفلام الكرتون ومسلسلات كوميديا الموقف أثناء إعادة عرضها. وفي الرابعة والنصف أوقظ جدي ونأخذ السيارة إلى وسط المدينة كي نقل جدتي. وأؤدي واجبي المنزلي وقت العشاء الذي كنا نتناوله ونحن نشاهد التليفزيون. وأقضي باقي الأمسية أتفاوض مع جدي على البرامج التي سنشاهدها، ونتناول أحدث الوجبات الخفيفة التي عثر عليها في المتجر. وفي العاشرة مساء أذهب إلى غرفتي (فبرنامج جوني كارسون يذاع في ذلك الوقت ومشاهدة هذا البرنامج لا تخضع للمناقشة)، وأخلد إلى النوم على أنغام موسيقى البرنامج الإذاعي «توب فورتي».
شعرت بالأمان وأنا في حضن الثقافة الأمريكية الاستهلاكية الناعم المتسامح، كان الأمر كما لو أني سقطت في مرحلة سبات عميق. وفي بعض الأحيان أتساءل كم من الوقت كنت سأظل في هذه المرحلة إذا لم تكن جدتي وجدت ذلك التلغراف في صندوق البريد في أحد الأيام.
فقد قالت: «والدك سيأتي لرؤيتك.» وتابعت: «هذا سيكون الشهر القادم. بعد أسبوعين من وصول والدتك. سيظلان هنا حتى نهاية الاحتفال برأس السنة.»
طوت جدتي الورقة بعناية ووضعتها في أحد أدراج المطبخ. وظلت هي وجدي صامتين بالطريقة نفسها التي أتخيل أنها رد فعل من يخبره الطبيب أنه يعاني مرضا عضالا ولكن يمكن علاجه. ولدقيقة خيم علينا الصمت في الغرفة ، ووقفنا متسمرين غارقين في أفكارنا.
وفي النهاية قالت جدتي: «حسنا، أظن أنه من الأفضل أن نبدأ في البحث عن مكان يمكنه الإقامة فيه.»
خلع جدي نظارته ومسح عينيه.
وقال: «لا بد أنه سيكون رأس سنة زاخرا بالأحداث.» •••
في أثناء فترة الغداء شرحت لمجموعة من الصبية أن والدي أمير. «جدي هو الزعيم؛ أي رئيس القبيلة. مثل الهنود كما تعرفون. وهذا يجعل أبي أميرا. وهو سيتولى الحكم عندما يموت جدي.»
وسألني أحد أصدقائي ونحن نفرغ أطباقنا في سلة المهملات: «وماذا بعد ذلك؟» وتابع: «أعني، هل ستعود إلى هناك وتصبح أميرا؟» «حسنا ... يمكنني إذا أردت هذا. إنها مسألة معقدة نوعا ما لأن القبيلة مليئة بالمحاربين. مثل أوباما ... الذي يعني «الحربة المحترقة». فكل رجل في قبيلتنا يريد أن يصبح هو الزعيم؛ لذا فعلى أبي أن ينهي هذه العداءات قبل أن أذهب.»
عندما خرجت هذه الكلمات من بين شفتي وشعرت بسلوك الأطفال يتغير تجاهي وأصبحوا أكثر فضولا وألفة معي ونحن يصطدم بعضنا ببعض في الصف عائدين إلى الفصل، بدأ جزء مني يصدق هذه القصة. لكن جزءا آخر مني كان يعرف أن ما أقوله مجرد كذبة؛ شيء اختلقته من فتات المعلومات التي عرفتها من أمي. وبعد أسبوع من لقاء أبي بلحمه ودمه رأيت أني أفضل صورته البعيدة، تلك الصورة التي كان بإمكاني تغييرها كما أشاء، أو أتجاهلها عندما يكون ذلك مناسبا. وإذا لم يكن أبي قد خيب أملي بالضبط فقد ظل شيئا لا أعرفه، شيئا مؤقتا، ومخيفا بصورة غامضة.
أحست أمي بخوفي في الأيام المتبقية على وصوله، وأظن أنها كانت تعكس خوفها؛ ولهذا كان من بين مجهوداتها لإعداد الشقة - التي أجرناها من الباطن له - محاولتها أن تطمئنني أن اللقاء العائلي سيمر بسلام. وقالت إنها كانت تراسله طوال الفترة التي قضيناها في إندونيسيا وإنه يعرف كل شيء عني. وكان أبي، على غرار أمي، قد تزوج مرة أخرى وأصبح لدي خمسة إخوة وأخت يعيشون في كينيا. وقد تعرض لحادث سيارة شديد، وكانت تلك الرحلة جزءا من فترة النقاهة بعد أن مكث في المستشفى وقتا طويلا.
وقالت: «ستصبحان صديقين رائعين.»
وإلى جانب إخباري بأشياء عن أبي بدأت أمي تحشوني بمعلومات عن كينيا وتاريخها، وقد اختلست اسم «الحربة المحترقة» من كتاب عن جومو كينياتا أول رئيس لكينيا. ولكن لم ينجح شيء مما أخبرتني به أمي في التخفيف من شكوكي، ولم أحتفظ إلا بالقليل من المعلومات التي أخبرتني بها. ولم تنجح في إثارة اهتمامي حقا سوى مرة واحدة عندما أخبرتني أن قبيلة أبي «لوو» شعب نيلي هاجر إلى كينيا من موطنه الأصلي على ضفاف أطول أنهار العالم. بدا هذا واعدا. وكان جدي لا يزال يحتفظ برسم رسمه ذات مرة هو صورة طبق الأصل للوحة فنية أصلية لمصريين نحفاء باللون البرونزي يركبون مركبة ذهبية تجرها جياد مرمرية. وكانت لدي فكرة عن مصر القديمة، والممالك العظيمة التي قرأت عنها، والأهرامات، والفراعنة، ونفرتيتي، وكليوباترا.
وفي أحد أيام السبت ذهبت إلى المكتبة العامة بالقرب من شقتنا، وبمساعدة أمين المكتبة العجوز صاحب الصوت المبحوح الذي تفهم مدى جديتي وجدت كتابا عن شرق أفريقيا. ولكن لم يكن به أي ذكر للأهرامات. وفي الحقيقة، لم يكن هناك سوى فقرة قصيرة عن قبيلة «لوو». واتضح أن الشعوب النيلية مصطلح يصف عددا من القبائل المتنقلة التي نشأت أصلا في السودان على ضفاف نهر النيل الأبيض في أقصى جنوب الإمبراطوريات المصرية. وكانت قبيلة «لوو» ترعى الماشية، وتعيش في أكواخ طينية، وتأكل وجبات من الذرة واليام - وهو من فصيلة البطاطا - وطعاما آخر يسمى حبوب الدخن. وكان زيها التقليدي شريطا من القماش يغطي منطقة العورة يتدلى من حزام جلدي يحيط بالخصر. تركت الكتاب مفتوحا على الطاولة، وخرجت دون أن أشكر أمين المكتبة.
وأخيرا جاء اليوم الموعود، وتركتني الآنسة هيفتي أخرج مبكرا من الفصل وهي تتمنى لي حظا سعيدا. تركت مبنى المدرسة مثل شخص محكوم عليه بالإعدام. كانت قدماي ثقيلتين ومع كل خطوة تقربني من منزل جدي يعلو صوت خفقات قلبي. وعندما دلفت إلى المصعد وقفت دون أن أضغط الزر. فانغلق الباب ثم فتح مرة أخرى، ودلف رجل فلبيني عجوز يقطن الطابق الرابع.
قال الرجل بسعادة: «جدك يقول إن والدك قادم لزيارتك اليوم.» وتابع: «لا بد أنك تطير فرحا.»
وعندما لم أستطع التفكير في أي مهرب، بعد أن وقفت أمام باب الشقة ومددت بصري نحو أفق هونولولو فشاهدت سفينة بعيدة، ثم نظرت إلى السماء بعين شبه مغمضة لأرى العصافير تدور في الهواء. دققت الجرس. وفتحت جدتي الباب. «ها هو ذا! تعال يا باري ... تعال قابل والدك.»
وهناك في مدخل الشقة غير المضاء رأيته: رجل طويل أسود يعرج قليلا وهو يسير. وجثم على ركبتيه وطوقني بذراعيه وتركت أنا ذراعي تنخفضان إلى جانبي. وخلفه كانت أمي تقف يرتجف ذقنها كالعادة.
قال أبي: «حسنا يا باري.» وتابع: «من الجميل أن أراك بعد كل هذا الوقت. بل من الرائع جدا.»
وأمسك بيدي وأدخلني غرفة المعيشة، وجلسنا جميعا معا.
وقال: «أخبرتني جدتك أن أداءك ممتاز في المدرسة.»
فهززت كتفي.
فقالت جدتي: «أظن أنه يشعر بشيء من الخجل.» ثم ابتسمت ومسحت على رأسي.
فقال أبي: «حسنا، لا يوجد ما يدعو لأن تخجل من أن أداءك ممتاز. هل أخبرتك أن إخوتك وأختك متفوقون أيضا في دراستهم؟ أظن أن هذا الأمر يجري في دمائكم»، قالها ضاحكا.
راقبته بحرص عندما بدءوا جميعا يتحدثون؛ كان أنحف كثيرا مما توقعت، وكانت عظام ركبتيه تكسر سيقان البنطلون في زوايا حادة، ولم أستطع أن أتخيله يرفع أيا منهما من على الأرض. وإلى جواره كانت هناك عصا لها رأس عاجية غير مدببة تستند إلى الحائط. وكان يرتدي سترة زرقاء اللون، وقميصا أبيض، وربطة عنق قرمزية اللون. ونظارته بارزة الحواف تعكس ضوء المصباح فلم أر عينيه بوضوح، لكن عندما نزع النظارة ليحك قصبة أنفه رأيت أنهما تميلان إلى اللون الأصفر قليلا كعيني شخص أصيب بالملاريا أكثر من مرة. ورأيت أن جسده ضعيف، وكان حذرا عندما كان يشعل سيجارة أو يمد يده إلى كوب الجعة. وبعد ساعة تقريبا رأت والدتي أنه يبدو متعبا ويحتاج إلى أن ينال قسطا من الراحة ، وقد وافقها على ذلك. فالتقط حقيبة سفره ثم توقف في منتصف خطوته الواسعة، وبدأ يبحث في الحقيبة حتى أخرج منها في النهاية ثلاثة تماثيل خشبية، أسد وفيل ورجل فاحم السواد يرتدي ملابس قبلية ويقرع طبلة، وأعطاني إياها.
فقالت أمي: «قل شكرا يا باري.»
فغمغمت: «شكرا.»
نظرت أنا ووالدي إلى التماثيل المنحوتة وهي جامدة دون حياة في يدي، ولمس كتفي.
وقال برفق: «إنها أشياء صغيرة.» ثم أومأ لجدي وأخذا حقائبه معا وهبطا إلى الشقة الأخرى. •••
شهر. هذه هي الفترة التي قضيناها معا، معظم الأمسيات كنا نقضيها نحن الخمسة في غرفة معيشة شقة جدي، وكنا نقضي النهار في جولات بالسيارة حول الجزيرة أو في نزهات قصيرة إلى أماكن لها علامات مميزة في حياة عائلتي: الأرض التي كانت توجد عليها شقة والدي يوما ما، والمستشفى الذي ولدت فيه والذي أعيد بناؤه، وأول منزل لجدي في هاواي، قبل أن يقيما في منزلهما بشارع يونيفرستي أفينيو، وهو منزل لم أعرفه قط. كان هناك الكثير من الأشياء التي عليه أن يخبرني بها في ذلك الشهر، والكثير من التفسيرات أيضا؛ ومع ذلك فعندما أحاول أن أعصر ذاكرتي لأتذكر الكلمات التي قالها أبي، الحوارات والمواقف القليلة التي قد تكون دارت بيننا، أجد أنها ذهبت بلا رجعة. ربما تكون مطبوعة في أعماق ذاكرتي، وصوته - الذي يعد بذرة جميع المناقشات المتشابكة التي أحملها مع نفسي - لا يمكنني الوصول إليه الآن بالضبط مثل نمط جيناتي؛ لذا فإن كل ما أستطيع فهمه هو الإطار الخارجي الممزق. تقدم زوجتي تفسيرا أبسط لهذا وهو أن الأبناء والآباء لا يكون لديهم الكثير دائما ليتحدثوا عنه معا إلا إذا تولدت بينهم الثقة، وقد يكون هذا أقرب إلى الحقيقة؛ إذ كنت دائما ما أقف أمامه دون أن أتفوه بكلمة واحدة، وهو لم يدفعني قط للحديث. وتركني وكل ما لدي صور تظهر وتخبو في ذهني مثل الأصوات البعيدة؛ كأن أتذكره ورأسه يرجع للوراء وهو يضحك على واحدة من دعابات جدي وأنا ووالدتي نعلق زينة عيد الميلاد، وقبضته على كتفي وهو يقدمني إلى أحد أصدقائه القدامى من الجامعة، وضيق حدقتي عينيه وتمرير أصابعه في لحيته الصغيرة المتناثرة وهو يقرأ كتبه المهمة.
كل ما أتذكره هو صوره وتأثيره على الآخرين. فكلما تحدث - وإحدى ساقيه فوق الأخرى ويداه الضخمتان ممتدتان لتوجيه الانتباه إلى شيء معين أو تشتيته، وصوته العميق الواثق المقنع الضاحك - رأيت تغيرا مفاجئا في العائلة. فقد أصبح جدي أكثر نشاطا وأعمق فكرا، ووالدتي أكثر حياء، وحتى جدتي خرجت من جحرها في غرفة النوم وبدأت في مجادلته في أخبار السياسة والمال وهي تضرب الهواء بيديها ذات العروق الزرقاء لتوضح وجهة نظرها. كان الأمر كما لو أن وجوده استدعى روح الأيام القديمة وسمح لكل منهم أن يعود ليمارس دوره القديم؛ بدا الأمر وكأن الدكتور كينج لم يلق حتفه قط بعد إطلاق النار عليه، واستمر أنصار كينيدي في دعم الأمة، ولم تكن الحرب والشغب والمجاعة أكثر من مجرد نكسات مؤقتة، ولم يكن هناك شيء يخافون منه إلا الخوف نفسه.
وقد أذهلتني هذه القوة الغريبة، ولأول مرة بدأت أفكر في أبي على أنه شيء حقيقي وقريب، بل حتى دائم. ومع ذلك فبعد بضعة أسابيع شعرت ببدء التوتر من حولي. بدأ جدي يشكو من أن أبي يجلس في مقعده. وتذمرت جدتي وهي تغسل الأطباق قائلة إنها ليست خادمة أحد. وكانت والدتي تضغط على شفتيها وهي تحاول أن تتجنب عيني والديها ونحن نتناول العشاء. وفي إحدى الليالي أدرت التليفزيون لأشاهد فيلم كارتون خاصا اسمه «كيف سرق جرينش رأس السنة» (هاو ذا جرينش ستول كريسماس)، وفجأة تحولت الهمسات إلى صياح.
قال أبي: «باري، لقد شاهدت التليفزيون بما يكفي الليلة.» وتابع: ادخل إلى غرفتك وذاكر، ودع الكبار يتحدثون.»
فوقفت جدتي وأطفأت التليفزيون. وقالت: «لماذا لا تشاهد البرنامج في غرفة النوم يا باري؟»
فقال أبي: «كلا يا مادلين، ليس هذا ما أعنيه.» وتابع: «لقد ظل يشاهد هذا الجهاز طوال الوقت والآن حان الوقت كي يذاكر.»
حاولت أمي أن تشرح له أننا في إجازة الكريسماس وأن هذا الكارتون هو المفضل في الكريسماس، وأنني كنت أنتظره طوال الأسبوع. وقالت: «لن يستمر طويلا.» «هذا هراء يا آنا. إذا كان الصبي قد فرغ من عمل الغد، فيمكنه أن يبدأ في واجبات اليوم التالي. أو حتى الواجبات التي ستفرض عليه عندما يعود من الإجازة.» ثم التفت إلي وقال لي: «أنا أقول لك يا باري إنك لا تذاكر بالجد الذي من المفترض أن تذاكر به. اذهب الآن قبل أن أغضب.»
دخلت إلى غرفتي وأغلقت الباب بعنف وأنا أسمع الأصوات تعلو من خلفي، فكان جدي يصر على أن هذا المنزل منزله وجدتي تقول إن أبي ليس لديه حق في أن يأتي ويفرض رأيه على الجميع، بما في ذلك أنا، بعد أن رحل عنا كل تلك الفترة. وسمعت والدي يقول إنهم يدللونني، وإنني أحتاج إلى حزم في التعامل، وسمعت والدتي تقول لوالديها إن شيئا لم يتغير بهما. وقفنا جميعا في موقف الاتهام، وحتى بعد أن غادر أبي وجاءت جدتي لتقول إنه يمكنني مشاهدة آخر خمس دقائق في البرنامج، شعرت أن شيئا قد تصدع بيننا جميعا، عفاريت انطلقت من مخبأ قديم مغلق. وعندما شاهدت على شاشة التليفزيون الكائن جرينش وهو يعتزم تدمير رأس السنة ثم يتحول في النهاية بفضل إيمان المخلوقات ذات العيون الكبيرة السوداء الطيبة التي تسكن مدينة هوفيل، رأيته على حقيقته؛ مجرد كذبة. وبدأت أعد الأيام الباقية حتى يرحل أبي ويعود كل شيء إلى ما كان عليه.
في اليوم التالي أرسلتني جدتي إلى الشقة بالأسفل حيث كان يقطن أبي لأرى هل لديه ملابس بحاجة إلى الغسيل. طرقت الباب وفتح لي أبي وهو عاري الصدر. وبالداخل رأيت أمي تكوي بعض ملابسه. كان شعرها معقوصا خلف رأسها وعيناها مترقرقتين حزينتين كما لو أنها كانت تبكي. طلب مني أبي أن أجلس إلى جواره على الفراش، لكني أخبرته أن جدتي تحتاج إلي لأساعدها وغادرت بعد أن أخبرته بالرسالة التي جئت بها. عدت لأعلى وكنت قد بدأت في تنظيف غرفتي عندما دخلت أمي. «ينبغي ألا تغضب من والدك يا باري . إنه يحبك كثيرا، لكنه يصر على رأيه في بعض الأحيان.»
فقلت دون أن أنظر إليها: «حسنا.» وشعرت بعينيها تتبعانني في أرجاء الغرفة حتى أطلقت في النهاية زفيرا بطيئا واتجهت إلى الباب.
قالت: «أعلم أن هذا الأمر كله محير لك.» وتابعت: «وهو كذلك لي أنا أيضا. فقط حاول أن تتذكر ما قلته لك، اتفقنا؟» ووضعت يدها على مقبض الباب. ثم سألت: «هل تريدني أن أغلق الباب؟»
فأومأت لها بالإيجاب، لكن بعد أن غادرت بدقيقة واحدة عادت فأدخلت رأسها في الغرفة.
وقالت: «بالمناسبة، لقد نسيت أن أخبرك أن الآنسة هيفتي دعت والدك ليذهب إلى المدرسة يوم الخميس. وتريد منه أن يتحدث إلى الفصل.»
لم يكن بوسعي تخيل أخبار أسوأ من هذه. وقضيت تلك الليلة واليوم الذي تلاها أحاول أن أقمع ما يراودني من أفكار حول ما لا يمكن تجنبه: وجوه زملائي في الفصل عندما يسمعون عن الأكواخ الطينية، وفضح جميع أكاذيبي، والدعابات الموجعة التي سأسمعها بعد ذلك. وفي كل مرة أتذكر فيها يتلوى جسدي كما لو أنه تلقى ضربة عنيفة في الصميم.
كنت لا أزال أحاول إيجاد طريقة لتبرير نفسي عندما دخل أبي إلى الفصل في اليوم التالي. رحبت الآنسة هيفتي به بقوة، وعندما اتخذت مقعدي سمعت العديد من الأطفال يتساءلون ماذا يحدث. وأصبحت أكثر يأسا عندما تبعه دخول مدرس الرياضيات الضخم من سكان هاواي السيد إيلدريدج الذي لا يقبل الهراء ومعه 30 طالبا من الفصل المجاور لنا، ترتسم الحيرة على وجوههم.
بدأت الآنسة هيفتي الحوار قائلة: «لدينا دعوة خاصة لكم اليوم.» وتابعت: «والد باري أوباما هنا اليوم، وقد قطع كل هذه المسافة من كينيا في أفريقيا ليخبرنا عن بلده.»
نظر الأطفال إلي عندما وقف والدي، ورفعت أنا رأسي بعناد أحاول أن أركز على نقطة خاوية على السبورة خلفه. وعندما استطعت في النهاية أن أعود بنفسي إلى أرض الواقع كان قد بدأ هو الحديث منذ فترة. كان ينحني على مكتب الآنسة هيفتي السميك المصنوع من خشب البلوط ويصف الصدع العميق في الأرض حيث ظهر الجنس البشري لأول مرة. وتحدث عن الحيوانات المفترسة التي لا تزال تجول السهول، والقبائل التي لا تزال تطلب من الصبي الصغير أن يقتل أسدا كي يثبت رجولته. وتحدث عن عادات قبيلة «لوو» وكيف يعامل الكبار بأقصى درجات الاحترام ويسنون القوانين التي يتبعها الجميع أسفل أشجار ضخمة. وأخبرنا عن صراع كينيا لتنال حريتها وكيف أراد البريطانيون أن يبقوا بها ويحكموا أهلها ظلما كما فعلوا في أمريكا، وكيف رزح الكثيرون تحت قيد العبودية بسبب لون بشرتهم فحسب مثلما حدث في أمريكا، ولكن الكينيين، مثل جميع من في الغرفة، كانوا يتوقون للحرية وتطوير أنفسهم عبر العمل الجاد والتضحية.
وعندما انتهى من حديثه كانت الآنسة هيفتي تشع فخرا. وجميع زملائي في الفصل يصفقون بحرارة، وقليل منهم استجمع شجاعته ليطرح أسئلة بدا أبي يفكر فيها جيدا قبل الإجابة عليها. وانطلق جرس الغداء، فجاء السيد إيلدريدج إلي.
وقال: «إن والدك مثير للإعجاب حقا.»
وقال الصبي ذو الوجه الأحمر الذي سألني عن آكلي لحوم البشر: «والدك لطيف حقا.»
وفي أحد الجوانب رأيت كوريتا تشاهد أبي وهو يودع بعض الأطفال. وبدت عاقدة العزم على ألا تبتسم، ولم يبد على وجهها سوى نظرة رضا. •••
وبعد أسبوعين رحل أبي. وفي ذلك الوقت وقفنا معا أمام شجرة الكريسماس لنلتقط بعض الصور، وهي الصور الوحيدة التي أحتفظ بها وتضمنا معا، وأنا أحمل كرة سلة برتقالية اللون وهي هديته لي، وهو يستعرض رابطة العنق التي اشتريتها له (وقال لي وقتها: «سيعرف الناس أنني رجل مهم للغاية لأني أرتدي رابطة العنق هذه.») وفي حفل موسيقي ل «ديف بروبيك» جاهدت كي أجلس بهدوء في القاعة المظلمة إلى جواره، وأنا لا أستطيع أن أتابع المعادلات الصوتية التي كان العازفون يقومون بها، وحرصت على أن أصفق وقتما يصفق. ولأوقات قصيرة في اليوم كنت أستلقي إلى جواره ونحن الاثنان وحدنا في الشقة المؤجرة من الباطن من سيدة عجوز متقاعدة لا أذكر اسمها، والمكان مليء بالألحفة ومناديل المائدة وأغطية المقاعد المنسوجة من عقد من الخيط، وكنت أقرأ كتابي وهو يقرأ كتابه. وظل غامضا في نظري؛ كيان حاضر إلى جواري، وعندما كنت أقلد إيماءاته أو عباراته لا أعرف أصلها أو نتائجها، ولا أرى كيف تموت بمرور الوقت. لكني أصبحت معتادا على رفقته.
وفي يوم رحيله وبينما كنت أساعده أنا وأمي كي يحزم حقائبه أخرج أسطوانتين، من تلك المصممة لتدور 45 دورة في الدقيقة، في غلاف بني باهت.
وقال: «باري، انظر هنا لقد نسيت أني أحضرت لك هذه. إنها صوت قارتك.»
استغرق بعض الوقت ليعرف كيف يتعامل مع جهاز تسجيل جدي العتيق، ولكن في النهاية بدأت الأسطوانة تعمل، ووضع هو بحذر شديد الإبرة في مكانها. ثم بدأ ينبعث صوت موسيقى جيتار عالية النغمة، ثم أبواق حادة، وإيقاع قرع طبول، ثم الجيتار مرة أخرى ثم الأصوات واضحة ومليئة بالسعادة وهي تعلو فوق الإيقاع في الخلفية وتشجعنا.
قال والدي: «تعال يا باري.» وتابع: «ستتعلم من الأستاذ.» وفجأة بدأ جسده النحيل يتمايل إلى الأمام وإلى الخلف، وكان الصوت يرتفع، وذراعاه تتمايلان وكأنهما تغزلان شبكة غير مرئية، وقدماه تتحركان على الأرض في حركة غير عادية، وساقه المصابة ثابتة لكن ردفه كان عاليا ورأسه إلى الخلف، ووركاه يتحركان في دائرة ضيقة. وتسارعت الأنغام، ودوى صوت الأبواق، وأغلق هو عينيه ليتابع استمتاعه، ثم فتح إحدى عينيه ليلقي نظرة علي، وارتسمت ابتسامة ساذجة على وجهه الوقور، وابتسمت والدتي وجاء جداي ليريا ما هذه الضوضاء. خطوت أولى خطواتي التجريبية وعيناي مغمضتان وذراعاي تتمايلان إلى الأسفل ثم إلى الأعلى، والأصوات تعلو. وكنت لا أزال أسمعه. فعندما كنت أتابع خطواته على أنغام الموسيقى أطلق أبي صيحة سريعة مرحة وعالية؛ صيحة تترك الكثير خلفنا وتتوق للمزيد، صيحة تتوق للضحك.
الفصل الرابع
«إنني لن أذهب إلى حفلات بوناهو التافهة هذه مرة أخرى يا رجل.» «نعم، هذا ما قلته المرة السابقة.»
جلست أنا وراي إلى إحدى الموائد وفككنا لفافة شطائر الهامبورجر. كان راي يكبرني بعامين، فكان في السنة الأخيرة وجاء إلى مدرستنا قادما من لوس أنجلوس العام السابق نتيجة لنقل والده من عمله في الجيش. ومع أن هناك فارقا في السن بيننا فقد كان من السهل أن نصبح أصدقاء وهو ما يرجع إلى حد بعيد إلى أننا نمثل معا تقريبا نصف عدد السود في مدرسة بوناهو الثانوية. وكنت أستمتع برفقته؛ فقد كان يتمتع بدفء وخفة ظل متهورة تعوض عن إشارته الدائمة إلى حياته السابقة في لوس أنجلوس، وإلى حاشيته من النساء اللائي كن، كما يزعم، لا يزلن يتصلن به هاتفيا كل ليلة مع بعد المسافة، وإلى إنجازاته السابقة في كرة القدم، وإلى المشاهير الذين عرفهم. وكنت أميل إلى ألا ألقي بالا لمعظم الأشياء التي يقولها، ولكن ليس جميعها؛ فقد كان صحيحا على سبيل المثال أنه كان من أسرع العدائين في الجزيرة، وقال البعض عنه إنه كان في مستوى عدائي الأولمبياد. هذا مع أن له كرشا ضخمة لا تتناسب مع سرعة عدوه كانت تهتز أسفل قميصه المشبع بالعرق كلما ركض، تاركا وراءه المدربين والخصوم يهزون رءوسهم غير مصدقين. وعن طريق راي اكتشفت حفلات السود التي كانت تقام داخل الجامعة أو خارجها في القواعد العسكرية، واعتمدت عليه في تسهيل طريقي إلى الأماكن غير المألوفة لي. وفي المقابل كنت أستمع إليه وهو يشكو من إحباطه.
وكان يقول لي في تلك اللحظة: «أنا جاد هذه المرة.» وتابع: «هؤلاء الفتيات عنصريات من الدرجة الأولى، جميعهن. الفتيات البيض. والفتيات الآسيويات. اللعنة عليهن، أولئك الآسيويات أسوأ من البيض. تظن أننا مصابون بمرض أو شيء من هذا القبيل.» «ربما ينظرن إلى مؤخرتك الضخمة. يا رجل لقد ظننت أنك تتدرب.» «أبعد يديك عن بطاطسي المقلية. إنك لست حبيبي أيها الزنجي ... اشتر لنفسك منها، ما الذي كنت أتحدث عنه؟» «إذا رفضت فتاة الخروج معك فهذا لا يجعلها عنصرية.» «لا تكن غبيا، إنني لا أتحدث عن مرة واحدة فقط. فقد طلبت من مونيكا الخروج معها، وقالت لا. فقلت لها حسنا، إنك لست شديدة الإغراء على أية حال.» وتوقف راي كي يرى رد فعلي، ثم ابتسم. واستأنف : «حسنا، ربما لم أقل لها هذا بالضبط. فقلت لها حسنا يا مونيكا، لكننا لا نزال أصدقاء مقربين. وبعد ذلك أعرف أنها ارتبطت بستيف ياماجوتشي «البدين»، ويسيران وهما متشابكا الأيدي كأنهما طائرا غرام. فأقول لنفسي حسنا الفتيات كثيرات من حولنا. فأطلب من باميلا الخروج إلى الحفل الراقص معي. فتقول لي إنها لن تذهب. فأقول لا بأس. وعندما أصل إلى هناك، خمن من كان هناك يلف ذراعه حول ريك كوك. لقد كانت هي وتقول: «مرحبا يا راي» كما لو أنها لا تعرف ما يحدث. وتتابع: «ريك كوك! الآن تعلم أن هذا الرجل ليس سيئا. ذلك اللعين الحقير لا يزيد عني شيئا، أليس كذلك؟ لا شيء.»
وملأ فمه بملء يده من البطاطس. وقال: «وبالمناسبة، هذا الأمر لا ينطبق علي وحدي، فلا أرى أن حالك أفضل مني في هذا المجال.»
فقلت في نفسي إن السبب في هذا هو أنني خجول، ولكني لن أعترف بهذه المسألة له أبدا. فراي سوف يستغل الفرصة. «أخبرني ماذا يحدث إذن عندما نخرج إلى حفل مع بعض الأخوات؟ ماذا يحدث؟ أنا سأخبرك ماذا يحدث. مفاجأة! إنهن يتوافدن علينا مسرعات متلهفات. فتيات المدرسة الثانوية، وفتيات الجامعة، لا يهم. يتصرفن بلطف. كلهن يبتسمن. وتجد الواحدة منهن تقول: «بالطبع يمكنك الحصول على رقم هاتفي يا حبيبي.» أراهن على ذلك.» «حسنا ...» «حسنا ماذا؟ اسمعني، لماذا لا تحصل على وقت أطول في اللعب في فريق كرة السلة؟ على الأقل اثنان منهم لا يتفوقان عليك في شيء، وأنت تعرف هذا، وهما يعرفان هذا. لقد رأيتك وأنت تتفوق عليهما في الأداء في الملعب، لا مجال للمنافسة بينكم. لماذا لم أبدأ أنا في فريق كرة القدم هذا الموسم، بصرف النظر عن العدد الكبير من التمريرات التي تسقط من يد الشاب الآخر؟ لا تخبرني أننا لم نكن لنحظى بمعاملة مختلفة لو كنا من البيض. أو يابانيين. أو من هاواي. أو حتى من الإسكيمو اللعين.» «ليس هذا ما أعنيه.» «ما الذي تعنيه إذن؟» «حسنا، إليك ما أعنيه. صحيح أنه من الصعب مواعدة الفتيات لأنه لا توجد فتيات سوداوات في هذا المكان. لكن هذا لا يجعل جميع الفتيات هنا عنصريات. ربما يردن شخصا يشبه آباءهن أو إخوتهن أو أي شخص آخر ونحن لسنا كذلك. وصحيح، قد لا أكون أحصل على الفرص التي يحصل عليها الآخرون في الفريق، ولكنهم يلعبون مثلما يلعب الفتية البيض وهذا هو الأسلوب الذي يحب المدرب اللعب به، ويفوزون بهذا الأسلوب الذي يلعبون به، وأنا لا ألعب بهذا الأسلوب.»
ثم أضفت وأنا أمد يدي لألتقط آخر ما تبقى من البطاطس التي يتناولها: «أما أنت أيها البدين فأظن أن المدربين قد لا يحبونك لأنك أسود يظن نفسه أذكى ممن حوله، لكن قد يساعدك التوقف عن تناول هذه المقليات التي تجعلك تشبه امرأة حاملا في ستة أشهر. وهذا ما أعنيه.»
قال راي: «لا أدري يا رجل لم تجد لهؤلاء القوم أعذارا؟!» ونهض وكوم ما أمامه من مهملات محولا إياها إلى كرة صغيرة.» وتابع: «دعنا نخرج من هنا. فحديثك أصبح معقدا للغاية.» •••
كان راي على حق، الأمور أصبحت معقدة. كان قد مر خمس سنوات على زيارة أبي، وكانت فترة هادئة، في الظاهر على الأقل، تميزها الطقوس والشعائر التي تتوقعها أمريكا من أبنائها؛ تقارير ترسل لعائلتي تخبرهم عن مستواي المتدني، واستدعاءات إلى مكتب الناظر، وعمل لنصف دوام في سلسلة مطاعم للهامبورجر، والإصابة بحب الشباب، واختبارات قيادة السيارات، والرغبات الجامحة. وأصبح لي عدد لا بأس به من الأصدقاء في المدرسة، وخرجت في مواعدات غريبة من حين لآخر؛ وإذا كانت الحيرة قد انتابتني في بعض الأحيان تجاه إعادة الترتيب الغامضة للمكانة التي تحدث بين رفاقي في الفصل - فبعضهم ترتفع مكانته وتتراجع مكانة الآخر اعتمادا على نزوات أجسادهم أو طراز سياراتهم - فإني شعرت بالارتياح لأن وضعي كان يتحسن بانتظام. ونادرا ما كنت أقابل فتية لدى أسرهم أقل مما لدى أسرتي حتى يذكروني بأني سعيد الحظ.
ولكن والدتي كانت تبذل قصارى جهدها لتذكرني بهذا. فقد انفصلت عن لولو وعادت إلى هاواي بعد وقت قصير من وصولي سعيا وراء الحصول على درجة الماجستير في علم الإنسان . ولثلاثة أعوام عشت معها ومع مايا في شقة صغيرة على بعد مجمع سكني واحد من بوناهو، وعشنا نحن الثلاثة على المنحة الدراسية التي تتلقاها والدتي. وفي بعض الأحيان، عندما كنت أحضر أصدقاء معي بعد انتهاء اليوم الدراسي، كانت أمي تسمعهم وهم يعلقون على نقص الطعام في الثلاجة أو الإدارة غير المتميزة لشئون المنزل، فكانت تنتحي بي جانبا وتخبرني أنها أم وحيدة عادت لصفوف الدراسة وترعى طفلين، ومن ثم فإن صنع البسكويت ليس على رأس قائمة أولوياتها، وفي حين أنها كانت تقدر التعليم المتميز الذي أتلقاه في بوناهو فإنها لم تكن تخطط لتحمل أي سلوك متعال مني أو من أي شخص آخر، فهل هذا مفهوم؟
وكان ذلك مفهوما لي، ورغم مطالبي المتكررة للاستقلال التي كنت أطلبها في بعض الأحيان بوجه عابس متجهم فقد ظللنا مقربين، وكنت أفعل ما بوسعي لمساعدتها قدر ما يمكنني؛ فأذهب للتسوق، وأغسل الملابس، وأعتني بأختي التي أصبحت طفلة ذكية سوداء العينين. لكن عندما أصبحت والدتي مستعدة للعودة إلى إندونيسيا للقيام بعملها الميداني، واقترحت أن أعود معها هي ومايا وألتحق بالمدرسة الدولية هناك، رفضت على الفور. فقد كانت تساورني الشكوك في ذلك الوقت حيال ما يمكن لإندونيسيا أن تقدمه لي، إلى جانب أني سئمت البدء من جديد مرة أخرى. والأهم من هذا هو أنني توصلت إلى معاهدة غير معلنة مع جدي فحواها أنه يمكنني الذهاب للعيش معهما وهما سيتركانني وشأني ما دمت أبقي مشكلاتي بعيدا عنهما. وكان ذلك الاتفاق يناسب هدفي، وهو الهدف الذي كنت أحدده لنفسي بشق الأنفس، ناهيك عن توضيحه لهما. وبعيدا عن والدتي وجدي كنت أمر بصراع داخلي لا يهدأ. فكنت أحاول أن أعد نفسي لأكون رجلا أسود في أمريكا، وفيما عدا مظهري، لم يبد أن أحدا ممن حولي يعرف بالضبط ماذا يعني هذا.
ولم تقدم لي خطابات أبي سوى بعض الخيوط التي يمكنني تتبعها. وكانت تصل على فترات متقطعة في صفحة زرقاء واحدة ويكون لسان ظرف الرسالة مطويا بمادة لاصقة تجعل أي كتابات على الهوامش غير واضحة. كان يقول في خطاباته إن الجميع بخير، ويمتدح تقدمي في دراستي، ويؤكد أنه يرحب بي وبوالدتي وبمايا أن نحصل على المكان الجدير بنا إلى جواره وقتما نريد ذلك. ومن آن لآخر كان يسدي لي بعض النصائح عادة في شكل حكمة لم أكن أفهمها بوضوح (مثل «مثلما يصل الماء إلى منسوبه فإنك ستصل إلى المهنة التي تناسبك.») وكنت أرد على خطاباته على الفور في صفحة عريضة مسطرة، وتشق خطاباته طريقها إلى الخزانة بجانب الصور التي تحتفظ بها أمي له.
وكان لدى جدي عدد من الأصدقاء السود هم في الأغلب زملاء له في لعبتي البوكر والبريدج، وقبل أن أكبر بما يكفي لئلا أهتم بأن أجرح مشاعره كنت أتركه يجرني معه إلى واحدة من ألعابهم. كانوا رجالا متقدمين في السن يرتدون ملابس أنيقة وأصواتهم جشة وملابسهم ينبعث منها رائحة السيجار؛ أي نوع الرجال الذين في نظرهم كل شيء له مكانه المحدد، والذين يظنون أنهم رأوا ما يكفي حتى إنه لا يجب إضاعة الكثير من وقتهم بالحديث عنه. وكلما رأوني ربتوا على ظهري بمرح وسألوني عن حال أمي، ولكن ما إن يحين وقت اللعب لا يتفوهون بشيء سوى الشكوى لشركائهم في اللعب من النقاط التي توقعوا أن يحصلوا عليها.
كان هناك استثناء، وهو شاعر اسمه فرانك، يعيش في منزل خرب في جزء من وايكيكي حالته متدهورة. وقد طاردته سمعة سيئة لبعض الوقت، وكان معاصرا لريتشارد رايت ولانجستون هيوز في السنوات التي قضاها في شيكاغو، وقد أراني جدي ذات مرة بعضا من أعماله اختيرت لتنشر في ديوان من دواوين حركة الشعر الأسود. ولكن في الوقت الذي قابلت فيه فرانك كان يناهز الثمانين من عمره وله وجه ضخم به لغد، وشعر أفريقي طويل مجعد رمادي اللون وغير ممشط مما جعله يشبه أسدا عجوزا أشعث الشعر. وكلما مررنا بمنزله قرأ لنا قصائده واحتسى مع جدي الويسكي الموضوع في برطمان مفرغ لهذا الغرض. وبعد انقضاء الليل يستجدي كلاهما مساعدتي في تأليف قصائد فكاهية خماسية الأبيات لا قيمة أدبية لها. وفي النهاية يتحول الحوار إلى الانتحاب على النساء.
وكان فرانك يقول لي بجدية: «إنهن سيقدنك إلى احتساء الخمر يا فتى.» ويتابع: «وإذا سمحت لهن بذلك فسيهلكنك.»
أسرتني شخصية فرانك العجوز، بكتبه ورائحة الويسكي التي تنبعث من أنفاسه، والإشارة إلى المعرفة التي اكتسبها بشق الأنفس التي أراها خلف عينيه الغليظتي الجفنين وتبدو شبه مغمضة. ودائما ما كانت الزيارات إلى منزله تتركني أشعر بعدم الارتياح بصورة غامضة، وكأني كنت أشهد صفقة تجارية غير معلنة ومعقدة بين الرجلين، صفقة لم أستطع فهمها بالكامل. وكلما اصطحبني جدي إلى وسط المدينة إلى إحدى حاناته المفضلة الموجودة في حي الدعارة في مدينة هونولولو انتابني الشعور نفسه.
وكان يقول لي وهو يغمز بعينه: «لا تخبر جدتك»، وكنا نمر أمام فتيات ليل ناعمات الجسد جامدات الملامح قبل الوصول إلى حانة صغيرة مظلمة بها جهاز فونوغراف آلي يعمل بالعملة وطاولتان للعب البلياردو. ولم يبد أن أحدا اهتم بأن جدي هو الرجل الأبيض الوحيد في المكان، أو أنني لم أكن إلا في الحادية عشرة أو الثانية عشرة من عمري. وكان بعض الرجال يتكئون على بار الحانة ويلوحون ناحيتنا، وأحضرت ساقية الحانة - وهي سيدة ضخمة فاتحة البشرة لها ذراعان ممتلئتان عاريتان - شراب الويسكي من نوع سكوتش لجدي وأحضرت كوكاكولا لي. وعندما تكون الطاولة خالية يعطيني جدي بعض الكرات ويعلمني اللعبة، لكني عادة كنت أجلس إلى البار وساقاي تتدليان من على الكرسي العالي، وأنفخ الفقاقيع في شرابي وأنظر إلى الرسوم الإباحية المعلقة على الحوائط؛ رأيت نساء براقات وهن يرتدين جلود الحيوانات، وشخصيات ديزني في أوضاع فاضحة. وعندما يكون رودني - وهو رجل يرتدي قبعة عريضة الحواف - موجودا هناك يتوقف إلى جانبي ليرحب بي: «كيف يسير حال الدراسة أيها القائد؟» «بخير.» «إنك تحصل على امتياز، أليس كذلك؟» «في بعض المواد.»
وكان يقول وهو يخرج 20 دولارا من بين كومة سميكة من النقود أخرجها من جيبه: «هذا أمر رائع، يا سالي، قدمي لهذا الرجل كوبا آخر من الكوكاكولا» ثم يختفي في الظلام .
لا أزال أذكر الإثارة التي كنت أشعر بها في أثناء تلك الرحلات الليلية، وجاذبية الظلام وصوت كرة البلياردو، وجهاز الفونوغراف الآلي وهو يطلق أضواءه الحمراء والخضراء، والضحكات المنهكة التي كانت تتردد في أنحاء الحانة. وحتى في ذلك الوقت، ومع صغر سني فقد بدأت أشعر بالفعل أن معظم الناس في الحانة لم يكونوا هناك باختيارهم، وأن ما كان جدي يسعى إليه هناك هو رفقة أناس بإمكانهم مساعدته على نسيان مشكلاته الخاصة، أناس كان يعتقد أنهم لن يشكلوا آراء عنه. وربما تكون الحانة قد ساعدته بالفعل على النسيان، لكني عرفت بغريزة الطفل التي لا تخطئ أنه كان مخطئا بشأن آراء الآخرين عنه. فقد كانوا هم أيضا يشعرون أننا مجبرون على الوجود هناك، وعندما وصلت إلى المرحلة الإعدادية تعلمت أن أعتذر عن دعوات جدي وأنا أعلم أنه مهما كان ما أسعى إليه، ومهما كان ما أحتاج إليه، فإنه يجب أن يأتي من مصدر آخر.
التليفزيون والسينما والراديو: كانت هذه هي الأماكن التي بدأت منها. وكانت ثقافة البوب حصرية على الملونين كأنها معرض من الصور التي يمكنك منها اختلاس أسلوب في السير أو الحديث أو خطوة في رقصة أو في أسلوب ارتداء الملابس. ولم يكن بإمكاني الغناء مثل مارفين جاي، لكني استطعت تعلم جميع الخطوات الراقصة ببرنامج «سول ترين». ولم يكن بإمكاني أن أحمل سلاحا مثلما شاهدت في فيلمي «شافت» أو «سوبرفلاي»، لكن كان بإمكاني بالطبع إطلاق السباب مثل ريتشارد براير.
وكنت أستطيع لعب كرة السلة بعاطفة شديدة تتخطى دائما مهارتي المحدودة. وقد جاءت هدية أبي للكريسماس عندما بدأ فريق كرة السلة في جامعة هاواي يتقدم في الترتيب القومي بفضل فريق جميع لاعبيه الخمسة من السود الذين أحضرتهم المدرسة من مختلف الولايات الأمريكية والذين تبدأ بهم المباراة. وفي ذلك الربيع اصطحبني جدي إلى إحدى مبارياتهم وشاهدت اللاعبين وهم في تمرينات الإحماء، وكانوا لا يزالون فتيانا لكنهم بدوا لي مقاتلين جسورين واثقين بأنفسهم، يضحكون على دعابات يلقونها فيما بينهم، أو ينظرون فوق رءوس المعجبات اللائي يتوددن إليهم حتى يغمزوا بعيونهم للفتيات الموجودات على الخط الجانبي، أو يتناقلون الكرة من حين لآخر بيد واحدة وهم بجوار السلة، أو يصوبون كرات قوسية تجاه السلة وهم يقفزون عاليا حتى تنطلق الصفارة، وكذلك قفزة لاعبي الوسط واشتراك جميع اللاعبين في معركة ضارية.
قررت أن أصبح جزءا من هذا العالم، وبدأت أتردد على ملعب بالقرب من شقة جدي بعد المدرسة. وكانت جدتي تشاهدني من نافذة غرفة نومها على ارتفاع 10 طوابق في الملعب حتى بعد أن يسدل الليل ستائره بوقت طويل عندما كنت أقذف الكرة بكلتا يدي في البداية، ثم تطورت إلى التسجيل وأنا أقفز بطريقة غريبة، والمناورة بالكرة بسرعة بين كلتا يدي، وأستغرق في الحركات الفردية نفسها ساعة بعد ساعة. وعندما التحقت بالمدرسة الثانوية لعبت في فريق بوناهو، واستطعت أن ألعب في الجامعة حيث علمني بعض الرجال السود - معظمهم ممن يقضون أغلب أوقاتهم في صالة الألعاب الرياضية أو ممن كانوا يوما من ذوي الشأن - أشياء لم تكن تتعلق بالرياضة فقط. علموني أن الاحترام ينبع مما يفعله المرء وليس من هوية أبيه. وأنه يمكن للمرء الحديث عن أمور لإثارة حنق خصمه لكن عليه أن يغلق فمه اللعين إذا لم يكن بإمكانه دعم ما يقول. وألا يدع أحدا يتسلل إلى أعماقه ليرى مشاعر، مثل الألم والخوف، لم يشأ أن يراها أحد.
وهناك شيء آخر أيضا، شيء لم يتحدث عنه أحد؛ طريقة للتماسك عندما تكون المباراة حرجة، والعرق الغزير يغمر اللاعبين، عندما يتوقف أفضل اللاعبين عن القلق بشأن تسجيل النقاط، وتجرف المباراة أسوأ اللاعبين، ويصبح ما يهم هو النقاط فقط لأن هذه هي الطريقة الوحيدة للحفاظ على نشوة المباراة. وفي غمرة كل هذا قد يقوم اللاعب بحركة أو يمرر تمريرة تفاجئه هو شخصيا، حتى إن اللاعب الذي يتولى مراقبته لا يملك إلا أن يبتسم كما لو أنه يقول: «اللعنة ...»
وعند هذه النقطة من القصة تدير زوجتي عينيها. فقد نشأت مع أخ نجم في لعبة كرة السلة، وعندما تريد أن تثير ضيق أي منا تصر على أنها تفضل أن ترى ابنها يعزف على آلة التشيلو. إنها على حق بالطبع؛ فقد كنت أعيش بداخل صورة مشوهة ومغالى فيها لمراهقة شاب أسود، وهي في حد ذاتها صورة مشوهة ومغالى فيها لمرحلة الرجولة الأمريكية المختالة. لكن عندما يكون من المفترض ألا يريد الأبناء اتباع خطى آبائهم المنهكة، عندما لا يكون من المفترض أن تملي متطلبات العمل في الحقل أو المصنع على المرء هويته حتى إن الكيفية التي ينبغي أن يعيش بها المرء تباع جاهزة أو توجد في مجلة، يكون الاختلاف الرئيسي بيني وبين معظم الشباب من حولي - راكبي الأمواج ولاعبي كرة القدم ومن سيصبحون عازفي موسيقى الروك آند رول على الجيتار - يكمن في العدد المحدود من الخيارات المتاحة أمامي. فكل منا اختار رداء؛ درعا ضد الشك. وعلى الأقل في ملعب كرة السلة كان بإمكاني إيجاد مجتمع من نوع ما له حياته الخاصة. هناك كونت أقرب صداقات لي من الشباب البيض، في مجال لم يكن سواد البشرة عيبا. وهناك قابلت راي وأترابي من الفتية السود الآخرين الذين بدءوا يتوافدون على الجزيرة رويدا رويدا، والذين كانوا مراهقين ساعدت حيرتهم وغضبهم في تكوين حيرتي وغضبي.
وكان بعضهم يقول ونحن وحدنا: «هكذا بالضبط سيعاملك البيض.» ويضحك الجميع ويهزون رءوسهم، وينطلق عقلي يبحر في سجل من المواقف المهينة: أول صبي في الصف السابع، الذي أطلق علي عبد أسود، ثم دموع المفاجأة التي انهمرت من عينيه وهو يسألني: «لماذا فعلت هذا؟» عندما أدميت أنفه. وذاك الذي كان يتدرب معي في دورة التنس الذي قال لي إنه يجب ألا ألمس جدول المباريات الملصق بدبوس إلى لوحة النشرات لأن لوني قد يزول، وابتسامة وجهه الأحمر رفيع الشفتين عندما هددت بأن أبلغ عنه وهو يقول: «ألا يمكنك تقبل الدعابات؟» وتلك السيدة العجوز - التي تقطن في مبنى جدي نفسه - التي ثارت عندما دخلت المصعد وراءها وهرعت خارجة منه لتخبر المدير أنني ألاحقها، ورفضها أن تعتذر بعد أن علمت أنني أعيش في المبنى نفسه. ومساعد مدرب فريق كرة السلة، وهو شاب نحيل من نيويورك يرتدي سترة أنيقة، قال بعد مباراة لم يخطط لها مع بعض الرجال السود الثرثارين على مقربة مني أنا وثلاثة من رفاقي في الفريق إنه ما كان يجب أن نخسر أمام حفنة من الزنوج، والذي شرح لي بهدوء الحقيقة التي تبدو واضحة وهي «هناك أناس سود وهناك زنوج. وهؤلاء الأشخاص زنوج»، كان ذلك عندما قلت له بغضب، فاجأني أنا شخصيا، اخرس.
هكذا بالضبط سيعاملك البيض. المشكلة لم تكن تتعلق بقسوة الأمر فقط؛ فقد علمت أيضا أن الرجال السود قد يكونون وضيعين، بل أكثر من ذلك. لقد كان نوعا خاصا من الغرور؛ بلادة عقل يتمتع بها أناس يكونون فيما عدا ذلك عقلاء وتدفعنا إلى الضحك بمرارة. لقد كان الأمر كما لو أن البيض لم يكونوا يعرفون أنهم قساة في المقام الأول. أو على الأقل يرون أننا نستحق ازدراءهم. «البيض». كان المصطلح نفسه غير مريح على لساني في البداية، فكنت أشعر أنني أجنبي أتلعثم في نطق عبارة صعبة. وفي بعض الأحيان أجد نفسي أتحدث إلى راي عن «هؤلاء البيض» و«أولئك البيض»، ثم أتذكر فجأة ابتسامة أمي فتبدو لي الكلمات التي أتفوه بها غريبة وزائفة. أو أكون أساعد جدي في تجفيف الأطباق بعد العشاء وتأتي جدتي وتقول إنها ستأوي إلى الفراش، وتبرق كلمة «البيض» في ذهني مثل إشارة لامعة مضيئة، فأهدأ فجأة كما لو أن لدي أسرارا أحتفظ بها.
وبعد ذلك، عندما أكون وحدي أحاول أن أحلل هذه الأفكار الصعبة. وكان واضحا أن هناك بعض الأشخاص البيض الذين يمكن أن نستثنيهم من الفئة العامة التي لا نثق بها، وكان راي دائما ما يتحدث عن لطف جدي. ورأيت أن مصطلح أبيض أصبح عنده اختصارا، علامة مميزة لمن يمكن أن تطلق عليه أمي شخصا متعصبا. ومع أني أدركت خطورة المصطلحات التي يستخدمها، وكم من السهل أن يهوي المرء إلى هوة هذا التفكير المختل الذي ظهر على مدرب كرة السلة (الذي قلت له قبل أن أخرج من الملعب في ذلك اليوم: «هناك أشخاص بيض، وهناك جهلة حقراء مثلك»)، وقد أكد لي راي أننا لن نتحدث قط عن البيض على أنهم بيض أمام البيض دون أن نعرف بالضبط ماذا نفعل. ودون أن نعرف أنه قد يكون هناك ثمن ندفعه.
ولكن هل هذا صحيح؟ هل كان لا يزال هناك ثمن لندفعه؟ هذا هو الجزء المعقد، الشيء الذي لم أستطع أنا وراي أن نتفق عليه قط. وفي بعض الأحيان كنت أسمع راي وهو يتحدث إلى فتاة شقراء قابلها لتوه عن الحياة في شوارع لوس أنجلوس الفقيرة، أو أسمعه يشرح - لمدرس شاب متحمس - الندبات التي تركتها العنصرية، وأكاد أقسم أنه وراء تلك التعبيرات الجادة كان راي يغمز لي بعينه ليجعلني أشترك في الحوار. وكان وكأنه يقول لي إن غضبنا على البيض لا يحتاج إلى سبب، ولا إلى تأكيد مستقل، إنه شعور يمكن أن نجعله يظهر ويختفي وقتما نشاء. وفي بعض الأحيان - بعد أحد هذه العروض التمثيلية - كانت الشكوك تساورني حول حكمه، إن لم يكن إخلاصه. وكنت أذكره أننا لا نعيش في الجنوب في ظل قوانين جيم كرو، ولم يلق بنا في مشروع إسكان ليس به وسائل تدفئة في هارلم أو برونكس. إننا في هاواي اللعينة، نقول ما نشاء ونأكل حيثما نشاء ونجلس في مقدمة الحافلة التي يستقلها الجميع. ولا يعاملنا أي من أصدقائنا البيض، أمثال جيف وسكوت في فريق كرة السلة، بطريقة مختلفة عن تلك التي يتعاملون بها بعضهم مع بعض. إنهم يحبوننا ونحن نحبهم. بل نصفهم تقريبا يبدو وكأنه يود لو أنه أسود اللون، أو على الأقل مثل الدكتور جيه.
وكان راي يعترف بصحة هذا.
ومن ثم فربما يمكننا أن نمنح موقف الزنجي السيئ هذا بعض الراحة. وندخره حتى نحتاج إليه حقا.
فكان راي يهز رأسه. ويقول: «موقف؟ تحدث عن نفسك فقط.»
وكنت أعرف أن راي سيشهر ورقته الرابحة، تلك الورقة التي يحسب له أنه نادرا ما يستخدمها. ورقة أنني، رغم كل شيء، مختلف وربما أكون مشتبها بي، ليست لدي فكرة عن هويتي الحقيقية. ولأني لم يكن لدي استعداد للمخاطرة بكشف نفسي، كنت أنسحب بسرعة وأتحدث عن موضوع أكثر أمانا لي.
فربما لو كنا نعيش في نيويورك أو لوس أنجلوس، لاستطعت استيعاب قواعد اللعبة الخطيرة التي نلعبها سريعا. وتعلمت أن أنتقل جيئة وذهابا بين العالمين الأبيض والأسود اللذين كنت أعيش فيهما، وتفهمت أن كلا منهما له لغته وعاداته والمعاني الخاصة به، وكنت مقتنعا أنه ببعض المجهود في الترجمة بين العالمين من جانبي يمكن في النهاية أن يلتحما. ومع ذلك فقد استمر الشعور بأن هناك شيئا يراودني ليس على ما يرام، جهاز إنذار ينطلق كلما ذكرت فتاة بيضاء أثناء حديثها مدى حبها لستيفي واندر، أو عندما سألتني سيدة في المتجر هل ألعب كرة سلة، أو عندما أخبرني ناظر المدرسة أنني لطيف. لقد كنت أحب ستيفي واندر، وكنت أحب كرة السلة، وبذلت قصارى جهدي كي أكون لطيفا طوال الوقت؛ فلماذا إذن كانت مثل هذه التعليقات تثير قلقي؟ كنت أشعر أن هناك خدعة ما، مع أني كنت لا أفهم ما تلك الخدعة، ومن الذي يقوم بها، ومن الذي يخدع بها.
وفي أحد أول أيام الربيع تقابلت أنا وراي بعد المدرسة وبدأنا نسير في اتجاه المقعد الحجري الذي يحيط بشجرة تين البنغال الضخمة في حرم مدرسة بوناهو. وكان يطلق عليه «مقعد الكبار»، لكنه كان في الواقع نقطة تجمع جماعات الطلبة في المدرسة الثانوية؛ هواة الرياضة، وكبار المشجعين، وهواة الذهاب إلى الحفلات ومعهم التابعون لهم والمولعون بالمزاح، والمرافقات اللائي يتدافعن للحصول على مكان على الدرجات الدائرية. وكان أحد الطلاب في السنة النهائية، وهو مدافع عنيد اسمه كيرت، هناك وبمجرد أن رآنا صاح بصوت عال.
نادى قائلا: «مرحبا راي! ما الأخبار يا رجل؟»
فاتجه إليه راي وضرب يده براحته الممتدة. لكن عندما أعاد كيرت التحية لي لوحت له أن يتركني وشأني.
وسمعته يقول لراي عندما سرت مبتعدا: «ماذا به؟» وبعد بضع دقائق لحق بي راي وسألني ما الأمر. «هؤلاء الناس لا يفعلون شيئا سوى السخرية منا.» «ما الذي تتحدث عنه؟» «كل ذلك الهراء الذي يتحدثون به.» «من الآن الذي أصبح السيد الحساس إذن؟ كيرت لا يعني شيئا بهذا.» «إذا كان هذا ما ترى، إذن ...»
وفجأة انفجر راي غضبا. وقال: «انظر، إنني أحاول أن أتعايش فقط، أليس كذلك؟ مثلما رأيتك تتعايش وتتحدث عن الرياضة التي تمارسها مع المدرسين عندما تحتاج إلى خدمة يقدمها لك أحدهم. كل تلك الأمور مثل «حسنا يا آنسة سنوتي اللعينة، أظن أن القصة مثيرة للاهتمام، فقط إذا أمكن أن أحصل على يوم واحد إضافي لأنتهي من ذلك البحث، فسأقبل يدك البيضاء اللعينة.» إنه عالمهم، أليس كذلك؟ إنهم يملكونه ونحن نعيش فيه. والآن اغرب عن وجهي بحق الجحيم.»
وبحلول اليوم التالي كانت حرارة نقاشنا قد تبددت، واقترح راي أن أدعو صديقينا جيف وسكوت إلى حفل يقيمه راي في منزله في العطلة الأسبوعية. ترددت لوهلة؛ إذ لم ندع أصدقاء بيضا إلى حفل للسود قط، لكن راي أصر، ولم أجد سببا مقنعا للاعتراض. وكذلك جيف وسكوت؛ فقد وافق كلاهما على حضور الحفل ما دمت أوافق أن أقلهما. وهكذا، بعد أن أنهينا إحدى مبارياتنا في مساء يوم السبت، ركبنا نحن الثلاثة سيارة جدي القديمة من طراز فورد جراندا وشققنا طريقنا إلى القاعدة العسكرية سكوفيلد باراكس على بعد 30 ميلا تقريبا خارج المدينة.
عندما وصلنا كان الحفل قد بدأ، فتوجهنا لنحصل على بعض المرطبات. لم يبد أن حضور جيف وسكوت يسبب أي اضطراب، وقد قدمهما راي لمن في الغرفة وبدءوا يتحدثون قليلا مع بعض الأشخاص، واصطحبا فتاتين للرقص معهما. لكني رأيت بوضوح أن المشهد قد أذهل صديقي الأبيضين. فكانا يبتسمان كثيرا. وينتحيان جانبا في أحد الأركان، وكانا يومئان برأسيهما من حين لآخر بخجل وعدم ارتياح لضربات الموسيقى، ويقولان: «معذرة» كل بضع دقائق. وبعد ساعة تقريبا طلبا أن أصطحبهما إلى المنزل.
وعندما ذهبت إلى راي لأخبره أننا سنغادر، قال بصوت عال محاولا التغلب على صوت الموسيقى: «ما الأمر؟» وتابع: «لقد بدأ الحفل لتوه يصل إلى أوجه.» «أظن أنهما لا يتأقلمان.»
والتقت عينانا، ووقفنا هناك برهة طويلة من الوقت، والضوضاء والضحكات تدوي من حولنا. ولم يبد في عيني راي أي أثر للرضا أو أية إشارة لخيبة الأمل؛ مجرد نظرة ثابتة من عين لا تطرف مثل عين ثعبان. وفي النهاية مد لي يده فأمسكت بها، وعينانا لا تزالان ثابتتين ثم قال: «نلتقي لاحقا إذن»، وسحب يده من يدي ورأيته وهو يبتعد في الزحام ويسأل عن الفتاة التي كان يتحدث إليها قبل بضع دقائق.
وفي الخارج كان الهواء لطيفا، والشارع خاويا تماما، فيما عدا الارتجاف الخفيف الذي يسببه مذياع راي، والأضواء الزرقاء التي تنير بصورة متقطعة في نوافذ المنازل ذات الطابق الواحد التي تمتد عبر الشارع الجانبي النظيف، وظلال الأشجار تمتد عبر ملعب لكرة البيسبول. وفي السيارة وضع جيف ذراعه على كتفي، وبدا فجأة يشعر بالأسف البالغ والارتياح في آن واحد. وقال: «أتعرف لقد علمني هذا الحفل شيئا. أقصد، أصبحت أعرف مدى صعوبة الأمر عليك وعلى راي في بعض الأحيان في حفلات المدرسة ... إنكم أنتم فقط السود.»
فأجبت: «آه، نعم.» وأراد جزء مني أن يلكمه. وبدأنا نقطع الطريق تجاه المدينة، وفي هذه الفترة من الصمت بدأ عقلي يعيد عرض كلمات راي في ذلك اليوم مع كيرت، وكل المناقشات التي دارت بيننا قبل ذلك، وأحداث تلك الليلة. وفي الوقت الذي أوصلت فيه صديقي بدأت أرى خريطة جديدة للعالم، خريطة مخيفة في بساطتها، وخانقة في المعاني التي تتضمنها. لقد كنا دائما نلعب في ملعب الرجل الأبيض، ووفقا لقواعده، هذا ما قاله راي. وإذا أراد الناظر أو المدرب أو المدرس أو كيرت أن يبصق على وجهك يمكنه هذا لأنه يتمتع بسلطة ليست لديك. وإذا قرر ألا يفعل شيئا من ذلك؛ أي إذا عاملك على أنك إنسان أو دافع عنك، فهذا لأنه يعرف أن الكلمات التي تتفوه بها، والملابس التي ترتديها، والكتب التي تقرؤها، وطموحك ورغباتك هي في الأساس ملك له. ومهما كان ما يقرر أن يفعله فهذا قراره وليس قرارك ، وبسبب هذه السلطة الجوهرية التي يمتلكها عليك، ولأنها ولدت قبل دوافعه الشخصية ونزعاته وستستمر بعدها، فإن أي تمييز بين الإنسان الأبيض الطيب والشرير ليس له معنى كبير. وفي الحقيقة لا يمكنك أن تثق أن كل شيء افترضت أنه تعبير عن نفسك الحرة كإنسان أسود - مثل الدعابات والأغاني والتمريرات من وراء الظهر في مباريات كرة السلة - جميعها قد اخترتها بنفسك. لقد كانت هذه الأشياء على أفضل تقدير ملجأ أو، على أسوأ تقدير، فخا. وباتباع هذا المنطق المثير للجنون فإن الشيء الوحيد الذي يمكنك اختياره ليكون ملكا لك هو الانسحاب إلى عالم أصغر فأصغر من الغضب، حتى يصبح معنى كونك أسود هو إدراك أنك بلا سلطة واعتراف بهزيمتك. والمفارقة الأخيرة هي أنه إذا رفضت هذه الهزيمة وتحدثت بغضب منتقدا آسرك، فستجد لديه اسما لهذا بإمكانه أن يسجنك في قفص آخر. كأن يصفك بأنك مصاب بجنون الاضطهاد. أو عدواني. أو عنيف. أو زنجي. •••
وعلى مدار الشهور القليلة التالية، تطلعت إلى ترسيخ هذا الكابوس. فجمعت كتبا من المكتبة؛ كتب لبالدوين وإليسون وهيوز ورايت ودوبويس. وفي المساء كنت أغلق باب غرفتي وأخبر جدي أن لدي واجبا منزليا يجب أن أنتهي منه، وأجلس هناك وأحارب الكلمات، محتجزا في جدال مفاجئ يائس أحاول أن أتصالح مع العالم كما وجدته عند ميلادي. لكن لا مناص. ففي كل صفحة من كل كتاب، سواء في الكتب التي تتحدث عن شخصية الزنجي الشرير مثل بيجر توماس أو شخصيات أخرى مجهولة، كنت أجد نفس الأسى، نفس الشك؛ ازدراء للذات لم تستطع السخرية ولا الفكر تغيير مساره. وحتى علم دوبويس وحب بالدوين وخفة ظل لانجستون استسلموا في النهاية إلى قوته المدمرة، فكل من هؤلاء الرجال وجد نفسه في النهاية مجبرا لأن يشك في قدرة الفن على إنقاذه، وكل منهم وجد نفسه في النهاية مجبرا على الانسحاب؛ أحدهم إلى أفريقيا والآخر إلى أوروبا والثالث إلى أعماق هارلم، لكنهم جميعا انتهى بهم الحال إلى نفس الفرار المنهك، جميعهم تملك منهم التعب، جميعهم يشعر بالمرارة، جميعهم تطاردهم الشياطين.
كانت سيرة مالكولم إكس الذاتية وحدها هي التي قدمت شيئا مختلفا. فكانت محاولاته المتكررة لتكوين الذات تخاطبني، والشعر الصريح في كلماته وإصراره الطبيعي على نيل الاحترام يعدان بنظام جديد وثابت، نظام عسكري في طريقته يصاغ من خلال القوة المجردة للإرادة. وقررت أن جميع الأشياء الأخرى، مثل الحديث عن الشياطين الزرقاء العيون وسفر الرؤيا، كانت عارضة على هذا البرنامج؛ فقد كانت أفكارا دينية بدا أن مالكولم نفسه قد هجرها في نهاية حياته. ومع ذلك، حتى عندما تخيلت نفسي أتبع نداء مالكولم، فقد منعني سطر واحد في الكتاب من هذا. فقد تحدث في هذا السطر عن أمنية كانت تراوده في يوم من الأيام، أمنية أن يتخلص، عن طريق العنف، من الدماء البيضاء التي تجري في عروقه. وعرفت أن أمنية مالكولم تلك لم تكن عارضة قط، وعرفت أيضا أن الرحلة إلى احترام الذات للدماء البيضاء لا تتراجع أبدا إلى مجرد فكرة مجردة. وتركت أنا لأتساءل ماذا أيضا سأمزق إذا ما تركت والدتي وجدي عند حدود مجهولة، ومتى أفعل هذا.
وأيضا إذا كان اكتشاف مالكولم الذي توصل إليه قرب نهاية حياته أن بعض البيض قد يعيشون إلى جواره إخوة في الإسلام، يشع بعض الأمل في احتمال التوصل إلى مصالحة في النهاية، فإن ذلك الأمل بدا أنه لن يتحقق إلا في المستقبل البعيد وعلى أرض بعيدة. وفي الوقت نفسه نظرت لأرى من أين سيأتي هؤلاء الأشخاص الذين يرغبون في العمل من أجل هذا المستقبل واستيطان هذا العالم الجديد. وفي أحد الأيام، بعد إحدى مباريات كرة السلة في صالة الألعاب الرياضية بالجامعة، بدأت بالصدفة أنا وراي حديثا مع رجل طويل ونحيل اسمه مالك كان يلعب معنا من حين لآخر. ذكر مالك أنه كان من أتباع «أمة الإسلام» ولكن منذ موت مالكولم وانتقاله إلى هاواي لم يعد يذهب إلى المسجد أو الاجتماعات السياسية، مع أنه كان لا يزال ينشد السكينة في صلاته المنفردة. ولا بد أن أحد الشبان إلى جوارنا قد استمع إلينا؛ إذ إنه انحنى إلى الأمام وعلى وجهه تعبير الرجل الحكيم. «إنكم تتحدثون عن مالكولم أليس كذلك؟ إن مالكولم يصور الحقائق كما هي، لا شك في هذا.»
فقال شاب آخر: «نعم.» واستدرك: «لكني سأقول لكم شيئا، إنكم لن تروني أنتقل إلى غابة أفريقية في أي وقت قريب. أو إلى أية صحراء لعينة أجلس على سجاد مع بعض العرب. كلا يا سيدي. ولن تراني أتوقف عن تناول اللحوم.» «يجب أن نحصل على بعض اللحوم.» «والعلاقات الحميمية أيضا. ألم يتحدث مالكولم عن رفض العلاقات الحميمية؟ هل عرفتم الآن أن هذا لن يجدي.»
لاحظت أن راي يضحك فنظرت إليه عابسا. قلت: «ما الذي تضحك عليه؟» وتابعت: «إنك لم تقرأ شيئا لمالكولم قط. ولا تعرف حتى ماذا يقول.»
فجذب راي كرة السلة من يدي واتجه إلى الحافة المقابلة. وصاح: «إنني لا أحتاج إلى كتب لتخبرني كيف أكون أسود.» فبدأت أجيب عليه ثم استدرت إلى مالك متوقعا بعض عبارات المساندة منه. لكن الرجل المسلم لم يقل شيئا، وارتسمت على وجهه النحيل ابتسامة حالمة. •••
بعد ذلك قررت أن أكتم آرائي، وتعلمت أن أخفي انفعالي. ومع ذلك، بعد بضعة أسابيع استيقظت على صوت جدال في المطبخ؛ صوت جدتي الذي كان لا يكاد يسمع ويتبعه صوت جدي العميق وهو يتذمر. ففتحت الباب ورأيت جدتي وهي تدخل إلى غرفة نومها لترتدي ملابسها وتذهب إلى العمل. فسألتها ماذا حدث. «لا شيء. كل ما هنالك أن جدك لا يريد أن يقلني إلى العمل هذا الصباح. هذا كل شيء.»
وعندما دخلت إلى المطبخ كان جدي يغمغم متذمرا. وصب لنفسه كوبا من القهوة وأخبرته أنني مستعد لأن أقل جدتي إلى العمل إذا كان متعبا. وكان ذلك عرضا جريئا لأنني لم أكن أحب الاستيقاظ مبكرا. وقد قابل جدي عرضي بأن قطب جبينه. «ليست هذه هي المشكلة. إنها تريد أن تجعلني أشعر بالذنب.» «أنا واثق أن هذا ليس هو الهدف يا جدي.»
فارتشف من قهوته. ثم قال: «بل هذا هو الهدف بالطبع.» وتابع: «إنها تستقل الحافلة منذ أن عملت في المصرف. وكانت تقول إن الأمر كان أسهل . والآن فقط لأنها منزعجة قليلا، تريد أن تغير كل شيء.»
ظهرت جدتي بقوامها القصير في الردهة تنظر إلينا من خلف نظارتها ذات العدسات الثنائية البؤرة.
وقالت: «هذا ليس صحيحا يا ستانلي.»
فاصطحبتها إلى الغرفة الأخرى وسألتها عما حدث.
فقالت: «رجل طلب مني نقودا بالأمس. ذلك عندما كنت بانتظار الحافلة.» «هل هذا كل ما في الأمر؟»
ضمت شفتيها في غضب. ثم قالت: «كان عدوانيا للغاية يا باري. عدواني للغاية. أعطيته دولارا وظل يطلب مني المزيد. وأظن أنه إذا لم تكن الحافلة قد وصلت، كان من الممكن أن يضربني على رأسي.»
فعدت إلى المطبخ. وكان جدي يغسل الفنجان مديرا ظهره لي. فقلت: «لم لا تتركني أقلها أنا. إنها تبدو شديدة الغضب؟» «من متسول؟!» «نعم، أعلم، لكن أغلب الظن أنه كان من المخيف لها أن ترى رجلا ضخما يعترض طريقها. لا مشكلة في هذا.»
استدار جدي إلي، فرأيت أن جسده يرتجف. أخذ يقول: «بل مشكلة كبيرة. إنها مشكلة كبيرة في نظري. لقد ضايقها رجال كثر من قبل. هل تعلم لماذا هي خائفة بشدة هذه المرة؟ سأخبرك أنا لماذا. قبل أن تدخل أخبرتني أن الرجل كان أسود.» قال الكلمة الأخيرة وهو يهمس. ثم استأنف: «هذا هو السبب الحقيقي في انزعاجها. وأنا لا أظن أن هذا صحيح.»
كان وقع هذه الكلمات علي وكأن أحدا لكمني في معدتي. فارتجف جسدي كي أستعيد رباطة جأشي. وقلت له في أكثر نبرة استطعت أن أجعلها ثابتة، إن مثل هذا السلوك يثير ضيقي أنا أيضا، وأكدت له أن مخاوف جدتي ستنتهي وأننا يجب أن نقلها إلى العمل في الوقت الحالي. ترك جدي جسده يسقط على مقعد في غرفة المعيشة وقال إنه آسف لأنه أخبرني. وأمام عيني رأيته وقد أصبح صغير الحجم كبير السن حزين الوجه. فوضعت يدي على كتفه، وأخبرته أن كل شيء على ما يرام وأنني أتفهم الموقف.
ظللنا هكذا لعدة دقائق في صمت مؤلم. ثم أصر في النهاية على أن يقل جدتي إلى عملها، وجاهد لينهض من على مقعده ويرتدي ملابسه. وبعد أن غادرا، جلست على حافة فراشي وفكرت في جدي، فكثيرا ما ضحيا من أجلي. وعلقا جميع آمالهما التي لم تتحقق على نجاحي. ولم يمنحاني أبدا سببا كي أشك في حبهما لي، وكنت أثق بأنهما لن يقدما سببا لهذا الشك قط. ومع ذلك فقد علمت أن الرجال الذين كان من الممكن بسهولة أن يكونوا إخوتي يمكن كذلك أن يثيروا مخاوفهما. •••
في تلك الليلة قدت السيارة إلى وايكيكي مارا بالفنادق المضاءة بألوان براقة في اتجاه قناة ألا-واي. استغرقت بعض الوقت كي أتعرف على المنزل، بشرفته المتهدمة وسطحه ذي الانحدار البسيط. وفي الداخل كانت الأنوار مضاءة، ورأيت فرانك وهو يجلس على مقعده الضخم المريح، وعلى حجره ديوان للشعر ونظارته التي يقرأ بها منزلقة قليلا على أنفه. جلست في السيارة أراقبه لبعض الوقت، وفي النهاية خرجت من السيارة وطرقت الباب. ورفع العجوز عينيه قليلا وهو ينهض كي يفتح مزلاج الباب. وكان قد مر ثلاث سنوات منذ رأيته آخر مرة.
سألني: «أتريد شرابا؟» فأومأت له بالإيجاب ورأيته وهو يخرج زجاجة من الويسكي وكوبين بلاستيكيين من خزانة المطبخ. لم يتغير شكله كثيرا، فقط ازداد شاربه بياضا وهو يتدلى مثل نبات لبلاب ميت فوق شفته العليا الغليظة، وبنطلونه الجينز القصير به مزيد من الثقوب ومربوط عند خصره بشريط غليظ. «كيف حال جدك؟» «إنه بخير.» «ماذا تفعل هنا؟»
لم أكن واثقا. فأخبرت فرانك جانبا مما حدث. فأومأ برأسه وسكب لكل منا كأسا. وقال: «إن جدك لطيف.» وتابع: «هل تعلم أننا نشأنا على بعد 50 ميلا بيننا؟»
هززت رأسي نافيا. «هذه حقيقة. فقد كان كلانا يعيش بالقرب من ويتشيتا. ولكننا لم يعرف أحدنا الآخر بالطبع. وعندما كبر هو بما يكفي ليتذكر شيئا كنت أنا قد رحلت قبل وقت طويل. ومع ذلك فقد أكون رأيت بعضا من أهله. ربما أكون مررت بهم في الشارع. وإذا كان ذلك قد حدث فقد تعين علي أن أنزل عن الرصيف كي أفسح لهم الطريق. هل أخبرك جدك عن شيء من هذا القبيل من قبل؟»
ألقيت ما تبقى من ويسكي في حلقي، وهززت رأسي مرة أخرى.
فقال فرانك: «ولا أعتقد أنه كان سيفعل. إن ستانلي لا يحب الحديث عن ذلك الجزء من حياته في كانساس كثيرا. فهذا لا يجعله يشعر بالارتياح. وقد أخبرني ذات مرة عن فتاة سوداء استأجروها للعناية بوالدتك. أظن أنها كانت ابنة قس. وأخبرني كيف أصبحت جزءا من العائلة. هذا هو ما يتذكره عنها؛ فهذه الفتاة تذهب للعناية بأطفال الآخرين، ووالدتها تغسل ملابس الآخرين. جزء من العائلة.»
هذه المرة مددت أنا يدي إلى الزجاجة كي أصب منها بنفسي. ولم يكن فرانك يراني فقد كانت عيناه مغمضتين ورأسه يستند إلى ظهر مقعده ووجهه الضخم المتجعد مثل نقش حجري. ثم قال في هدوء: «لا يمكنك أن تلوم ستانلي على ما هو عليه. إنه رجل طيب بطبيعته. لكنه لا يعرفني حقا. ليس أكثر من معرفته بتلك الفتاة التي كانت ترعى والدتك. ولا يستطيع أن يعرفني، ليس كما أعرفه أنا. ربما يستطيع بعض سكان هاواي ذلك، أو الهنود في تلك المناطق المخصصة لهم. فقد رأوا آباءهم يتعرضون للإهانة، وأمهاتهم تنتهك حرماتهن، لكن جدك لن يعرف أبدا كيف يشعر المرء في مثل هذه المواقف. لهذا يمكنه أن يأتي إلى هنا ويحتسي الويسكي ويسقط نائما على الكرسي الذي تجلس أنت عليه الآن. ويغط في سبات عميق. وهذا شيء لا يمكنني أن أفعله في منزله. أبدا. مهما كان ما أشعر به من تعب، فعلي أن أراقب سلوكي. يجب أن أكون حذرا حفاظا على حياتي.»
فتح فرانك عينيه. وقال: «ما أحاول أن أقوله لك هو أن جدتك لديها الحق في أن تشعر بالخوف. وهي على حق بالضبط مثل ستانلي. إنها تفهم أن السود لديهم سبب كي يشعروا بالكراهية. هذه هي الحقيقة. وإن كنت أتمنى - من أجلك - أن يكون الحال غير الحال. لكن هذه هي الحقيقة. لذا فيمكنك أن تعتاد عليها أنت الآخر.»
أغمض فرانك عينيه من جديد . وبدأت أنفاسه تتباطأ حتى بدا أنه خلد إلى النوم . فكرت في إيقاظه، ثم قررت ألا أفعل وسرت عائدا إلى السيارة. شعرت بالأرض تهتز تحت قدمي وكأنها مستعدة لأن تنشق في أية لحظة. فتوقفت وأنا أحاول أن أتماسك، وأدركت لأول مرة أنني وحدي تماما.
الفصل الخامس
كانت الساعة الثالثة صباحا. وكانت الشوارع التي يغمرها القمر بضوئه خاوية، ولم أسمع سوى صوت سيارة تزيد من سرعتها في طريق بعيد. ولا بد أن جميع من كانوا في الحفل الصاخب قد اختفوا في مكان هادئ الآن، سواء كل حبيبين معا أو كل شخص وحده يغط في سبات عميق من أثر احتساء الجعة، وحسن في شقة صديقته الجديدة، بعد أن قال لي وهو يغمز بعينه: «لا تبق مستيقظا لوقت طويل.» ولم يتبق إلا نحن الاثنين فقط ننتظر شروق الشمس، أنا وصوت بيلي هوليداي الذي كان يشدو ليملأ أرجاء الغرفة المظلمة، ويصل إلي ليلمسني وكأنه حبيبتي.
إنني حمقاء ... لأني أريدك.
شديدة الحماقة ... لأني أريدك.
صببت لنفسي شرابا وتركت عيني تدوران في أنحاء الغرفة؛ أطباق عميقة من فتات المقرمشات المملحة، وطفايات السجائر الممتلئة عن آخرها، والزجاجات الفارغة التي تبدو وكأنها خط الأفق قبالة الحائط. حفل رائع. هذا ما قاله الجميع، وقالوا أيضا اعتمدوا على باري وحسن في إقامة الحفلات الموسيقية. استمتع الجميع بوقته فيما عدا ريجينا. هي لم تستمتع. ماذا قالت قبل أن تغادر؟ قالت: «إنك دائما تظن أن الأمر يتعلق بك.» ثم ذكرت تلك الأشياء عن جدتها. كما لو أنني مسئول عن مصير العرق الأسود بأكمله. كما لو أنني أنا من جعل جدتها تجثم على ركبتيها طوال عمرها. إلى الجحيم يا ريجينا. إلى الجحيم بغرورك العنيد وورعك الممقوت ونظرة عينيك التي تتهمني بخذلانك. إنها لم تعرفني. لم تفهم وجهة نظري.
سقطت على الأريكة مرة أخرى وأشعلت سيجارة وشاهدت عود الثقاب وهو يحترق حتى لسع طرف إصبعي، ثم شعرت بألم عندما أطفأت اللهيب بإصبعي. سأل الرجل قائلا: «ما الخدعة؟» «الخدعة ألا تبالي بالألم.» حاولت أن أتذكر أين سمعت تلك الجملة التالية، لكن ذاكرتي لم تسعفني؛ فقد غاب هذا الأمر عنها مثل وجه ذهب في غياهب النسيان. لكن هذا لا يهم. فبيلي تعرف الخدعة نفسها، إنها موجودة في صوتها المرتجف الممزق. وقد تعلمتها أنا أيضا؛ فقد كان هذا هو محور حياتي في المدرسة الثانوية في العامين الماضيين بعد أن رحل راي إلى معهد في مكان ما، ونحيت أنا الكتب جانبا، وبعد أن توقفت عن الكتابة إلى أبي وتوقف هو عن إرسال خطابات لي. سئمت من محاولة التخلص من فوضى ليست من صنعي.
تعلمت ألا أهتم.
أطلقت بعض حلقات الدخان في الهواء، وأنا أتذكر تلك السنوات. وقد ساعدتني الماريجوانا والخمور، وقليل من الكوكايين من حين لآخر عندما أستطيع تحمل تكلفته. لكنني لم أتعاط الهيروين، مع أن ميكي - وأغلب الظن أنه كان الشخص الذي قادني إلى هذا الطريق - كان متلهفا كي أجربه. وقال إنه يستطيع تعاطيه وهو معصوب العينين، لكنه كان يرتجف مثل محرك خرب عندما قال هذا. ربما كانت هذه الرجفة لأنه يشعر بالبرد فحسب، فقد كنا نقف في مجمد لحوم في مؤخرة محل الأطعمة الباردة والمعلبة الذي كان يعمل به، ولا يمكن أن تكون درجة الحرارة أكثر من 20 درجة داخل المحل. لكنه لم يبد أنه يرتجف من البرد. بل بدا وكأنه يتصبب عرقا، ووجهه لامع ومحتقن. وقد أخرج الإبرة والأنبوب الصغير، فنظرت إليه وهو يقف هناك محاطا بشرائح كبيرة من سمك السلامي ولحم البقر المشوي، وعندئذ انبثقت في ذهني فجأة صورة فقاعة هواء لامعة ومستديرة مثل لؤلؤة تتدحرج ببطء بداخل وريدي وتوقف قلبي عن الخفقان ...
مدمن للمخدرات. ومدخن للماريجوانا، هذا ما كنت أتجه إليه: الدور المحتم الأخير الذي يلعبه الشاب الأسود الذي سيصبح رجلا. إلا أن اللجوء إلى نشوة المخدرات لم يكن الهدف منه أن أحاول أن أثبت كم أنتمي إليهم. لم يكن الأمر كذلك آنذاك على أية حال. فقد كنت ألجأ إلى نشوة المخدرات من أجل عكس ذلك تماما؛ إذ كنت أبحث عن شيء يمكنه أن يبعد عن ذهني تلك الأسئلة المتعلقة بهويتي، شيء يمكنه أن يريح قلبي، ويمحو ذاكرتي. واكتشفت أنه لا فارق بين ما إذا كنت تدخن الماريجوانا في شاحنة زميلك الأبيض الجديدة اللامعة، أو في غرفة نوم أحد الإخوة الذي قابلته في صالة الألعاب الرياضية، أو على الشاطئ مع بعض الصبية من هاواي الذين تركوا المدرسة ويقضون معظم أوقاتهم يبحثون عن سبب للشجار. لم يكن أحد يسألك هل والدك مسئول تنفيذي واسع السلطة فاحش الثراء يخون زوجته، أو رجل بدين طرد من عمله، كلما أزعج نفسه وجاء إلى المنزل انهال عليك ضربا. وربما لا يتعدى الأمر كونك شخصا يشعر بالملل أو الوحدة. فالجميع مرحب به في نادي السخط. وإذا لم تنجح نشوة المخدرات في حل المشكلة التي تقض مضجعك، فإنها تساعدك على الأقل على السخرية من حماقة العالم المستمرة، وترى حقيقة النفاق والهراء والحكم الأخلاقية الرخيصة.
هكذا بدا الأمر لي آنذاك. فقد استغرقت بضع سنوات قبل أن أرى كيف بدأت المصائر تتحدد، والاختلافات التي يسببها اللون والمال فيمن ينجو، ومدى عنف أو سهولة الهبوط عندما يسقط المرء في النهاية. وبالطبع في كلتا الحالتين فإنك بحاجة إلى بعض الحظ. وعلى الأرجح هذا ما كان يفتقده بابلو عندما لم تكن معه رخصة القيادة في ذلك اليوم، مما جعل شرطيا يفتش حقيبة سيارته. أو بروس عندما لم يجد طريقه للعودة من رحلات مخدر الهلوسة الكثيرة وانتهى به الحال في مستشفى للأمراض النفسية. أو ديوك الذي لم يستطع الخروج سالما من حادث تحطم سيارته ...
حاولت أن أشرح بعض هذه الأمور لوالدتي ذات مرة؛ أي دور الحظ في الحياة، وكيف تدور عجلة الحظ. كان ذلك في بداية عامي الأخير في المدرسة الثانوية، وكانت هي قد عادت إلى هاواي بعد أن انتهت فترة عملها الميداني، وفي أحد الأيام دخلت إلى غرفتي تريد أن تعرف تفاصيل القبض على بابلو. فقابلتها بابتسامة مطمئنة وربت على يدها وأخبرتها ألا تقلق، فإنني لن أتصرف بحماقة. وغالبا ما كان هذا الأسلوب فعالا؛ إذ كانت إحدى تلك الخدع التي تعلمتها: فالناس تشعر بالرضا ما دمت لطيفا معهم وتبتسم ولا تقوم بأي تصرفات مفاجئة. وفي حالتي كانوا يشعرون بشيء أكثر من الرضا، كانوا يشعرون بالارتياح؛ فقد كانت مفاجأة سعيدة أن يجدوا شابا أسود حسن الخلق لا يبدو غاضبا طوال الوقت.
إلا أن أمي لم يبد عليها الرضا. فجلست أمامي تتفحص عيني ووجهها متجهم كعربة نقل الموتى.
وقالت: «ألا تظن أنك أصبحت غير مهتم قليلا بمستقبلك؟» «ماذا تعنين؟» «إنك تعرف بالضبط ماذا أعني. فقد ألقي القبض على أحد أصدقائك لحيازته مخدرات. وبدأت درجاتك تقل. ولم تبدأ حتى الآن في تقديم طلبات الالتحاق بالجامعة. وكلما حاولت أن أتحدث إليك عن هذا الأمر تصرفت كما لو أنني لست إلا مصدرا للإزعاج الشديد.»
ولم أكن بحاجة إلى الاستماع إلى كل هذا. فلم أكن سأطرد من المدرسة بسبب رسوبي. فبدأت أخبرها أني أفكر ألا أسافر بعيدا للدراسة في الجامعة، وأنني يمكنني البقاء في هاواي والالتحاق ببعض الدورات، والحصول على عمل نصف دوام. ولكنها قاطعتني قبل أن أنتهي. وقالت إنه يمكنني الالتحاق بأية كلية أريد في أي مكان في البلد، فقط إذا بذلت قليلا من الجهد. «أتتذكر هذا الشيء؟ الجهد؟ اللعنة يا باري لا يمكنك قضاء الوقت هكذا كسولا بلا هدف مثل شخص مولع باللهو، وتنتظر أن يطرق الحظ بابك؟» «مثل من؟» «مثل شخص مولع باللهو. أي متسكع.»
نظرت إليها وهي تجلس أمامي والجدية التامة ترتسم على ملامحها وهي واثقة من مصير ابنها. فقد ظلت فكرة أن مستقبلي يعتمد على الحظ بدعة في نظرها، وأصرت على إلقاء المسئولية على كاهل أحد، كاهلها أو كاهل جدي أو جدتي أو كاهلي. وفجأة شعرت أنني أهز تلك الثقة، وأتركها تكتشف أن تجربتها معي قد فشلت، وبدلا من الصراخ أخذت أضحك. وأقول: «شخص مولع باللهو؟ حسنا ولم لا؟ ربما يكون هذا ما أريده من الحياة. أعني انظري إلى جدي. إنه حتى لم يلتحق بالجامعة.»
فاجأت هذه المقارنة أمي. فشحب وجهها، ودارت عيناها في محجريهما. وفجأة تجلى أشد مخاوفها أمامي. فسألتها: «هل هذا ما يقلقك؟» وتابعت: «أن ينتهي بي الحال مثل جدي؟»
فهزت رأسها بسرعة. وقالت: «لقد تلقيت بالفعل تعليما أفضل كثيرا من جدك.» ولكن كانت الثقة قد اختفت أخيرا من صوتها. وبدلا من الاستمرار في الحديث، نهضت وغادرت الغرفة. •••
توقفت بيلي عن الغناء. وخيم الصمت على الغرفة، وفجأة شعرت بأني متزن وغير ثمل. فنهضت من على الأريكة وقلبت شريط التسجيل، وشربت ما تبقى في الكوب ثم ملأته مرة أخرى. وفي الأعلى سمعت صوت أحد يغادر الحمام بعد قضاء حاجته ثم يقطع إحدى الغرف سيرا. كما سمعت شخصا آخر يعاني أرقا على الأرجح، يستمع إلى صوت قطار حياته وهو يمر. هذه هي مشكلة الخمر والمخدرات، أليس كذلك؟ فعند نقطة بعينها لا يمكن إيقاف هذا الصوت، صوت فراغ محدد. وهذا على ما أظن هو ما كنت أحاول أن أخبر أمي به في ذلك اليوم: أن إيمانها بالعدالة والعقلانية ليس في محله، وأننا لم نستطع في النهاية التغلب على شيء، وأن التعليم وجميع النوايا الحسنة في العالم لا يمكنها المساعدة في سد الفجوات في الكون أو إعطاء المرء القدرة على تغيير مساره الأعمى والمجنون.
ومع ذلك فقد انتابني شعور بالاستياء بعد ذلك الموقف؛ فهذه هي الحيلة التي كانت أمي تلعبها دائما، الطريقة التي تجعلني أشعر بالذنب. وكانت هي تتحدث عن الأمر بصراحة أيضا. فقد قالت لي ذات مرة: «لا يسعك فعل شيء حيال هذا.» ثم أضافت مبتسمة مثل قطة تشيشاير في فيلم «أليس في بلاد العجائب»: «فقد أرضعته لك وأنت طفل. ومع ذلك فلا تقلق.» وتابعت: «فجرعة صحية من الإحساس بالذنب لا تؤذي أحدا. فالشعور بالذنب هو الأساس الذي بنيت عليه الحضارة. وهو شعور يستهان به بشدة.»
بعد ذلك كان بوسعنا أن نمزح عن هذا الموقف؛ إذ إن أشد مخاوفها لم يتحقق. فقد تخرجت دون أن يعاندني الحظ، وقبلت في عدد من الجامعات المحترمة، واستقررت على الالتحاق بكلية أوكسيدينتال في لوس أنجلوس، ويرجع السبب في هذا في المقام الأول إلى فتاة من مدينة برينتوود قابلتها وهي تقضي الإجازة في هاواي مع عائلتها. لكنني كنت أفعل هذا آليا دون حماس، فكنت أشعر باللامبالاة تجاه الجامعة بالقدر نفسه الذي أشعر به تجاه معظم الأشياء الأخرى. فحتى فرانك رأى أن موقفي من الالتحاق بالجامعة سيئ، مع أنه لم يكن واضحا كيف يمكنني تغييره.
ماذا كان فرانك يطلق على الكلية؟ لقد وصفها بقوله: «شهادة متقدمة في التصالح». فكرت في آخر مرة رأيت فيها الشاعر العجوز قبل بضعة أيام من مغادرتي لهاواي. وقد تحدثنا بعض الوقت واشتكى من قدمه؛ إذ كان يعاني الزوائد في جلد قدمه والنتوءات العظمية التي أصر أنها نتيجة مباشرة لمحاولة إجبار قدمه الأفريقية على الدخول في حذاء أوروبي. وفي النهاية سألني عما أتوقع الحصول عليه من الكلية. فأخبرته أنني لا أعرف، فهز رأسه الضخم الذي يكسوه الشيب.
وقال: «حسنا، هذه هي المشكلة، أليس كذلك؟ إنك لا تعرف. إنك بالضبط مثل باقي الشباب بالخارج. كل ما تعرفه هو أن الكلية هي الخطوة التالية التي يجب أن تخطوها. في حين أن من يكبرونك سنا بما يكفي لأن يعرفوا أفضل منك - الذين حاربوا طوال تلك السنوات كي تحصل على حق الالتحاق بالجامعة - سيكونون سعداء إذا رأوك هناك حتى إنهم لن يخبروك الحقيقة. الثمن الحقيقي للالتحاق بها.» «وما هذا الثمن؟» «أن تترك عرقك على الباب.» وتابع: «أن تترك شعبك وراء ظهرك.» ثم تفحص ملامحي من فوق إطار نظارة القراءة. واستكمل: «افهم يا فتى. إنك لن تذهب إلى الكلية لتتعلم. إنك ستذهب «لتتدرب». سيدربونك على أن تريد ما لا تحتاجه. سيدربونك على المراوغة بالكلمات حتى تصبح عديمة المعنى. سيدربونك لتنسى ما تعرفه بالفعل. سيدربونك جيدا حتى إنك ستبدأ تؤمن بما يخبرونك به عن الفرص المتكافئة، والطريقة الأمريكية، وكل ذلك الهراء. سيعطونك مكتبا متميزا ويدعونك على حفلات عشاء ممتازة، ويخبرونك أنك مفخرة لجنسك. حتى تريد أن تبدأ في إدارة الأمور فعليا، وحينها يجذبون السلسلة حول عنقك بقوة، ويجعلونك تدرك أنك قد تكون زنجيا تلقى تدريبا جيدا ويحصل على مرتب جيد، ولكنك لا تزال مجرد زنجي.» «إذن بم تنصحني؟ ألا ألتحق بالجامعة؟»
تهدل كتفا فرانك وعاد ليسقط على مقعده وهو يتنهد. وقال: «كلا، إنني لا أقول هذا. عليك أن تذهب. إنني فقط أقول لك أن تبقي عينيك مفتوحتين. ابق متيقظا.»
جعلني هذا أبتسم، وأنا أفكر في فرانك وشخصيته الأفريقية التي تؤمن بشعار «القوة السوداء». وفي بعض الجوانب، كان فرانك حالة يصعب علاجها مثل والدتي، فهو على القدر نفسه من الثقة بإيمانه، ويعيش في نفس الإطار الزمني لستينيات القرن العشرين الذي خلقته هاواي. وقد نصحني أن أبقي عيني مفتوحتين. وهذا ليس بالأمر السهل كما يبدو. ليس سهلا في لوس أنجلوس المشمسة. ليس مثل تجول المرء في الحرم الجامعي لكلية أوكسيدينتال على بعد أميال قليلة من مدينة باسادينا الذي كان مصطفا بالأشجار ومغطى بالسيراميك الإسباني. وقد كان الطلاب ودودين، والمعلمون مشجعين. وفي خريف عام 1979 كان كارتر، وخطوط الغاز، ومشاعر الندم العلنية جميعها في طريقها إلى البعد عن بؤرة الأنظار، وريجان في طريقه إلى اجتذاب الأنظار، وكذلك شعار حملته السياسية الفعالة «صباح جديد في أمريكا». وعندما يغادر المرء الحرم الجامعي، ويقود سيارته على الطريق السريع ليصل إلى شاطئ فينيسيا أو إلى ويستوود مارا بشرق أو جنوب لوس أنجلوس دون حتى أن يعرف هذا؛ فلن يرى في طريقه سوى المزيد من أشجار النخيل التي تختلس النظر للمارة مثلما يفعل نبات الهندباء البرية المزروع على الحوائط الأسمنتية العالية. ولم تكن لوس أنجلوس شديدة الاختلاف عن هاواي، على الأقل ليس الجزء الذي رأيته منها. إنها فقط أكبر، ومن السهل فيها العثور على حلاق يعرف كيف يقص شعرك.
وعلى أية حال، لم يكن معظم الطلاب السود الآخرين في الكلية قلقين على موضوع التصالح هذا. وكان هناك ما يكفي منا لتكوين قبيلة، وعندما يتعلق الأمر بتمضية الوقت، كان الكثيرون منا يتصرفون بأسلوب يشبه القبيلة بالفعل، فيمكثون معا ويتحركون في جماعات. وفي عامي الأول في الدراسة عندما كنت لا أزال أعيش في منازل الطلبة كانت هناك جلسات اللغو نفسها التي كانت تدور بيني وبين راي والسود الآخرين في هاواي، التذمر نفسه، وقائمة الشكاوى نفسها. أما فيما عدا ذلك فكان ما يقلقنا لا يختلف كثيرا عما يقلق البيض من حولنا. وهو النجاح في الدراسة. والحصول على عمل بأجر مجز بعد التخرج. وأيضا محاولة إقامة علاقات حميمية مع الجنس الآخر. وقد توصلت صدفة إلى أحد الأسرار الدفينة عن السود ألا وهي أن معظمنا لم يكن متحمسا للثورة، وأن معظمنا قد سئم التفكير في العنصرية طوال الوقت، وأننا إذا كنا اخترنا أن ننغلق على أنفسنا فهذا لأن هذه هي أسهل طريقة للتوقف عن التفكير في هذا الأمر، أسهل من قضاء الوقت في حالة من الغضب أو محاولة استنباط آراء البيض فينا مهما كانت.
إذن، لم أترك أنا أيضا الأمر دون التفكير فيه؟
لا أعلم. أظن أنني لم أكن أتمتع برفاهية معرفة المعسكر الذي أنتمي إليه عن يقين. فإذا نشأ المرء في مدينة كومبتون فسيصبح البقاء على قيد الحياة عملا ثوريا. ويذهب إلى الجامعة وعائلته لا تزال هناك تشجعه. وتكون سعيدة وهي تراه يهرب؛ فالأمر إذن ليست فيه أي شبهة خيانة. لكنني لم أنشأ في كومبتون أو واتس. ولم يكن لدي ما أهرب منه سوى الشكوك التي تملأ قلبي. لقد كنت أقرب إلى الطلاب السود الذين نشئوا في الضواحي، أطفال دفع آباؤهم بالفعل ثمن الهروب. ويمكنك أن تتعرف عليهم على الفور من الطريقة التي يتحدثون بها، ومن يجالسونهم في المطعم. وعندما تضغط عليهم في الحديث، ينفعلون ويبدءون في التحدث بسرعة ويقولون إنهم يرفضون أن يجري تصنيفهم. وسيقولون لك إنهم يرفضون تعريفهم وفقا للون بشرتهم. إنهم بشر.
هكذا كانت تحب جويس أن تتحدث. كانت فتاة جميلة لها عينان خضراوان وبشرتها بلون العسل وشفتان بارزتان. كنا نعيش في المبنى السكني نفسه في عامي الأول في الجامعة، وكان جميع الإخوة يطاردونها. وفي أحد الأيام سألتها هل ستذهب إلى اجتماع جمعية الطلاب السود. فنظرت إلي بغرابة وبدأت تهز رأسها مثل طفل لا يريد أن يأكل ما أمامه من طعام على ملعقته.
ثم قالت: «أنا لست سوداء.» وتابعت: «أنا متعددة الأعراق.» ثم بدأت تخبرني عن والدها الذي «تصادف» أنه إيطالي وكان أرق رجل في العالم، ووالدتها التي «تصادف» أن بها عرقا أفريقيا وآخر فرنسيا وآخر من السكان الأصليين لأمريكا وشيئا آخر. وسألتني: «لماذا يجب علي أن أختار بينهم؟» وتهدج صوتها وظننت أنها على وشك البكاء. قالت: «ليس البيض هم من يفرضون علي أن أختار. ربما كان الأمر كذلك فيما مضى، ولكنهم الآن مستعدون للتعامل معي على أني إنسانة. كلا، «السود» هم من يريدون أن يجعلوا كل شيء عنصريا. إنهم هم من يفرضون علي أن أختار. إنهم هم من يخبرونني أنه لا يمكنني أن أكون الشخص الذي أنا عليه ...»
هم، هم، هم. كانت هذه هي المشكلة مع الأشخاص مثل جويس، فإنهم يتحدثون عن ثراء تراثهم متعدد الثقافات ويبدو الأمر رائعا حقا، حتى تلاحظ أنهم يتجنبون السود. وليس الأمر بالضرورة مسألة اختيار واع، إنه أمر متعلق بالجاذبية فحسب، الطريقة التي يسير بها التكامل دائما، طريق أحادي الاتجاه. امتصاص الثقافة السائدة للأقلية، وليس العكس. ثقافة البيض فقط يمكن أن تكون محايدة وموضوعية، ثقافة البيض فقط يمكن أن تكون غير عنصرية، ومستعدة لاستيعاب العناصر الغريبة التي تظهر من حين لآخر إلى صفوفها. ثقافة البيض فقط بها بشر. ونحن، المولودين لأبوين من عرقين مختلفين والحاصلين على شهادات جامعية، ندرس الموقف ونفكر في أنفسنا: لماذا ننضم إلى الخاسرين إذا لم نكن مضطرين لهذا؟ ونصبح ممتنين للغاية ونحن نفقد أنفسنا في الزحام، في سوق أمريكا السعيد عديم الهوية، ولا نستشيط غضبا أبدا مثلما يحدث لنا عندما تتجاهلنا سيارة الأجرة وتمر من أمامنا، أو عندما تحكم السيدة في المصعد قبضتها على حقيبتها، وليس هذا لأننا منزعجون من حقيقة أنه على الملونين الأقل حظا أن يتحملوا مثل هذه الإهانات كل يوم من أيام حياتهم، مع أن هذا هو ما نقوله لأنفسنا، ولكن لأننا نرتدي حلة تحمل العلامة التجارية بروكس براذرز، ونتحدث بلغة إنجليزية صحيحة، ومع ذلك فالبعض يخطئ ويعاملوننا على أننا زنوج عاديون.
ألا تعلم من أنا؟ أنا «إنسان». •••
اعتدلت جالسا، وأشعلت سيجارة أخرى، وأفرغت الزجاجة في كوبي. كنت أعلم أنني أقسو على المسكينة جويس. الحقيقة هي أنني كنت أفهمها، هي والسود الآخرين الذين كانوا يشعرون بما تشعر به. فكنت أرى في أسلوبهم وحديثهم وقلوبهم الحائرة أجزاء من نفسي. وهذا بالتحديد ما كان يخيفني. فحيرتهم جعلتني أشك في معتقداتي العنصرية من جديد، ولا تزال ورقة راي الرابحة عالقة في ذهني. وكنت أحتاج إلى إبعاد المسافة بينهم وبين نفسي، كي أقنع نفسي أنني لم أقبل التصالح، وأنني لا أزال مستيقظا بالفعل.
ولكي أتجنب أن يظن البعض أني خائن لقضية السود، كنت أختار أصدقائي بعناية شديدة. فأصادق أكثر الطلاب السود نشاطا في السياسة. الطلاب الأجانب. والأمريكيون من أصول مكسيكية. والأساتذة الماركسيين، ونشطاء الحركة النسائية وشعراء حفلات البانك روك الموسيقية. وكنا ندخن السجائر ونرتدي سترات جلدية. وفي المساء، في غرف نومنا كنا نناقش الاستعمارية الجديدة، وفرانز فانون، والمركزية الأوروبية، والنظام الأبوي. وكنا نقاوم قيود المجتمع البرجوازي الخانقة عندما نسحق السجائر على سجادة الرواق أو نرفع صوت أجهزة التسجيل حتى تبدأ الجدران تهتز. لم نكن مهملين أو نشعر باللامبالاة أو عدم الأمان. لكننا كنا نشعر بالغربة.
ولكن هذا الأسلوب وحده لم يقدم لي المسافة التي كنت أحتاج إليها لتفصلني عن جويس أو ماضي. فقد كان هناك الآلاف ممن يطلق عليهم المتطرفون في الحرم الجامعي، معظمهم بيض، ولا يمكن فصلهم من الجامعة ويتسامح الجميع معهم بكل سعادة. كلا، لقد ظل من الضروري أن تثبت إلى أي جانب أنت، وأن تظهر انتماءك لجموع السود، وأن تبدأ العمل، وتشير بأصابع الاتهام إلى أشخاص محددين.
تذكرت ذلك الوقت حين كنت لا أزال أعيش في المدينة الجامعية، عندما كنا نحن الثلاثة، أنا وماركوس وريجي، في غرفة ريجي وقطرات الأمطار تضرب زجاج النافذة. كنا نحتسي بعض أكواب الجعة، وكان ماركوس يخبرنا بتجربته عندما أوقفته شرطة لوس أنجلوس. وقال: «لم يكن هناك أي سبب لإيقافي.» وتابع : «لا سبب سوى أنني كنت أسير في حي يقطنه البيض. وجعلوني أقف أمام السيارة وأرفع يدي وأباعد ما بين قدمي. وسحب أحدهم سلاحه. ولكني لم أجعله يخيفني. فهذا هو ما يوقف أولئك النازيين العنيفين، رؤية الخوف في عيني رجل أسود ...»
راقبت ماركوس وهو يتحدث، كان شابا نحيلا أسود البشرة منتصب القامة، يقف مباعدا بين قدميه ويرتدي قميصا أبيض اللون فوقه بنطلون جينز بحمالات. وكان ماركوس أشد الإخوة وعيا. وكان بإمكانه أن يقص لك قصة جده الذي كان يؤمن بمبادئ ماركوس جارفي، ووالدته في سانت لويس التي ربت أطفالها وحدها وهي تعمل ممرضة، وعن شقيقته الكبرى التي كانت أحد الأعضاء المؤسسين للفرع المحلي من حزب الفهود السود، وعن أصدقائه في الملهى الفقير. لقد كانت سلالته نقية، وولاؤه واضحا، ولهذا السبب كان يجعلني دائما أشعر بأنني غير متوازن، مثل الشقيق الأصغر الذي سيظل دائما مهما فعل يتخلف بخطوة. هذا هو بالضبط ما كنت أشعر به في تلك اللحظة وأنا أستمع إلى ماركوس يعلن عن تجربته الصادقة كرجل أسود، عندما دخل تيم إلى الغرفة.
قال وهو يلوح بمرح: «مرحبا يا رفاق.» ثم استدار إلي. وسألني: «باري، هل لديك ذلك الواجب الذي فرضه إيكون؟»
لم يكن تيم أخا واعيا. وكان يرتدي سترة على قماشها أشكال تأخذ شكل المعين، وبنطلونا ضيقا من الجينز ويتحدث مثل بيفر كليفر. وكان يخطط للتخصص في التجارة. وعلى الأرجح كانت حبيبته البيضاء تنتظره بالأعلى في غرفته، وتستمع إلى موسيقى الريف. وكان يبدو سعيدا للغاية، كل ما أردته منه هو أن يذهب بعيدا. لذا فقد نهضت وسرت معه في الردهة إلى غرفتي، وأعطيته الواجب المنزلي الذي أراد. وبمجرد أن عدت إلى غرفة ريجي، شعرت لسبب ما أنني مضطر للتفسير.
فقلت وأنا أهز رأسي: «إن تيم هذا يبدو مغيبا طوال الوقت.» وتابعت: «يجب أن يغير اسمه من تيم إلى توم.»
ضحك ريجي، ولكن ماركوس لم يضحك. وقال: «لماذا تقول هذا يا رجل؟»
فاجأني السؤال. فقلت: «لا أعلم. إنه مجرد شاب أبله، هذا كل ما في الأمر.»
ارتشف ماركوس من الجعة ونظر إلى عيني مباشرة. قال: «تيم يبدو حسنا في نظري.» وتابع: «إنه يمضي قدما في حياته. ولا يضايق أحدا. أظن أنه يجب أن نهتم بما إذا كانت أمورنا نحن تسير على ما يرام بدلا من إصدار الأحكام على الطريقة التي ينبغي أن يتصرف بها الآخرون.»
مر عام وكنت لا أزال أحترق بتلك الذكرى، والغضب والاستياء اللذين شعرت بهما في تلك اللحظة، وماركوس يوبخني بهذا الشكل أمام ريجي. لكنه كان على حق في هذا، أليس كذلك؟ فقد كشفني وأنا أكذب. في الحقيقة أكذب كذبتين؛ الكذبة التي قلتها عن تيم والأخرى التي كنت أقولها عن نفسي. في الحقيقة يبدو لي عامي الأول في الجامعة كذبة طويلة وأنا أهدر كل طاقتي أركض في دوائر محاولا أن أخفي حقيقتي.
إلا مع ريجينا. وهذا على الأرجح ما جذبني إليها، الطريقة التي كانت تجعلني أشعر بها أنني لست مضطرا للكذب. حتى في تلك المرة الأولى التي تقابلنا فيها، اليوم الذي دخلت فيه إلى المقهى ووجدت ماركوس ينتقد اختياري للكتب التي أقرؤها. وقد لوح لها ماركوس يدعوها إلى طاولتنا وهو ينهض قليلا ليسحب لها مقعدا.
وقال ماركوس: «أيتها الأخت ريجينا.» وتابع: «أنت تعرفين باراك أليس كذلك؟ وأنا أحاول أن أخبر الأخ باراك عن هذا العمل العنصري الذي يقرؤه.» ورفع يده بنسخة من رواية «قلب الظلام» كأنه دليل أمام المحكمة. فمددت يدي محاولا انتزاع الكتاب من يده. «توقف عن التلويح بهذا الشيء هكذا.»
فقال ماركوس: «ماذا بك؟» وتابع: «أترى أنه يجعلك تشعر بالإحراج، أليس كذلك؟ مجرد رؤيتك وبصحبتك كتاب كهذا. إنني أنبهك يا رجل أن هذه الأشياء ستسمم عقلك.» ثم نظر إلى ساعته وقال: «اللعنة، لقد تأخرت على المحاضرة.» ثم انحنى وطبع قبلة سريعة على وجنة ريجينا. وقال لها: «هلا تتحدثين إلى هذا الأخ؟ أظن أنه لا يزال من الممكن إنقاذه.»
ابتسمت ريجينا وهزت رأسها ونحن نشاهد ماركوس يقفز خارجا من الباب. وقالت: «أظن أن ماركوس في إحدى نوبات الوعظ التي يمر بها.»
قذفت الكتاب في حقيبة ظهري. وقلت : «في الحقيقة إنه على حق.» وتابعت: «إنه كتاب عنصري. الطريقة التي يرى بها كونراد الأشياء؛ أفريقيا هي بالوعة العالم، والسود بربريون وأي اتصال بهم يؤدي إلى العدوى.»
نفخت ريجينا في قهوتها. وقالت: «لماذا تقرؤه إذن؟» «لأننا مكلفون بدراسته.» ثم توقفت غير واثق مما إذا كان من المفترض أن أستكمل. وتابعت: «ولأن ...» «لأن ...» «لأن الكتاب يعلمني أشياء.» وتابعت: «أعني عن البيض. إن الكتاب في الواقع ليس عن أفريقيا. أو السود. إنه عن الشخص الذي كتبه. الرجل الأوروبي. الرجل الأمريكي. طريقة بعينها للنظر إلى العالم. فإذا استطعت أن تحافظي على المسافة بينك وبينه، فستجدين كل شيء هنا سواء فيما قيل أو ما لم يقل. ولهذا فإني أقرأ الكتاب كي يساعدني على فهم ما الذي يجعل البيض خائفين بهذا الشكل. وأعرف شياطينهم. الطريقة التي تنحرف بها الأفكار. إنه يساعدني في فهم كيف يتعلم الناس الكراهية.» «وهذا مهم لك.»
فكرت في نفسي أن حياتي تعتمد على هذا. لكني لم أقل ذلك لريجينا. ابتسمت فقط وقلت: «هذه هي الطريقة الوحيدة لعلاج أي مرض؛ تشخيصه، أليس كذلك؟»
ابتسمت هي الأخرى وارتشفت من قهوتها. كنت قد رأيتها من قبل، عادة وهي تجلس في المكتبة وبين يديها كتاب، وهي فتاة ضخمة الجسد سوداء البشرة ترتدي جوارب وملابس تبدو مصنعة في المنزل، وكذلك نظارة كبيرة الحجم لها لون خفيف وإيشارب يغطي رأسها دائما. كنت أعلم أنها في السنة قبل الأخيرة، وكانت تساعد في تنظيم الاحتفالات التي تقام من حين لآخر للطلاب السود ولا تخرج كثيرا. أخذت تقلب قهوتها بخمول وسألت: «ما الاسم الذي خاطبك به ماركوس الآن؟ إنه اسم أفريقي أليس كذلك؟» «باراك.» «ظننت أن اسمك باري.» «باراك هو اسمي الأول. وهو اسم أبي. وكان كينيا.» «هل يعني شيئا؟» «يعني «مبارك» باللغة العربية. فجدي كان مسلما.»
رددت ريجينا الاسم لنفسها. وقالت: «باراك. إنه اسم جميل.» ثم انحنت إلى الأمام وهي تختبر الصوت. وتابعت: «لماذا إذن يخاطبك الجميع باسم باري؟» «أظن أنها عادة. فقد استخدمه أبي عندما وصل إلى الولايات المتحدة. ولا أدري هل كانت تلك فكرته أم فكرة شخص آخر. وعلى الأرجح استخدم باري لأنه أسهل في النطق. فقد ساعده ذلك على الاندماج. ثم ورثته أنا. حتى أستطيع الاندماج.» «هل تمانع إذا خاطبتك باسم باراك؟»
فابتسمت وقلت: «لا ما دمت تنطقينه نطقا صحيحا.»
أمالت رأسها بنفاد صبر، وفمها في وضع ساخر وعيناها على وشك أن تستسلما للضحك. انتهى بنا الأمر إلى قضاء فترة ما بعد الظهيرة معا، نتحدث ونحتسي القهوة. وأخبرتني عن طفولتها في شيكاغو، والأب الغائب والأم المكافحة، والمبنى السكني المكون من ست وحدات سكنية في الجزء الجنوبي من شيكاغو الذي لم يكن دافئا بما يكفي أبدا في الشتاء، وشديد الحرارة في الصيف حتى إن الناس كانوا يذهبون للنوم على ضفاف البحيرة. وأخبرتني عن الجيران في المنطقة السكنية التي تقطن بها، وعن السير أمام الحانات ونوادي البلياردو في الطريق إلى الكنيسة يوم الأحد. وأخبرتني عن الأمسيات وهي في المطبخ مع أقربائها وجديها ومزيج الأصوات الذي يعلو بالضحكات. وقد أثار صوتها صورة لحياة عائلة سوداء بجميع إمكانياتها، صورة ملأتني بالاشتياق، اشتياق للمكان وللتاريخ المحدد الثابت. وعندما نهضنا لنغادر، أخبرت ريجينا أنني أحسدها. «علام؟» «لا أعلم. ربما على ذكرياتك.»
فنظرت إلي ثم أطلقت ضحكة عالية من أعماقها. «ما الذي يضحكك بهذا الشكل؟»
فقالت وهي تحاول التقاط أنفاسها: «أوليست الحياة غريبة حقا يا باراك؟ فأنا كنت أتمنى طوال حياتي لو أني نشأت في هاواي!» •••
من الغريب كيف يمكن أن يغيرك حوار واحد. أو ربما لا يبدو الأمر كذلك إلا عندما تفكر فيه بعد مرور الزمن. فيمر عام وتعرف أنك تشعر بشعور مختلف، لكنك لا تعرف عن يقين ماذا أو لماذا أو كيف؛ لذا فإن عقلك يعود إلى الوراء بحثا عن شيء من الممكن أن يكون هو ما شكل هذا الشعور؛ كلمة، نظرة، لمسة. أعلم أني شعرت أن صوتي عاد إلي، بعد غياب طويل، في ظهر ذلك اليوم مع ريجينا. وظل مهتزا بعد ذلك عرضة للتزييف. لكن في عامي الدراسي الثاني شعرت بذلك الجزء الثابت الصادق من نفسي يصبح أقوى، وأكثر صلابة ليكون بمنزلة جسر بين مستقبلي وماضي.
في ذلك الوقت تقريبا اشتركت في حملة المقاطعة وسحب الاستثمارات. وقد بدأت تلك الحملة على سبيل المزاح على ما أظن، جزءا من ذلك الموقف المتطرف الذي سعيت أنا وأصدقائي للحفاظ عليه، ومراوغة من اللاوعي عن موضوعات أقرب للوطن. لكن مع مرور الأشهر وجدت نفسي أنجذب لدور أكبر - فتوليت الاتصال بممثلين عن المؤتمر الوطني الأفريقي لإلقاء خطب في الحرم الجامعي، وكتابة مسودات خطابات للكلية، وطباعة منشورات ومناقشة استراتيجيات - ولاحظت أن الناس بدءوا يستمعون إلى آرائي. وهو الاكتشاف الذي جعلني أتوق للكلمات. ليست كلمات أختبئ خلفها، لكن كلمات يمكن أن تحمل رسالة وتدعم فكرة. وعندما بدأنا نخطط للتجمهر من أجل اجتماع الأمناء، واقترح أحد أن أفتتح أنا الحدث، أسرعت بالموافقة. واكتشفت أنني كنت مستعدا، وأستطيع الوصول إلى الناس في أي موقف. ورأيت أن صوتي لن يخذلني.
والآن لنر. ترى ما الذي كنت أفكر فيه في تلك الأيام التي سبقت التجمهر؟ كانت الأجندة قد أعدت بحرص شديد مسبقا، وكان من المفترض أن أبدي بعض الملاحظات الافتتاحية فقط، ثم وبينما أتحدث يصعد اثنان من الطلاب البيض على المسرح يرتدون زيهم الموحد الذي يشبه الزي العسكري ليسحبوني بعيدا. شيء ما يشبه الدراما التي تمثل في المسارح الارتجالية في الشارع؛ أي طريقة لإضفاء لمحة درامية على الموقف من أجل النشطاء في جنوب أفريقيا. كنت أعرف الأحداث؛ فقد ساعدت في التخطيط للنص. لكن عندما جلست أعد بعض الملاحظات لما يمكن أن أقول، حدث شيء ما. وفي عقلي أصبح الأمر أكثر من مجرد حديث عمره دقيقتان، أكثر من طريقة لإثبات التزامي السياسي. فبدأت أتذكر زيارة أبي لفصل الآنسة هيفتي، والنظرة على وجه كوريتا في ذلك اليوم، وقوة كلمات أبي على إحداث التغيير. وفكرت في نفسي أن كل ما أحتاج إليه هو إيجاد الكلمات المناسبة. فبالكلمات المناسبة يمكن أن يتغير كل شيء: جنوب أفريقيا ، حياة أطفال الجيتو الذين يعيشون على بعد أميال قليلة فقط مني، ومكاني الضعيف في العالم.
وعندما صعدت على المسرح كنت لا أزال في تلك الحالة من النشوة. لا أدري كم من الوقت وقفت هناك والشمس ساطعة في عيني مباشرة، وأمامي حشد من بضع مئات من الأفراد متململين بعد تناول وجبة الغداء. وكان هناك طالبان يلعبان بقذف الطبق البلاستيكي الطائر بينهما على الحشائش، وآخرون يقفون بعيدا على الجانب مستعدون لاقتحام المكتبة في أية لحظة. ودون أن أنتظر أية إشارة للبدء، تقدمت إلى الميكروفون.
قلت: «هناك صراع دائر.» لم يصل صوتي إلى أبعد من الصفوف القليلة الأولى. فنظر عدد قليل للأعلى، وانتظرت أنا حتى هدأت الجموع. «أقول إن هناك صراعا دائرا!»
توقف اللاعبان عن قذف الطبق الطائر. «يفصل بيننا وبينه المحيط. لكنه صراع يمس كل واحد منا. سواء أكنا نعرفه أم لا. سواء أكنا نريده أم لا. إنه صراع يتطلب منا أن نختار إلى أي جانب نقف. إنه ليس بين السود والبيض. ليس بين الأثرياء والفقراء. كلا، إنه اختيار أصعب من هذا. إنه اختيار بين الكرامة والعبودية. بين العدالة والظلم. بين الالتزام واللامبالاة. اختيار بين الصواب والخطأ ...»
توقفت. وكانت الجموع هادئة وتراقبني. فبدأ أحدهم بالتصفيق، وصاح آخر: «استمر يا باراك.» وتابع: «أخبرنا بالواقع كما هو.» ثم بدأ الآخرون يصفقون ويهللون، وعرفت أنني نجحت في جذب انتباههم، وأنني نجحت في جعلهم يفهمون الصلة. فأمسكت الميكروفون مستعدا للاستمرار عندما شعرت بيد أحد تجذبني من الخلف. وبالضبط كما خططنا، كان أندي وجوناثان يقفان متجهمين خلف نظارتيهما السوداوين. وبدآ يسحبانني من على المسرح، وكان من المفترض أن أمثل أني أحاول التحرر من أيديهما، لكن جزءا مني لم يكن يمثل؛ فقد أردت البقاء على المسرح بالفعل، وسماع صوتي يصل إلى الجماهير ويعود إلي محملا بالإطراء. كان لا يزال لدي الكثير لأقوله.
لكن دوري قد انتهى. فوقفت على الجانب في حين صعد ماركوس وأمسك بالميكروفون وهو يرتدي قميصه الأبيض ورداءه الجينز، وبجسده النحيل وقامته المنتصبة ووجهه الأسود. وشرح للجماهير ما شاهدوه للتو، والسبب في أن مراوغات الإدارة في اتخاذ موقف بشأن الموضوعات المتعلقة بجنوب أفريقيا غير مقبولة. ثم صعدت ريجينا وتحدثت عن الفخر الذي شعرت به عائلتها عندما التحقت هي بالجامعة، والخزي الذي كانت تشعر هي به في ذلك الوقت عندما علمت أنها جزء من مؤسسة تدفع مقابل تميزها من أرباح القمع. وكان يجب أن أشعر بالفخر بكليهما؛ فقد كانا فصيحين في حديثيهما، ويمكن القول إن مشاعر الجماهير قد أثيرت. لكنني في الحقيقة لم أعد أستمع إليهما. كنت أقف في الخارج مرة أخرى أشاهد، وأحكم، وأشك. وفي عيني بدونا فجأة على حقيقتنا؛ هواة مرفهين منعمين، بتلك العصابات الحريرية الشفافة السوداء التي كنا نلفها حول أذرعنا، والإشارات المرسومة باليد ووجوهنا الشابة الجادة. وعاد لاعبا الطبق الطائر إلى لعبتهما. وعندما بدأ الأمناء يصلون لاجتماعهم، وقف بعض منهم خلف الجدران الزجاجية لمبنى الإدارة ليراقبونا، ولاحظت الرجال البيض الكبار في السن يضحكون فيما بينهم، حتى إن أحدهم لوح باتجاهنا. فقلت لنفسي إن الأمر برمته ليس إلا مسرحية هزلية؛ التجمهر والرايات وكل شيء. مجرد تسلية جميلة لفترة بعد الظهيرة، مسرحية في المدرسة دون حضور الوالدين. وكنت أنا وخطبتي التي استمرت دقيقة واحدة أكبر مسرحية هزلية.
وفي الحفل ذلك المساء، جاءت ريجينا إلي وهنأتني. فسألتها علام. «على ذلك الخطاب الرائع الذي ألقيته.»
فتحت علبة جعة. وقلت: «لقد كان قصيرا، على أية حال.»
تجاهلت ريجينا السخرية في حديثي. وقالت: «هذا ما جعله مؤثرا للغاية.» وتابعت: «لقد تحدثت من قلبك يا باراك. وهذا جعل الناس يريدون سماع المزيد. وعندما جذباك بعيدا، كان كما لو ...»
فقاطعتها قائلا: «اسمعيني يا ريجينا، إنك سيدة لطيفة حقا. وأنا سعيد أنك استمتعت بأدائي القصير اليوم. لكن هذه هي المرة الأخيرة التي ستستمعين فيها إلى أي حديث مني. سأترك هذا الوعظ لك ولماركوس، أما أنا فقررت أنه ليس لي شأن بالتحدث نيابة عن السود.» «ولماذا؟»
ارتشفت من الجعة، وعيناي تدوران في الراقصين أمامنا. ثم قلت: «لأنه ليس لدي ما أقوله يا ريجينا . ولا أعتقد أننا صنعنا أي فارق بما فعلناه اليوم . لا أعتقد أن ما يحدث لطفل في منطقة سويتو بجنوب أفريقيا يمثل فارقا للأشخاص الذين كنا نتحدث إليهم. الكلام العذب لا يصنع فارقا. فلماذا إذن أتظاهر بغير ذلك؟ سأخبرك أنا لماذا. لأن هذا يجعلني أشعر أنني مهم. لأنني أحب الإطراء. فهذا يجعلني أشعر بإثارة جميلة رخيصة. هذا كل ما في الأمر.» «إنك لا تعتقد هذا حقا.» «هذا ما أعتقد حقا.»
فحدقت في حائرة تحاول أن تعرف هل أخدعها. ثم قالت في النهاية وهي تحاول أن تجاري نبرتي في الحديث: «حسنا، ربما أمكنك أن تخدعني.» وتابعت: «إذ تخيلت أنني كنت أستمع إلى رجل يؤمن بشيء. رجل أسود يهتم. لكن أظن أنني غبية.»
أخذت جرعة كبيرة من الجعة ولوحت لشخص يدخل من الباب. وقلت: «إنك لست غبية يا ريجينا. إنك ساذجة.»
فتراجعت خطوة إلى الوراء وهي تضع يديها على فخذيها. ثم قالت: «ساذجة؟ أنت تنعتني بالساذجة؟ لا، لا أظن هذا. إذا كان هناك شخص ساذج، فهو أنت. أنت من يظن أنه يستطيع الهروب من نفسه. أنت من يظن أنه يمكنه تجنب ما يشعر به.» وألصقت إصبعها بصدري. وقالت: «أتريد أن تعرف ما مشكلتك الحقيقية؟ إنك تظن دائما أن كل شيء يتعلق بك. إنك بالضبط مثل ريجي وماركوس وستيف وجميع الإخوة هنا. تعتقد أن التجمع من أجلك. والحديث من أجلك. والجرح جرحك أنت. حسنا، دعني أخبرك أمرا يا سيد أوباما. الأمر لا يتعلق بك أنت فقط. لم يكن البتة يتعلق بك أنت فقط، إنه يتعلق بأناس يحتاجون إلى مساعدتك. الأطفال الذين يعتمدون عليك. إنهم لا يهتمون بسخريتك ولا بتعقيدك أو بذاتك المجروحة. ولا أنا كذلك.»
وفي الوقت الذي كانت تنهي فيه حديثها، خرج ريجي من المطبخ ثملا أكثر مني، وجاء إلينا وطوق كتفي بذراعه. وقال: «أوباما، إنه حفل رائع يا رجل!» وابتسم ابتسامة ساذجة لريجينا. وتابع: «دعيني أخبرك شيئا يا ريجينا. أنا وأوباما يعرف أحدنا الآخر منذ وقت طويل. كان يجب أن تري حفلاتنا العام الماضي هناك في المدينة الجامعية. أتذكر يا رجل ذلك الوقت عندما ظللنا مستيقظين طوال العطلة الأسبوعية؟ 40 ساعة، بلا نوم. بدأنا صباح السبت، ولم نتوقف حتى يوم الإثنين.»
حاولت أن أغير الموضوع لكن ريجي كان يكمل حديثه. قال: «لقد كان حفلا جامحا يا ريجينا. وعندما ظهرت الخادمات صباح يوم الإثنين، كنا لا نزال جميعا نجلس في الرواق نشبه الأموات الأحياء. والزجاجات في كل مكان. وكذلك أعقاب السجائر. والصحف. وتلك البقعة التي تقيأ فيها جيمي ...» والتفت ريجي إلي وبدأ يضحك ويسكب المزيد من الجعة على السجادة. وقال: «إنك تتذكر أليس كذلك؟ كانت القاذورات بشعة، وبدأ أولئك السيدات المكسيكيات الصغيرات بالبكاء. وصرخت إحداهن: «يا إلهي» باللغة الإسبانية وبدأت الأخرى تربت على ظهرها. اللعنة، لقد كنا مجانين ...»
ابتسمت ابتسامة واهية، وأنا أشعر بريجينا تحدق إلى عيني مباشرة حتى شعرت بالخجل مثل الشخص المثير للازدراء الذي كنت عليه. وعندما بدأت في التحدث أخيرا كان كما لو أن ريجي غير موجود.
تحدثت في همس وصوتها يرتجف. قالت: «هل تظن أن هذا مضحك؟» وتابعت: «هل هذا هو الحقيقي في نظرك يا باراك؛ إحداث الفوضى كي ينظفها شخص آخر؟ كان من الممكن أن تكون تلك السيدة هي جدتي. فقد قضت معظم حياتها تنظف ما يخلفه الآخرون من فوضى. وأراهن أن أولئك الذين كانت تعمل لديهم كانوا يظنون أن هذا مضحك أيضا.»
ثم انتزعت حقيبتها من على منضدة القهوة واندفعت نحو الباب. فكرت في أن أركض وراءها لكني لاحظت أن عددا قليلا من الناس يحدقون إلي ولم أرد أن أجذب المزيد من الأنظار. فجذب ريجي ذراعي وهو يبدو متألما وحائرا مثل طفل تائه.
وقال: «ما خطبها؟»
فقلت: «لا شيء.» وأخذت الجعة من يد ريجي ووضعتها على رف الكتب. وتابعت: «إنها فقط تؤمن بأشياء غير موجودة في الحقيقة.» •••
نهضت من على الأريكة، وفتحت بابي الأمامي، ولاحقني دخان السجائر المحتجز في الغرفة إلى الخارج وكأنه شبح. وفي السماء كان القمر قد اختفى عن الأنظار، ولم يكن واضحا منه سوى توهجه على طول حافة السحب العالية. وبدأت السماء تنير، ورائحة الندى تملأ الهواء.
انظر إلى نفسك قبل أن تصدر الأحكام. لا تجعل أحدا آخر ينظف ما تخلفه من فوضى. الأمر لا يتعلق بك. كانت هذه أفكارا بسيطة؛ عظات سمعتها ألف مرة من قبل في جميع صورها المختلفة في برامج كوميديا الموقف في التليفزيون وكتب الفلسفة، ومن جدي ووالدتي. وأدركت في ذلك الوقت أنني في وقت ما توقفت عن الإصغاء إليهم، وأدركت كم كنت مستغرقا حتى أذني في جراحي التي أشعر بها، وكم كنت متلهفا للهروب من الشراك الوهمية التي أعدتها لي السلطة البيضاء. وكنت مستعدا لأن أتخلى عن قيم طفولتي إلى ذلك العالم الأبيض، كما لو أن تلك القيم قد تلوثت بصورة نهائية بالأكاذيب اللانهائية التي كان البيض يقولونها عن السود.
إلا أنني أصبحت أسمع الأمر نفسه من أناس سود أكن لهم الاحترام، أناس لديهم من أسباب الشعور بالمرارة أكثر مما يمكن أن أدعيه لنفسي. وسألوني: من قال لك إن الأمانة صفة تقتصر على البيض؟ من خدعك وأخبرك أن موقفك يعفيك من أن تكون مفكرا أو مجتهدا أو طيبا؟ أو أن الأخلاق لها لون؟ لقد ضللت طريقك يا أخي. وأصبحت أفكارك عن نفسك - عمن أنت ومن قد تصبح - غير مكتملة ومحدودة وصغيرة.
جلست على عتبة الباب وحككت ظهر عنقي. وبدأت أسأل نفسي: كيف حدث هذا؟ لكن حتى قبل أن يتكون السؤال في ذهني، كنت أعرف الإجابة بالفعل. إنه الخوف. الخوف نفسه الذي جعلني أدفع كوريتا بعيدا عني في المدرسة الابتدائية. الخوف نفسه الذي جعلني أهزأ بتيم أمام ماركوس وريجي. الخوف الدائم المسبب للعجز من أنني لا أنتمي إليهم بشكل ما، وأنني لو لم أراوغ وأختبئ وأتظاهر بأني شخص لست عليه، سأظل دائما غريبا عن باقي العالم، سواء للسود أو البيض، دائما أخضع لأحكام الآخرين.
ولهذا فقد كانت ريجينا على حق، إن الأمر يتعلق بي فقط. بخوفي. باحتياجاتي. والآن ماذا؟ تخيلت جدة ريجينا في مكان ما، وظهرها محني، وذراعها تهتز وهي تنظف الأرض التي لا تنتهي. وببطء، رفعت السيدة العجوز رأسها لتنظر إلي مباشرة، وفي وجهها الواهن رأيت أن ما يربطنا معا كان شيئا أكبر من الغضب أو اليأس أو الشفقة.
ماذا كانت تطلب مني في ذلك الوقت؟ العزم على الأرجح. العزم على أن أقاوم أية قوة جعلتها تقف محنية الظهر وليست منتصبة القامة. العزم على مقاومة الأشياء السهلة أو المناسبة. وقرأت في عينيها: قد تكون محتجزا في عالم ليس من صنعك، لكن لا يزال لديك حق في تقرير كيفية تشكيله. لا تزال لديك مسئوليات.
تلاشى وجه السيدة العجوز من ذهني، وحلت محله سلسلة من الوجوه الأخرى. وجه الخادمة المكسيكية البني المائل إلى الحمرة وهي تجاهد لتحمل القمامة. ووجه والدة لولو الغارق في الحزن وهي ترى الهولنديين يحرقون منزلها. ووجه جدتي الأبيض بشفتيها المغلقتين في حزم وهي تستقل حافلة السادسة والنصف صباحا إلى عملها. ضيق الأفق والذعر فقط هو ما دفعني لأن أفكر أنه علي الاختيار بينهن. وجميعهن، جداتي كلهن، طلبن الشيء نفسه مني.
فقد تبدأ هويتي بحقيقة عرقي، لكنها لا تنتهي، ولا يمكنها أن تنتهي، عند ذلك الحد.
على الأقل هذا ما سأختار أن أومن به.
ولبضع دقائق أخرى جلست هناك عند باب الغرفة، أراقب الشمس وهي تنزلق إلى مكانها في السماء، أفكر في المكالمة التي سأجريها مع ريجينا في ذلك اليوم. ومن خلفي، كانت بيلي تشدو بآخر أغانيها. فأخذت أكرر اللازمة التي تتكرر في الأغنية وأغمغم ببعض المقاطع. وبدا صوتها مختلفا في أذني. فأسفل طبقات الجراح، وأسفل الضحكات المنهكة، سمعت صوت رغبة في الصمود. الصمود، وإبداع موسيقي لم يكن موجودا من قبل.
الفصل السادس
قضيت أول ليلة لي في مانهاتن منكمشا على نفسي في زقاق. ولم يكن ذلك عمدا، فعندما كنت في لوس أنجلوس سمعت أن صديقة صديق لي ستخلي شقتها في حي سبانيش هارلم بالقرب من كولومبيا، وأنه نظرا لسوق العقارات في نيويورك رأيت من الأفضل أن أقتنص أنا الشقة بمجرد أن أستطيع. وقد توصلنا إلى اتفاق، وأبرقت إليها بالموعد الذي سأصل فيه في شهر أغسطس، وبعد أن جررت أغراضي في المطار والقطار النفقي وميدان تايمز وعبر شارع 109 من جادة برودواي إلى جادة أمستردام، وصلت أخيرا إلى باب المبنى، بعد أن تخطت عقارب الساعة العاشرة مساء ببضع دقائق.
قرعت جرس المبنى بالأسفل عدة مرات، ولم يجب أحد. وكان الشارع خاويا، والمباني على كلا الجانبين مغطاة بقطع من الخشب، مما جعلها تبدو كمجموعة من الظلال المستطيلة الشكل. وفي النهاية ظهرت شابة من بورتوريكو من المبنى وألقت نظرة عصبية علي قبل أن تتجه إلى الشارع. فهرعت لألحق بالباب قبل أن يغلق، وتقدمت وأنا أجر أغراضي خلفي إلى الأعلى لأطرق باب الشقة، ثم تحولت الطرقات إلى قرع شديد. لكن لم يجب أحد أيضا، ولم أسمع إلا صوت باب يغلق في مدخل المبنى.
هذه هي نيويورك بالضبط كما تخيلتها. فحصت محفظتي، واكتشفت أنني لا أملك ما يكفي من النقود للمبيت في نزل. ولم أكن أعرف سوى شخص واحد في نيويورك، شاب اسمه صادق قابلته في لوس أنجلوس، لكنه كان قد أخبرني أنه يعمل طوال الليل في حانة في مكان ما. ولأنه لم يكن بوسعي سوى الانتظار، حملت أغراضي إلى الأسفل مرة أخرى وجلست عند مدخل المبنى. وبعد مرور بعض الوقت، وضعت يدي في جيبي الخلفي، وأخرجت الخطاب الذي كنت أحمله معي منذ أن غادرت لوس أنجلوس:
ابني الحبيب
كانت مفاجأة سارة حقا أن أتلقى منك خطابا بعد مرور كل هذه المدة. أنا بخير وأقوم بتلك الأشياء التي تعرف أنها متوقعة مني في هذا البلد. لقد عدت لتوي من لندن حيث كنت أهتم بإنجاز بعض الأعمال الخاصة بالحكومة وأناقش أمور التمويل وغيرها. في الحقيقة نادرا ما أكتب إليك بسبب هذه الأسفار الكثيرة. وعلى أية حال، أظن أن الوضع سيتحسن من الآن فصاعدا.
ستسعد عندما تعلم أن جميع إخوتك وأخواتك هنا بخير، ويرسلون لك تحياتهم. وقد رحبوا بشدة بقرار عودتك إلى وطنك بعد التخرج مثلي تماما. وعندما تأتي نقرر معا كم من الوقت تريد أن تبقى. باري، حتى إذا كانت الزيارة ستستمر بضعة أيام فحسب، فمن الضروري أن تعرف شعبك وأن تعرف المكان الذي تنتمي إليه أيضا.
رجاء اعتن بنفسك، وتحياتي إلى والدتك وجدتك وستانلي. وأتمنى أن أتلقى خطابات منك قريبا.
مع حبي
والدك
طويت الخطاب وأعدته إلى جيبي مرة أخرى. لم يكن من السهل أن أكتب إليه، فقد انقطعت كل المراسلات بيننا على مدار السنوات الأربع السابقة. وفي الحقيقة وضعت للخطاب عدة مسودات، وحذفت أسطرا كاملة، وكنت أجاهد لأكتب بالنبرة المناسبة وأقاوم الرغبة في تفسير الكثير من الأمور. فلم أكن أدري كيف أبدأ الخطاب: «والدي العزيز». أم «أبي الحبيب». أم «عزيزي الدكتور أوباما». وها هو ذا قد أجاب على خطابي بابتهاج وهدوء. ونصحني أن أعرف المكان الذي إليه أنتمي. وجعل الأمر يبدو سهلا مثل أن تجيب عليك الموظفة في خدمة استعلامات شركة الهاتف: «الاستعلامات، أي مدينة من فضلك؟» «لا أدري ... أتمنى لو أنك تخبرينني. الاسم هو أوباما. إلى أين أنتمي؟»
ربما يكون الأمر بهذه البساطة من وجهة نظره حقا. وتخيلت أبي وهو يجلس إلى مكتبه في نيروبي، رجلا مهما في الحكومة لديه موظفون وسكرتارية يقدمون له أوراقا ليعتمدها، ووزير يتصل به طالبا منه النصيحة، وزوجة محبة وأطفال ينتظرونه في المنزل، وقرية والده على بعد يوم واحد بالسيارة. وقد جعلتني هذه الصورة غاضبا بصورة ما، وحاولت أن أنحيها جانبا وأركز بدلا من هذا على صوت موسيقى «الصلصا» الذي يأتي من نافذة مفتوحة في مكان ما في المجمع السكني. لكن ظلت الأفكار نفسها تعاودني وتتواصل كخفقات قلبي.
إلى أين أنتمي؟ ربما يكون ذلك الحوار مع ريجينا في تلك الليلة بعد التجمهر قد أحدث تغييرا بداخلي، وتركني مليئا بالنوايا الحسنة. لكني كنت مثل سكير يتعافى من فترة طويلة ومؤلمة من الإسراف في الشراب، وسرعان ما شعرت بالعزم الجديد الذي كان يملؤني يهرب مني، دون هدف أو اتجاه. وقبل عامين من التخرج لم يكن لدي أدنى فكرة عما سأفعله في حياتي، أو حتى أين سأعيش. وكانت هاواي تستلقي خلفي مثل حلم الطفولة، ولم أعد أتخيل الاستقرار هناك . وبصرف النظر عما يمكن أن يقوله أبي، كنت أعرف أنه فات الأوان على اعتبار أفريقيا وطني حقا. وإذا كنت قد أصبحت أفهم نفسي على أنني أمريكي أسود، ويعرفني الجميع بهذا، فإن هذه المعرفة ظلت غير مستقرة. وأدركت أن ما أحتاج إليه هو مجتمع، مجتمع أكبر من اليأس المشترك الذي كنت أشارك أصدقائي السود الشعور به ونحن نقرأ آخر إحصائيات الجرائم، أو عند التحية براحة اليد وهي مرفوعة التي يمكن أن نتبادلها في ملعب كرة السلة. والآن فإنني أحتاج إلى مكان يمكنني أن أستقر فيه وأختبر ما أومن به من أفكار.
وهكذا، عندما سمعت عن برنامج الانتقال الذي نظمته كلية أوكسيدينتال مع جامعة كولومبيا أسرعت بالتقدم إليه. ورأيت أنه إذا لم يكن هناك طلاب سود في كولومبيا أكثر من الموجودين في أوكسيدينتال فسأكون على الأقل في قلب مدينة حقيقية، وسيكون إلى جواري أحياء يقطنها السود. كما أنه لم يكن هناك الكثير الذي يربطني بلوس أنجلوس. فقد كان معظم أصدقائي سيتخرجون ذلك العام، وحسن سيرحل ليعمل مع عائلته في لندن، وريجينا ستسلك طريقها إلى منطقة الأندلس ذاتية الحكم لإجراء دراسة عن الغجر الإسبانيين.
وماذا عن ماركوس؟ لم أدر بالضبط ماذا حدث لماركوس. فقد كان لا يزال أمامه عام آخر قبل التخرج، لكن شيئا ما حدث له أثناء عامه قبل الأخير، شيء عرفته وإن كنت لم أستطع أن أحدد له اسما. تذكرت في إحدى الأمسيات عندما كنت أجلس معه في المكتبة قبل أن يقرر ترك مقاعد الدراسة. وكان هناك طالب إيراني أصلع أكبر سنا له عين زجاجية يجلس على الجانب الآخر من الطاولة، وقد لاحظ أن ماركوس يقرأ كتابا عن اقتصاديات العبودية. ومع أنه نقل عينيه إلى الإيراني في نظرة مهددة، فقد كان الرجل ودودا وفضوليا، وفي النهاية انحنى إلى الأمام على الطاولة وطرح على ماركوس سؤالا عن الكتاب.
قال: «أخبرني من فضلك.» وتابع: «كيف برأيك سمح لشيء مثل العبودية أن يستمر كل هذه السنوات الطويلة؟» «البيض لا يعتبروننا بشرا. الأمر بهذه البساطة .» وتابع: «ومعظمهم لا يزالون.» «نعم، أفهم هذا. لكن ما قصدت السؤال عنه هو لماذا لم يحارب السود؟» «لقد حاربوا بالفعل. أناس مثل نات تيرنر، ودنمارك فيسي ...»
فقاطعه الإيراني قائلا: «ثورات العبيد.» لقد قرأت شيئا عنها. لقد كانوا رجالا شجعانا. لكنهم قليلون. فلو كنت عبدا، ورأيت ما كان يفعله أولئك الناس بزوجتي وأطفالي ... كنت أفضل الموت. هذا هو ما لا أفهمه، لماذا لم يحارب الكثير من الرجال على الإطلاق. حتى الموت، أفهمت ما أعنيه؟»
نظرت إلى ماركوس منتظرا ردا منه، لكنه ظل صامتا. ولم يبد على وجهه غضب ما بدا عليه من شحوب، وظلت عيناه تركزان على نقطة ما على الطاولة. وقد حيرني أنه لم يجب، لكن بعد وهلة من الصمت، توليت أنا دفة الهجوم، وسألت الإيراني هل يعرف أسماء الآلاف الذين قفزوا إلى مياه تعج بأسماك القرش قبل أن تصل السفن التي أسروا على متنها إلى الموانئ الأمريكية؛ وسألته هل كان سيفضل الموت بمجرد أن ترسو السفن، إذا عرف أن الثورة لن تعود على النساء والأطفال إلا بمزيد من المعاناة. وهل كان تعاون بعض العبيد مختلفا عن صمت بعض الإيرانيين الذين وقفوا يتفرجون ولم يفعلوا شيئا وسفاحو السافاك يقتلون ويعذبون مناهضي الشاه؟ كيف يمكننا أن نحكم على الآخرين إلا إذا كنا مكانهم؟
بدت هذه الملحوظة الأخيرة وكأنها فاجأت الرجل، وأخيرا عاد ماركوس للمشاركة في الحوار، وذكر أحد أقوال مالكولم إكس المأثورة القديمة عن الاختلاف بين زنوج المنزل وزنوج الحقل. لكنه تحدث كما لو أنه لم يكن مقتنعا بكلماته، وبعد بضع دقائق نهض فجأة واتجه نحو الباب.
لم أتحدث أنا وماركوس عن ذلك الحوار قط. ربما لم يكن هذا سيفسر شيئا؛ فقد كانت هناك أسباب أكثر من كافية لشخص مثل ماركوس كي لا يشعر بالارتياح في مكان مثل أوكسيدينتال. بالإضافة إلى أنني في الشهور التي تبعت بدأت ألاحظ تغيرات على ماركوس، كما لو أن أشباحا هربت عبر شقوق عالمنا الآمن المشمس وتطارده . في البداية أصبح أكثر تعبيرا عن فخره العنصري. فاعتاد ارتداء ملابس مطبوع عليها صور أفريقية في الفصل، وبدأ في محاولة إقناع الإدارة بأن تكون هناك مدينة جامعية مخصصة لإقامة السود فقط. وبعد ذلك أصبح أكثر تحفظا. وبدأ يهمل حضور المحاضرات، وزاد تعاطيه للماريجوانا. وأطلق لحيته وترك شعره ينمو في جدائل طويلة.
وفي النهاية أخبرني أنه سيأخذ إجازة من الدراسة لبعض الوقت. قال: «إنني أحتاج إلى راحة من هذا الهراء.» كنا نسير في متنزه في كومبتون نقضي بعض الوقت هناك في احتفال يستغرق اليوم بأكمله، وكان يوما جميلا. الجميع يرتدون شورتات قصيرة، والأطفال يصيحون وهم يركضون على الحشائش، لكن ماركوس بدا مشتت الانتباه ونادرا ما يتحدث. ولم يبد أنه عاد إلى الحياة مرة أخرى إلا عندما مررنا بفرقة تعزف على طبول البونجو. جلسنا إلى جوارهم أسفل شجرة والصوت يأسر انتباهنا، وراقبنا الأيدي السوداء التي لا تكاد تتلاحم وهي ترقص. وبعد وهلة بدأت أشعر بالملل فمشيت بعيدا عنهم وتحدثت إلى سيدة جميلة تبيع فطائر باللحم. وعندما عدت كان ماركوس لا يزال في المكان نفسه، لكنه بدأ يعزف هو الآخر، فوجدته يجلس القرفصاء بقدميه الطويلتين وعلى حجره طبلتا بونجو صغيرتان استعارهما. ومن خلال ضباب السجائر الرقيق الذي أحاط به كان وجهه جامدا يخلو من التعبيرات، وعيناه شبه مغمضة كما لو كان يحاول إبعاد ضوء الشمس. راقبته لساعة تقريبا وهو يعزف دون إيقاع أو اختلاف في الأصوات، لا يفعل شيئا سوى القرع على الطبلتين بعنف كما لو أنه يدفع بعيدا ذكريات لا يعرفها أحد. وفي ذلك الوقت أدركت أن ماركوس يحتاج إلى مساعدتي مثلما أحتاج أنا إلى مساعدته، وأدركت أيضا أنني لم أكن الوحيد الذي يبحث عن إجابات.
في تلك اللحظة نظرت إلى الشارع المهجور في نيويورك. هل يعرف ماركوس إلى أين ينتمي؟ هل يعرف أي منا؟ أين الآباء والأعمام والأجداد الذين يمكنهم المساعدة في تفسير هذا الجرح العميق في قلوبنا؟ أين مداوو الجراح الذين يمكنهم مساعدتنا في إنقاذ المعاني من الهزيمة؟ لقد رحلوا ، اختفوا، ابتلعهم الزمان. ولم يتبق سوى صورهم المشوشة وخطاباتهم التي تصل مرة واحدة في العام محملة بالنصائح غير الثمينة. •••
كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل بكثير عندما زحفت عبر سياج يقود إلى زقاق. ووجدت بقعة جافة، فوضعت حقائبي أسفل جسدي وسقطت في سبات عميق وصوت الطبول يشكل أحلامي برقة. وفي الصباح استيقظت ووجدت دجاجة بيضاء تفتش بمنقارها في القمامة بالقرب من قدمي. وعلى الجانب الآخر من الشارع كان هناك متشرد يغتسل من صنبور مياه مفتوح، ولم يعترض عندما انضممت إليه. وفي الشقة لم يكن أحد يجيب، لكن صادقا رد على الهاتف عندما اتصلت به وأخبرني أن أستقل سيارة أجرة إلى شقته في حي «أبر إيست سايد».
وفي الشارع استقبلني صادق، وهو باكستاني قصير القامة قوي البنيان جاء إلى نيويورك من لندن قبل عامين، ووجد أن سخريته اللاذعة ورغبته الجريئة في تكوين ثروة مناسبتان تماما لأجواء المدينة. وقد تجاوز فترة الإقامة المسموح له بها في تأشيرته، وأصبح يكسب عيشه بالعمل نادلا ضمن القوى العاملة من المهاجرين غير الشرعيين الذين يستبدلون بسرعة في نيويورك. وعندما دخلنا الشقة وجدت سيدة في ملابسها الداخلية تجلس على طاولة المطبخ، ومرآة وماكينة حلاقة إلى جوارها.
بدأ صادق يقول: «صوفي، هذا باري ...»
فصححت له: «باراك» وأنا أضع الحقائب على الأرض. لوحت السيدة بعدم اكتراث، ثم أخبرت صادقا أنها ستكون قد رحلت عندما يعود. تبعت صادقا إلى الأسفل مرة أخرى ثم ذهبنا إلى مقهى يوناني على الجانب الآخر من الشارع. واعتذرت مرة أخرى لأني اتصلت به في وقت مبكر للغاية.
فقال: «لا تقلق.» وتابع: «لقد كانت تبدو أجمل بكثير ليلة أمس.» ثم أخذ يفحص قائمة الطعام ثم وضعها جانبا. وسألني: «أخبرني، يا بار- عفوا. باراك. ما الذي جاء بك إلى مدينتنا الجميلة؟»
حاولت أن أشرح له. فأخبرته أنني قضيت الصيف أفكر في شباب أهدر هباء، وحالة العالم وحالة روحي. وقلت: «أريد أن أصلح الأمور.» وتابعت: «أريد أن أجعل من نفسي إنسانا ذا فائدة.»
فتح صادق صفار بيضة بشوكته . وقال: «حسنا يا صديقي ... يمكنك التحدث كما تشاء عن إنقاذ العالم، ولكن هذه المدينة تميل لأن تمحو مثل هذه المشاعر النبيلة تدريجيا. انظر إلى هناك.» وأشار إلى الزحام في الجادة الأولى. «الجميع يهتم بنفسه وبمصالحه فحسب. البقاء للأصلح. أنياب ومخالب. ادفع الرجل الآخر ليبتعد عن طريقك. هذه هي نيويورك يا صديقي. لكن ...» ثم هز كتفيه ومسح بعض البيض بالخبز. قال: «من يدري؟ ربما تكون أنت الاستثناء. وفي هذه الحالة سأرفع لك القبعة.»
ورفع صادق كوب قهوته في تحية ساخرة وعيناه تبحثان عن أية إشارة للتغيير. وعلى مدار الشهور التي تلت كان يستمر في مراقبتي وأنا أتنقل مثل فأر تجارب ضخم عبر طرق مانهاتن الفرعية. وكتم ضحكته عندما استولى شاب ضخم على المقعد الذي عرضته على سيدة في منتصف العمر في المترو. وكان يقودني في أحد فروع بلومينجدال عبر عارضات أزياء كن ينثرن العطر في الهواء، ويراقب رد فعلي وأنا أفحص بطاقات الأسعار المذهلة على معاطف الشتاء. وعرض علي الإقامة عنده مرة أخرى عندما تخليت عن الشقة في شارع 109 بسبب سوء التدفئة بها، وصحبني إلى محكمة الإسكان عندما تبين أن المؤجرين من الباطن لشقتي الثانية لم يدفعوا الإيجار وهربوا بمبلغ العربون الذي أعطيته لهم. «أنياب ومخالب يا باراك. توقف عن الاهتمام بهؤلاء المشردين هنا، وفكر كيف ستكون لنفسك ثروة من هذه الشهادة الجامعية المكلفة التي ستحصل عليها.»
وعندما فقد صادق شقته المؤجرة، أقمنا معا. وبعد بضعة أشهر من الفحص الدقيق، بدأ يدرك أن المدينة كان لها بالفعل تأثير علي، مع أنه لم يكن التأثير الذي توقعه. فقد توقفت عن تعاطي المخدرات. وكنت أركض ثلاثة أميال يوميا وأصوم أيام الآحاد. ولأول مرة منذ سنوات كرست نفسي للدراسة وبدأت أحتفظ بدفتر أدون فيه الأفكار اليومية وشعرا سيئا للغاية. وكلما حاول صادق إقناعي بالذهاب إلى إحدى الحانات اعتذرت بعذر غير مقنع، مثل إن لدي الكثير من الأعمال لأنجزها، أو إنني لا أملك ما يكفي من النقود. وفي أحد الأيام - قبل أن يغادر الشقة بحثا عن صحبة أفضل - استدار ووجه لي أقسى انتقاد.
قال : «إنك تصبح مملا.»
كنت أعلم أنه محق، مع أني لم أكن أنا نفسي أعرف يقينا ماذا حدث. أظن أنني بطريقة ما كنت أؤكد على تقدير صادق لإغراء المدينة، وقدرتها على الإفساد. فمع ازدهار البورصة في وول ستريت أصبحت مانهاتن تعج بالنشاط والحيوية، وأصبحت التطورات تبرز إلى الوجود بغتة في كل مكان؛ فأصبح كثير من الرجال والنساء الذين تجاوزوا العشرينيات من عمرهم بقليل يمتلكون ثروات هائلة، وسار تجار الأزياء على نهجهم. وقد بهر جمال المدينة وتلوثها وضوضاؤها وتبذيرها حواسي؛ فلم يبد أن هناك قيدا على ابتكار أنماط للحياة أو على صناعة الرغبات؛ فهناك دائما مطعم أغلى، أو ملابس أكثر أناقة، أو ملهى ليلي أكثر خصوصية، أو امرأة أجمل، أو مخدر أقوى. ولأني لم أكن واثقا بقدرتي على أن أنتهج منهج الاعتدال، وأخشى السقوط في العادات القديمة، تبنيت موقف - إن لم يكن معتقدات - الواعظ الذي يسير في الشوارع؛ مستعدا لأن أرى الإغواءات في كل مكان، ومتأهب لأن أتجاوز الإرادة الهشة.
ومع ذلك فقد كان رد فعلي أكثر من مجرد محاولة لكبح جماح شهية مفرطة أو استجابة للضغط الحسي. فأسفل ذلك النشاط والحركة، كنت أرى التمزق المستمر للعالم. لقد رأيت فقرا مدقعا في إندونيسيا، ولمحت النزعة العنيفة في أطفال المناطق الفقيرة المكتظة بالسكان في لوس أنجلوس، وأصبحت معتادا في كل مكان على الشك الذي يراود كل عرق تجاه الآخر. لكن سواء أكان هذا بسبب الكثافة السكانية بنيويورك أم بسبب مساحتها، فقد بدأت هناك فقط أستوعب الدقة، التي تضاهي الدقة الرياضية، التي تلتحم بها مشكلات الأجناس والطبقات في أمريكا، وعمق وضراوة الحروب القبلية الناتجة، والغضب والمرارة اللذين يتدفقان بانسيابية، ليس فقط في الخارج في الشوارع، لكن في حمامات جامعة كولومبيا أيضا حيث كانت الجدران، بصرف النظر عن عدد المرات التي حاولت الإدارة طلاءها، لا تزال منقوشا عليها مراسلات فظة بين الزنوج واليهود.
كان الأمر كما لو أن جميع المواقف المعتدلة قد انهارت تماما. وبدا أن ذلك الانهيار كان أكثر وضوحا في مجتمع السود الذي تخيلته بعاطفة قوية وأملت أن أجد بداخله مأوى، أكثر من أي مكان آخر. فقد أقابل صديقا أسود في شركته للمحاماة في وسط المدينة، وقبل أن نتجه لتناول الغداء في مطعم متحف الفن الحديث، أنظر من نافذة مكتبه - الموجود في مبنى شاهق الارتفاع - إلى الجانب الآخر من المدينة باتجاه نهر إيست ريفر، وأتخيل حياة سعيدة؛ إجازة وعائلة ومنزلا. حتى لاحظت أن السود الآخرين في المكتب كانوا إما سعاة أو عمالا، والسود الآخرين في المتحف هم حراس الأمن الذين يرتدون سترات زرقاء ويعدون الساعات قبل أن يمكنهم اللحاق بالقطار والعودة إلى منازلهم في بروكلين أو كوينز.
وفي بعض الأحيان كنت أتجول في هارلم كي ألعب في ملاعب قرأت عنها، أو كي أستمع إلى حديث يلقيه جيس جاكسون في شارع 125، أو - في أوقات نادرة من صباح أيام الآحاد - كي أجلس على المقعد الخلفي في الكنيسة المعمدانية الحبشية، وتبهجني تراتيل الإنجيل الجميلة الحزينة التي يرتلها جوقة المنشدين، وألمح شيئا من ذلك الذي كنت أسعى إليه. ولكن لم يكن لدي مرشد يمكنه أن يريني كيف أنضم إلى هذا العالم المضطرب، وعندما بحثت عن شقة هناك، وجدت المنازل الأنيقة المبنية بالحجر الرملي البني في منطقة شوجر هيل غير شاغرة وبعيدة عن متناول يدي، أما المباني السكنية القليلة المتميزة فكان أمامها قوائم انتظار تمتد لعشر سنوات، ومن ثم لم يتبق سوى صفوف وصفوف من المباني السكنية غير صالحة للسكن كان الشباب يقفون أمامها يعدون قوائم الفواتير الضخمة، ويتنزه أمامها السكارى ويتعثرون ويبكون برفق.
أخذت كل هذا على أنه إهانة لشخصي، سخرية من طموحي الرقيق، مع أني عندما تحدثت عن هذا الأمر أمام أشخاص عاشوا في نيويورك لبعض الوقت، قيل لي إنه لا شيء جديد في هذه الملاحظات. وقالوا إن هذه المدينة خارجة عن السيطرة؛ فالتناقض الشديد ظاهرة طبيعية، مثل الرياح الموسمية أو الانجراف القاري. وأصبحت المناقشات السياسية، من ذلك النوع الذي كان هادفا وشديد التوتر في أوكسيدينتال، تحمل طابع المؤتمرات الاشتراكية التي كنت أحضرها في بعض الأحيان في كلية اتحاد كوبر، أو معارض الثقافة الأفريقية التي كانت تقام في هارلم وبروكلين أثناء الصيف، ولم يكن هذا سوى بضعة من مصادر التسلية الكثيرة التي قدمتها نيويورك مثل الذهاب لمشاهدة فيلم أجنبي أو التزلج على الجليد في مركز روكفلر. وأمكنني بقدر بسيط من المال أن أكون حرا لأعيش مثل معظم المواطنين السود من الطبقة المتوسطة في مانهاتن، حرا في اختيار فكرة رئيسية تدور حولها حياتي، حرا لأكون لنفسي مجموعة من الأساليب والأصدقاء والحانات والانتماءات السياسية. ومع ذلك فقد شعرت أنه في مرحلة ما - ربما عندما يكون لديك أطفال وتقرر أنه لن يمكنك البقاء في المدينة إلا على حساب الالتحاق بمدرسة خاصة، أو عندما تبدأ في التنقل بسيارات الأجرة ليلا تجنبا لاستقلال المترو، أو عندما تقرر أنك تحتاج إلى بواب في المبنى الذي تقطن فيه - فإن اختيارك لا يمكن الرجوع فيه، فسيصبح من غير الممكن اجتياز الهوة الفاصلة، وستجد نفسك على جانب الطريق الذي لم تعتزم قط أن تكون عليه.
ولأنني لم أكن راغبا في هذا الاختيار فقد قضيت عاما، أسير من أحد طرفي مانهاتن إلى الآخر. وراقبت، مثل السياح، نطاق إمكانيات البشر المتاحة، محاولا تتبع مسار مستقبلي في حياة الناس التي أراها، وأبحث عن منفذ يمكنني الدخول منه مرة أخرى. •••
وجدتني والدتي وأختي في هذه الحالة من الكآبة عندما جاءتا لزيارتي في أول صيف أقضيه في نيويورك.
فقالت مايا لوالدتي: «إنه نحيف للغاية.»
وصاحت أمي وهي تفتش الحمام: «ليس لديه سوى منشفتين!» واستدركت: «وثلاثة أطباق!» وبدأتا تضحكان.
مكثتا معي أنا وصادق بضع ليال ثم انتقلتا إلى شقة في بارك أفينيو عرضها صديق لوالدتي عليهما وهي مسافرة. وفي ذلك الصيف وجدت عملا في تنظيف موقع بناء في حي أبر ويست سايد؛ لذا فقد قضت والدتي وأختي معظم أيامهما تستكشفان المدينة وحدهما. وعندما كنا نتقابل على العشاء كانتا تقدمان تقريرا مفصلا عن مغامراتهما؛ مثل تناول فراولة وقشدة في بلازا، والذهاب بمركب إلى تمثال الحرية، وزيارة أعمال سيزان في متحف المتروبوليتان للفنون . وكنت أنا أتناول طعامي في صمت حتى تنتهيا من الحديث ثم أبدأ حديثا طويلا عن مشكلات المدينة والأمور السياسية المتعلقة بمن حرموا حقوقهم. ووبخت مايا لأنها قضت إحدى الأمسيات تشاهد التليفزيون بدلا من قراءة القصص التي اشتريتها لها. وكنت أوضح لأمي الطرق المختلفة التي يساعد بها المتبرعون الأجانب ومنظمات التنمية الدولية، مثل تلك التي كانت تعمل بها، على زيادة اعتماد دول العالم الثالث على غيرهم. وفي إحدى المرات، عندما دخلت كلتاهما إلى المطبخ سمعت مايا تتحدث إلى والدتي.
قالت: «باري بخير، أليس كذلك؟ أقصد أتمنى ألا يفقد هدوءه ويصبح واحدا من أولئك الغرباء الذين نراهم في الشوارع من حولنا.»
وفي مساء أحد الأيام، وبينما كنت أتصفح صحيفة «ذا فيليدج فويس»، برقت عينا أمي عندما رأت إعلان فيلم «أورفيوس الأسود» (بلاك أورفيوس) الذي كان يعرض في سينما بوسط المدينة، وأصرت والدتي على أن نذهب ونشاهده في تلك الليلة، وقالت إنه أول فيلم أجنبي رأته في حياتها.
وأخبرتنا عندما دلفنا إلى المصعد: «لم أكن تجاوزت السادسة عشرة من عمري، وكنت قد قبلت لتوي في جامعة شيكاغو، ولم يكن جدك قد أخبرني بعد أنه لن يدعني أذهب للالتحاق بالجامعة، وذهبت هناك فترة الصيف، أعمل جليسة أطفال. وكانت تلك هي المرة الأولى على الإطلاق التي أكون فيها وحدي تماما. يا إلهي، شعرت أنني ناضجة للغاية. وعندما شاهدت هذا الفيلم، قررت أنه أجمل شيء رأيته في حياتي.»
ركبنا سيارة أجرة إلى السينما التي تعيد عرض الأعمال السينمائية القديمة التي يعرض فيها هذا الفيلم. وقد صور ذلك الفيلم - الذي كان الأول من نوعه بسبب فريق العمل الذي يتكون بالكامل من برازيليين سود - في الخمسينيات. وكانت قصة الفيلم بسيطة؛ أسطورة الحب التعيسة بين أورفيوس ويوريديس التي دارت أحداثها في أحياء مدينة ريو أثناء المهرجان. كان البرازيليون السود والسمر الذين يظهرون بروعة التصوير بالألوان في خلفية من التلال الخضراء الطبيعية، يغنون ويرقصون ويعزفون على الجيتار مثل طيور ملونة لا يشغل بالها شيء. وفي منتصف الفيلم تقريبا قررت أنني رأيت ما يكفي واستدرت إلى أمي لأرى هل هي مستعدة للمغادرة، ولكن كان على وجهها المضاء بالتوهج الأزرق المنعكس من الشاشة نظرة حالمة. وفي تلك اللحظة شعرت أنني أنظر عبر نافذة إلى قلبها، قلبها الطائش في شبابها. وفجأة أدركت أن تصوير السود بهذه البراءة التي تظهر على الشاشة - وهو نقيض الصورة التي رسمها كونراد عن السود البربريين - هو ما حملته أمي إلى هاواي كل تلك السنوات، انعكاس للأوهام البسيطة التي كانت محرمة على الفتاة البيضاء من الطبقة المتوسطة من كانساس، الوعد بحياة أخرى؛ دافئة وحسية وغريبة ومختلفة.
استدرت مرة أخرى وأنا أشعر بالخجل من أجلها، وبالغضب من الناس حولي. وتذكرت وأنا أجلس في الظلام حوارا دار بيني وبين صديق لوالدتي، وهو رجل إنجليزي كان يعمل لدى منظمة إغاثة دولية تعمل في أرجاء أفريقيا وآسيا. وقد قال لي إنه من بين جميع الشعوب المختلفة التي قابلها في أسفاره كان أهل مدينة دك في السودان هم الأغرب.
وقال: «عادة بعد شهر أو اثنين تنجح في التواصل مع الناس، حتى إذا لم تكن تتحدث لغتهم، فستجد ابتسامة أو دعابة؛ أي مظهرا من مظاهر التعارف. ولكن في نهاية عام مع أهل مدينة دك ظلوا غرباء تماما في نظري؛ فكانوا يضحكون على الأمور التي تقودني إلى اليأس. وما كنت أظنه مضحكا كان يتركهم صامتين كالحجارة.»
وقد وفرت عليه إخباري أن أهل دك كانوا من الشعوب النيلية؛ أي أقرباء لي. وحاولت أن أتخيل هذا الرجل الإنجليزي شاحب الوجه في صحراء حارقة في مكان ما، ويولي ظهره لدائرة من رجال القبائل العراة، وعيناه تبحثان في سماء خاوية، ويشعر بالمرارة في وحدته. وقد طرأت الفكرة نفسها التي راودتني في ذلك الوقت على ذهني وأنا أخرج من السينما مع أمي وأختي: لا يمكن للعواطف بين الأجناس أن تكون نقية، حتى الحب كانت تلوثه الرغبة في أن نجد في الآخر شيئا نفتقده في ذاتنا. وسواء أكنا نسعى لاستحضار الشياطين أو الخلاص من ذنوبنا فإن العرق الآخر سيظل دائما كما هو : خطر وغريب ومنعزل.
قالت مايا عندما ذهبت والدتي إلى الحمام: «إنه قديم.» «ماذا؟» «الفيلم، إنه من النوع القديم، النوع الذي تفضله أمي.»
وعلى مدار الأيام التالية حاولت أن أتجنب مواقف تجبرني أنا ووالدتي على التحدث، ثم قبل بضعة أيام من رحيلهما زرتهما عندما كانت مايا نائمة. ولاحظت والدتي خطابا موجها إلى أبي في يدي، وسألتها هل معها طابع بريد دولي. «هل ترتبان لزيارة؟»
أخبرتها باختصار عن خططي وهي تخرج من قاع حقيبتها طابعا. في الواقع أخرجت طابعين وقد التصقا معا بفعل حرارة الصيف. فابتسمت ابتسامة خجولة، ووضعت الماء ليغلي كي نفصلهما بالبخار.
وقالت من المطبخ: «أظن أنه من الرائع لكليكما أن تتاح لكما الفرصة أخيرا ليعرف أحدكما الآخر. على الأرجح كان من الصعب عليك تحمله وأنت صبي في العاشرة، لكن الآن بعد أن كبرت ...»
هززت كتفي. وقلت: «من يدري؟»
أخرجت رأسها من المطبخ. قالت: «أتمنى ألا تكون تشعر بالاستياء تجاهه.» «ولماذا؟!» «لا أعلم.» ثم عادت إلى غرفة المعيشة وجلسنا هناك بعض الوقت نسمع صوت حركة المرور بالأسفل. ثم انطلق صفير إبريق الشاي ووضعت طابع البريد على المظروف. ثم دون أي داع بدأت والدتي تروي قصة قديمة مرة أخرى في صوت بعيد، كما لو أنها تقصها على نفسها.
قالت: «لم يكن خطأ والدك أنه رحل كما تعلم. أنا طلقته. عندما تزوجنا لم يكن جدك وجدتك سعداء بالفكرة، لكنهما وافقا، وعلى الأرجح لم يكن بوسعهما أن يوقفانا، وفي النهاية غيرا رأيهما وقالا إنها فكرة سديدة. ثم كتب والد باراك، جدك حسين، لوالدي ذلك الخطاب الطويل السيئ يقول فيه إنه لم يوافق على الزواج. وأضاف أنه لم يرد أن يتلوث دم عائلة أوباما بدماء امرأة بيضاء. ويمكنك أن تتخيل كيف كان رد فعل جدك عندما قرأ هذا. ثم كانت هناك مشكلة زوجة أبيك الأولى ... وكان قد أخبرني أنهما انفصلا، وقد كان زواجه بها على النظام القروي ومن ثم لم يكن هناك أي مستند قانوني يوضح أنهما قد طلقا ...»
وبدأ ذقنها يرتجف وضغطت بأسنانها على شفتها محاولة التماسك. وقالت: «رد والدك على الخطاب، وقال إنه سيستمر فيما بدأه. ثم ولدت أنت واتفقنا على أن نعود نحن الثلاثة إلى كينيا عندما ينتهي من دراسته. لكن جدك حسينا كان لا يزال يكتب خطابات إلى والدك، ويهدده بأنه سيجعلهم يسحبون تأشيرته كطالب. وفي ذلك الوقت أصبحت جدتك في غاية الاضطراب؛ فقد قرأت عن ثورة ماو في كينيا قبل بضع سنوات وقد ألقت عليها الصحافة الغربية ضوءا شديدا، وكانت واثقة من أنهم سيقطعون رأسي ويختطفونك إذا ما ذهبنا إلى هناك. «حتى في ذلك الوقت، كان من الممكن أن ينجح الأمر. وعندما تخرج والدك من جامعة هاواي تلقى منحتين دراسيتين. واحدة إلى جامعة نيو سكول هنا في نيويورك والأخرى إلى جامعة هارفارد. ووافقت جامعة نيو سكول على أن تغطي نفقات كل شيء؛ الغرفة والإقامة ووظيفة في الحرم الجامعي وهو ما كان كافيا لنعيش منه نحن الثلاثة. أما جامعة هارفارد فقد وافقت على تغطية مصاريف الدراسة فقط. لكن باراك كان وغدا عنيدا واختار الذهاب إلى هارفارد. وقال لي: «كيف أرفض فرصة لتلقي أفضل تعليم؟» فهذا هو كل ما كان يفكر فيه: إثبات أنه أفضل ...»
وتنهدت، ومررت أصابعها في شعرها. وقالت: «لقد كنا صغارا. كنت أصغر سنا منك الآن. وهو كان أكبر منك ببضع سنوات. بعد ذلك عندما جاء لزيارتنا في هاواي تلك المرة، أرادنا أن نذهب ونعيش معه. لكني كنت لا أزال متزوجة من لولو في ذلك الوقت، وكانت زوجته الثالثة قد تركته للتو، ولم أفكر ...»
ثم توقفت وضحكت لنفسها. وقالت: «هل أخبرتك قط أنه تأخر على أول ميعاد بيننا؟ طلب مني أن أقابله أمام مكتبة الجامعة في الساعة الواحدة. وعندما وصلت إلى هناك، لم يكن قد وصل بعد، ففكرت أنه يمكنني أن أمنحه بضع دقائق. وكان الجو جميلا، فاستلقيت على أحد المقاعد الكبيرة وسرعان ما استغرقت في النوم. وبعد ساعة - ساعة كاملة! - ظهر مع اثنين من أصدقائه، فاستيقظت وثلاثتهم يقفون إلى جوار المقعد، وسمعت أباك يقول بجدية تامة: «أرأيتم أيها السادة. لقد أخبرتكم أنها فتاة رائعة، وأنها ستنتظرني.»
ضحكت والدتي مرة أخرى، ومرة أخرى رأيتها في صورة الطفلة التي كانت عليها. باستثناء أني رأيت شيئا آخر هذه المرة؛ ففي وجهها المبتسم الحائر قليلا رأيت ما يجب أن يراه جميع الأطفال في وقت ما إذا أرادوا أن ينضجوا؛ حياة والديهم تتكشف أمامهم منفصلة وتمتد إلى ما هو أبعد من نقطة زواجهما أو ميلاد أحد أبنائهما، وتتجلى تفاصيل الحياة بدءا من الأجداد وأجداد الأجداد، وعدد لا نهائي من اللقاءات بالصدفة، وسوء الفهم والآمال المتوقعة والظروف المحدودة. لقد كانت والدتي تلك الفتاة التي لا تزال متأثرة بالفيلم الذي يضم أناسا سودا رائعين، والتي أشبع اهتمام أبي بها غرورها، وهي حائرة ووحيدة تحاول أن تهرب من قبضة حياة والديها. لقد كان سوء الفهم واحتياجاتها الخاصة يشوبان البراءة التي حملتها معها في ذلك اليوم وهي في انتظار أبي. لكنها كانت احتياجات ساذجة ودون إدراك للذات، وربما تكون هذه هي الطريقة التي تبدأ بها أية قصة حب، دوافع وصور غير واضحة تسمح لنا بالهروب من وحدتنا ثم - إذا كنا من سعداء الحظ - نتحول في النهاية لنكون أكثر ثباتا. ما سمعته من أمي في ذلك اليوم وهي تتحدث عن أبي شيء أظن أن معظم الأمريكيين لن يسمعوه أبدا من بين شفتي شخص من عرق آخر، ومن ثم لا يمكن أن نتوقع أن يصدقوا أنه قد يكون موجودا بين البيض والسود؛ إنه حب شخص يعرف جميع جوانب حياتك، حب سيتغلب على الإحباط. لقد رأت أمي أبي في الصورة التي يأمل كل شخص أن يراه عليها شخص واحد على الأقل، وحاولت أن تساعد الطفل الذي لم يعرفه قط على أن يراه بالطريقة نفسها. وقد كانت تلك النظرة على وجهها في ذلك اليوم هو ما تذكرته عندما اتصلت بها بعد بضعة شهور لأخبرها أن والدي قد توفي وسمعت صرختها من هذه المسافة البعيدة. •••
بعدما تحدثت إلى والدتي اتصلت بشقيق والدي في بوسطن ودار بيننا حوار قصير غريب. ولم أذهب إلى الجنازة؛ لذا كتبت لعائلة والدي في نيروبي خطابا أعرب فيه عن تعازي. وطلبت منهم أن يكتبوا إلي، وسألت عن حالهم. ولكني لم أشعر بالألم، فقط راودني شعور غامض بأن فرصة ما قد ضاعت، ولم أجد سببا للتظاهر بغير ذلك. وتأجلت خططي للسفر إلى كينيا إلى أجل غير مسمى.
سيمر عام آخر قبل أن أقابله في إحدى الليالي في زنزانة باردة في أحد أحلامي. فقد حلمت أني أسافر بالحافلة مع أصدقاء لا أتذكر أسماءهم، رجال ونساء لديهم رحلات مختلفة للقيام بها. وقد سرنا عبر حقول عميقة من الحشائش والتلال التي كانت تمتد قبالة السماء البرتقالية اللون.
جلس إلى جواري رجل عجوز أبيض البشرة قصير القامة ممتلئ القوام، وقرأت في كتاب كان يحمله بين يديه أن الطريقة التي نتعامل بها مع كبار السن تختبر أرواحنا. وقد أخبرني أنه من المؤيدين للنقابات ومن أعضائها وأنه ذاهب للقاء ابنته.
توقفنا في فندق قديم ضخم به ثريات. وكان هناك بيانو في الرواق وردهة مليئة بوسائد من الساتان الناعم، فأخذت إحدى الوسائد ووضعتها على مقعد البيانو، وجلس الكهل الأبيض، وقد تقدم به العمر ووصل إلى مرحلة الشيخوخة، وعندما نظرت مرة أخرى إليه كانت فتاة سوداء صغيرة لا تكاد قدماها تصل إلى الدواسة. فابتسمت وبدأت تعزف، ثم جاءت نادلة هسبانية شابة وقطبت ما بين حاجبيها وهي تنظر إلينا، لكن أسفل العبوس كانت هناك ضحكة، ورفعت أصبعها إلى شفتيها كما لو أننا نتشارك سرا.
غلبني النوم لباقي الرحلة، وعندما استيقظت وجدت أن الجميع قد رحلوا. وجدت أن الحافلة قد توقفت، فخرجت منها وجلست على رصيف الشارع. وفي داخل مبنى من الحجر الصلب، كان هناك محام يتحدث إلى قاض. ورأى القاضي أن أبي قد قضى ما يكفي من الوقت في السجن، وأنه حان الوقت لإطلاق سراحه. لكن المحامي اعترض بقوة واستشهد بقوانين متعددة وسابقة وبالحاجة إلى الحفاظ على النظام. فهز القاضي كتفيه ونهض من على الأريكة.
وقفت أمام الزنزانة وفتحت القفل ووضعته بحرص على حافة نافذة. كان أبي أمامي ولا يرتدي سوى قطعة قماش تلتف حول وسطه، وكان نحيفا للغاية، برأسه الضخم، وقوامه الرشيق، وذراعيه وصدره الخاليين من الشعر. وبدا شاحبا، وعيناه السوداوان مضيئتان في وجهه الشاحب، لكنه ابتسم وأشار إلى الحارس الأبكم الطويل أن يتنحى جانبا.
وقال: «انظر إلى نفسك.» وتابع: «لقد أصبحت طويلا للغاية ونحيفا للغاية. بل شاب شعرك!» ورأيت أنه كان على حق، فاتجهت إليه وتعانقنا. وبدأت أبكي، وشعرت بالخزي، لكن لم أستطع أن أوقف نفسي.
وقال: «باراك. لقد أردت دائما أن أخبرك بمدى حبي لك.» وبدا صغيرا للغاية بين ذراعي، في حجم صبي.
وجلس في زاوية فراشه الصغير، ووضع رأسه على يديه المتشابكتين، وحدق إلى الحائط بعيدا عني. وارتسم على وجهه حزن عميق لم يبد أن هناك سبيلا لمحوه، فحاولت أن أداعبه، وأخبرته أنني إذا كنت نحيفا للغاية فهذا لأنني أشبهه. ولكنه لم يحرك ساكنا، وعندما همست له أننا يمكننا أن نغادر معا، هز رأسه وأخبرني أنه سيكون من الأفضل لو أني رحلت.
استيقظت من النوم وأنا لا أزال أبكي، وكانت هذه هي أول دموع حقيقية أذرفها عليه، وعلى نفسي؛ أنا ساجنه، وقاضيه، وابنه. أضأت النور وأخرجت خطاباته القديمة، وتذكرت زيارته الوحيدة، وكرة السلة التي منحني إياها، وكيف علمني الرقص. وأدركت، ربما لأول مرة، كيف أن صورته القوية، حتى في غيابه، منحتني حصنا أكبر بداخله، وهي صورة إما أعيش أهلا لها أو أخذلها.
سرت إلى النافذة ونظرت إلى الخارج وأنا أستمع إلى أول أصوات تصدر في الصباح؛ صوت شاحنات القمامة، وخطى أقدام في الشقة المجاورة. وجال بخاطري أنني بحاجة لأن أبحث عنه وأتحدث معه مرة أخرى.
الجزء
شيكاغو
الفصل السابع
عام 1983م قررت أن أصبح منظما للمجتمع الأهلي.
في واقع الأمر لم أكن ملما بالكثير من التفاصيل بخصوص هذه الفكرة؛ حيث لم تتسن لي معرفة أي شخص يعمل بهذه الوظيفة ويكسب قوته منها. وعندما كان زملائي في الجامعة يسألونني عن مهام وظيفة منظم المجتمع الأهلي لم أكن أستطيع الإجابة بصورة مباشرة. إنما كنت أعبر عن الحاجة إلى إجراء تغيير. تغيير في البيت الأبيض حيثما كان ينفذ ريجان وأتباعه أفعالهم القذرة. وتغيير في الكونجرس الفاسد والمقهور. وتغيير في الحالة العامة للبلاد حيث الولع الزائد بالأشياء والأنانية والتمركز حول الذات. بالإضافة إلى ذلك كنت أقول إن التغيير لا يحدث من القمة إلى القاع. بل ينبع من القاعدة الشعبية المنظمة.
وهذا هو ما سأقوم به بالفعل. حيث سأنظم السود على مستوى القاعدة الشعبية. وذلك بهدف إجراء التغيير.
كان أصدقائي - البيض والسود على حد سواء - يطرون علي بشدة بسبب أفكاري المثالية قبل التوجه إلى مكتب البريد لإرسال طلبات الالتحاق بالدراسات العليا بالجامعة.
لم أستطع بكل تأكيد إلقاء اللوم عليهم لشعورهم بالشك. فالآن بفضل إدراكي المتأخر للأمور أستطيع تحديد منطق معين لاتخاذي هذا القرار، وتوضيح كيف كان قراري - لأن أصبح منظما - جزءا من القصة الكبرى التي تبدأ بوالدي ووالده من قبله، وأمي ووالديها، وذكرياتي عن إندونيسيا بمتسوليها وفلاحيها، وخضوع لولو أمام القوة، مرورا براي وفرانك وماركوس وريجينا، وانتهاء بانتقالي للعيش في نيويورك ووفاة والدي. بالإضافة إلى ذلك باستطاعتي أن أرى أن اختياراتي لم تكن أبدا لي وحدي، وأن هذا الأمر بعينه هو الذي كان من المفترض أن يحدث لأنني لو كنت تصرفت عكس ذلك للهثت خلف نمط من الحرية يرثى له.
لكن إدراكي هذا لم يأتني إلا فيما بعد. وعند اقتراب تخرجي في الجامعة كانت دوافعي هي التي تحركني بصفة أساسية، تماما مثل سمكة السلمون التي تسبح بتهور ضد التيار لتصل لمبتغاها عند مواضع تكاثرها. وكنت أخبئ دوافعي هذه في المحاضرات والندوات المختلفة وراء الشعارات والنظريات التي اكتشفتها في الكتب، معتقدا - خطأ - أن هذه الشعارات لها مغزى وأنها جعلت شعوري السابق، إلى حد ما، قابلا للإثبات بالدليل. وعلى النقيض من ذلك فإنني ليلا كنت أنحي هذه الشعارات جانبا وأنا مستلق على الفراش لتحل محلها سلسلة متتابعة من الصور الرومانسية لماض لم أعرفه من قبل.
كانت هذه الصور لحركة الحقوق المدنية، وفي الأغلب لمشاهد من الأفلام الأبيض والأسود غير الواضحة التي كانت تعرض في شهر فبراير من كل عام خلال شهر التاريخ الأفريقي القومي، وهي الصور نفسها التي كانت أمي ترسمها لي عندما كنت طفلا. وصورة اثنين من زملاء الجامعة من ذوي الشعر القصير والقامات المستقيمة وهما يطلبان الطعام في المطاعم ويوشكان أن يحدثا شغبا. وصورة العاملين في لجنة تنسيق تحالفات الطلاب غير العنيفة وهم واقفون عند مدخل أحد المباني عند بقعة راكدة في نهر الميسيسيبي، محاولين إقناع عائلة من المزارعين المستأجرين بتسجيل أسمائهم حتى يمكنهم الإدلاء بأصواتهم الانتخابية. وأخيرا صورة الإصلاحيات المكتظة بأطفال متشابكي الأيدي ينشدون أغاني الحرية.
أصبحت هذه الصور تلازمني طوال الوقت، فترفع من روحي المعنوية، وتشبع رغباتي بطريقة لا يمكن للكلمات أن تحاكيها. وكانت هذه الصور تخبرني أنني لم أكن بمفردي في هذا الكفاح (ومع أن فهم هذا الأمر يمكن أن يكون قد تراءى لي فيما بعد فلم يكن صحيحا مائة في المائة) وأن المجتمعات لم تكن أبدا حقيقة مسلما بها في هذا البلد، على الأقل للسود. فالمجتمعات لا بد من أن تنشأ، ويحارب من أجلها، وأن يعتنى بها كما يعتني المرء ببستانه. فهي تتوسع أو تنكمش طبقا لأحلام رجالها، وفي حركة الحقوق المدنية كانت هذه الأحلام كبيرة. أما في حالات الاعتصام والمظاهرات واعتراضات السجناء فكنت أرى أن المجتمع الأفروأمريكي أصبح أكثر من مجرد مكان ولدت فيه أو منزلا ترعرعت بين جدرانه. وعن طريق العمل التنظيمي والتضحية المشتركة أمكن الحصول على العضوية؛ ولهذا السبب (لأن هذا المجتمع الذي تخيلته كان لا يزال في مرحلة الإعداد وكان مؤسسا على الوعد بأن المجتمع الأمريكي الأكبر - الأسود والأبيض والأسمر - يمكنه إلى حد ما إعادة تعريف نفسه)، آمنت بأن هذا المجتمع مع الوقت ربما يعترف بأن حياتي ذات طبيعة متفردة.
كانت تلك هي فكرتي عن التنظيم، وكانت وعدا بالإصلاح.
ولذا فإنني في الشهور التي سبقت تخرجي، أرسلت خطابات لكل منظمة حقوق مدنية خطرت ببالي، ولكل مسئول أسود منتخب في الدولة يعمل طبقا لبرنامج عمل تقدمي، ولمجالس الأحياء وجماعات حقوق المستأجرين . وعندما لم ترد علي أية جهة لم يحبطني هذا ولم يثبط همتي. فقررت أن أبحث عن عمل تقليدي لمدة عام لسداد قروضي الدراسية وتوفير بعض الأموال القليلة. وكنت أقول لنفسي إنني سأحتاج إلى النقود فيما بعد. حيث إن المنظمين لم يكن باستطاعتهم توفير أي أموال وكان فقرهم دليلا على استقامتهم والتزامهم بالمبادئ الأخلاقية.
في النهاية وافق مكتب استشاري يقدم خدماته للشركات المتعددة الجنسيات على تعييني مساعد أبحاث. كنت في هذه الوظيفة - تماما كجاسوس خلف صفوف الأعداء - أصل يوميا إلى مكتبي في وسط مانهاتن، وأجلس أمام جهاز الكمبيوتر الخاص بي، وأراجع الآلة التي تنقل الأخبار التي تبثها وكالة «رويترز» وهي تومض برسائل تأتي من كل أنحاء العالم ذات لون أخضر زمردي. وعلى حد معلوماتي كنت الرجل الأسود الوحيد في الشركة، ومع أنه كان سببا لشعوري بالخزي فإنه كان مدعاة للفخر لسكرتيرات الشركة. فهؤلاء السيدات السوداوات عاملنني وكأنني ابن لهن، وأخبرنني أنهن يتوقعن أن أدير الشركة يوما ما. وفي بعض الأحيان كنت أخبرهن بعد الغداء عن كل خططي التنظيمية الرائعة وكن يبتسمن ويقلن لي: «هذا عمل طيب يا باراك.» لكن النظرة التي كانت تملأ أعينهن كانت تخبرني سرا بشعورهن بالإحباط. لم يكن هناك سوى آيك - ضابط الأمن الأسود الفظ - هو الوحيد الذي كان دوما على استعداد ليأتي ويخبرني بكل صراحة أنني على خطأ. «تخطيط؟ تبدو هذه الكلمة وكأنها أمر من أمور السياسة نوعا ما، أليس كذلك؟ لماذا تريد أن تفعل شيئا كهذا؟»
حاولت أن أشرح آرائي السياسية، وأهمية تنظيم الفقراء، ورد الجميل للمجتمع. لكن آيك هز رأسه وقال: «إنني أتمنى يا سيد باراك ألا يكون لديك مانع في أن أسدي إليك نصيحة. إنك لست في حاجة إلى أن تسمعني الآن لكنني على أية حال سأسديها إليك. حاول أن تغض الطرف عن فكرة التنظيم هذه، واشرع في فعل شيء يجني لك بعض المال. واعلم أن كلامي هذا لا يعني أن تكون جشعا فأنت تفهمني. إنني أقصد أن تجني من المال ما يكفيك. إنني أخبرك بذلك لأنني أرى أنك تمتلك إمكانيات جيدة. فشاب مثلك يتمتع بصوت عذب من الطبيعي أن يكون واحدا من مذيعي التليفزيون أو موظفا في مجال المبيعات ... إن لي ابن أخ في عمرك تقريبا يعمل في هذا المجال ويجني أموالا كثيرة. وهذا بالفعل هو ما نحتاج إليه. فأنت لا تستطيع مساعدة القاعدة الشعبية في أن يصبحوا أكثر نظاما لأنهم لن يتمكنوا من فعل ذلك على الإطلاق، بالإضافة إلى أنهم لن يقدروا محاولاتك، حيث إن من يريدون فعل ذلك سيجدون بأنفسهم الطريق لفعل ذلك. كم يبلغ عمرك الآن على أية حال؟» «اثنان وعشرون.» «حاول أن تفهم كلامي. لا تضيع شبابك هباء يا سيد باراك. ذلك لأنك ستستيقظ في صباح أحد الأيام لتجد نفسك رجلا عجوزا مثلي وكل ما ستجنيه هو التعب والإرهاق دون تحقيق أي نتيجة.» •••
في الواقع لم أعر آيك الكثير من الانتباه آنذاك، وفكرت حينها أنه يشبه جدي إلى حد بعيد. ومع ذلك فقد شعرت بمرور الأشهر أن فكرة أن أصبح منظما بدأت تتبخر. وجاء الوقت الذي فيه ترقيت في الشركة إلى منصب كاتب مقالات اقتصادية، وكان لي مكتبي الخاص وسكرتارية خاصة، إلى جانب حساب في البنك به قدر من المال. وفي بعض الأحيان، عندما كنت أخرج من اجتماع مع رجال مال يابانيين أو متعاملين ألمان في السندات، كنت أنظر إلى نفسي في مرآة المصعد - وأنا أرتدي الحلة ورابطة العنق وأحمل حقيبة في يدي - وأتخيل نفسي للحظة رائدا من رواد الصناعة يلقي الأوامر بحسم شديد ويعقد الاتفاقيات، كان كل ذلك يحدث قبل أن أتذكر الشخص الذي كنت قد أخبرت نفسي من قبل بأنني أريد أن أكونه، وقبل أن أشعر بألم الشعور بالذنب لعدم قدرتي على اتخاذ قرارات حاسمة.
في أحد الأيام وأنا جالس على جهاز الكمبيوتر في المكتب لكتابة مقال حول مقايضات أسعار الفائدة، حدث شيء غير متوقع؛ هاتفتني أوما.
إنني لم أقابل أوما - وهي أختي غير الشقيقة - من قبل على الإطلاق؛ فقد كنا نتراسل من حين لآخر فقط. وقد علمت أنها غادرت كينيا لتدرس في ألمانيا، وفي خطاباتنا ذكرنا احتمالية ذهابي لزيارتها أو حضورها هي إلى الولايات المتحدة لتزورني. لكن هذه الخطط كانت تترك دائما هكذا دون تحديد وقت لتنفيذها، ولأن كلينا لم يكن يملك المال كنا نقول إننا قد نتقابل في العام المقبل. واحتفظت مراسلاتنا بعلاقات ود متحفظة.
والآن فجأة سمعت صوتها لأول مرة. كان رقيقا وبدا أنه لامرأة سوداء اصطبغت لهجتها بنبرة استعمارية. ولبضع لحظات لم أستطع فهم ما تقوله، فلم أكن أسمع إلا صوتا بدا لي مألوفا للغاية، كنت قد فقدته لكنني لم أنسه. ذكرت لي في هذه المكالمة أنها ستحضر إلى أمريكا في رحلة مع بعض الأصدقاء، وسألتني: «هل يمكنني زيارتك في نيويورك؟»
ودون تردد قلت لها: «بالطبع.» وتابعت: «كما أنك ستقيمين معي؛ إنني متلهف لرؤيتك.» ضحكت عندما قلت لها ذلك وأنا أيضا ضحكت، وبعد ذلك ساد الصمت بيننا ولم نعد نسمع إلا صوت أنفاسنا وصوت التشويش على الإرسال التليفوني. وقالت لي: «حسنا، لا أستطيع أن أتحدث طويلا لأن المكالمات تكلفني الكثير. وها هي ذي بيانات رحلتي الجوية»؛ لذا أغلقنا الخط سريعا بعد ذلك كما لو كنا سندفع تكلفة هذا الاتصال مناصفة بيني وبينها.
قضيت الأسابيع القليلة التالية وأنا أستعد بسرعة بالغة لحضور أوما، حيث اشتريت ملاءات جديدة للأريكة التي ستنام عليها، وأطباقا ومناشف إضافية، إلى جانب فرشاة تنظيف لحوض الاستحمام. لكن قبل موعد حضورها المقرر بيومين، اتصلت مرة أخرى وكان صوتها غير واضح أكثر من المرة السابقة، ولم أسمع منها إلا همسا.
قالت لي في هذه المكالمة: «لن أستطيع الحضور.» وتابعت: «أحد إخوتنا، ديفيد ... قتل في حادث دراجة بخارية. إنني لا أعرف أكثر من ذلك.» وبدأت تبكي. قالت: «أوه، باراك. لماذا يحدث لنا كل هذا؟»
حاولت أن أهدئ من روعها قدر استطاعتي. وسألتها عما يمكن أن أفعله لأجلها. كما أخبرتها أننا دون شك ستتاح لنا الفرصة لنلتقي. وأخيرا هدأ صوتها، وقالت إنها يجب أن تذهب الآن لتحجز تذكرة الطيران للعودة إلى بلدها. «حسنا باراك . أراك من جديد. صحبتك السلامة.»
بعد أن أغلقت الخط أخبرت السكرتيرة أنني سأقضي بقية اليوم خارج المكتب ثم خرجت. وأخذت أتجول ساعات في شوارع مانهاتن، وصوت أوما يتردد في ذهني مرارا وتكرارا. ففي قارة أخرى هناك امرأة تصرخ. فقد سقط في طريق مظلم ومغطى بالتراب طفل صغير بعد أن انزلقت دراجته البخارية وفشل في السيطرة عليها ليسقط مرتطما بالأرض الصلبة، وأخذت العجلات تدور حتى أصابها الصمت. سألت نفسي من هؤلاء الغرباء الذين تجري في عروقهم نفس الدماء التي تجري في عروقي؟ وما الذي يمكن أن يشفي هذه السيدة من حزنها؟ وأي أحلام مثيرة وغير معلنة كانت تراود هذا الولد المسكين؟
من أنا، وكيف لا أذرف دمعة واحدة على فقدان أخي؟ •••
لا أزال أتساءل في بعض الأحيان كيف تغيرت حياتي بعد أول مكالمة هاتفية لي مع أوما. وفي الواقع لم تكن المكالمة ذاتها هي التي غيرتني بصفة أساسية (هذا الاتصال الذي شعرت في البداية أنه غيرني وتغيرت في النهاية بسببه) أو خبر وفاة ديفيد (فمن الصحيح أنني لم أكن أعرفه وهذا كاف)، إن ما غيرني بالفعل هو وقت اتصالها، والتسلسل العجيب للأحداث، والتوقعات التي يملؤها الأمل، ثم انهيار الآمال وتحطمها، وهي أمور جميعها حدثت في وقت كانت فيه فكرة أن أكون منظما مجرد فكرة في مخيلتي وصراع غامض في قلبي.
ربما لم يكن لكل ما سبق أدنى تأثير. وربما كنت قد التزمت بالفعل آنذاك بالعمل التنظيمي، وساعدني صوت أوما فقط في أن أتذكر أنني لا أزال أعاني جروحا لم تلتئم بعد وأنني لم أستطع مداواتها بنفسي. وإن لم يكن ديفيد قد مات، وأتت أوما إلى نيويورك كما اتفقنا في البداية، وعرفت منها حينئذ عن كينيا وعن والدنا ما عرفته بعد ذلك، ربما خفت بعض الضغوط التي تراكمت بداخلي لتقدم لي فكرة مختلفة عن المجتمع، وتسمح لطموحاتي أن تسير في طريق أكثر خصوصية وضيقا، حتى ينتهي بي الأمر متقبلا نصيحة صديقي آيك ، ومكرسا نفسي للسندات والأسهم والرغبة في اكتساب احترام الآخرين.
لا أعرف، ولكن الأمر المؤكد هو أنني بعد بضعة أشهر من مكالمة أوما الهاتفية قدمت استقالتي من المكتب الاستشاري، وبدأت أبحث جديا عن وظيفة تنظيمية. ومرة أخرى لم يصلني رد على معظم خطاباتي، لكن بعد شهر أو ما يقرب من ذلك اتصل بي مدير مؤسسة حقوق مدنية شهيرة في المدينة لتحديد موعد للمقابلة. كان هذا الرجل طويل القامة، وسيما، وأسود اللون، وكان يرتدي قميصا أبيض اللون ورابطة عنق مزركشة وحمالة بنطلون حمراء. وكان مكتبه مشتملا على كراسي إيطالية الصنع، وبار مبني بالطوب غير المطلي، والمكان كله مزين بأعمال النحت الأفريقي. ومن خلال نافذة طويلة بالمكتب تتدفق أشعة الشمس على تمثال نصفي للدكتور كينج.
بعد أن ألقى المدير نظرة سريعة على سيرتي الذاتية، قال: «إنني معجب بسيرتك الذاتية.» وتابع قائلا: «وبالأخص خبرتك في مجال المؤسسات. فهذا هو العمل الحقيقي لأية مؤسسة لحقوق الإنسان في أيامنا هذه. حيث إن الاحتجاجات والإضرابات لم تعد تجدي في شيء. وحتى تؤتي هذه الوظيفة ثمارها، علينا أن نشيد جسورا بين أنشطتنا والحكومة والأحياء الفقيرة في المدن.» بعد ذلك تشابكت يداه معا قبل أن يريني تقريرا سنويا ذا ورق مصقول، مفتوحا على صفحة بها أسماء أعضاء مجلس الإدارة في المؤسسة، منهم وزير أسود و10 تنفيذيين بيض. وبعدها قال المدير: «أترى؟» ثم تابع: «علاقات شراكة عامة- خاصة. إنها نافذتنا على المستقبل. وهنا يكون عمل الشباب من أمثالك. المتعلمين. الواثقين بأنفسهم. الذين يقدمون المساعدة في اجتماعات مجلس الإدارة. كنت في الأسبوع الماضي أناقش هذه المشكلة مع جاك، سكرتير وزارة الإسكان والتنمية الحضرية، في عشاء في البيت الأبيض. ويا له من رجل رائع، جاك. كم سيتحمس لمقابلة رجل مثلك! صحيح أنني عضو في الحزب الديمقراطي لكننا لا بد أن نتعلم كيف نتعامل مع ذوي السلطة، أيا كانوا ...»
وعلى الفور عرض علي الوظيفة التي تشتمل مهام العمل فيها على تنظيم المؤتمرات حول مشكلات المخدرات والبطالة والإسكان. وقد أسماها «تسهيل الحوار». لكنني في الواقع رفضت عرضه السخي، مقررا وقتها أنني في حاجة إلى وظيفة تسمح لي بالاحتكاك بالشارع. فعملت لمدة ثلاثة شهور في أحد مكاتب رالف نادر في هارلم، محاولا إقناع الأقلية من الطلاب في سيتي كوليدج بأهمية التغيير. بعد ذلك عملت أسبوعا كاملا في توزيع النشرات الإعلانية لأحد المرشحين في انتخابات عقدت في بروكلين، وخسر المرشح ولم أتقاض أجري.
بعد ذلك بستة أشهر، أصبحت مفلسا وعاطلا، واعتدت شرب الحساء المعلب. وسعيا وراء حصولي على بعض الأفكار الملهمة، ذهبت لسماع كوامي توري الذي كان اسمه فيما مضى ستوكلي كارميشيل، والذي كان ذا صيت في لجنة تنسيق تحالفات الطلاب غير العنيفة وفي حركة القوة السوداء، وهو يتحدث في خطاب له في جامعة كولومبيا. وفي مدخل قاعة الاستماع كانت هناك امرأتان، إحداهما سوداء والأخرى آسيوية، تبيعان كتبا عن الأدب الماركسي، وتتناقشان معا بخصوص مكانة تروتسكي في التاريخ. وداخل القاعة اقترح توري برنامجا لإقامة روابط اقتصادية بين أفريقيا وهارلم لتجنب الإمبريالية الرأسمالية البيضاء. وفي نهاية محاضرته سألته شابة نحيفة ترتدي نظارة هل هذا البرنامج عملي في ظل الاقتصادات الأفريقية والاحتياجات العاجلة التي تواجه الأمريكيين السود. فقاطعها توري قبل أن تكمل سؤالها. قال: «إن عملية غسيل المخ التي أجريت لك هي التي تجعل هذا البرنامج غير عملي يا أختاه.» وفي ذلك الحين توهجت عينا توري وهو يتحدث كما لو كان مجنونا أو قديسا. وظلت السيدة واقفة في مكانها لعدة دقائق بينما كان توري يوبخها بقسوة بسبب موقفها البورجوازي. بعد ذلك بدأ الحاضرون يغادرون القاعة. وفي الخارج كانت السيدتان الماركسيتان تصرخان بأعلى صوتهما: «خنزيرة متبعة مذهب ستالين!» «عاهرة متبعة المذهب الإصلاحي!»
بدا هذا الموقف لي وكأنه كابوس مزعج. وبعده سرت هائما على وجهي في برودواي، متخيلا نفسي واقفا على حافة لينكولن ميموريال وأنا أنظر إلى إحدى المقصورات الفارغة والحطام يتطاير من حولي في الهواء. لقد ماتت الحركة منذ أعوام وتمزقت ألف قطعة. وكل سبيل للتغيير خضناه، وكل استراتيجية نفذناها. وعقب كل هزيمة قد يئول الحال حتى بالحركات التي تحمل أصدق النوايا إلى الابتعاد عن طريق كفاح من يدعون رغبتهم في تقديم الخدمات.
ربما كان هذا نوعا من الجنون الصريح. لقد أدركت فجأة أنني كنت أكلم نفسي في منتصف الشارع. الناس في طريقهم للعودة من العمل كانوا يتجنبون السير بجواري. واعتقدت وقتها أنني رأيت اثنين من زملاء جامعة كولومبيا في الزحام - كانت سترتاهما ملقاتين للخلف على أكتافهما - وهما يحاولان تجنب رؤيتي لهما. •••
وبينما أصبحت قاب قوسين أو أدنى من التخلي عن مشروعي التنظيمي، تلقيت اتصالا هاتفيا من مارتي كوفمان. شرح لي أنه سيبدأ حملة تنظيمية في شيكاغو، وأعلن عن حاجته لتعيين شخص تحت التدريب. كان كوفمان سيغادر إلى نيويورك الأسبوع المقبل؛ ولذا اقترح أن نتقابل في أحد مقاهي ليكسينجتون.
في حقيقة الأمر لم يكن مظهره ليولد شعوري بالثقة البالغة تجاهه. فقد كان رجلا أبيض، متوسط الطول، ممتلئ الجسم، ويرتدي حلة مجعدة. كان وجهه يبدو مكتئبا بذقنه الذي لم يحلق منذ يومين. وبدت عينا الرجل وكأنهما شبه مغمضتين وهما تسكنان خلف عدستي نظارته السميكتين الدائريتين. وعندما نهض من على المنضدة ليصافحني أوقع بعض الشاي على قميصه.
قال مارتي وهو يحاول تنظيف المائدة بمنديل ورقي: «حسنا.» وتابع: «لماذا يريد شخص من هاواي أن يعمل في مهنة التنظيم؟»
جلست وذكرت له أشياء مختصرة عن نفسي. «إممم.» أومأ مارتي برأسه وهو يسجل ملحوظات على مذكرة مسطرة صفحاتها مطوية الزوايا. «يبدو أن هناك شيئا يغضبك.» «ماذا تقصد بذلك؟»
هز كتفيه. وقال: «لا أعرف بالضبط طبيعة هذا الشيء. لكنه قد يكون أي شيء. لا أريدك أن تسيء فهمي، فالغضب مطلب أساسي لهذه الوظيفة. فهو السبب الوحيد لأي شخص يقرر أن يصبح منظما. أما عن الآخرين الذين يستطيعون التعامل مع المشكلات دون انفعال فيعملون في وظائف أكثر بعثا على الراحة والاسترخاء.»
طلب المزيد من الماء الساخن وحدثني عن نفسه؛ كان يهوديا في أواخر الثلاثينيات من عمره ترعرع في نيويورك. بالإضافة إلى ذلك، كان قد بدأ عمله التنظيمي في ستينيات القرن العشرين مع احتجاجات الطلاب، وظل مستمرا في هذا العمل لمدة 15 عاما. فعمل مع المزارعين في نبراسكا. ومع السود في فيلادلفيا. ومع المكسيكيين في شيكاغو. وحاول جمع شتات سود المدن وبيض الضواحي معا وإشراكهم في خطة لتوفير فرص عمل في مجال التصنيع في مدينة شيكاغو الكبيرة. وقال إنه بحاجة إلى شخص يعمل معه. شريطة أن يكون من ذوي البشرة السوداء.
قال مارتي: «معظم عملنا مع الكنائس.» وتابع: «وإذا كان الفقراء وأفراد الطبقة العاملة يريدون أن تصبح لهم سلطة حقيقية، فلا بد من أن يكون لديهم قاعدة مؤسسية. وفي ظل الاتحادات على هيئتها التي هي عليها الآن تعد الكنائس هي الخيار الوحيد. ففيها يتواجد الناس والقيم حتى وإن طغى عليها الهراء والزيف. ولكن الكنائس لن تساعدك من منطلق طيبة قلوب مسئوليها. حيث يتمثل دورهم في التحدث بكلام مقنع موجز سواء في عظات أيام الآحاد أو عند تقديم عروض خاصة للمشردين. ولكن عندما يجد الجد لن يتحرك هؤلاء المسئولون إلا إذا استطعت أن تشرح لهم كيف سيساعدهم تحركهم هذا في توفير المال لسداد فواتير التدفئة.»
صب مارتي كوفمان المزيد من الماء الساخن لنفسه. وسألني: «ماذا تعرف عن شيكاغو؟»
فكرت في الإجابة للحظة. ثم قلت في النهاية: «مجزر اللحوم للعالم.»
هز مارتي رأسه. وقال: «لقد أغلقت المجازر منذ زمن.» «وفريق «شيكاغو كابس» للبيسبول لم يفز قط.» «هذا صحيح.»
قلت له: «إن شيكاغو هي أكثر مدن أمريكا ممارسة للفصل العنصري. وتابعت: «بالإضافة إلى أن هارولد واشنطن - وهو رجل أسود - قد انتخب لتوه ليصبح عمدتها، وذوو البشرة البيضاء لا يحبونه.»
قال مارتي: «إذن فأنت تتابع ما يحرزه هارولد في حياته العملية.» وتابع: «إنني أتعجب من عدم عملك معه.» «لقد حاولت. لكنني لم أحصل على أي رد من مكتبه.»
ابتسم مارتي وخلع نظارته ونظف العدسات بطرف رابطة العنق. وقال: «حسنا، فهذا هو ما يجب عليك فعله إذا كنت شابا وأسود، إلى جانب اهتمامك بالقضايا الاجتماعية، أليس كذلك؟ حاول أن تعثر على حملة سياسية للعمل فيها. ابحث عن راع ذي سلطة يمكن أن يساعدك في حياتك العملية، ولا شك في أن هارولد ذو سلطة ورجل له جاذبيته. بالإضافة إلى امتلاكه تأييدا واسع النطاق في المجتمع الأسود. وما يقرب من نصف الهيسبانيين وحفنة من البيض الأحرار. في الواقع إنك على حق في شيء واحد. وهو أن الجو العام للمدينة منقسم إلى طرفين نقيضين، سيرك كبير لوسائل الإعلام. ولا ينجز الكثير من الأعمال.»
حينما ذكر كل هذه الأمور اتكأت للخلف على الكرسي. قلت: «ومن المسئول عن كل ذلك؟»
ارتدى مارتي نظارته مرة أخرى وحدق النظر إلي. وقال: «ليس الأمر متعلقا بمن المسئول.» وتابع: «لكنه متعلق بما إذا كان يمكن أن يقدم أي سياسي أو أي شخص في نبوغ هارولد الكثير من أجل كسر هذه الدائرة المغلقة. كما أن المدينة المنقسمة إلى نقيضين ليست بالضرورة شيئا سيئا للسياسي. سواء أكان أبيض أم أسود.»
عرض مارتي علي أن أبدأ العمل براتب 10 آلاف دولار في السنة الأولى، بالإضافة إلى بدل سفر يقدر بألفي دولار لشراء سيارة، وفي حالة تحسن الأحوال سيزداد الراتب. بعد أن رحل سلكت الطريق الأطول للعودة إلى المنزل وهو كورنيش نهر إيست ريفر، وحاولت أن أسبر غور هذا الرجل. وفي النهاية توصلت إلى أنه رجل ذكي ويبدو ملتزما تجاه عمله. لكن ظل هناك شيء يجعلني أشعر بالتحفظ تجاهه. ربما كان هذا الشيء هو ثقته المفرطة أو لعله لونه الأبيض. وقد قال هو نفسه إن لونه هذا كان مشكلة له.
أضيئت مصابيح الأعمدة المزخرفة القديمة، وبدأ قارب طويل بني اللون في شق طريقه خلال المياه الرمادية في اتجاه البحر. جلست على مقعد للتفكير في الخيارات المتاحة أمامي، ورأيت سيدة سوداء وابنها الصغير يقتربان مني. جذب الولد أمه تجاه سور الكورنيش المعدني إلى أن أصبحا يقف أحدهما بجانب الآخر، ولف ذراعه حول ساقها فكونا ظلا عكسه الشفق على الأرض. وفي آخر الأمر رفع الطفل عنقه لأعلى وبدا كأنه يسأل أمه سؤالا. استجابت السيدة بهز كتفيها وتقدم الطفل بخطوات قليلة تجاهي.
صاح الولد: «عذرا سيدي.» وتابع: «أتعرف لماذا في بعض الأحيان يتدفق النهر في هذا الاتجاه، ثم يتدفق في الاتجاه الآخر في أحايين أخرى؟»
ابتسمت السيدة وهزت رأسها، قلت إنه من المحتمل تعلق هذا الأمر بالمد، وبدا الولد راضيا عن هذه الإجابة، ثم عاد إلى أمه. وبينما شاهدتهما وهما يختفيان من أمام عيني في الظلام أدركت أنني لم ألحظ مطلقا أي طريق يتدفق النهر فيه.
بعد ذلك بأسبوع ملأت سيارتي بالوقود واتجهت إلى شيكاغو.
الفصل الثامن
لم تكن تلك هي المرة الأولى لذهابي إلى شيكاغو، حيث زرتها خلال الصيف الذي تلا زيارة والدي لهاواي، قبل عيد ميلادي الحادي عشر، وكان ذلك عندما قررت جدتي أنه حان الوقت لأن أرى أراضي الولايات المتحدة. ربما يكون قرارها هذا وزيارة أبي مرتبطين أحدهما بالآخر، حيث وجود أبي (مرة أخرى) وقد أزعج العالم الذي صنعه جدي وجدتي لنفسيهما، وبعث في جدتي الرغبة في استعادة الماضي واسترجاع ذكرياتها ونقلها إلى أحفادها.
استغرقت الرحلة ما يزيد عن شهر، وكنت قد سافرت أنا وجدتي وأمي ومايا، أما جدي فلم تكن لديه رغبة في السفر حينئذ ولذا فضل عدم مصاحبتنا. انطلقنا إلى سياتل، واتجهنا منها للجنوب إلى ساحل كاليفورنيا وديزني لاند، ثم اتجهنا شرقا إلى وادي جراند كانيون، ثم عبرنا منطقة السهول الكبرى لنصل إلى مدينة كانزاس سيتي، وبعدها اتجهنا لأعلى إلى البحيرات العظمى قبل أن ننطلق غربا مرورا بمتنزه يلوستون. وخلال هذه الرحلة كانت وسيلة مواصلاتنا هي غالبا أتوبيسات شركة جريهاوند، وأقمنا في فندق هوارد جونسون، وكنا نشاهد جلسات الاستماع في فضيحة ووترجيت كل مساء قبل النوم.
مكثنا في شيكاغو ثلاثة أيام في نزل في منطقة ساوث لوب. ومع أننا كنا في شهر يوليو فإنني لسبب أو لآخر أتذكر أن الطقس آنذاك كان باردا وملبدا بالغيوم. كان بالفندق حمام سباحة داخلي، الأمر الذي أدهشني لأنه في هاواي لم تكن توجد حمامات سباحة داخلية. وذات مرة كنت واقفا أسفل أحد جسور شبكة القطارات المعلقة وأغمضت عيني وقت مرور القطار، وصرخت بأقصى ما استطعت. وفي متحف فيلد رأيت رأسين آدميين صغيرين للغاية معروضين في صندوق زجاجي. وكان لهما وجهان تعلوهما التجاعيد، لكنهما كانا محفوظين في حالة جيدة، وكان حجم كل منهما لا يزيد عن حجم كف يدي، وكان الفمان والعيون مغلقة بإحكام، تماما كما كنت أتوقع. كان يبدو أنهما أوروبيا العرق، وكان للرجل لحية صغيرة مشذبة جعلته شبيها بالغزاة الإسبان الذين هاجموا وسط وجنوب أمريكا في القرن السادس عشر، وعلا رأس السيدة شعر أحمر منساب. حدقت النظر إلى كليهما فترة طويلة (إلى أن جذبتني أمي بعيدا عنهما)، وانتابني شعور وقتها - في ظل مشاعر السخرية التي يمكن أن يشعر بها صبي صغير - كما لو أنني عثرت بالصدفة على أضحوكة هائلة. لم تكن حقيقة أن الرأسين صغيرا الحجم للغاية هي التي أدهشتني وفاقت قدرتي على الفهم؛ حيث كان شأنها شأن فكرة أكل لحم النمور مع لولو. فقد كان شكلا من أشكال السحر يستهدف استعراض السيطرة والقوة، بل إن ما أدهشني هو أن هذين الوجهين الأوروبيين الصغيرين كانا معروضين في إطار زجاجي، حتى يتمكن الغرباء - وربما المنحدرون من الأصل نفسه أيضا - من ملاحظة تفاصيل قدرهما المشئوم، إلى جانب حقيقة أنه لم يبد أن أحدا قد فكر في هذه المفارقة. وعلى الجانب الآخر كان لأضواء المتحف المزعجة واللافتات المنمقة الموضوعة على المعروضات، واللامبالاة البادية على زائري المتحف المارين تأثير سحري من نوع آخر أو هو جهد آخر يبذل لإظهار القوة والسيطرة.
بعد زيارتي هذه بأربعة عشر عاما، أصبحت المدينة أكثر جمالا. وكان ذلك أيضا في يوليو حيث كانت أشعة الشمس تتلألأ خلال الأشجار ذات اللون الأخضر الغامق. ولم تكن القوارب في مراسيها إذ بدت أشرعتها من بعيد كأجنحة اليمام فوق بحيرة ميشيجان. أخبرني مارتي أنه سيكون مشغولا في الأيام القليلة الأولى؛ لذا ظللت بمفردي أتصرف كما يحلو لي. فاشتريت خريطة واسترشدت بها في السير بطريق مارتن لوثر كينج درايف من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، ثم اتجهت شمالا إلى مدينة كوتيدج جروف، ثم جنوبا عبر الطرق الجانبية والأزقة مرورا بالمباني السكنية والأراضي الفضاء والمتاجر الصغيرة والمنازل ذات الطابق الواحد. وفي طريقي تذكرت صفارة قطارات «إلينوي سنترال» وهي تحمل الآلاف ممن أتوا من الجنوب قبل سنوات طويلة ... آلاف من الرجال السود ونسائهم وأطفالهم، المتسخين من سخام عربات القطارات، قابضين على أمتعتهم التي أعدوها على عجل، وهم يشقون طريقهم إلى كنيسة أرض كنعان. وحينها تخيلت فرانك - وهو يرتدي حلة فضفاضة، طية صدرها عريضة - واقفا أمام سينما ريجال القديمة في انتظار رؤية ديوك أو إيلا، وهما خارجان من عربة بحصان واحد. كان ساعي البريد الذي رأيته يوزع البريد هو ريتشارد رايت قبل بيع كتابه الأول، وكانت البنت الصغيرة ذات النظارة والضفائر المجدولة التي رأيتها تمارس قفز الحبل، هي ريجينا. لقد ربطت بين حياتي والوجوه التي رأيتها، مستعيرا ذكريات الآخرين، وبهذه الطريقة حاولت الإلمام بكل تفاصيل المدينة والاستحواذ عليها. وهذا أيضا سحر من نوع آخر!
في يومي الثالث في شيكاغو مررت على صالون سميتي للحلاقة بواجهته التي تطل على الشارع والتي يبلغ عرضها خمسة عشر قدما وطولها ثلاثين قدما. يقع صالون سميتي على أطراف هايد بارك ويشتمل من الداخل على أربعة مقاعد للحلاقة ومنضدة صغيرة تطوى لتأخذ حيزا أقل لمقلم الأظافر - لاتيشا - الذي يعمل نصف دوام. كان الباب شبه مفتوح عندما دخلت وكان مسنودا بدعامة لمنعه من الانغلاق، وكان الصالون تنبعث منه رائحة كريم شعر ومطهر تمتزج مع صوت ضحكات رجال وطنين مراوح تعمل ببطء. واتضح أن سميتي رجل أسود عجوز يعلو رأسه الشيب، وكان نحيلا متقوس الظهر. لم يكن هناك أحد يجلس على كرسي الحلاقة أمام سميتي؛ لذا جلست على الكرسي وسرعان ما اشتركت في الحديث المعتاد في صالونات الحلاقة عن الرياضة والسيدات والعناوين الرئيسية في جرائد الأمس، تلك المحادثات التي توحي بالألفة على الرغم من جهل الرجال - الذين اتفقوا على ترك مشكلاتهم الشخصية بالخارج - بعضهم بعضا.
سرد أحدهم قصة أحد جيرانه، الذي أمسكت به زوجته في الفراش مع ابنة عمها، وخرج يجري عاريا في الشارع وهي خلفه تطارده بسكين المطبخ، وبعده مباشرة تحولت دفة الحديث إلى السياسة. «إن فردولياك وسائر البيض الحقراء لا يعرفون متى يكفون عما يفعلونه»، هكذا قال الرجل الذي كانت بيده الجريدة وهو يهز رأسه تأففا مما يحدث. وأضاف: «عندما كان ريتشارد دالي في منصب العمدة لم يتحدث أحد عندما جعل أعضاء مجلس المدينة كلهم من هؤلاء الأيرلنديين. وبمجرد أن حاول هارولد تعيين بعض الرجال السود لتحقيق المساواة بين البيض والسود، أطلقوا على هذه المحاولة عنصرية مضادة.» «هكذا الحال دائما. كلما حصل رجل أسود على السلطة وجدتهم يحاولون تغيير القواعد.» «الأسوأ من ذلك أن الجرائد تشيع أن السود هم من تسببوا في كل هذه الفوضى.» «ماذا تتوقع من جرائد منحازة للرجل الأبيض؟» «نعم هذا صحيح. إن هارولد يعلم ماذا يفعل. ومع ذلك فهو ينتظر حتى تسنح الفرصة لفعل ما يريد عندما يحين موعد الانتخابات القادمة.»
هكذا يتحدث السود عن عمدة شيكاغو، بألفة وتعاطف وكأنهم يتحدثون عن أحد أقربائهم. وكانت صور هارولد في كل مكان؛ على جدران محلات إصلاح الأحذية، وصالونات التجميل، وكانت لا تزال ملصقة على أعمدة الإنارة بالشارع منذ حملة الانتخابات الأخيرة، وكانت لا تزال موجودة على نوافذ محلات التنظيف الجاف الكورية ومتاجر البقالة العربية، وكانت معروضة بطريقة واضحة وكأنها رمز مقدس يمنح الحماية. بدا الرجل في الصورة الملصقة على جدار صالون الحلاقة وكأنه ينظر إلي، وكان وسيما أشيب وله شارب كث وحاجبان كثيفان وعينان لامعتان. لاحظني سميتي وأنا أنظر إلى الصورة وسألني هل كنت في شيكاغو وقت الانتخابات. فأجبته بالنفي. فهز رأسه وأخذ يتحدث. «كان من الضروري أن تكون هنا قبل أن يمسك هارولد بزمام الأمور لتفهم ماذا يعني لهذه المدينة.» وتابع: «فقبله بدا الأمر وكأننا دائما مواطنون من الدرجة الثانية.»
قال الرجل صاحب الجريدة: «مستعمرة سياسية.»
رد سميتي وقال: «كان الحال هكذا دائما.» واستكمل قائلا: «مستعمرة سياسية. فيها يعمل السود في أحط الوظائف. ويقطنون أوضع المنازل. ويتعرضون لأسوأ معاملة على يد رجال الشرطة الهمجيين. لكن عندما يحين وقت انتخاب من يطلق عليهم أعضاء اللجان السود يكون علينا الاتحاد والتصويت لمصلحة الحزب الديمقراطي القويم. يتعين علينا حينئذ تقديم أرواحنا لشخص أحمق. ومكافأة لهم على البصق في وجوهنا نصوت لمصلحتهم في الانتخابات.»
أثناء سماعي حديث الرجال - وهم يتذكرون صعود هارولد للسلطة وإمساكه بزمام الأمور - سقط بعض خصل الشعر على حجري. لقد ذكروا أنه رشح نفسه في إحدى المرات سابقا بعد أن مات ريتشارد دالي بفترة قصيرة، لكن ترشيحه للمنصب تعثر آنذاك، وأخبروني كيف كان هذا مبعثا للخزي إذ حدث بسبب افتقار المجتمع الأسود لوحدة الصف وانتشار الشكوك التي كان لا بد من التغلب عليها. على أن هارولد كرر المحاولة مرة أخرى، وآنذاك كان الناس مستعدين. حيث وقفوا بجانبه عندما سلطت الصحافة الأضواء بشدة على مشكلته مع ضرائب الدخل التي لم يستطع دفعها (وكأن البيض لا يغشون في أي شيء طوال حياتهم). فاحتشدوا وراءه عندما أعلن أعضاء اللجنة الديمقراطيون - مثل فردولياك وغيره - دعمهم للمرشح الجمهوري بقولهم إن المدينة ستزداد فيها الأحوال سوءا إذا ما أمسك بزمام الأمور فيها عمدة أسود. تجمع هؤلاء الناس بأعداد هائلة ليلة الانتخاب؛ خدام كنائس ورجال عصابات؛ كبار السن منهم والشباب.
وبعد كل ذلك كوفئوا على هذا الإخلاص. وقال سميتي: «دعوني أخبركم ماذا حدث ليلة فوز هارولد؛ أخذ الناس يركضون في الشوارع. وكان يوما شبيها باليوم الذي فاز فيه الملاكم جو لويس على شميلينج. وكان هو الشعور نفسه بالانتصار. ولم يكن الناس فخورين بهارولد فقط. بل كانوا فخورين بأنفسهم أيضا. وفي هذا اليوم مكثت داخل المنزل لكنني لم أستطع النوم وكذلك زوجتي حتى الثالثة صباحا، لأننا كنا نشعر بالحماس والسعادة البالغة. وعندما استيقظت في صباح اليوم التالي شعرت بأن هذا اليوم هو أجمل يوم في حياتي.»
انخفض صوت سميتي بعد ذلك وبدا كأنه يهمس، وابتسم كل شخص في صالون الحلاقة. إنني من على بعد شاركتهم هذا الشعور بالفخر - وأنا أقرأ الجرائد في نيويورك - نعم، الشعور نفسه بالفخر الذي جعلني أشجع بحماس أي فريق كرة قدم محترف تعاقد مع ظهير رباعي أسود. لكن كان هناك شيء مختلف بخصوص ما كنت أسمعه في ذلك الحين؛ حيث بدا صوت سميتي وكأنه ينم عن حماسة متوهجة تجاوزت الأمور السياسية. قال لي سميتي: «كان من الضروري أن تكون هنا قبل أن يمسك هارولد بزمام الأمور لتفهم.» وكان يعني بقوله هنا «شيكاغو»، لكنه ربما قصد أيضا «في مكاني» باعتباره رجلا أسود يكبرني سنا، كان ما زال يعاني إهانات ظلت تلاحقه وتجرحه طوال حياته، ويتألم بسبب طموحات أحبطت، وطموحات أخرى تخلى عنها قبل أن يحاول تحقيقها. وحينها سألت نفسي هل استطعت فهم الأمر فعلا. وتوصلت دون نقاش إلى أنني بالفعل فهمته. وأعتقد أن هؤلاء الرجال قد افترضوا نفس الافتراض بعد رؤيتي. ولكن ترى هل كان سيراودهم الشعور نفسه إذا عرفوا المزيد من التفاصيل عني؟ طرحت على نفسي هذا السؤال. وحاولت أن أتخيل ماذا كان سيحدث إذا ما دخل جدي صالون الحلاقة في هذه اللحظة بالذات، وكيف كان سيتوقف الحديث، وكيف كان السحر سيتوقف، وكيف كانت ستنتهي الافتراضات التي تجري على قدم وساق.
أعطاني سميتي المرآة للتطلع إلى صنيع يديه، ثم خلع عني ثوب الحلاقة، ونظف بالفرشاة الجزء الخلفي من قميصي. وقلت له وأنا أقف: «أشكرك على درس التاريخ هذا.» «حسنا، هذا الدرس مجاني. وسأتقاضى عن الحلاقة 10 دولارات. ما اسمك على أية حال؟» «باراك.» «باراك، إمممم. مسلم؟» «كان جدي مسلما.»
أخذ مني المال وصافحني. وقال: «حسنا يا باراك، أنتظرك عما قريب. بدا شعرك أشعث للغاية عندما حضرت.» •••
لاحقا بعد ظهر اليوم نفسه، حضر مارتي وأخذني من أمام سكني الجديد واتجهنا جنوبا إلى طريق سكاي واي السريع. وبعد عدة أميال اتجهنا إلى الجانب الجنوبي الشرقي ومررنا بالعديد من المنازل الصغيرة المبنية بالألواح الخشبية الرمادية أو بالطوب، إلى أن وصلنا إلى مصنع قديم كبير للغاية مكون من مبان عدة. «مصنع ويسكونسن القديم للصلب.»
جلسنا معا في هذا المكان في صمت، ندقق النظر في المبنى. كان لا يزال يحمل الروح المزدهرة والمتوحشة للماضي الصناعي في شيكاغو إذ دكت في بنائه العوارض المعدنية والخرسانة دون الاكتراث كثيرا بمدى الشعور بالراحة أو الشكل الجمالي. أما الآن، وقت رؤيتنا إياه، فقد كان المبنى خاويا ويعلوه الصدأ؛ تماما كأطلال مبنى مهجور. وعلى الجانب الآخر من السياج السلكي ركضت قطة رقطاء جرباء عبر النباتات البرية.
قال مارتي وهو يدور بالسيارة في طريق العودة: «اعتاد الناس من الفئات كافة العمل في هذا المصنع. وتابع: «السود. والبيض. والهيسبانيون. وكانوا جميعهم يعملون في الوظائف نفسها. ويعيشون ظروف الحياة نفسها. لكن خارج المصنع لا تريد أي فئة منهم شيئا يربطها بالأخرى. وهؤلاء هم أفراد الكنيسة الذين أتحدث معك بشأنهم. الإخوة والأخوات في المسيح.»
توقفنا عند إحدى إشارات المرور، ولاحظت مجموعة من الشباب من ذوي البشرة البيضاء يشربون البيرة عند مدخل أحد المباني وهم مرتدون فانلاتهم الداخلية. كانت صورة فردولياك معلقة على إحدى النوافذ، وكان العديد منهم يحدق النظر تجاهي، وحينها نظرت لمارتي وتحدثت إليه. «إذن ما الذي يجعلك تفكر أن التعاون بينهم ممكن الآن؟» «ليس أمامهم اختيار. إذا كانوا يريدون استرداد وظائفهم مرة أخرى.»
عندما بدأنا القيادة على الطريق السريع مرة أخرى بدأ مارتي يخبرني بصورة أكثر تفصيلا عن المؤسسة التي أنشأها. أخبرني أن الفكرة راودته منذ عامين عندما قرأ تقارير صحفية متعلقة بإغلاق المصنع والاستغناء عن العمال، ثم إجبارهم على الانتقال إلى ضاحية ساوث شيكاغو وغيرها من الضواحي الجنوبية. وبمعاونة أسقف كاثوليكي متعاطف مع القضية، ذهب مارتي لمقابلة القساوسة وأعضاء الكنيسة في المنطقة وسمع كلا من البيض والسود وهم يتحدثون عن شعورهم بالخزي بسبب البطالة، وخوفهم من أن يطردوا من مساكنهم أو حرمانهم من المعاش بطريق الخداع، والأسوأ من ذلك إدراكهم بأنهم تعرضوا للخيانة.
في نهاية الأمر وافق ما يزيد على 20 كنيسة في الضواحي على إنشاء مؤسسة أطلقوا عليها بعد ذلك اسم «المؤتمر الديني لمجتمع كالوميت». هذا بالإضافة إلى أن ثماني كنائس أخرى انضمت إلى فرع المؤسسة بالمدينة المسمى بمشروع تنمية المجتمعات المحلية. لم تسر الأمور بالسرعة التي كان يتمناها مارتي؛ فالنقابات العمالية لم تكن قد انضمت بعد، وكانت الحرب السياسية في مجلس المدينة عاملا مؤثرا من عوامل تشتيت الانتباه. وكان المؤتمر الديني لمجتمع كالوميت قد حقق منذ وقت قريب أول نصر مهم؛ متمثل في برنامج التوظيف القائم على استخدام الكمبيوتر الذي بلغت تكلفته 500 ألف دولار، وكان المجلس التشريعي بولاية إلينوي قد وافق على تمويله. أوضح مارتي أننا كنا في طريقنا لاجتماع حاشد من أجل الاحتفال ببنك الوظائف الجديد الذي يعتبر خطوة أولى في حملة طويلة المدى.
قال مارتي: «سيستغرق الأمر بعض الوقت من أجل إعادة إحياء نشاط التصنيع هنا.» وتابع: «على الأقل 10 سنوات. لكن بمجرد انضمام النقابات العمالية إلينا، ستصبح لدينا قاعدة يمكن التفاوض من خلالها. وفي الوقت نفسه فإننا في حاجة إلى أن نوقف نزيف الخسائر ونسعد الناس ببعض الانتصارات القصيرة المدى. هذا لنوضح لهم قدر القوة التي امتلكوها بمجرد أن توقفوا عن محاربة بعضهم بعضا وبدءوا يركزون على العدو الحقيقي.» «ومن هو ذلك العدو؟»
هز مارتي كتفيه. وقال: «أصحاب البنوك الاستثمارية. والسياسيون. وجماعات الضغط من أصحاب النفوذ ذوي الثراء الفاحش.»
أومأ مارتي برأسه وهو ينظر إلى الطريق أمامه بعينين شبه مغمضتين. فنظرت إليه وبدأت أشك في أنه لم يكن ساخرا كما أحب أن يتظاهر، وأن المصنع الذي ما لبثنا أن تركناه يمثل له الكثير من المعاني. وحينها فكرت أنه أيضا في مرحلة ما من حياته تعرض للخيانة.
عبرنا حدود المدينة عندما كانت حمرة غروب الشمس قد انتشرت في الأفق. توقفنا في موقف السيارات الخاص بإحدى المدارس الكبيرة في الضاحية، حيثما كانت مجموعات من الناس تشق طريقها للوصول إلى قاعة الاجتماعات الكبرى في المدرسة. بدا هؤلاء الناس تماما كما وصفهم مارتي: أناس فقدوا وظائفهم من عمال صلب، وموظفي سكرتارية، وسائقي شاحنات، ورجال وسيدات يدخنون بإفراط ولا يكترثون بوزنهم الزائد، وكانوا يتسوقون من متاجر شركة سيرز أو كمارت، ويقودون سيارات من أحدث طراز من مدينة ديترويت، ويأكلون في مطعم «رد لوبستر» في المناسبات الخاصة. عند الباب رحب بنا رجل أسود عريض الصدر يرتدي ياقة القساوسة، قدمه مارتي لي وقال إن اسمه ديكون ويلبر ميلتون، نائب رئيس المؤسسة. ذكرني هذا الرجل، بلحيته القصيرة الحمراء ووجنتيه المستديرتين، ببابا نويل.
قال ويل وهو يصافحني بحرارة: «مرحبا بك.» وتابع: «كم تساءلنا من قبل متى سنتمكن بالفعل من مقابلتك. أعتقد أن مارتي أعدك بالفعل لهذا العمل.»
ألقى مارتي نظرة سريعة داخل القاعة. وقال: «ماذا عن عدد الحاضرين؟» «حسن حتى الآن. يبدو أن الجميع التزم بالعدد المتفق عليه. وقد اتصل رجال المحافظ ليبلغونا أنه في طريقه إلى هنا.»
بدأ مارتي وويل في الاتجاه نحو المنصة وهما ينظران بتمعن إلى أجندة الأعمال. وعندما هممت في تتبعهما، اعترض طريقي ثلاث سيدات سوداوات في عمر لم أستطع تحديده بدقة. كانت إحداهن جميلة ويعلو رأسها شعر مصبوغ باللون البرتقالي الخفيف، عرفت أن اسمها أنجيلا بعد أن قدمت لي نفسها، ثم مالت نحوي وهمست لي قائلة: «أنت باراك، ألست كذلك؟»
أومأت برأسي بالإيجاب. «إنك لا تعرف قدر سعادتنا لرؤيتك.»
قالت السيدة الواقفة بجوار أنجيلا التي بدت أكبر منها سنا: «إنك لا تعرف حقا!» مددت يدي لمصافحة هذه السيدة فابتسمت وظهرت سنتها الذهبية في صف أسنانها الأمامي. وقالت وهي تمد يدها: «أنا آسفة، اسمي شيرلي.» ثم أشارت شيرلي تجاه السيدة الأخيرة؛ وكانت سمراء قصيرة ممتلئة الجسد قوية البنية. وقالت: «هذه منى. ألا يبدو أنيقا ومحترما يا منى؟»
قالت منى بابتسامة: «بلى، بكل تأكيد.»
قالت أنجيلا بصوت منخفض قليلا: «لا تفهماني خطأ.» وتابعت: «إنني لا أكره مارتي. لكن الحقيقة هي أن هناك الكثير يمكنكما ...»
صاح أحدهم من على المنصة: «أنجيلا!» في هذه اللحظة، نظرنا لنرى من هذا الرجل لنجد مارتي يلوح بيده لأنجيلا من هناك. وأضاف: «إن بإمكانكن التحدث لاحقا مع باراك كما تردن. لكن الآن أريدكم جميعا معي على المنصة.»
تبادلت السيدات النظرات فيما بينهن قبل أن تستدير أنجيلا تجاهي.
قالت أنجيلا: «أعتقد أنه من الأفضل أن نذهب الآن.» واستدركت: «لكن لا بد أن نتحدث مرة أخرى عما قريب.»
قالت منى: «نعم بكل تأكيد»، قبل أن يمشي ثلاثتهن، وكانت أنجيلا وشيرلي في المقدمة مشغولتين بالتحدث بخصوص أمر ما، وكانت منى تمشي خلفهما بتؤدة.
كان معظم أماكن قاعة الاجتماعات قد شغل آنذاك، وبلغ عدد الحاضرين ألفي شخص، ربما كان ثلثهم من السود الذين جاءوا من المدينة مستقلين الحافلات. عندما دقت الساعة السابعة أنشدت جوقة المنشدين ترنيمتين من الإنجيل، وتفقد ويل الحاضرين من الكنائس، وشرح بعدها مسيحي لوثري أبيض من الضواحي تاريخ المؤتمر الديني لمجتمع كالوميت ورسالته. بعد ذلك بدأت مجموعة من المتحدثين الصعود إلى المنصة لإلقاء كلمتهم، وكان منهم مشرع أسود وآخر أبيض، وخادم معمداني، والكاردينال جوزيف بيرناردين، وفي النهاية المحافظ الذي قدم تعهدا رسميا بدعم بنك الوظائف الجديد، وقدم أدلة على مجهوداته المتواصلة المبذولة نيابة عن الطبقة العاملة في ولاية إلينوي من الرجال والسيدات.
في حقيقة الأمر بدا هذا الحدث لي في مجمله مملا، مثله في ذلك مثل أي اجتماع سياسي أو مباراة مصارعة تعرض على شاشة التلفاز. مع أن الجمهور بدا مستمتعا بالأمر. رفع بعضهم أعلاما براقة تحمل اسم كنيستهم. وأخذ البعض الآخر يهتف بشدة وحماسة عند مشاهدة صديق لهم أو أحد الأقرباء على المنصة. وبرؤيتي كل هذه الوجوه السوداء والبيضاء معا في مكان واحد وجدت نفسي أنا أيضا أشعر بالابتهاج، وعرفت أن بداخلي الرؤية نفسها التي تدفع مارتي للأمام وثقته بالدوافع الشعبية وتضامن الطبقة العاملة، وإيمانه بأنه إذا أمكن تنحية السياسيين ووسائل الإعلام والبيروقراطيين جانبا، وإعطاء كل فرد في المجتمع مقعدا على الطاولة، يمكن عندئذ أن يجد عوام الناس أساسا للتفاهم المشترك.
عندما انفض الاجتماع الحاشد ذكر مارتي أن عليه توصيل بعض الأفراد إلى منازلهم؛ لذا بدلا من أن أركب معه قررت أن أركب إحدى الحافلات المتجهة إلى المدينة. وعندما وصلت الحافلة كان بها مقعد خال بجانب ويل، حيث بدأ يتحدث معي قليلا عن نفسه في الضوء الباهت لمصابيح الإنارة المتراصة على الطريق السريع.
ذكر لي ويل أنه تربى في شيكاغو، وخدم مع القوات الأمريكية في فيتنام. وبعد الحرب وجد عملا كموظف تنفيذي تحت الاختبار في بنك كونتيننتال إلينوي، ثم ترقى في البنك سريعا واستطاع الاستفادة من مميزات العمل؛ السيارة، وارتداء الحلل الأنيقة، والعمل بمكتب في وسط المدينة. بعد ذلك حدثت حركة إعادة تنظيم في البنك، وترتب عليها الاستغناء عن ويل وتركه غارقا في الديون. وكانت تلك هي نقطة التحول في حياته - كما قال - والطريقة الإلهية لإخباره بأن عليه إعادة النظر في القيم التي يؤمن بها. وبدلا من أن يبحث عن وظيفة أخرى في المجال المصرفي، سلك اتجاها دينيا. حيث انضم إلى أبرشية سانت كاترين في ضاحية ويست بولمان وحصل على وظيفة الحاجب هناك. وهذا القرار في الواقع فرض بعض القيود على زواجه وطبقا لما قاله، كانت زوجته «لا تزال تحاول التكيف» مع هذا الوضع. أما ويل فإن أسلوب الحياة الزاهد كان يتناسب مع رسالته الجديدة؛ ألا وهي نشر تعاليم الكتاب المقدس، والتخلص من بعض مظاهر الرياء التي رآها في الكنيسة.
قال ويل: «انخرط الكثير من السود في الكنيسة مع مواقف الطبقة المتوسطة واتجاهاتها.» وتابع: «فهم يعتقدون أنهم ما داموا يتبعون المعنى الحرفي لآيات الكتاب المقدس فإنهم ليسوا في حاجة إلى اتباع روح الآيات. وبدلا من محاولة إظهار الود والرغبة في المساعدة للمسيئين، يجعلونهم يشعرون بأنهم غير مرحب بوجودهم. بالإضافة إلى أنهم يسخرون من الناس ما لم يكونوا مرتدين الملابس المناسبة للقداس وما لم يتحدثوا بصورة لائقة، وما إلى غير ذلك. إنهم يتصورون أنهم يشعرون بالراحة؛ لذا لا يوجد سبب لشعورهم بالضيق والانزعاج. حسنا، ليس في الدين ما يبعث على شعورهم بالراحة، أليس كذلك؟ فكل ما فيه عظات اجتماعية. وقد حمل رسالته إلى الضعفاء المضطهدين. وهذا بالضبط ما أقوله لبعض هؤلاء الزنوج المنتمين للطبقة المتوسطة كلما تحدثت معهم أيام الآحاد. حيث أخبرهم بما لا يودون سماعه.» «وهل يستمعون إليك؟»
ضحك ويل ضحكة خافتة، وقال: «لا.» وتابع: «لكن ذلك لا يوقفني عن الكلام. إن الأمر شبيه بياقة القساوسة التي أرتديها. وهذا بالفعل يدفع بعضهم إلى الشعور بالغضب العارم. فيقولون لي: «إن هذه الياقات خاصة بالقساوسة.» لكن كما ترى، فإن كوني متزوجا ولا يمكن رسمي كاهنا لا يعني أنه لا يوجد لدي دافع داخلي قوي تجاه العمل الديني . في الواقع، لا يوجد شيء في الإنجيل يتحدث عن الياقات. لذا فإنني أرتدي الياقة ليعرف الناس وجهة نظري.
في حقيقة الأمر، إنني ارتديت الياقة عندما ذهب بعضنا لمقابلة الكاردينال بيرناردين منذ قرابة شهر. ولكن كل شخص وقتها شعر بالضيق الشديد لارتدائي إياها. وبعد ذلك غضبوا جميعا عندما ناديت الكاردينال جوزيف باسم «جو» بدلا من «صاحب القداسة». ولكن بيرناردين كان رائعا. إنه رجل روحاني. وأستطيع أن أقول لك إن أحدنا قد فهم الآخر. لكن هذه القواعد نفسها هي التي تفرقنا؛ القواعد التي يفرضها البشر وليست القواعد الإلهية. أريدك أن تعلم يا باراك أنني على الرغم من انضمامي للكنيسة الكاثوليكية فإنني منذ نعومة أظافري معمداني. وكان يمكن أن ألتحق بكنيسة ميثودية أو خمسينية أو غيرها بمنتهى السهولة. لكن كنيسة سانت كاترين هي الكنيسة التي أرسلني إليها الرب. فالرب يهتم بما إذا كانت لدي الرغبة في مساعدة الآخرين أكثر مما يهتم بما إذا كنت ملتزما بخلاصة العقيدة الدينية المفرغة في سؤال وجواب.»
أومأت برأسي مقررا ألا أسأله عن معنى هذه الخلاصة. ففي إندونيسيا قضيت عامين في مدرسة إسلامية وعامين في مدرسة كاثوليكية. في المدرسة الإسلامية أرسل المدرس لأمي خطابا قال فيه إنني في أثناء حصص القرآن كنت أصنع تعبيرات بلهاء بقسمات وجهي لإثارة الضحك. لكن أمي لم تهتم بصفة عامة بهذا الأمر. ولم تقل لي سوى: «كن محترما.» أما عندما كان يحين موعد الصلاة في المدرسة الكاثوليكية فكنت أتظاهر أنني أغمض عيني ثم أظل أجول ببصري في أرجاء الغرفة. ولكن لم يكن يحدث شيء. ولم تكن تتنزل الملائكة. ولم يكن هناك سوى راهبة عجوز جافة البشرة ومعها 30 طفلا أسمر كانوا جميعا يهمهمون بالكلمات. وكانت الراهبة في بعض الأحيان تمسك بي وأنا أفعل ذلك، وكانت نظرتها القاسية تجبرني أن أغمض جفني من جديد. لكن لم يكن ذلك يغير شعوري الداخلي. لقد انتابني هذا الشعور نفسه وأنا أستمع لويل وكان صمتي شبيها بإغماض عيني .
توقفت الحافلة في موقف سيارات الكنيسة، وذهب ويل لمقدمة الحافلة. وشكر الجميع على الحضور وحثهم على اشتراكهم المستمر. وقال: «إن طريقنا طويل، لكن أحداث الليلة أوضحت لي ما يمكننا فعله عندما نضعه نصب أعيننا. إن الشعور الطيب الذي ينتابكم الآن علينا أن نحافظ عليه حتى نرى حينا هذا واقفا على قدميه من جديد.»
ابتسم بعض الناس وصدقوا على صحة هذا الحديث. لكن عندما نزلت من الحافلة سمعت امرأة خلفي تهمس إلى صديقتها قائلة: «إنني لست في حاجة إلى سماع أي شيء عن الحي. أين الوظائف التي يتحدثون عنها؟» •••
بعد هذا الاجتماع الحاشد بيوم واحد قرر مارتي أنه حان الوقت لأن أنفذ عملا حقيقيا ذا قيمة. ولذا سلمني قائمة طويلة بأسماء بعض الأفراد لإجراء مقابلات معهم. وقال لي إن علي أن أعرف اهتماماتهم الشخصية. وهذا هو سبب اشتراك الناس في عملية التنظيم، حيث يعتقدون أنهم سيستفيدون منها. وبمجرد أن كنت أجد قضية يهتم بها عدد كاف من الناس كنت أدفعهم لاتخاذ أفعال. فيمكنني البدء في اكتساب السلطة في ظل تنفيذ عدد كاف من الإجراءات.
القضايا، والإجراءات التنظيمية، والسلطة، والاهتمامات الشخصية. كم أحببت هذه المفاهيم! إنها تنم عن عند وصلابة من نوع معين، وتدل على التخلي - القائم على الخبرة بأمور الحياة والناس - عن العواطف، وتشير في مجملها إلى السياسة وليس إلى الدين. وعلى مدار الأسابيع الثلاثة التالية عملت ليلا ونهارا، أحدد مواعيد المقابلات مع الناس قبل أن أجريها معهم. وكانت هذه الوظيفة أصعب مما توقعت. وكنت أشعر بمقاومة ذاتية كلما رفعت سماعة الهاتف لأحدد مواعيد المقابلات؛ إذ كانت تقفز إلى مخيلتي صور المكالمات الهاتفية التي كان جدي يجريها لبيع خدمات التأمين على الحياة، ونفاد صبر الطرف الآخر على سماعة الهاتف، والمشاعر الحزينة عندما لا يرد أحد على رسائلي الصوتية. كنت أجري معظم مقابلاتي في المساء والتي كانت زيارات منزلية، وكان الناس يشعرون بالإرهاق دائما بعد يوم عمل كامل. وفي بعض الأحيان كنت أصل إلى مكان المقابلة لأكتشف أن الشخص المفترض أن أقابله نسي الميعاد المحدد بيننا، وكان علي أن أذكر هذا الشخص بمن أكون وهو ينظر إلي بارتياب من خلف باب موارب.
ومع ذلك، لم تكن هذه الأمور سوى صعوبات ثانوية. فبمجرد أن كنت أتغلب عليها كنت أجد أن الناس لا يمانعون في انتهاز أية فرصة للتعبير علنا عن آرائهم بخصوص عضو مجلس مدينة ليس له نشاط يذكر، أو جار رفض أن يجز العشب من أمام منزله. وكلما أجريت عددا أكبر من المقابلات زاد سماعي لموضوعات وقضايا بعينها متكررة. مثلا علمت أن معظم الناس في المنطقة كانوا قد تربوا في أقصى الشمال أو في الجانب الغربي من شيكاغو، في مناطق السود الضيقة التي أنشأتها الاتفاقيات المقيدة للحرية على مدار معظم الفترات في تاريخ المدينة. وكان الناس الذين تحدثت معهم لهم بعض الذكريات الرائعة عن ذلك العالم المستقل بذاته، لكنهم كانوا يذكرون أيضا افتقارهم إلى الدفء والضوء والمساحة الكافية لأن تجعلهم يتنفسون هواء الكون، علاوة على رؤية والديهم وهم يكدحون في العمل البدني.
سار البعض على نهج آبائهم في العمل بمصانع الصلب أو في خطوط التجميع، لكن الغالبية عملوا في وظائف سعاة بريد وسائقي حافلات ومدرسين وإخصائيين اجتماعيين، مستفيدين في هذه الوظائف من التطبيق الفعال لقوانين عدم التفرقة في القطاع العام. وكانت لهذه الوظائف مزاياها وقدمت قدرا كافيا من الشعور بالأمان فيما يتعلق بالتفكير في أخذ قرض للحصول على مسكن. وفي ظل سن قوانين إسكان عادلة، بدأ هؤلاء - واحدا تلو آخر - في شراء منازل في روزلاند ومناطق أخرى مجاورة يقطنها البيض. وهم لم يفعلوا ذلك لأنهم كانوا يريدون الاختلاط بالبيض بل لأن المنازل هناك كانت رخيصة وتشتمل على أفنية صغيرة لأطفالهم، وأيضا لأن هذه المناطق احتوت على مدارس أفضل ومتاجر ذات أسعار أرخص، وربما أيضا لأنهم كانوا يستطيعون شراءها فحسب.
عندما كنت أستمع لهذه القصص كنت في الغالب أتذكر القصص التي كان جداي وأمي يحكونها لي؛ قصص الكفاح والهجرة والسعي وراء الحصول على شيء أفضل. لكن في الواقع كان هناك اختلاف لا يمكن على الإطلاق تجاهله بين ما كنت أسمعه في ذلك الحين وبين ما تذكرته، كما لو كانت صور طفولتي تتوارد إلى ذهني عكسيا. في هذه القصص الجديدة كانت اللافتات المكتوب عليها «للبيع» تظهر فجأة كظهور نبات الهندباء تحت أشعة الشمس في يوم صيفي حار. والأحجار تتطاير خلال النوافذ، وتسمع الأصوات المتوترة للآباء القلقين وهم ينادون على أبنائهم للدخول للمنزل وترك ألعابهم الطفولية البريئة. وفي أقل من ستة أشهر بيعت مبان سكنية كاملة، وفي أقل من خمس سنوات انطبق الأمر نفسه على أحياء برمتها.
في هذه القصص - أينما يتقابل البيض والسود - كانت النتيجة غضبا وحزنا أكيدين.
لم تتخلص المنطقة قط من هذا الاضطراب العنصري، الذي كان من نتائجه انتقال المتاجر والبنوك بعملائها البيض إلى أماكن أخرى، مما أدى إلى سوء حالة الطرق العامة الرئيسية. وتدهورت الخدمات في المدينة. وعندما يتذكر السود الذين يعيشون الآن في منازلهم منذ 10 أو 15 سنة الطريقة التي تطورت بها الأمور تجدهم يتذكرونها بشيء من الرضا. وبالاعتماد على الدخلين اللذين كانوا يتقاضونهما كانوا يسددون ثمن منازلهم وسياراتهم، وربما مصروفات التعليم الجامعي للأبناء الذين ملأت صور تخرجهم كل أرفف المواقد. حافظ هؤلاء الناس على منازلهم، كما أبقوا على أولادهم بعيدا عن الشوارع، بالإضافة إلى أنهم كونوا جمعيات سكانية تعاونية للحفاظ على أمن ونظافة الحي نظرا لأنهم كانوا متأكدين من أن البيض فعلوا الشيء نفسه.
عندما كان هؤلاء الناس يتحدثون عن المستقبل كانت نبرة القلق تقتحم أصواتهم. وكانوا يذكرون ابن عم لهم أو أحد أقربائهم الذي اعتاد زيارتهم طلبا للمال، أو صبيا بالغا لا يعمل لا يزال يعيش في المنزل عالة عليهم. حتى نجاح هؤلاء الأبناء في الجامعة وفي الحياة العملية اشتمل في طياته على شعور بالهزيمة، وكلما تمكن هؤلاء الأبناء من فعل شيء أفضل زادت فرصة رحيلهم عن المنطقة. وإلى مكانهم نفسه انتقلت عائلات أصغر سنا وأقل استقرارا، وكانت تلك هي المرحلة الثانية للمهاجرين من الأحياء الأفقر، ليحل محلهم قاطنون جدد لا يستطيعون دائما تحمل الالتزام بسداد قروض المنازل أو دفع مصاريف الصيانة الدورية لها. في هذه الفترة اختفت سرقة السيارات وكانت المتنزهات ذات الأشجار الوارفة فارغة، وبدأ الناس في قضاء وقت أطول داخل المنازل، واشتروا الأبواب المصنوعة من الحديد المطاوع المشغول، وكانوا يتساءلون هل بإمكانهم تحمل بيعها بالخسارة للانتقال إلى منطقة أكثر دفئا أو ربما يعودون من جديد إلى الجنوب.
لذا فمع شعور هؤلاء الرجال والسيدات المستحق بأنهم حققوا إنجازات، ومع الأدلة المؤكدة على ارتقائهم بأنفسهم، فإن محادثاتنا كانت تتميز بنبرة تشاؤمية. فأشياء عديدة - مثل المنازل المصنوعة من الألواح الخشبية، وواجهات المحلات الخربة، وقوائم أعضاء الكنيسة القديمة، وأطفال لأسر غير معروفة يهيمون على وجوههم في الشوارع، وتجمعات المراهقين الصاخبة، والمراهقات اللاتي كن يطعمن الأطفال الباكين شرائح البطاطا، والأوراق المبعثرة أسفل المباني - كانت صدى لحقائق مؤلمة تخبرهم بأن الارتقاء الذي أحرزوه سريع الزوال، ويقف على أرض هشة ومن الممكن ألا يستمر فيما تبقى من عمرهم.
كان هذا الشعور المزدوج - بالإنجاز الفردي والانهيار الجماعي - الذي فكرت فيه هو المسئول عن بعض المواقف التي أربكت ويل عندما تحدثنا ليلة الاجتماع الحاشد. في الواقع تلمست هذا الشعور في الكبرياء المفرطة لبعض الرجال في البارات المملوءة بزجاجات الخمر التي أسسوها في الأدوار التحتية في منازلهم، تلك البارات التي تضيئها مصابيح الزينة وتغطي جدرانها المرايا. كما رأيته في البلاستيك الذي كانت تضعه السيدات أعلى السجاجيد والأرائك النظيفة لحمايتها. وفي ظل كل ذلك، كان بوسع المرء أن يرى جهودا حازمة لتعزيز الاعتقاد في أن الأمور قد تغيرت بالفعل إذا ما بدأ بعض الناس في التصرف تصرفا سليما. وذات مساء أعربت سيدة تقطن في واشنطن هايتس المجاورة عن رأيها وقالت لي: «إنني أحاول تجنب القيادة في روزلاند قدر المستطاع.» وتابعت: «الناس هناك قساة ويمكنك بالفعل معرفة ذلك من الطريقة التي يحافظون بها على منازلهم. لكنك لم تكن لترى أشياء مثل هذه عندما كان يعيش البيض هنا.»
من الأمور التي لاحظتها أنه كان هناك اختلاف بين الأحياء، والمباني داخل الحي الواحد، وأخيرا بين الجيران في المبنى نفسه، من حيث محاولات الحد من الانحطاط والتحكم فيه. إن السيدة التي كانت قلقة للغاية من العادات الفظة لجيرانها كانت تعلق صورة هارولد في مطبخها، بجوار مختارات من المزمور الثالث والعشرين مباشرة. وهكذا أيضا فعل الشاب الذي كان يسكن في الشقة المنهارة التي كانت تبعد ببعض المباني والذي كان يحاول كسب قوت يومه عن طريق تشغيل الموسيقى في الحفلات الراقصة. وكما علمت من الرجال الذين كانوا موجودين في صالون سميتي للحلاقة، أعطت الانتخابات هؤلاء الناس فكرة جديدة عن أنفسهم. أو ربما كانت فكرة قديمة بعثت من جديد في وقت أفضل. كان هارولد رمزا لا يزال عالقا في عقول الناس كافة؛ فتماما مثل فكرتي عن التنظيم، قدم هارولد عرضا للإصلاح الجماعي. •••
وضعت تقريري عن الأسبوع الثالث على مكتب مارتي وجلست في أثناء قراءته إياه.
وعلق عندما انتهى من قراءته «ليس سيئا؟». «ليس سيئا؟» «نعم، ليس سيئا. أعتقد أنك الآن بدأت تستمع. لكن التقرير لا يزال نظريا إلى حد بعيد ... تماما كما لو كنت تجري استقصاء أو ما شابه. إذا كنت تريد أن تنظم الناس فأنت في حاجة إلى الابتعاد عن الأشياء السطحية والاتجاه إلى محور تركيز الناس. الأشياء التي تجعلهم يسلكون سلوكا معينا. هذا وإلا فإنك لن تستطيع إطلاقا إقامة العلاقات التي تريدها معهم لجعلهم يشتركون معك.»
كان مارتي بحديثه هذا قد بدأ يضايقني. فسألته هل قلق من قبل من أن يصبح محور اهتمامه التخطيط للحصول على ما يريد دون الاهتمام بالآخرين أو جرح مشاعرهم، إذا كانت فكرة معرفة نفسيات الناس والحصول على ثقتهم فقط من أجل إنشاء مؤسسة فكرة خادعة لإجبار الناس على فعل ما يريد. تنهد مارتي.
قال: «إنني لست بشاعر يا باراك. أنا منظم.»
تساءلت بيني وبين نفسي عما عنى بذلك. وتركت المكتب وأنا في حالة سيئة للغاية. وبعدها كان علي أن أعترف بأن مارتي كان على حق. حيث لم تكن لدي أية فكرة عن كيفية وضع ما سمعته حيز التنفيذ. وفي الواقع لم تظهر لي أية فرصة لفعل ذلك إلا في نهاية المقابلات التي أجريتها مع الناس.
في أثناء اجتماع مع روبي ستايلس - وهي سيدة قصيرة ممتلئة الجسم - وكانت تعمل مديرة مكتب في الجانب الشمالي من المدينة، لاحت هذه الفرصة في الأفق. كان ذلك عندما ذكرت ارتفاع معدل العمل الإجرامي على الصعيد المحلي في سياق حديثها عن ابنها كايل المراهق الذي كان ذكيا إلا أنه كان خجولا لفقدانه الثقة بنفسه والذي بدأ في مواجهة بعض المشكلات في المدرسة. قالت روبي إن أحد أصدقاء كايل أطلق عليه الرصاص الأسبوع الماضي أمام باب منزله. ومع أن الصبي لم يصب بسوء فإنها كانت قلقة على ابنها.
ابتهجت عندما سمعت هذا الأمر؛ لأنه كان اهتماما شخصيا. وعلى مدار الأيام القليلة التالية عرفتني روبي على أولياء أمور آخرين كانوا يشاركونها مخاوفها ويشعرون بالإحباط من رد فعل الشرطة غير الفعال. وعندما اقترحت أن ندعو المسئول رسميا عن المنطقة إلى اجتماع بالحي - حتى يعبر الشعب عن قلقه على الملأ - وافق الجميع؛ وفي أثناء حديثنا عن الإعلان عن هذا الاجتماع ذكرت إحدى السيدات أن هناك كنيسة معمدانية في المجمع السكني الذي يسكن فيه الولد الذي أطلق عليه الرصاص وأن القس رينولدز - راعي الكنيسة - ربما كان مستعدا للتحدث بخصوص هذا الأمر لجماعة المصلين بالكنيسة.
استغرق الأمر مني أسبوعا لإجراء المكالمات الهاتفية، لكنني عندما توصلت أخيرا للقس رينولدز بدت استجابته مبشرة بالخير. كان هذا الرجل رئيسا لاتحاد تحالف الخدام المحلي، وقال لي: «تتحد الكنائس معا للوعظ بالإنجيل الاجتماعي.» وقال إن مجموعة الكنائس سوف تعقد اجتماعها الدوري في اليوم التالي، وإنه سيكون سعيدا لإدراج موضوعي في أجندته.
وضعت سماعة الهاتف وأنا أشعر بالسعادة البالغة، وفي صباح اليوم التالي وصلت مبكرا إلى الكنيسة حيثما يعمل القس رينولدز. وقابلتني هناك شابتان ترتديان عباءتين وقفازين بيضاويين في البهو وأرشدتاني إلى غرفة اجتماعات كبيرة كان يقف فيها 10 أو 12 رجلا أسود يكبرونني سنا ويتحدثون في دائرة غير منتظمة. جاء منهم رجل مهيب الطلعة لتحيتي، وهو يأخذ بيدي لمصافحتي. قال: «لا بد أنك الأخ أوباما.» وتابع : «أنا القس رينولدز. جئت في الموعد ... إننا على وشك البدء.»
جلسنا جميعا حول طاولة طويلة، وفي البداية صلى بنا القس رينولدز ثم سمح لي بالتحدث. وعندما بدأت حديثي حاولت عرض وجهة نظري بطريقة لائقة وأنا أخبر الخدام عن الأعمال الإجرامية المتزايدة وعن الاجتماع الذي خططنا له، وسلمتهم نشرات دعائية ليوزعوها في أبرشياتهم. وقلت لهم إعدادا لموضوع حديثي معهم: «بقيادتكم الفعالة، قد تكون هذه الخطوة هي الأولى تجاه تحقيق تعاون في كل أنواع القضايا. مثل إصلاح المدارس. وإعادة حركة التوظيف مرة أخرى إلى الحي ...»
وبمجرد أن وزعت آخر نشرة من هذه النشرات الدعائية دخل رجل طويل القامة أسمر اللون. وكان يرتدي حلة زرقاء بصفين من الأزرار، وصليبا ذهبيا كبيرا فوق رابطة عنق قرمزية اللون. وكان شعره غير مجعد وممشطا للخلف.
قال القس رينولدز: «أخ سمولز، لقد فاتك حديث شيق.» وتابع: «هذا الشاب - الأخ أوباما - لديه خطة لتنظيم اجتماع بخصوص حادث إطلاق النار الذي وقع حديثا.»
صب القس سمولز لنفسه فنجانا من القهوة وقرأ بإمعان النشرة. ثم سألني: «ما اسم مؤسستك؟» «مشروع تنمية المجتمعات المحلية.»
قطب الرجل جبينه وقال: «تنمية المجتمعات المحلية ...» وتابع: «أعتقد أنني أتذكر بعض الرجال من ذوي البشرة البيضاء ممن تكرر حديثهم عن تنمية شيء. أنت شاب تبدو عليك خفة الظل. وتحمل اسما يهوديا. هل للمشروع علاقة بالمذهب الكاثوليكي؟»
أخبرته أن بعض الكنائس الكاثوليكية في المنطقة مشتركة في المشروع.
قال القس سمولز: «هذا صحيح، تذكرت الآن.» رشف القس قهوته واتكأ للخلف على مقعده. وتابع قائلا: «لقد أخبرت هذا الرجل الأبيض - مارتي - بأن يتوقف عن هذا العمل وأن يبتعد عن هنا. إننا لسنا في حاجة إلى شيء من هذا القبيل هنا.» «إنني ...» «استمع إلي ... ما اسمك مرة أخرى؟ أوبامبا؟ اسمع، يا أوبامبا، ربما تكون ساعيا للخير. أنا متأكد من ذلك. لكن آخر شيء نحتاج إليه هو أن نحصل على أموال البيض والاشتراك مع مجموعة من الكنائس الكاثوليكية والقائمين على العمل التنظيمي من اليهود من أجل حل مشكلاتنا. إنهم غير مهتمين بنا. وعموما قل ما تريد، إن أبرشية رئيس الأساقفة في هذه المدينة يديرها عنصريون لا مبالين. وكذلك الحال دائما. حيث تأتي الطبقة البيضاء إلى هنا اعتقادا من أفرادها بأنهم يعرفون ما هو أفضل لنا، فيوظفون بعض الإخوة خريجي الجامعات ممن لديهم قدرة جيدة على التحدث - مثلك - الذين لا يعرفون أي الأشياء أفضل لنا، وكل ما يريدونه هو الإمساك بزمام الأمور. إن الأمر سياسي بحت، ولا يتعلق بما أتى بهؤلاء الناس إلى هنا.»
تلعثمت وأنا أقول له إن الكنيسة كانت هي الرائدة دائما في التعامل مع مثل هذه القضايا المجتمعية، لكن القس سمولز لم يفعل شيئا سوى هز رأسه. قال: «إنك لا تفهم.» وتابع: «لقد تغيرت الأمور مع العمدة الجديد. كنت أعرف المسئول عن الأمن في المقاطعة منذ أن كان شرطي دورية في المنطقة. وأعضاء مجلس المدينة في هذه المنطقة ملتزمون كافة بإعطاء السلطة لذوي البشرة السوداء. لذا لم نكون في حاجة إلى الاحتجاج والتصرف بأسلوب سخيف وغير ملائم مع أهلنا؟ إن كل من يجلس حول هذه الطاولة لديه اتصال مباشر بمجلس المدينة. فريد، ألم تتحدث قريبا مع عضو مجلس المدينة بخصوص الحصول على تصريح لموقف السيارات؟»
ساد الهدوء الغرفة. وتنحنح القس رينولدز. قال: «تشارلز، إن هذا الرجل جديد هنا. وهو يحاول أن يقدم مساعداته فقط.»
ابتسم القس سمولز وربت على كتفي برفق. وقال: «لا تسئ فهمي الآن. كما قلت لك، إنني أعلم أن هدفك سام. إننا في حاجة إلى بعض الشباب لمساعدتنا في هذه القضية. وكل ما أقوله هو أن هذه المعركة لا تناسبك.»
جلست هناك، وأنا أتعرض للنقد اللاذع - كما لو كنت لحما على سيخ الشواء - في حين كان القساوسة يناقشون إقامة الطقوس الدينية المشتركة ليوم عيد الشكر في متنزه على الجانب الآخر من الشارع. وعندما انتهى الاجتماع شكرني القس رينولدز وبعض الآخرين على حضوري.
نصحني أحد الحضور قائلا: «لا تهتم بحديث تشارلز وتأخذه على محمل الجد.» وتابع: «إنه في بعض الأحيان يتسم بالشدة والصرامة.» لكنني لاحظت أن لا أحد منهم ترك النشرات التي وزعتها عليهم، وبعد ذلك في الأسبوع نفسه - عندما حاولت الاتصال ببعض الخدام - ظل موظفو السكرتارية يقولون لي إنهم ليسوا موجودين. •••
بعد ذلك بدأنا اجتماعنا مع الشرطة، وكان كارثة - وإن كانت محدودة. لم يحضر سوى 13 شخصا جلسوا بغير انتظام في صفوف المقاعد الفارغة. اعتذر مسئول الأمن في الحي عن عدم الحضور وأرسل المسئول عن العلاقات في المجتمع نائبا عنه. وبين الفينة والفينة كان يدخل شخصان مسنان بحثا عن لعبة البينجو. لذا فإنني قضيت معظم الأمسية موجها هؤلاء الناس إلى الطابق العلوي، وجلست روبي عابسة على المنصة تستمع إلى محاضرة رجل الشرطة عن الحاجة إلى نظام يفرضه الأبوان.
وفي غمرة الاجتماع وصل مارتي.
وبعد أن انتهى ظهر مارتي ووضع يده على كتفي.
وقال: «الفوضى عمت المكان، أليس كذلك؟»
بالفعل كان على حق. لذا ساعدني في تنظيف المكان وتنظيمه ثم أخذني لشرب القهوة ولفت نظري إلى بعض الأخطاء التي اقترفتها. إن مشكلة العصابات والأعمال الإجرامية كانت مشكلة عامة للغاية لكي تترك انطباعا لدى الناس؛ بمعنى أن القضايا كانت لا بد من أن توضع في إطار واقعي ومحدد وأن تكون لديها مقومات النجاح. وكان علي أن أجعل روبي تستعد بصورة أكثر دقة من هذا، بالإضافة إلى إعداد عدد أقل من المقاعد. والأهم من كل ذلك كنت في حاجة إلى قضاء وقت أطول في معرفة القادة في المجتمع، حيث إن النشرات لم تستطع جذب الناس بصورة مؤثرة.
قال مارتي عندما وقفنا استعدادا للرحيل: «إنني تذكرت شيئا.» وتابع: «ماذا حدث مع هؤلاء القساوسة الذين من المفترض أن تكون قد قابلتهم؟»
أخبرته عما حدث مع القسيس سمولز. وبدأ يضحك. وقال: «أتعلم، كان من الأفضل ألا أحضر معك، أليس كذلك؟»
لم يعجبني ما قاله. لذا رددت عليه وقلت: «لماذا لم تحذرني من سمولز؟»
قال مارتي وهو يفتح باب سيارته: «بل حذرتك بالفعل.» وتابع: «أخبرتك بأن شيكاغو منقسمة إلى نقيضين وأن الساسة يستغلون هذه الحقيقة لمصلحتهم الشخصية. وهذا أمر ينطبق على سمولز؛ فهو سياسي تصادف ارتداؤه ياقة القساوسة. وعلى أية حال، ليست تلك هي نهاية العالم. يتعين عليك أن تشعر بالسعادة لأنك تعلمت هذا الدرس مبكرا.»
هذا صحيح، لكن أي درس؟ في أثناء مشاهدتي مارتي وهو يقود سيارته، عدت بذاكرتي إلى يوم الاجتماع الحاشد: إلى نبرة صوت سميتي في صالون الحلاقة، وإلى صفوف البيض والسود في قاعة الاجتماعات بالمدرسة، عدت بذاكرتي إلى هذا اليوم الذي فيه بسبب دمار المصنع، وشعور مارتي بالخيانة، وبسبب الكاردينال؛ الرجل الضئيل الجسم الشاحب اللون الذي كان يرتدي ثوبا أسود ونظارة ويبتسم على المنصة وهو يختفي داخل أحضان ويل ... ويل، من المؤكد أن الرجلين كان أحدهما يفهم الآخر.
حملت كل صورة من هذه الصور درسا بعينه، وكانت كل منها قابلة للتفسيرات المختلفة. وذلك في ظل وجود كثير من الكنائس والعقائد. ربما كانت هناك أوقات بات من الظاهر فيها أن كل هذه العقائد التقت عند نقطة واحدة - عند الزحام أمام نصب لينكولن التذكاري، أو نشطاء الحقوق المدنية وقت الغداء - لكن هذه اللحظات لم تكن كاملة، بل كانت محطمة. والأعين مغمضة، كانت شفاهنا تنطق الكلمات نفسها، لكن في قلوبنا كنا ندعو لأسيادنا، وظل كل منا حبيسا في ذكراه، وتشبثنا جميعا بسحرنا الأحمق.
اعتقدت أنه من الطبيعي لرجل مثل سمولز أن يفهم هذا الأمر. لقد فهم أن الرجال في صالون الحلاقة لم يريدوا أن يكون فوز هارولد في الانتخابات - الذي هو فوزهم - فوزا مهنيا، ولم يريدوا سماع أن مشكلاتهم كانت أكثر صعوبة من التعامل مع مجموعة من أعضاء مجلس مدينة بيض ماكرين أو أن الإصلاح لم يكن كاملا. كان كل من مارتي وسمولز يعرفان أنه في السياسة - كما هو الحال في الدين - تكمن السلطة في اليقين، وأن يقين أحد الأفراد دائما ما كان يهدد يقين الآخر.
بعد ذلك أدركت وأنا واقف في موقف سيارات خال خاص بمطعم ماكدونالدز في الجانب الجنوبي من شيكاغو أنني كنت مهرطقا. وربما كنت أسوأ من ذلك لأن المهرطق لا بد وأن يكون مؤمنا بشيء ما، إن لم يكن شيئا أكثر من حقيقة شكه.
الفصل التاسع
يقع مشروع الإسكان العام «ألتجيلد جاردنز» عند الطرف الجنوبي لمدينة شيكاغو، ويضم 2000 شقة سكنية تحتويها مجموعة من المباني المبنية بالطوب من طابقين ذات أبواب ضخمة خضراء اللون ونوافذ غير نظيفة موحدة الشكل. كان الجميع يشير إلى هذا المشروع على سبيل الاختصار باسم «الجاردنز»، على أنني لم أعرف، إلا فيما بعد، السخرية الكامنة وراء الاسم الذي يبعث على الشعور بشيء نضر وينعم بعناية فائقة؛ أي الأرض المقدسة.
صحيح أن هذا المشروع كان يحده من جهة الجنوب بستان أشجار، وكان نهر كالوميت يجري في جنوبه وغربه حيثما كان يشاهد في بعض الأحيان رجال يصطادون بدون اهتمام في المياه المعتمة. لكن الأسماك التي كانت تسبح في هذه المياه كثيرا ما كان لونها متغيرا، وعدسات عينها معتمة، إلى جانب وجود تضخم خلف خياشيمها. لذا لم يكن الناس يأكلون ما يصطادونه إلا في حالة الضرورة فحسب.
وعلى الجانب الآخر من الطريق السريع، إلى الشرق، يوجد مقلب نفايات بحيرة كالوميت الذي يعتبر هو الأكبر من نوعه في الغرب الأوسط.
وإلى الشمال وبمجرد عبور الشارع مباشرة، يوجد مصنع «ميتروبوليتان سانيتاري ديستريكت» لمعالجة مياه الصرف الصحي بالحي. لم يكن سكان مشروع ألتجيلد يرونه أو يرون الأوعية الضخمة المفتوحة التي كانت تستخدم لمعالجة السوائل والتي كانت ممتدة على مساحة تقترب من الميل كجزء من مشروعات التجميل الحديثة؛ إذ أقام الحي جدارا مرتفعا أمام المصنع مبعثر حوله عدد كبير من الشجيرات التي زرعت على عجل والتي رفضت أن تنمو شهرا تلو الآخر، فكانت تشبه الشعيرات المبعثرة على رأس رجل أصلع. على أن المسئولين ظلوا مكتوفي الأيدي أمام الرائحة العفنة المركزة التي كانت تختلف حدتها طبقا لدرجة الحرارة واتجاه الرياح، وكانت تتسرب من النوافذ مهما كان إغلاقها محكما.
روائح نتنة، ومواد سامة، وأرض خواء، ومنطقة غير مأهولة بالسكان. فقد استقبلت الأميال المربعة المحيطة بمشروع ألتجيلد لقرابة قرن مخلفات أعداد هائلة من المصانع، وهذا هو الثمن الذي دفعه الناس مقابل وظائفهم ذات الأجر المرتفع. والآن بعد أن فقدت هذه الوظائف، وغادر الناس الذين كان بإمكانهم الحصول عليها، أصبح من الطبيعي استخدام هذه الأرض كمقلب للنفايات.
استخدمت الأرض كمقلب للنفايات، وكمكان لإقامة السود الفقراء. ربما كان مشروع ألتجيلد يتميز عن المشاريع الأخرى في المدينة بانعزاله الطبيعي إلا إنه كان يشترك معها في تاريخ واحد؛ فجميعها يعبر عن أحلام الإصلاحيين لبناء مجمعات سكنية لائقة للفقراء، والأساليب السياسية التي عملت على تركيز هذه التجمعات بحيث تكون بعيدة عن أحياء البيض ومنعت العائلات العاملة من العيش هناك، واستخدام هيئة الإسكان بشيكاغو كمقر للمحسوبيات، وسوء الإدارة المترتبة على كل ذلك الإهمال. لم يكن هذا المشروع على درجة السوء نفسها التي اتصفت بها مشاريع الإسكان شاهقة الارتفاع بشيكاغو أمثال مشروع روبرت تيلورز أو مشروع كابريني جرينز التي يجد المرء فيها بيت الدرج وهو أسود كالفحم، والأروقة المتسخة بالبول، وتحدث فيها حوادث إطلاق النار على نحو عشوائي. أما مشروع ألتجيلد فإن معدل إشغال الشقق فيه ظل مستقرا عند نسبة 90٪، وإذا سنحت لك فرصة دخول إحدى شقق هذا المشروع فستجدها في أغلب الأحوال نظيفة ومرتبة، بل ستجد أيضا بعض اللمسات التي تعبر عن فكرة الحنين للوطن مثل القماش المزركش الموضوع لكي يغطي أقمشة التنجيد الممزقة، وكذلك نتيجة الحائط القديمة التي ظلت في مكانها بسبب مناظر الشاطئ الاستوائي الموجودة عليها.
في ذلك الحين بدا كل شيء خاص بالجاردنز في حالة سيئة باستمرار. أسقف انهارت المواد التي تغطيها. ومواسير منفجرة. ومراحيض مسدودة. وآثار موحلة لإطارات السيارات التي ميزت المروج السمراء القاحلة التي تتناثر فيها أصص الزهور الفارغة والمكسورة والمائلة والتي تكاد تكون مدفونة في الأرض. وقد توقف المسئولون عن الصيانة في هيئة الإسكان بشيكاغو عن مجرد حتى التظاهر بأن الإصلاحات ستدخل حيز التنفيذ في القريب العاجل. لذا فإن معظم الأطفال في ألتجيلد ترعرعوا دون مجرد رؤية أية حديقة. كانوا أطفالا لم يستطيعوا رؤية شيء سوى استنفاد كل ما حولهم، وأدركوا أن هناك نوعا من المتعة في الإسراع في تخريب الأشياء.
توجهت إلى ألتجيلد من شارع 131 ثم توقفت أمام كنيسة «أور ليدي أوف ذا جاردنز» التي كانت بناء من الطوب يقع في مؤخرة المشروع. ذهبت إلى هناك لمقابلة بعض قادتنا الرئيسيين للتحدث معهم بشأن المشكلات التي تواجه عملنا التنظيمي، وكيف يمكننا إعادة الأمور إلى مسارها الطبيعي مرة أخرى. لكنني عندما أوقفت محرك السيارة وشرعت في أخذ حقيبة يدي، حدث شيء أوقفني فجأة. ولعله كان المنظر الذي رأيته؛ فقد كان لون السماء رماديا خانقا. أغمضت عيني، واتكأت برأسي على مقعد السيارة وشعرت بأنني المساعد الأول لربان سفينة مشرفة على الغرق.
مضى أكثر من شهرين على اجتماع الشرطة العديم الفائدة، والأمور قد ازدادت سوءا. إذ لم يحدث في هذه الفترة أي اعتصامات أو مظاهرات أو إنشاد أغان عن الحرية. بل كانت هناك سلسلة من الأخطاء وسوء الفهم والاستياء والتوتر. وكان جزء من المشكلة يرجع إلى قاعدتنا التي - على الأقل في المدينة - لم تكن كبيرة على الإطلاق؛ فلم تكن هناك سوى ثماني أبرشيات كاثوليكية تتوزع على بعض الأحياء، وكان رعايا الكنيسة كلهم من ذوي البشرة السوداء إلا أن القساوسة كانوا من البيض. كان هؤلاء القساوسة منطوين على أنفسهم ومعزولين عن المجتمع، وكان معظمهم من أصل بولندي أو أيرلندي، وقد التحقوا بالمدرسة اللاهوتية للتدريب على عمل القساوسة في ستينيات القرن العشرين بنية خدمة الفقراء ومداواة جرح المعاناة العنصرية، لكنهم كانوا يفتقرون إلى حماسة أسلافهم المبشرين؛ كانوا أطيب قلبا ولعلهم كانوا رجالا أفضل، لكنهم كانوا أيضا أكثر حمقا فيما يتعلق بما يستجد عليهم من أمور. رأى هؤلاء الرجال بالفعل أن مواعظ الأخوة والمودة التي يلقونها يداس عليها بأقدام البيض المذعورين، ووجدوا أن مساعيهم لتعيين أعضاء جدد قوبلت بشكوك ذوي الوجوه السوداء - غالبا المعمدانيين والميثوديين والخمسينيين - الذين يحيطون كنائسهم الآن. أقنعهم مارتي بأن التنظيم سيقضي على هذه العزلة، وأنه لن يوقف انحدار مستوى الأحياء إلى الأسوأ فقط بل سيمد أبرشياتهم بالطاقة من جديد ويجدد أرواحهم. ومع ذلك فقد كان هذا الأمل ضعيفا، وعندما التقيت بهم كانوا قد استسلموا بالفعل لشعورهم بخيبة الأمل .
قال لي أحد القساوسة: «الحقيقة أن معظمنا هنا يسعى إلى الرحيل عن المنطقة.» وتابع: «السبب الوحيد وراء بقائي هو عدم رغبة أحد في أن يحل محلي.»
كانت الروح المعنوية أكثر انخفاضا بين العامة، أي الطبقة السوداء مثل أنجيلا وشيرلي ومنى، السيدات الثلاث اللاتي قابلتهن يوم الاجتماع الحاشد واللاتي كن مفعمات بالحيوية وخفيفات الظل، واللاتي استطعن إلى حد ما - دون وجود زوج يساعدهن - تربية أبناء وبنات، وإيجاد الوقت الكافي للعمل في وظائف بدوام جزئي وفي مشروعات صغيرة، وتنظيم فرق كشافة للبنات وعروض أزياء ومعسكرات صيف للأطفال الذين يذهبون إلى الكنيسة كل يوم. وما دام أي من هؤلاء السيدات لا تعيش في ألتجيلد - إذ كن يملكن منازل صغيرة غرب المشروع مباشرة - سألتهن في إحدى المرات عما دفعهن لهذا النشاط، وقبل أن أنهي سؤالي دارت أعينهن داخل محاجرها.
قالت أنجيلا لشيرلي: «انتبهي جيدا يا فتاة من باراك» فضحكت منى ضحكة خافتة. وتابعت أنجيلا: «يبدو أن باراك يوشك أن يجري معك مقابلة. هذا ما يرتسم على وجهه».
ردت شيرلي وقالت: «إننا سيدات في منتصف العمر نشعر بالملل يا باراك، إلى جانب أننا ليس لدينا أفضل من ذلك نفعله لنستغل به وقتنا. لكن ...» في هذه اللحظة، مدت شيرلي يدها ووضعتها على وركها النحيفة لتأخذ من جيبها سيجارة، ورفعت السيجارة إلى شفتيها - تماما كنجمة سينما - وأضافت: «أما إذا ظهر على الساحة فتى أحلامنا! فوقتها سنودع ألتجيلد ونرحب بمونت كارلو!»
لم أكن قد سمعت أي مزاح منهن مؤخرا، وكان كل ما أسمعه شكاوى. فقد شكون من أن مارتي لم يكن مهتما بألتجيلد. كما شكون من كونه متغطرسا ولم يكن يستمع إلى اقتراحاتهن.
في الغالب الأعم كن يشكون من بنك الوظائف الجديد الذي كنا قد أعلنا عنه ليلة الاجتماع الحاشد الذي صاحبه جلبة كبيرة. إلا أنه اتضح أنه بنك مفلس. فطبقا لتخطيط مارتي كان من المفترض أن تدير هذا البرنامج جامعة حكومية تقع خارج الضواحي، وقال إن هذا الاختيار يتعلق بالفاعلية حيث إن الجامعة مشتملة بالفعل على أجهزة كمبيوتر معدة للاستخدام. ولكن لسوء الحظ، بعد مرور شهرين من الميعاد المتفق عليه لبدء عمل البنك، لم يوفر البرنامج وظيفة لأحد. ويرجع ذلك إلى أن أجهزة الكمبيوتر لم تكن تعمل بصورة صحيحة؛ فإدخال البيانات كان يجري على نحو خاطئ، كان يجري إرسال الناس لإجراء مقابلات للحصول على وظائف لم تكن موجودة. كان مارتي غاضبا للغاية مما يحدث، وعلى الأقل مرة أسبوعيا كان عليه أن يذهب إلى الجامعة، وكان يسب ويلعن بألفاظ غير مسموعة وهو يحاول انتزاع إجابات من المسئولين الذين بدوا أكثر اهتماما ببرنامج التمويل للعام التالي. لكن السيدات اللاتي كن يقطن في ألتجيلد لم يكن مهتمات بإحباط مارتي. وكل ما كن يعرفنه هو أن 500 ألف دولار قد أنفقت بالفعل في مكان ما لكن لمصلحة ضاحية غير تلك التي يسكنها. ورأى ثلاثتهن أن بنك الوظائف دليل واضح على أن مارتي استغلهن من أجل تنفيذ برنامج عمل سري أبعد عنهن بطريقة أو بأخرى الوظائف التي وعدن بها ليحصل عليها البيض في الضواحي. «إن مارتي يبحث فقط عن مصلحته الخاصة»، هكذا قالت السيدات بتذمر.
بذلت كل ما في وسعي حتى أسوي هذا الخلاف، وكنت أنفي عن مارتي تهم العنصرية، مقترحا عليه أن يكون أكثر دبلوماسية في التعامل معهن. لكنه أخبرني أنني كنت أضيع وقتي. فوفقا لكلامه، كان السبب الوحيد لغضب أنجيلا والقادة الآخرين في المدينة هو رفضه تعيينهم في إدارة البرنامج. وقال: «هذا هو سبب فشل ما يطلق عليه المؤسسات المجتمعية هنا. حيث يبدءون بأخذ أموال الحكومة وتعيين عدد كبير من الموظفين الذين لا يفعلون أي شيء. وسرعان ما تدار هذه المؤسسات على أساس المحسوبية لخدمة الزبائن وتلبية رغباتهم. ليس القادة. بل الزبائن.» نطق الرجل هذه الكلمات بازدراء شديد، كما لو كانت كلمات بذيئة. وأضاف: «يا إلهي، إنني أشعر باشمئزاز بمجرد تفكيري في الأمر.»
بعد ذلك استطرد مارتي قائلا لي بعدما رأى نظرة القلق لا تزال بادية على وجهي: «انظر يا باراك، إذا كنت ستؤدي هذا العمل فإن عليك أن تتوقف عن القلق بشأن ما إذا كان الناس يحبونك أم لا. فإنهم لن يفعلوا.»
رأى مارتي أن المحسوبية والسياسة وجرح المشاعر والشكوى من العنصرية أشياء تنتمي لفئة واحدة، وأنها تشتت انتباهه عن هدفه الأكبر وتفسد قضية سامية. وحتى هذا الحين كان ما زال يحاول الحصول على إدخال اتحاد النقابات في المسألة مقتنعا بأن أفراده سيسدون النقص في صفوفنا، ويصلون بسفينتنا إلى بر الأمان. وفي يوم من أواخر شهر سبتمبر طلب مارتي مني ومن أنجيلا الذهاب معه في اجتماع مع مسئولي الاتحاد من شركة «إل تي في ستيل» لإنتاج الصلب، التي كانت واحدة من شركات إنتاج الصلب القلائل الباقية في المدينة. وقد استغرق الأمر من مارتي ما يزيد عن شهر للإعداد لهذا الاجتماع، وكان يفيض بالحيوية في هذا اليوم، وسريعا في تحدثه عن الشركة والاتحاد والمراحل الجديدة في الحملة التنظيمية.
في نهاية الأمر دخل القاعة رئيس الفرع المحلي للاتحاد - وكان شابا وسيما أيرلنديا انتخب حديثا بعد أن وعد بالإصلاح - ومعه رجلان ضخما الجثة من ذوي البشرة السوداء؛ هما أمين صندوق الاتحاد ونائب الرئيس. وبعد تعارفنا جلسنا كلنا، وتحدث مارتي عما يسعى إلى تحقيقه محاولا إقناع الحضور. وقال إن الشركة تتأهب للخروج من سوق إنتاج الصلب، وإن اتفاقيات رفع الأجور لن تؤدي إلا إلى زيادة أمد المعاناة. وإذا كان الاتحاد يريد استمرار الوظائف فإن عليه اتخاذ إجراءات جريئة وجديدة. من هذه الإجراءات الاجتماع بمسئولي الكنائس، ورسم خطة للحوافز المادية التي سيحصل عليها العاملون الذين استغني عنهم. والتفاوض مع مجلس المدينة للحصول على امتيازات خلال هذه الفترة الانتقالية فيما يخص المرافق ومعدلات الضريبة. هذا إلى جانب الضغط على البنوك لتقديم القروض التي يمكن استخدامها للاستثمار في التكنولوجيا الجديدة الضرورية لإعادة المصنع إلى المنافسة مرة أخرى.
في أثناء حديثه المنفرد الطويل تململ مسئولو الاتحاد في مقاعدهم. وأخيرا وقف الرئيس وأخبر مارتي أن أفكاره تستحق دراسة أكثر استفاضة، لكن الاتحاد في هذا الحين عليه أن يركز على اتخاذ قرار فوري بخصوص عرض الإدارة. وبعد ذلك - في موقف السيارات - جاءني مارتي وهو يهز رأسه وكانت تعلو وجهه نظرة تدل على الاندهاش.
قال: «إنهم ليسوا مهتمين.» وتابع: «لا حياة لمن تنادي.»
شعرت بالأسف لما حدث لمارتي. وشعرت بأسف أكبر لأنجيلا. فهي لم تنطق بكلمة واحدة أثناء الاجتماع، لكن عندما تحركت بالسيارة من موقف سيارات الاتحاد لتوصيلها إلى منزلها استدارت نحوي وقالت: «لم أفهم كلمة واحدة مما قاله مارتي.»
أعتقد أنني حينئذ فهمت صعوبة ما كان مارتي يحاول إنجازه، ومدى عمق تقديره الخاطئ للأمور. وفي الواقع لم يكن الحال مع أنجيلا أنها لم تستطع فهم بعض التفاصيل في حديث مارتي، ففي أثناء حديثنا تجلى لي أنها فهمت حديثه، على الأقل كما فهمته أنا. لكن المعنى الحقيقي لملاحظتها كان متمثلا في أنها شكت في علاقة ما قاله بموقفها الشخصي المطالب بالإبقاء على مصنع إل تي في مفتوحا. إن التنظيم بالتعاون مع الاتحادات كان يمكن أن يساعد بعض السود الذين ظلوا في المصانع في الاحتفاظ بوظائفهم، وهذا لم يكن سيؤثر على قوائم العاطلين عن العمل في القريب العاجل. ربما كان بنك الوظائف سيساعد العمال الذين يملكون بالفعل مهارات وخبرة في العثور على وظيفة أخرى، لكنه لم يكن بالطبع سيعلم المراهقين السود الذين تركوا التعليم كيفية القراءة أو الحساب.
بعبارة أخرى، فإن الأمر كان مختلفا للسود. كما أنه مختلف وقت كتابتي هذا، تماما كما كان مختلفا لأجداد أنجيلا الذين استبعدتهم الاتحادات وبصق عليهم وكأنهم مصابون بالجرب، وكان مختلفا أيضا لوالديها اللذين استبعدا أيضا من شغل الوظائف الأفضل التي كان يعين الموظفون فيها على أساس المحسوبية والتي كان جهاز الكمبيوتر يوفرها قبل أن تصبح كلمة محسوبية من غير اللائق استخدامها. وفي أوج حماس مارتي لإعلان الحرب على سماسرة السلطة في وسط المدينة، وأصحاب البنوك الاستثمارية في حللهم الفاخرة، أراد طرح هذه الاختلافات جانبا بصفتها جزءا من الماضي التعيس. لكن شخصا مثل أنجيلا، كان الماضي عندها هو نفسه الحاضر؛ إذ كان ذلك الماضي هو الذي شكل عالمها إلى الأبد بقوة أكثر واقعية من أية فكرة خاصة بتضامن الطبقات. وأوضح الكثير عن سبب عدم قدرة المزيد من السود على الانتقال إلى الضواحي في الوقت الذي كان فيه هذا الانتقال مفيدا، وسبب عدم تمكن المزيد منهم من اللحاق بركب الحلم الأمريكي. وسبب انتشار البطالة واتصافها بأنها أكثر حدة في الأحياء التي يقطنها السود، واستمرارها لوقت أطول من استمرارها في الأحياء الأخرى، وسبب نفاد صبر أنجيلا من الذين يريدون التعامل مع البيض والسود على قدم المساواة.
وهكذا فسر هذا الماضي مشروع ألتجيلد. •••
نظرت إلى ساعتي ووجدت أن الساعة الثانية و10 دقائق. قد حان الوقت لمواجهة العقاب على ما صنعته يداي. فخرجت من السيارة وضربت جرس باب الكنيسة. وفتحت أنجيلا وأرشدتني إلى غرفة كان ينتظرني فيها القادة الآخرون: شيرلي ومنى وويل وماري، والأخيرة سيدة بيضاء سوداء الشعر وهادئة كانت تقوم بالتدريس لتلاميذ المرحلة الابتدائية في المدرسة التابعة لكنيسة سانت كاترين. اعتذرت عن تأخري وصببت لنفسي بعض القهوة وجلست على عتبة النافذة.
قلت: «إذن، لماذا هذه الوجوه الحزينة؟»
قالت أنجيلا: «سنترك العمل.» «من الذي سيترك العمل؟»
هزت أنجيلا كتفيها وقالت: «حسنا ... إنني ... أعتقد ... لا أستطيع أن أتحدث نيابة عن الجميع.»
تجولت ببصري في الغرفة. وتجنب القادة النظر إلي وكأنهم هيئة محلفين نطقت حكما في غير مصلحتي.
استمرت أنجيلا في حديثها معي، وقالت: «إنني آسفة يا باراك.» وأضافت: «إن الأمر ليس متعلقا بك على الإطلاق. فالحقيقة هي أننا متعبون فقط. نحن في هذا الموقف منذ عامين ولم نستطع التقدم خطوة واحدة.» «إنني أتفهم إحباطكم يا أنجيلا. نحن جميعا محبطون إلى حد ما. ومع ذلك فإنكم في حاجة إلى أن تعطوا هذه المسألة مزيدا من الوقت؛ فنحن ...»
قاطعتني شيرلي قائلة: «ليس لدينا مزيد من الوقت.» وتابعت: «إننا لا نستطيع الاستمرار في إعطاء الوعود لأهلنا، ولا يحدث شيء بعدها. إننا نحتاج إلى فعل شيء الآن.»
في أثناء محاولتي التفكير في شيء آخر أقوله، أخذت أحرك فنجان القهوة. ارتبكت الكلمات في رأسي، وللحظة تملكني الذعر. وبعدها تحول الذعر إلى غضب. وكان هذا الغضب من مارتي لأنه أحضرني إلى شيكاغو. كما كان غضبي من القادة لكونهم قصيري النظر. وكنت غاضبا من نفسي للاعتقاد في أنه كان بإمكاني رأب الصدع بينهم جميعا. وعلى حين غرة، تذكرت ما قاله لي فرانك ذات ليلة في هاواي، بعدما سمعت أن جدتي فزعت من ذلك الرجل الأسود.
قال لي فرانك وقتها، إن الحال هكذا على الدوام. وأضاف أنني ربما أيضا أعتاد ذلك.
في ظل حالة الكآبة والحزن الشديد التي انتابتني نظرت من النافذة ورأيت مجموعة من الصبية مجتمعين في الشارع. وكانوا يقذفون بالحجارة نافذة ذات ألواح خشبية خاصة بإحدى الشقق الخالية، وكانوا يغطون رءوسهم وأعناقهم بقلنسوة بطريقة جعلتهم وكأنهم صور مصغرة للرهبان. وقام أحدهم بمد يده لينتزع قطعة من رقائق خشب الأبلكاش كانت مثبتة بمسامير عند باب الشقة إلا إنه تعثر وسقط على الأرض مما جعل الآخرين يضحكون. وفجأة شعرت أنني أريد الانضمام إليهم، وأريد أن أقتلع الأرض الميتة التي نقف عليها، جزءا. لكنني بدلا من أن أفعل ذلك اتجهت إلى أنجيلا، وأشرت إلى النافذة.
قلت: «دعيني أطرح عليك سؤالا: ماذا تعتقدين أن يحدث لهؤلاء الصبية؟» «باراك ...» «لا، إنني أسأل فقط. إنك تقولين إنكم متعبون، وبالطبع فإن تلك هي حالة الأغلبية هنا. لذا إنني لا أحاول إلا معرفة ما سيحدث لهؤلاء الصبية. ومن الذي سيتأكد من أنهم أتيحت لهم فرصة بالفعل؟ عضو مجلس المدينة؟ أم الاختصاصيون الاجتماعيون؟ أم العصابات؟»
كنت في ذلك الحين أسمع صوتي وهو يرتفع لكنني لم أتوقف. وقلت لهم: «أتعرفون، إنني لم أحضر إلى هنا لأنني كنت في حاجة إلى وظيفة. بل حضرت لأن مارتي قال لي إنه يوجد هنا بعض الأفراد الجادين في فعل شيء يساعد في تغيير أحيائهم. إنني لا أهتم بما حدث في الماضي. أعرف أنني هنا الآن وأنا ملتزم بالعمل معكم. وإذا كانت هناك مشكلة، علينا إذن أن نحلها. وإذا كنتم تعتقدون أنه لن يحدث شيء بعد العمل معي، فإنني سأكون أول من يخبركم بأن تتركوا العمل. لكن إن كنتم جميعا تخططون لترك العمل الآن، فإنني أريد منكم الإجابة عن سؤالي.»
توقفت عن الحديث، محاولا النظر إلى وجوههم كافة لمعرفة ما يدور برءوسهم. كانوا قد بدت عليهم الدهشة بسبب ثورتي مع أنهم لم يكونوا مندهشين مثلي على الإطلاق. عرفت وقتها أنني كنت واقفا على أرض هشة، ولم أكن قريبا بما يكفي لأي منهم حتى أستطيع أن أتأكد من أن حديثي حقق نتائج غير مرغوبة. في هذه اللحظة بالذات لم يكن أمامي أي بديل. أما عن الصبية فكانوا قد غادروا وساروا في الشارع، وذهبت شيرلي لتحضر المزيد من القهوة لنفسها، وبعد قرابة 10 دقائق، تحدث ويل أخيرا.
قال: «إنني لا أعرف شعور بقية الحضور، لكنني أعتقد أننا تحدثنا عن هذا الموضوع القديم وقتا طويلا بما يكفي. إن مارتي يعلم أننا نواجه مشكلات. ولذا عين باراك. أليس ذلك صحيحا يا باراك؟»
أومأت برأسي بالإيجاب متحفظا. «إن الأوضاع لا تزال سيئة هنا. ولم يتحرك ساكن.» وأضاف وهو يلتفت تجاهي: «لذا فإن ما أريد معرفته هو ما سنفعله بدءا من هذه اللحظة فصاعدا.»
أخبرته بالحقيقة. قلت: «لا أعرف يا ويل، فلتخبرني أنت.»
ابتسم ويل وشعرت أن الأزمة الحالية التي كنا نمر بها قد انتهت. ووافقت أنجيلا على السماح بفرصة أخرى لبضعة أشهر. وأعلنت عن موافقتي على تخصيص مزيد من الوقت لألتجيلد. وقضينا نصف الساعة التالية نتحدث عن الاستراتيجية وتوزيع المهام. وفي طريقنا للخارج ظهرت منى وأخذتني من ذراعي للتحدث معي. «لقد أدرت هذا الاجتماع بصورة طيبة يا باراك. يبدو أنك تعرف ما تفعل.» «لا يا منى. إنني لا أعرف ما أفعل.»
ضحكت منى. وقالت: «حسنا، أعدك بأنني لن أقول لأحد.» «إنني أقدر لك ذلك. من المؤكد أقدره.» •••
في مساء اليوم نفسه اتصلت بمارتي وأخبرته ببعض ما حدث، لكنه لم يندهش حيث إن العديد من كنائس الضواحي كانت قد بدأت بالفعل في الانسحاب. أعطاني مارتي بعض الاقتراحات بخصوص التعامل مع قضية التوظيف في ألتجيلد، ونصحني بعدها أن أحسن اختيار مسار الحديث في المقابلات التي أجريها.
قال: «إنك ستحتاج يا باراك إلى بعض القادة الجدد. إن ويل رجل رائع، لكن هل تعتقد أنك ستعتمد عليه فعليا في تخليص المؤسسة من المصاعب المالية التي تواجهها؟»
فهمت ما كان مارتي يرمي إليه. وعلى قدر إعجابي بويل وتقديري لدعمه، كان علي أن أعترف بأن بعضا من أفكاره كانت ... حسنا ... غريبة بعض الشيء وغير تقليدية. فهو يحب تدخين سجائر الماريجوانا في نهاية يوم العمل (وكان يقول: «إن لم يكن الرب يريد منا تدخين هذا الشيء، لم يكن ليخلقه من الأساس.») بالإضافة إلى أنه كان يغادر أي اجتماع يرى أنه ممل. وكلما اصطحبته معي في مقابلة مع أعضاء كنيسته بدأ بالجدال معهم بخصوص قراءتهم غير الصائبة للكتاب المقدس، أو الأسمدة التي يختارونها لمروجهم، أو دستورية ضريبة الدخل (وكان يشعر أن الضريبة تتعدى على ميثاق الحقوق، ومن ثم رفض عن عمد دفعها).
لقد أخبرته ذات مرة: «ربما لو كنت تستمع إلى الآخرين أكثر من ذلك لأصبحوا أكثر تجاوبا معك.»
هز ويل رأسه. وقال: «إنني أستمع بالفعل إليهم. وتلك هي المشكلة. لأن كل ما يقولونه خطأ.»
بعد فض الاجتماع في ألتجيلد لاحت لويل فكرة جديدة. وقال لي: «إن هؤلاء الزنوج المفتقرين إلى النظام في كنيسة سانت كاترين لن يفعلوا إطلاقا أي شيء.» وأضاف: «إذا كنا نريد تحقيق شيء معين يجب أن ننزل إلى الشوارع!» أوضح ويل أن العديد من الناس ممن يعيشون بجوار كنيسة سانت كاترين مباشرة عاطلون وفي كفاح مستمر، وقال إن هؤلاء هم الذين ينبغي لنا استهدافهم. ولأنهم ربما لا يتقبلون فكرة حضور اجتماع تستضيفه كنيسة أجنبية فإن علينا عقد مجموعة متتالية من الاجتماعات في زاوية الشارع بالقرب من ضاحية ويست بولمان، مما يسمح لهم بالاجتماع معنا على أرض محايدة.
في البداية شككت في هذا الأمر، لكن لأنني لم أكن مستعدا لإحباط أية مبادرة ساعدت ويل وماري في إعداد نشرة دعائية لتوزع على المباني السكنية الأقرب إلى الكنيسة. وبعد أسبوع وقف ثلاثتنا في زاوية الشارع في ظل رياح أواخر الخريف. ظل الشارع فارغا في البداية ، ولم تكن فيه سوى ظلال صفوف المنازل ذات الطابق الواحد المبنية من الطوب. بعد ذلك بدأ الناس في الظهور رويدا رويدا - واحد أو اثنان في كل مرة - وكانت السيدات ترتدي قبعات فوق رءوسهن، والرجال يرتدون قمصانا صوفية أو سترات ثقيلة، وكانوا جميعا يجرون أقدامهم فوق أوراق النباتات، ويتحركون تجاه دائرة التجمع الآخذة في الاتساع. وعندما بلغ عدد الحضور 20 شخصا أو ما يقرب من ذلك أوضح ويل أن كنيسة سانت كاترين كانت جزءا من جهد تنظيمي أكبر «وأننا نريد منكم أن تتحدثوا مع جيرانكم بشأن جميع الأشياء التي تشكون منها في حياتكم.»
قالت إحدى السيدات: «حسنا، إن كل ما أستطيع أن أقوله الآن هو أن الأمر متعلق بالوقت.»
ولقرابة ساعة تحدث الناس عن الحفر التي تملأ الطرقات، وعن البالوعات وإشارات المرور وقطع الأرض المهجورة. ومع اقتراب الغسق أعلن ويل عن انتقال مقر الاجتماعات إلى الطابق الأرضي بكنيسة سانت كاترين بدءا من الشهر التالي. وفي طريق عودتنا إلى الكنيسة سمعت صوت الناس خلفنا، يهمس في ضوء النهار المنقضي. وفي ذلك الوقت اتجه ويل نحوي وابتسم.
قال: «ألم أقل لك؟»
كررنا عقد هذه الاجتماعات في زاوية الشارع في ثلاث ... أربع ... أو خمس مناطق سكنية، وكان ويل يجلس في المنتصف مرتديا ياقة القس وسترة فريق شيكاغو كابس للبيسبول، وكانت ماري تدور على الناس في الزحام وبيدها أوراق تسجيل الحضور. وعندما نقلنا الاجتماعات إلى داخل الكنيسة كان لدينا جمع من الناس يبلغ قرابة 30 شخصا مستعدا للعمل معنا في مقابل الحصول على شيء ليس أكثر من فنجان قهوة.
قبل هذا الاجتماع كنت قد وجدت ماري بمفردها في قاعة الكنيسة تعد إبريقا من القهوة. وكان جدول أعمال الأمسية مطبوعا بصورة منظمة على ورقة معلقة على الحائط، هذا بالإضافة إلى أن المقاعد كانت جاهزة. وفي أثناء بحث ماري في الخزانة عن السكر ومبيض القهوة لوحت إلي وأخبرتني أن ويل سيتأخر قليلا.
سألت ماري: «أتريدين أية مساعدة؟» «أتستطيع إحضار السكر؟»
أحضرت السكر من الرف العلوي. وقلت لها: «أتريدين شيئا آخر؟» «لا، أعتقد أننا مستعدون الآن.»
جلست وشاهدت ماري وهي تنتهي من إعداد فناجين القهوة. كانت ماري من الأشخاص الذين يصعب فهمهم، حقا كانت كذلك؛ فلم تكن تفضل الكلام كثيرا عن نفسها أو ماضيها. وعرفت أنها كانت الوحيدة من ذوي البشرة البيضاء في المدينة التي تعمل معنا، فكانت واحدة من نحو خمسة أشخاص بيض لا يزالون في ضاحية ويست بولمان. هذا بالإضافة إلى أنني عرفت أيضا أن لها ابنتين - إحداهما تبلغ من العمر 10 سنوات والأخرى 12 سنة - وكانت أصغرهما تعاني عجزا جسديا تسبب في صعوبة مشيها وتطلب علاجا منتظما.
وعلمت أن والدها لم يكن له وجود في حياتها، مع أنها لم تنبس ببنت شفة عن هذا الموضوع. وعلى مدار عدة أشهر علمت أشياء قليلة عن كونها قد تربت في مدينة صغيرة في ولاية إنديانا، وكانت تنتمي لعائلة أيرلندية كبيرة من الطبقة العاملة. وعلى ما يبدو فإنها قابلت رجلا من ذوي البشرة السوداء هناك ونمت بينهما علاقة في السر وبعدها تزوجا، رفضت عائلتها التحدث معها بعد ذلك، ورحل الزوجان الحديثا الزواج إلى ضاحية ويست بولمان، حيث اشتريا منزلا صغيرا. بعد ذلك تركها زوجها ووجدت ماري نفسها وقد انجرفت إلى عالم لم تكن تعرف عنه إلا القليل، ومن دون أي شيء تملكه سوى المنزل وابنتيها السمراوين أصبحت غير قادرة على العودة إلى العالم الذي عرفته من قبل.
في بعض الأحيان كنت أزور ماري في منزلها زيارة قصيرة لإلقاء التحية عليها فقط، وربما كان الدافع وراء ذلك هو الوحدة التي شعرت بأنها تملأ أرجاء المنزل هناك، والتشابه الذي وجدته بينها وبين أمي، وبيني وبين ابنتيها؛ هاتان البنتان الجميلتان اللتان كانت ظروف معيشتهما أصعب بكثير من ظروف معيشتي، واللتان تهرب منهما جداهما وضايقهما زملاؤهما السود، إلى العديد من أنواع المعاناة الأخرى. لا يعني كل ذلك أن العائلة لم يكن يساعدها أحد، حيث إن الجيران - بعد أن هجر زوج ماري المنزل - قدموا الكثير من الرعاية والاهتمام بها وبطفلتيها، فكانوا يساعدونهن في إصلاح السقف الذي كانت المياه تتسرب منه، ويدعونهن إلى حفلات الشواء وحفلات أعياد الميلاد، بالإضافة إلى الإطراء على ماري لأي عمل طيب أنجزته. لكن كانت هناك حدود لمدى تقبل الجيران لهذه العائلة وحدود ضمنية للصداقات التي كان بإمكان ماري إقامتها مع السيدات اللاتي قابلتهن، خاصة المتزوجات منهن. لم يكن لديها أصدقاء حقيقيون سوى ابنتيها، والآن انضم إليهم ويل الذي أعطاهن إيمانه غير التقليدي شيئا خاصا شاركنه إياه.
ولأنه لم يكن هناك شيء إضافي يمكن فعله في الاجتماع جلست ماري وشاهدتني وأنا أدون لنفسي الملحوظات سريعا قبل انتهاء الاجتماع مباشرة. «هل تمانع إذا طرحت عليك سؤالا يا باراك؟» «لا، هاتي ما عندك.» «لماذا أراك هنا؟ أقصد لماذا تعمل في هذه الوظيفة؟» «بسبب الجاذبية.» «لا، إنني جادة في هذا السؤال. قلت بنفسك إنك لا تحتاج إلى هذه الوظيفة. هذا إلى جانب أنك لست متدينا للغاية، أليس كذلك؟» «حسنا ...» «لماذا إذن تعمل في الوظيفة؟ ثمة سبب لعملي أنا وويل في هذه الوظيفة. إنه التدين. هذا العمل جزء من عقيدتنا. لكنني لا أعتقد أن الأمر معك يسير على هذا النحو.»
في هذه اللحظة فتح الباب ودخل السيد جرين. وكان رجلا مسنا يرتدي سترة صيد وقبعة، تتدلى حاشيتاها بغير انسيابية أمام ذقنه. «كيف حالك يا سيد جرين؟» «بخير حال. الطقس شديد البرودة لكن ...»
وسرعان ما دخل السيد ألبرت والسيدة تيرنر ثم سائر المجموعة، وكانوا جميعا يرتدون ملابس ثقيلة في ظل أحوال جوية توحي بشتاء مبكر. كانوا يفتحون أزرار المعاطف، وأعدوا القهوة لأنفسهم، واشتركوا في محادثات قصيرة متأنية ساعدت في تدفئة جو الغرفة. وأخيرا دخل ويل مرتديا بنطلون جينز قصيرا وقميصا أحمر مطبوعا على مقدمته «الشماس ويل»، ثم بدأ الاجتماع بعد أن طلب من السيدة جيفري أن تقودنا في الصلاة. وبينما كان الجميع يتحدثون كنت أدون ملحوظات لنفسي، ولم أكن أتحدث إلا عندما يبدأ الحديث يحيد عن مساره الصحيح. وفي الواقع اعتقدت أن الاجتماع استمر فترة طويلة جدا عندما أضاف ويل نقطة جديدة إلى جدول الأعمال لمناقشتها؛ ولذا انسحب بعض الحضور بعد مرور ساعة.
أعلن ويل قائلا: «قبل أن ننهي الاجتماع أريد منكم أن تجربوا شيئا.» وتابعت: «إننا هنا الآن في مؤسسة اتخذت من الكنيسة مقرا لها، وهذا يعني أن نخصص جزءا من كل اجتماع نتأمل فيه أنفسنا، وعلاقاتنا بعضنا ببعض، وعلاقتنا بالرب. لذا أريد من كل منكم أن يستغرق دقيقة واحدة للتفكير في سبب الحضور إلى هنا الليلة، وفي بعض المشاعر والأفكار الأخرى التي لم تتحدثوا عنها، وبعد ذلك أريد منكم أن تشركوا المجموعة كلها فيها.»
أدى حديث ويل إلى بناء جدار من الصمت استمر بضع دقائق. وأخذ يكرر: «هل يريد أي منكم مشاركة أفكاره مع الآخرين؟»
نظر الناس إلى الطاولة بقلق وتوتر.
فقال ويل: «حسنا.» وتابع: «سأشارككم معي فكرة عالقة في ذهني منذ وقت. إنها ليست مهمة، لكنها مجرد ذكريات. إنكم تعلمون أن أهلي لم يكونوا أثرياء أو شيئا من هذا القبيل. حيث كنا نعيش في ألتجيلد. لكنني عندما عدت بذاكرتي إلى الوراء - إلى أيام الطفولة. تذكرت أوقاتا طيبة بالفعل؛ تذكرت الذهاب إلى بلاكبيرن فورست مع أهلي لقطف ثمار التوت البري. وتذكرت صنع العربات الزلاجة باستخدام أقفاص الفاكهة الفارغة وعجلات أحذية التزلج القديمة مع زملاء نشأت بيننا صداقة عابرة، والتسابق بهذه العربات في موقف السيارات، وتذكرت الذهاب إلى الرحلات الميدانية في المدرسة، ومقابلة جميع العائلات في المتنزه في الإجازات، حيثما كان الجميع خارج منازلهم دون أدنى شعور بالخوف، وفي الصيف كانوا ينامون في الساحات معا إذا كان الطقس شديد الحرارة داخل المنازل. فيض من الذكريات الجميلة ... يبدو الأمر وكأنني لم أكف عن الابتسام طيلة حياتي، أضحك ...»
توقف ويل فجأة عن تكملة حديثه وأحنى رأسه. ووقتها اعتقدت أنه يستعد للعطس، لكنه عندما أعلى رأسه مرة أخرى رأيت دموعا تنسال على وجنتيه. استمر في التحدث بنبرة تنم عن الحزن الشديد، وقال: «كما تعلمون فإنني لا أرى الأطفال يبتسمون هنا على الإطلاق. فأنتم تنظرون إليهم ... وتسمعونهم، يبدو هؤلاء الأطفال في حالة قلق، إنهم غاضبون من شيء ما. فليس لديهم ما يثقون به ، لا يثقون بآبائهم. أو بالرب. أو حتى بأنفسهم. وهذا ليس أمرا طيبا وليس من المفترض أيضا أن تأخذ الأمور هذا المسار ... الأطفال لا يبتسمون.»
توقف ويل عن الحديث مرة أخرى والتقط منديلا من جيب بنطلونه الخلفي ليمسح أنفه. بعد ذلك بدأ الحضور بالتحدث عن ذكرياتهم بنبرة كئيبة وجادة، كما لو كانت رؤية هذا الرجل الضخم وهو يبكي قد روت أسطح قلوبهم الجافة. تحدث الناس عن الحياة في المدن الجنوبية الصغيرة، وعن محلات البقالة الصغيرة التي كان يتجمع الرجال عندها لمعرفة أخبار اليوم أو مساعدة السيدات في حمل مشترياتهن، وتحدثوا عن أسلوب عناية الكبار بأطفال الغير؛ فكانوا يقولون لهم: «لن تستطيعوا الإفلات من العقوبة على أي خطأ تقترفونه؛ لأن أمهاتكم لديهن أعين وآذان في البناية كلها.» بالإضافة إلى تحدثهم عن شعور اللياقة العامة الذي ساعدت مثل هذه الألفة بينهم على استمراره. لم أحس في أصواتهم أنها تحمل بين جنباتها أي شعور - ولو ضئيلا - بالحنين، ولم يشتمل إلا على عناصر من ذكريات مختارة، لكن كل ما تذكروه كان صحيحا وقويا فيما يحمله من مشاعر وأحاسيس، كان صوتهم صدى للشعور المشترك بالخسارة. تحولت الغرفة إلى ساحة ارتادها خليط من مشاعر التجربة الحية والإحباط والأمل، تلك المشاعر التي أخذت الشفاه تتناقلها واحدة تلو الأخرى، وعندما تحدث الشخص الأخير حلقت هذه المشاعر في الهواء وظلت ثابتة وأمكن للجميع إدراكها بوضوح. تشابكت أيدينا بعد ذلك، يدي اليسرى في يد السيد جرين القوية السميكة ويدي اليمنى في يد السيدة تيرنر الرقيقة الملمس، ودعونا جميعا أن نمنح الشجاعة لإجراء التغيير.
ساعدت كلا من ويل وماري في إعادة المقاعد إلى أماكنها وغسل أواني إعداد القهوة وإغلاق المكان وإطفاء الأنوار. وفي الخارج كان الطقس باردا ليلا، لكنه لم يكن ملبدا بالغيوم. رفعت ياقة السترة لأعلى وسرعان ما قيمت الاجتماع. لم يكن ويل يريد استغراق وقت طويل، وكان علينا أن نبحث قضية خدمات المدينة قبل الاجتماع التالي، إلى جانب مقابلة الجميع من الحضور. وبعد أن انتهيت من قائمة البنود التي دونتها وضعت ذراعي حول كتفي ويل وقلت له: «كانت فكرة التأمل في نهاية الاجتماع غاية في الفاعلية يا ويل.»
نظر ويل إلى ماري وابتسما معا. وقالت ماري: «مما لاحظناه أنك لم تشارك مشاعرك مع أي من أفراد المجموعة.» «على المنظم ألا يجذب إليه الأنظار.» «من قال ذلك؟» «دليلي المختصر عن وظيفة المنظم. تعالي معي يا ماري سأوصلك إلى المنزل.»
ركب ويل دراجته ولوح بيده قبل الانطلاق، وركبنا السيارة أنا وماري لتوصيلها إلى منزلها الذي يبعد مسافة أربعة مبان عن مكان الاجتماع. نزلت ماري أمام باب منزلها وشاهدتها وهي تمشي خطوات قليلة قبل أن أمد يدي تجاه المقعد الذي كانت جالسة عليه لأوصد زجاج النافذة، وفي تلك الأثناء ناديتها. «ماري!»
رجعت وانحنت قليلا لتنظر إلي. «أتذكرين السؤال الذي طرحته علي من قبل عن سبب عملي في هذه الوظيفة؟ إن الأمر له علاقة باجتماع الليلة. أقصد ... أنني لا أعتقد أن أسبابنا للعمل في هذا المجال مختلفة اختلافا شديدا.»
أومأت ماري برأسها واتخذت طريقها للوصول إلى المنزل لرؤية ابنتيها. •••
بعد أسبوع عدت إلى ألتجيلد، وبعد أن تمكنت من اصطحاب أنجيلا ومنى وشيرلي معي في سيارتي الصغيرة جدا. سألتني منى بعد أن شكت من صغر المساحة التي تجلس فيها - لأنها كانت جالسة في الخلف.
قالت: «ما نوع هذه السيارة؟»
رفعت شيرلي مقعدها لأعلى. وقالت: «هذه السيارة مصنعة خصيصا للفتيات النحيفات الصغيرات الحجم اللاتي يخرج معهن باراك.» «مع من سيكون اجتماعنا هذه المرة؟»
كنت قد خططت لعقد ثلاثة اجتماعات، على أمل العثور على استراتيجية توظيف تفي باحتياجات الناس في ألتجيلد. وفي هذا الوقت على الأقل كان حدوث ازدهار صناعي جديد أمرا صعب المنال؛ فكبار المصنعين كانوا يختارون أروقة الضواحي النظيفة، ولم يكن باستطاعة أحد - حتى لو كان غاندي - إجبارهم على نقل مشاريعهم بالقرب من ألتجيلد في أي وقت قريب على الإطلاق. على الجانب الآخر كان ما زال متبقيا في المنطقة جزء من الاقتصاد الذي كان يمكن أن يطلق عليه الاقتصاد المحلي الذي اعتقدت وقتها أنه اقتصاد استهلاكي من الطبقة الثانية - وهو اقتصاد المتاجر والمطاعم والمسارح والخدمات - الذي استمر في مناطق أخرى في المدينة باعتباره جوهر الحياة المدنية. وهذه الأماكن هي التي اتجهت إليها العائلات لاستثمار مدخراتها وتحقيق النجاح في العمل، إلى جانب توفيرها الوظائف لعديمي الخبرة؛ إنها الأماكن التي ظل فيها الاقتصاد باقيا بالمقياس الإنساني وواضحا بصورة كافية كي يستوعبه الناس.
كانت روزلاند هي الأقرب للمقاطعة التجارية في المنطقة؛ لذا فإننا اتخذنا مسار الأتوبيس واتجهنا شمالا إلى شارع ميشيجان المشهور بمحلات بيع الشعر المستعار، ومحلات الخمور، ومحلات الملابس المباعة بتخفيضات، ومحلات البيتزا، إلى أن وصلنا أمام مخزن قديم مكون من طابقين. دخلنا هذا المبنى من بابه المعدني الثقيل ونزلنا على سلالم ضيقة إلى الطابق السفلي المليء بقطع الأثاث القديم. وفي مكتب صغير كان يجلس رجل رياضي البنية إلى حد ما، بلحية صغيرة مشذبة، وكان يرتدي قلنسوة ضيقة أبرزت أذنيه الكبيرتين. «هل أستطيع مساعدتكم؟»
شرحت لهذا الرجل من نحن وأننا تحدثنا قبل الحضور هاتفيا.
قال الرجل: «نعم هذا صحيح.» وبعدها أشار لاثنين من رجاله ضخمي الجثة كانا يقفان على جانبي مكتبه، فمشيا بعد أن أومآ برأسيهما. وقال الرجل مرة أخرى: «أعتقد أننا مضطرون لتقديم أنفسنا سريعا لأنه حدث شيء غير متوقع. أنا رفيق الشباز.»
قالت شيرلي ونحن نصافح رفيقا: «إنني أعرفك.» وتابع: «أنت «والي» ابن السيدة طومبسون. كيف حال والدتك؟»
ابتسم رفيق ابتسامة مصطنعة، وطلب منا الجلوس. وأوضح أنه كان رئيسا لائتلاف وحدة روزلاند، وهو مؤسسة اشتركت في العديد من الأنشطة السياسية بهدف الترويج لقضية السود، وزعمت أن لها دورا كبيرا في المساعدة في انتخاب عمدة واشنطن. وعندما سألناه عن كيفية دعم كنائسنا التنمية الاقتصادية المحلية، أعطانا منشورا يتهم المتاجر العربية ببيع لحم فاسد.
قال رفيق: «هذا هو الأمر الذي يستحق الاهتمام.» وتابع: «حيث إن هناك أناسا من خارج مجتمعنا يأخذون منا أموالنا ويتعاملون مع إخوتنا وأخواتنا بغير احترام. وبصفة أساسية فإن الكوريين والعرب هم من يديرون هذه المتاجر، ولا يزال اليهود يملكون معظم الأبنية. والآن على المدى القصير، يتعين علينا التأكد من أن مصالح السود يعتنى بها، أتفهمونني ؟ وعندما نسمع أن أحد الكوريين يسيء معاملة أحد الزبائن، يجب أن نهتم بهذا الأمر. ونصر على احترامهم لنا وتقديم المساعدة للمجتمع، مثل تمويل برامجنا وأي شيء آخر تقترحونه.» «هذا على المدى القصير، وهذه ...» أشار رفيق إلى خريطة لروزلاند معلقة على الحائط وبها مناطق معينة مميزة بالحبر الأحمر. وأضاف: «وهذه على المدى الطويل. حيث إن الأمر برمته يتعلق بقضية الملكية. وهذه الخريطة شاملة لكل المنطقة. شركات السود ومراكز المجتمع وكل شيء. هذا إلى جانب بعض الممتلكات التي بدأنا بالفعل التفاوض مع الملاك البيض على بيعها لنا بسعر معقول. لذا فإذا كانوا جميعا مهتمين بالوظائف فإن بإمكانكم تقديم المساعدة عن طريق نشر هذه الرسالة الخاصة بهذه الخريطة. والمشكلة التي تواجهنا الآن هي عدم تلقي المساعدة الكافية من أهل روزلاند. وبدلا من اتخاذهم موقفا فإنهم يرحلون خلف البيض في الضواحي، لكن كما تعرفون فإن البيض ليسوا أغبياء، حيث إنهم ينتظرون فقط خروجنا من المدينة حتى يستطيعوا العودة لأنهم يعرفون أن قيمة المبنى الذي نجلس فيه الآن باهظة الثمن.
دخل أحد رجليه الضخمي الجثة مرة أخرى إلى المكتب ووقف رفيق. وقال على نحو مفاجئ: «لا بد أن أذهب الآن.» لكنه استدرك قائلا: «سنتحدث مرة أخرى.» صافحنا رفيق قبل أن يقودنا مساعده تجاه الباب.
بمجرد أن أصبحنا خارج المبنى، قلت: «يبدو أنك تعرفينه يا شيرلي.» «نعم، قبل أن يتسمى بهذا الاسم الرائع، كان «والي طومبسون» البسيط، الذي استطاع تغيير اسمه لكن لم يكن بإمكانه إخفاء أذنيه الكبيرتين. تربى رفيق في ألتجيلد، وفي الواقع أعتقد أنه وويل كانا في المدرسة معا. وقبل أن يعتنق الإسلام كان أهم عضو في إحدى العصابات.»
قالت أنجيلا: «من عاش على شيء مات عليه.»
كانت محطتنا التالية الغرفة التجارية المحلية التي كان مقرها في الطابق الثاني لمبنى شبيه بمحل الرهونات. وفي الداخل وجدنا رجلا أسود ممتلئ الجسم كان مشغولا بتغليف صناديق.
قلت لهذا الرجل: «إننا نبحث عن السيد فوستر .»
قال لي، دون أن يرفع بصره: «أنا فوستر.» «لقد أخبرنا أنك كنت رئيس الغرفة ...» «حسنا، هذا صحيح، كنت رئيسها. واستقلت الأسبوع الماضي فقط.»
طلب منا الجلوس وتحدث وهو يعمل. أوضح أنه يمتلك محل الأدوات المكتبية في آخر الشارع منذ 15 عاما، وأنه ظل رئيسا للغرفة طيلة الخمس سنوات السابقة. كما أوضح أنه بذل ما في وسعه لتنظيم التجار المحليين، لكن عدم تلقي الدعم جعله في النهاية يفقد حماسه.
قال السيد فوستر وهو يكدس بعض صناديق قليلة بجانب الباب: «لن تسمعوني أشكو من الكوريين.» وأضاف: «هم الوحيدون الذين يدفعون المبالغ المستحقة عليهم في الغرفة. هذا إلى جانب أنهم يفهمون عملهم ويعلمون جيدا معنى التعاون، ويدخرون أموالهم معا. ويقرضون بعضهم بعضا. ولا نفعل نحن ذلك كما تعرفون. فالتجار السود هنا أشبه بالتفاح الفاسد داخل طبق الفاكهة.» وقف فوستر ومسح جبينه بمنديل. وأضاف: «إنني لا أعرف. ربما لا تلوموننا على الوضع الذي أصبحنا عليه. وبعد كل هذه السنوات دون ظهور أية فرصة، اضطررتم إلى الاعتقاد في أنهم ينتزعون شيئا منا. والأمر الآن أشد قسوة مما كانت الحال عليه مع الإيطاليين أو اليهود منذ 30 عاما؛ لأنه في هذه الأيام لا بد أن يتنافس محل صغير كالذي أمتلكه مع سلاسل المحلات الكبيرة. إنها معركة خاسرة ما لم تحذوا حذو الكوريين؛ أي أن تجعلوا عائلاتكم تعمل 16 ساعة يوميا، وسبعة أيام في الأسبوع. ولكن بوصفنا أناسا عاديين، فإننا لسنا مستعدين لفعل ذلك مرة أخرى. إنني أعتقد أننا عملنا لوقت طويل دون جني أية ثمار لأننا نشعر أننا لسنا مضطرين لإجهاد أنفسنا لمجرد أن نعيش فقط. وهذا هو ما أقوله لأبنائي على أية حال. إنني لا أقول إنني مختلف. إنني أخبر أبنائي بأنني لا أريدهم أن يرثوا مهنتي. وإنما أريدهم أن يعملوا لدى شركة كبيرة يشعرون فيها بالراحة ...»
قبل أن نرحل سألته أنجيلا عن احتمالية قيامه بتوفير فرص عمل بدوام جزئي للشباب في ألتجيلد. فرفع فوستر بصره إليها كما لو كانت مجنونة.
قال: «إن كل تاجر هنا يرفض 30 طلبا من طلبات العمل يوميا.» وأضاف: «البالغون المواطنون الكبار. العاملون ذوو الخبرة لديهم استعداد لقبول أي شيء يحصلون عليه. أنا آسف.»
في أثناء عودتنا إلى السيارة مررنا على متجر صغير مليء بالملابس الرخيصة الثمن والسترات ذات الألوان الزاهية، ويطل من نافذته دميتان بيضاويتان قديمتان مدهونتان باللون الأسود. كانت إضاءة هذا المتجر ضعيفة، لكن في مؤخرته استطعت بصعوبة رؤية شابة كورية تخيط يدويا وبجانبها طفل نائم. وفي الواقع جعلني هذا المنظر أعود بذاكرتي إلى أيام طفولتي، وإلى أسواق إندونيسيا حيث البائعون المتجولون، والعاملون المشتغلون في صناعة الجلود، والسيدات المتقدمات في العمر اللاتي كن يمضغن التنبول ويبعدن الذباب بالمقشات عن الفاكهة التي يبعنها.
لقد اعتدت دوما على مثل هذه الأسواق واعتبرتها جزءا من الطبيعة. هذا مع أنني - الآن - عندما فكرت في ألتجيلد وروزلاند ورفيق والسيد فوستر أدركت أسواق جاكرتا على حقيقتها، حيث كانت أسواقا جميلة ونفيسة. إن الناس الذين كانوا يبيعون بضائعهم هناك ربما كانوا فقراء، بل أكثر فقرا من سكان ألتجيلد أنفسهم. حيث كانوا يحملون 50 رطلا يوميا على ظهورهم، ويأكلون القليل، وتدركهم المنية وهم شباب. وعلى الرغم من كل هذا الفقر فقد بقي في حياتهم نظام يمكن إدراكه وتمييزه؛ هو مزيج الأساليب التجارية، والوسطاء، والرشاوى التي ينبغي دفعها، والأعراف التي ينبغي احترامها، وعادات جيل تحدث يوميا تحت ستار المفاوضات والمساومات والضوضاء والإرهاق.
كان غياب مثل هذا الترابط هو الذي جعل مكانا مثل ألتجيلد يعمه اليأس هكذا، وبيني وبين نفسي فكرت أن غياب النظام هو الذي جعل كلا من رفيق والسيد فوستر - كل بأسلوبه الخاص - يشعران بالمرارة البالغة. إذن كيف يمكننا حياكة الثقافة بعد أن تمزقت؟ وكم من الوقت سيستغرق هذا الأمر في الولايات المتحدة؟
ظننت أننا سنستغرق وقتا أطول من الوقت الذي استغرقته أية ثقافة لتنحل. وحاولت أن أتصور العمال الإندونيسيين الذين كانوا يشقون طريقهم في الحياة بمجهوداتهم الخاصة من خلال العمل في العديد من المصانع التي كان مقرها فيما سبق على ضفتي نهر كالوميت، والعمل بالأجرة في مجال تجميع أجهزة الراديو وصنع الأحذية التي تباع في شارع ميشيجان. تصورت هؤلاء العمال الإندونيسيين بعد 10 أو 20 سنة من الآن، عندما تغلق مصانعهم نتيجة تطبيق التكنولوجيا الحديثة أو وجود عمال في أماكن أخرى من العالم يؤدون عملهم بأجر أقل. ويكتشفون بمرارة أن أسواقهم اختفت، وأنهم لم يعودوا يتذكرون كيف يصنعون سلالهم بأيديهم أو ينحتون أثاثهم، أو يزرعون غذاءهم، وحتى إن تذكروا كيفية تنفيذ كل هذا فإن الغابات التي كانت تمدهم بالخشب أصبحت تملكها الآن شركات الأخشاب، بالإضافة إلى أن سلالهم التي كانوا يصنعونها من قبل حلت محلها أكياس بلاستيك أكثر متانة. وبذلك اختفت ثقافتهم بسبب وجود المصانع وشركات الأخشاب ومصانع البلاستيك. واتضح أن قيم العمل الشاق والمبادرات الفردية معتمدة على منظومة من المعتقدات التي تأثرت بفعل الهجرة والتحضر وتكرار عرض البرامج التليفزيونية الأجنبية. وقد تحسن حال بعض هؤلاء في ظل هذا النظام الجديد. في حين انتقل البعض الآخر إلى أمريكا. أما الباقون - وهم الملايين الذين ظلوا في جاكرتا أو لاجوس أو الضفة الغربية - فقد استقروا في أحيائهم الشبيهة بألتجيلد جاردنز في حالة من اليأس والإحباط.
سادت حالة من الصمت في أثناء اتجاهنا بالسيارة إلى مكان الاجتماع الأخير مع مديرة الفرع المحلي لمكتب العمدة للتوظيف والتدريب، الذي ساعد في توجيه العاطلين عن العمل إلى برامج التدريب في جميع أنحاء المدينة. كنا قد واجهنا صعوبة في العثور على المكان - الذي كان يبعد 45 دقيقة بالسيارة عن ألتجيلد وكان يقع في شارع خلفي في حي فردولياك - ووقت وصولنا كانت المديرة قد غادرت. ولم يكن مساعدها يعرف متى ستعود لكنه سلمنا مجموعة من النشرات الدعائية المطبوعة على ورق مصقول.
قالت شيرلي وهي تتجه نحو الباب: «لن يساعدنا ذلك على الإطلاق.» واستكملت كلامها: «ربما كان من الأفضل بقاؤنا في المنزل.»
لاحظت منى أنني تلكأت في المكتب. وسألت أنجيلا: «إلام ينظر أوباما؟»
أظهرت لهما ظهر إحدى النشرات. وكان يشتمل على قائمة بجميع برامج مكتب التوظيف والتدريب في المدينة. وفي الواقع لم يكن أي منها جنوب شارع خمسة وتسعين.
قلت: «ها قد وجدناها.» «ما هي؟» «وجدنا قضية لنعمل عليها.» •••
بمجرد أن رجعنا إلى الجاردنز كتبنا مسودة خطاب إلى الآنسة سينثيا ألفاريز مديرة مكتب التوظيف والتدريب بالمدينة. وبعد أسبوعين وافقت على مقابلتنا في الجاردنز. ولأنني كنت عازما على عدم تكرار أخطائي أنهكت نفسي وكذلك القيادة في إعداد سيناريو للاجتماع، وبذلت جهدي لإقناع الكنائس الأخرى بإرسال مندوبين عنهم، وصياغة طلب واضح اعتقدنا أن مكتب التوظيف والتدريب سوف يلبيه، وهذا الطلب هو إنشاء مركز توظيف وتدريب في أقصى الجانب الجنوبي.
على الرغم من استغراق أسبوعين في عملية الإعداد فإنني شعرت ليلة الاجتماع باضطراب شديد في معدتي. وفي الساعة السادسة و45 دقيقة، ظهر ثلاثة أشخاص فقط؛ سيدة شابة ومعها طفل رضيع كان يسيل لعابه على مريلته الصغيرة، وسيدة أكبر سنا كانت قد لفت بعناية بعض الكعك في منديل أدخلته بعد ذلك في حقيبتها، ورجل ثمل غفا بمجرد أن جلس بكسل شديد على مقعد في الصف الخلفي. وبمرور الدقائق تصورت مرة أخرى أن المقاعد ستظل فارغة، وأن المسئول سيغير رأيه في اللحظة الأخيرة ويعدل عن الحضور، وتخيلت نظرة الإحباط التي ستعلو وجوه القادة والشعور المميت بالفشل الشديد.
وقبل أن تدق الساعة السابعة بدقيقتين، بدأ الناس في الوفود واحدا تلو الآخر. وكان كل من ويل وماري قد أحضرا مجموعة من الأفراد من ضاحية ويست بولمان، وبعد ذلك دخل ابنتا شيرلي وأحفادها الذين ملئوا صفا كاملا من المقاعد، وبعد ذلك بعض سكان ألتجيلد ممن يدينون لأنجيلا أو شيرلي أو منى بمعروف. وكانت المحصلة قرابة 100 فرد في الغرفة عند وصول السيدة ألفاريز - وهي سيدة أمريكية من أصل مكسيكي ومتغطرسة إلى حد بعيد - ومعها رجلان من ذوي البشرة البيضاء كانا يرتديان حلتين ويمشيان وراءها بتثاقل.
سمعت أحد المساعدين يهمس للآخر عند دخولهما الباب وهو يقول: «لم أكن أعلم حتى أن هذا كان هنا.» وعندما سألته إن كان يمكنني أخذ معطفه هز رأسه بعصبية. «لا، لا ... إنني سوف، إمممم ... سوف أحمله بنفسي، أشكرك.»
أبلت القيادة بلاء حسنا هذه الليلة. وعرضت أنجيلا القضية بوضوح على الجمهور وشرحت للسيدة ألفاريز ما نتوقعه منها. وعندما تجنبت السيدة ألفاريز الإفصاح عن أي رد محدد اندفعت منى وطلبت منها الإجابة بنعم أو لا. وعندما وعدت في النهاية بإقامة مركز تابع لمكتب العمدة للتوظيف والتدريب في المنطقة خلال ستة أشهر صفق لها الجمهور تصفيقا حادا. لكن المشكلة الوحيدة ظهرت في أثناء الاجتماع عندما وقف الرجل الثمل الجالس في الخلف وبدأ يصيح ويعرب عن رغبته في الحصول على وظيفة. وعلى الفور اتجهت شيرلي إلى هذا الرجل وهمست له في أذنه بقول جعله يعود أدراجه إلى المقعد مرة أخرى.
وبهذا الخصوص سألت شيرلي لاحقا: «ماذا قلت له؟» «إنك صغير على أن تعرف.»
انفض الاجتماع بعد ساعة، وأسرعت السيدة ألفاريز ومساعداها في الخروج، وركب ثلاثتهم سيارة زرقاء فارهة، وذهب الحضور لمصافحة منى وأنجيلا، وعند تقييم الاجتماع ابتسمت السيدات.
وقالت أنجيلا وهي تعانقني بشدة: «لقد أنجزت عملا عظيما يا باراك.» «أرأيت، ألم أعد بأننا سنفعل شيئا ذا أهمية؟»
قالت منى وهي تغمز بعينها: «بالتأكيد فعل باراك هذا الشيء.»
بعد ذلك أخبرتهن بأنني سأتركهن بمفردهن على الأقل لمدة يومين، وذهبت إلى سيارتي وأنا أشعر بعض الشيء بدوار في رأسي. وقلت لنفسي إن باستطاعتي القيام بهذه الوظيفة وتنظيم هذه المدينة بأكملها عند انتهائي من هذا العمل. أشعلت سيجارة بعدها وتصورت، وأنا أهنئ نفسي على هذا الإنجاز، الانتقال بالقيادة إلى وسط المدينة للجلوس مع هارولد ومناقشة مصير المدينة. وبعد بضعة أقدام وأسفل عمود نور رأيت الرجل الثمل الذي كان في الاجتماع، وهو يمشي في خطوات دائرية بطيئة وينظر إلى ظله المتطاول على الأرض. فخرجت من سيارتي وسألته إن كان في حاجة إلى المساعدة للذهاب إلى منزله.
صاح الرجل وهو يحاول الوقوف بثبات قائلا: «إنني لا أحتاج إلى مساعدة من أحد!» واستكمل كلامه: «أتفهمني! يا لك من أحمق بغيض ... يقول لي أشياء مزعجة ...»
خبا صوته. وقبل أن أقول شيئا آخر استدار وبدأ يسير مترنحا في عرض الشارع ثم اختفى في الظلام.
الفصل العاشر
جاء فصل الشتاء وصبغت المدينة بمزيج من الألوان؛ حيث الأشجار السوداء تحت السماء الرمادية فوق الأرض البيضاء. وأصبح الليل يسدل ستائره مبكرا وقت الأصيل خاصة عندما تهب العواصف الثلجية؛ تلك العواصف الهائلة اللانهائية التي تقرب المسافة بين السماء والأرض، فتنعكس أضواء المدينة على السحب.
كان العمل أشد قسوة في مثل هذا الطقس. كانت أكوام الثلوج البيضاء تدخل عبر فتحات سيارتي إلى أسفل ياقتي وخلال فتحات معطفي. وفي جولاتي لإجراء المقابلات الشخصية لم أقض إطلاقا وقتا كافيا في مكان واحد حتى أستطيع الاستمتاع بالدفء كما ينبغي، بالإضافة إلى أن أماكن انتظار السيارات أصبحت نادرة في الشوارع التي ضيقتها الثلوج، وأصبح لكل شخص فيما يبدو قصة يسدي من خلالها النصائح بشأن المشاجرات التي تنشب بسبب أماكن انتظار السيارات بعد هبوب العواصف الثلجية الكثيفة، وما ينتج عن هذه المشاجرات من معارك عنيفة أو حوادث إطلاق النيران. أصبح حضور الاجتماعات في المساء غير منتظم بصورة أكبر؛ حيث كان الناس يتصلون بالهاتف في اللحظات الأخيرة ليقولوا إنهم أصيبوا بالأنفلونزا أو إن سياراتهم لا تعمل، أما من كانوا يحضرون الاجتماعات فيحضرون والبلل على ملابسهم ويبدو عليهم الامتعاض. وفي بعض الأحيان - وأنا أقود سيارتي في طريقي للعودة إلى المنزل بعد هذه الاجتماعات المسائية بينما عواصف الرياح الشمالية تهز سيارتي عبر حواجز الطرق الضيقة - كنت أنسى للحظة أين كنت وكانت أفكاري وقتئذ انعكاسا للصمت.
اقترح مارتي أن أستقطع لنفسي وقتا أطول بعيدا عن أعباء الوظيفة. وكانت اهتماماته عملية وأوضح أنه:
دون الحصول على بعض الدعم الشخصي خارج نطاق العمل يفقد المنظم رؤيته، وسرعان ما يتوقف عن العمل كما ينبغي. في الواقع كان هناك منطق صحيح فيما قاله؛ فالناس الذين قابلتهم وأنا في هذه الوظيفة كانوا بصفة عامة أكبر مني سنا بكثير، وكانت لهم اهتمامات ومطالب أقامت سدودا منيعة بيني وبين صداقتهم. وعندما لم يكن لدي عمل في إجازات نهاية الأسبوع كنت في العادة أقضي هذه الإجازات وحيدا في شقة لا يقطنها غيري، وما من أنيس يجالسني إلا الكتب فحسب.
لم ألتفت إلى نصيحة مارتي، وربما كان ذلك بسبب أنه كلما كانت الروابط بيني وبين القيادة تزداد قوة أجدهم يقدمون لي أكثر من مجرد الصداقة. فبعد الاجتماعات كان من الممكن أن أخرج مع أحد الرجال إلى إحدى الحانات المحلية لمشاهدة الأخبار أو الاستماع إلى الأغاني القديمة مثل أغاني فرقة «تيمبتيشن» وفرقة «أو جايز» التي كانت تذاع من خلال جهاز فونغراف آلي يعمل بالعملة موضوع في أحد الأركان ويصدر صوتا رنانا. وفي أيام الآحاد كنت أزور الكنائس لأداء الطقوس الدينية المختلفة، والسماح للسيدات بالاستهزاء بي بسبب خلطي بين العشاء الرباني والصلاة. وفي إحدى حفلات الكريسماس في الجاردنز رقصت مع أنجيلا ومنى وشيرلي أسفل كرة عكست أضواء دائرية متلألئة في الغرفة، وتبادلت الحديث عن الأخبار الرياضية مع أزواج اشتركوا في الحديث على مضض ونحن نتناول فطائر جبن رديئة المذاق وشرائح اللحم، وتشاورت مع أبناء وبنات بخصوص طلبات التقديم إلى الجامعة، ولعبت مع أحفاد كانوا يجلسون على ركبتي.
بدأت خلال هذه الفترات - التي أذابت فيها الألفة والإعياء الشديد الحواجز بين المنظم والقائد - فهم ما كان يعنيه مارتي عندما أصر على أن أنتقل إلى مراكز حياة الناس. إنني أتذكر على سبيل المثال الجلوس في مطبخ السيدة كرينشو بعد ظهر أحد الأيام وأنا أتناول الكعك المحروق الذي كانت تضغط علي لتناوله في كل مرة أزورها. كان الوقت قد تأخر، وبدأ سبب زيارتي يصبح غامضا، فطرأت على بالي فكرة أن أسألها عن سبب استمرارها في الاشتراك في جمعية الآباء والمعلمين مع أن أطفالها قد كبروا منذ فترة طويلة. بدأت هذه السيدة تخبرني بعد أن دفعت كرسيها بالقرب من كرسيي سريعا عن نشأتها في ولاية تينيسي، وكيف أجبرت على أن تترك التعليم لأن عائلتها لم تستطع تحمل تكاليف سوى ابن واحد فقط في الجامعة، وهو أخوها الذي مات بعد ذلك في الحرب العالمية الثانية. أما هي فقضت هي وزوجها سنوات من العمل في أحد المصانع - كما قالت - للتأكد من أن ابنهما لن يضطر إلى أن يترك تعليمه على الإطلاق ؛ ولذا استمر في التعليم إلى أن حصل على شهادة التخرج في كلية الحقوق من جامعة ييل.
اعتقدت وقتها أنها قصة سهلة الفهم؛ قصة عن تضحية جيل، وتبرير لمعتقدات أسرة. إلا أنني عندما سألت السيدة كرينشو عما يفعل ابنها هذه الأيام، أخبرتني بأن الأطباء منذ بضع سنوات شخصوا حالته على أنها انفصام في الشخصية، وأنه يقضي وقته الآن في قراءة الجرائد في غرفته خائفا من ترك المنزل. وفي أثناء تحدثها لم يرتعد صوتها؛ فقد كان صوت إنسانة استخلصت من المأساة معنى أكبر.
وأتذكر تلك المرة التي كنت أجلس فيها في غرفة في الدور السفلي في كنيسة سانت هيلينا مع السيدة ستيفينز في انتظار بدء أحد الاجتماعات. ولم أكن أعرف السيدة ستيفينز معرفة وثيقة، فلم أكن أعرف سوى أنها كانت مهتمة بإصلاح وتحديث المستشفى المحلي. وبينما كنا نتحدث في الأمور العامة سألتها عن سبب اهتمامها الشديد بتحسين الرعاية الصحية في المنطقة ما دامت عائلتها في حالة صحية طيبة. فأخبرتني أنها أوشكت أن تفقد بصرها وهي في العشرينيات من عمرها من جراء الإصابة بالمياه البيضاء. وكانت عندئذ تعمل سكرتيرة، ومع أن حالتها كانت قد ازدادت سوءا وأعلن طبيبها أنها أصبحت عمياء رسميا فقد أخفت مرضها عن رئيسها في العمل خوفا من الاستغناء عنها. ويوما بعد يوم كانت تتسلل إلى دورة المياه لتقرأ بعدسة مكبرة المذكرات التي يطلبها منها رئيسها في العمل، وتحفظ كل سطر فيها عن ظهر قلب قبل أن تعود لمكتبها لكتابته على الآلة الكاتبة، وتظل في المكتب لمدة طويلة بعد ذهاب الآخرين لإنهاء التقارير المفترض أن تكون جاهزة في صباح اليوم التالي. وبهذه الطريقة حفظت السيدة سرها لما يقرب من عام إلى أن وفرت مبلغا كافيا من المال لإجراء عملية لعلاج عينها.
وأتذكر أيضا السيد مارشال، وهو رجل أعزب في أوائل الثلاثينيات من عمره يعمل سائق حافلة في شركة ترانزيت للنقل الجماعي. لم تكن صفات القيادة تنطبق بالضبط على مارشال - لم يكن لديه أطفال وكان يعيش في شقة - ولذا تعجبت من سبب اهتمامه الشديد بالإسهام بشكل إيجابي في قضية تعاطي المراهقين للمخدرات. وعندما عرضت عليه أن أوصله بسيارتي ذات يوم ليحضر سيارته التي تركها في ورشة الإصلاح، طرحت عليه هذا السؤال. فأخبرني عن أحلام والده بتحقيق الثروة في مدينة بعيدة في أركانساس، وكيف تعثرت مشاريع والده التجارية، وتعرضه للغش على يد رجال آخرين، وكيف اتجه والده إلى القمار وشرب الخمور وفقدانه لمنزله ولعائلته، وكيف عثر عليه في النهاية ميتا في حفرة بعد أن تسبب التقيؤ الناتج عن إفراطه في الشراب في وفاته.
كان هذا هو الدرس الذي تعلمته من القيادة يوما بعد يوم، وهو أن الاهتمام الشخصي الذي كنت من المفترض أن أسعى إليه امتد ليتجاوز أهمية القضايا، وأن الناس يحملون بداخلهم تفسيرات رئيسية لسلوكياتهم تظهر في الأحاديث المشتركة عن أمور عامة وفي سير حياتهم غير المفصلة وفي آرائهم المختلفة. إنها قصص مليئة بالرعب والدهشة ومرصعة بأحداث لا تزال تسيطر عليهم أو تلهمهم. يا لها من قصص مقدسة!
كان هذا الإدراك - في اعتقادي - هو الذي سمح لي في النهاية بأن أشارك من كنت أعمل معهم الكثير من ذكرياتي، وساعدني أيضا على هدم جدار العزلة الذي حملته معي عندما جئت إلى شيكاغو. في بادئ الأمر كنت مترددا خوفا من أن تكون حياتي السابقة غريبة للغاية على مدارك الجانب الجنوبي، وأن تتسبب إلى حد ما في إفساد تقديرهم لي. على أن ما كان يحدث عندما كان الناس يستمعون إلى القصص التي كنت أرويها عن جدتي أو لولو أو أمي وأبي، أو حكاياتي عن الطائرات الورقية في جاكرتا أو الذهاب إلى الحفلات الراقصة في أكاديمية بوناهو، هو أنهم كانوا يومئون برءوسهم أو يهزون أكتافهم أو يضحكون، متعجبين من كيف يمكن أن ينتهي الحال بشخص لديه خلفية مثل خلفيتي - كما قالت منى - بأن يصبح «ريفيا للغاية»، إلا أن ما تسبب في قدر أكبر من الحيرة لهم هو لماذا يمكن أن يختار شخص بمحض إرادته قضاء فصل الشتاء في شيكاغو في الوقت الذي بوسعه الاستمتاع بدفء أشعة الشمس على شاطئ وايكيكي. وبعد أن أروي لهم حكاياتي كانوا يلقون على مسامعي قصصا تماثل قصصي أو تفندها بهدف ربط خبراتنا معا؛ قصصا عن الأب الغائب، وتجارب المراهقة السيئة مع الجريمة، والقلب الهائم، ولحظات السمو. وبمرور الوقت وجدت أن هذه القصص - إذا ما جرى النظر إليها كوحدة واحدة - ساعدتني في أن أجمع شتات عالمي، وأنها منحتني المعنى الذي كنت أبحث عنه للمكان والهدف. كان مارتي محقا عندما قال إنه يوجد دائما مجتمع إذا بحثنا عنه أكثر في الأعماق. لكنه كان على خطأ في توصيف العمل. وكان بالأمر نوع من الشعر أيضا؛ فقد كان هناك عالم لامع مضيء كامن تحت السطح، عالم ربما قدمه الناس إلي كهدية إذا ما طلبت ذلك. •••
وأنا لا أقصد أن كل شيء تعلمته من القادة أسعد قلبي. فمع أنهم أظهروا قوة في الشخصية لم أتخيلها قط فإنهم أجبروني أيضا على الاعتراف بالقوى غير المعلنة التي أعاقت مجهوداتنا، والأسرار التي أخفاها بعضنا عن بعض، بل أخفيناها عن أنفسنا أيضا.
كذلك كان الحال مع روبي مثلا. فبعد اجتماعنا الذي باء بالفشل مع قائد الشرطة انتابني القلق من أنها قد تبتعد عن مجال التنظيم. لكن ما حدث هو أنها ركزت بغير تردد على المشروع، وعملت بجد لتكوين شبكة من الجيران يمكن الاستفادة منها بصفة منتظمة في المناسبات التي ننظمها، وابتكرت أفكارا يمكن استخدامها في تسجيل الناخبين أو التعاون مع أولياء أمور طلبة المدارس. باختصار، كانت روبي تمتلك جميع الصفات التي يتمناها أي منظم؛ كانت إنسانة تتمتع بموهبة غير مستغلة وذكية ويعتمد عليها، وأعجبتها فكرة الحياة العامة، وكانت تتوق للتعلم. كنت أحب ابنها كايل الصغير. كان عندئذ قد بلغ 14 عاما، كنت أرى في سرعة تقلب هذا الفتى الشكل العام لكفاحي إبان شبابي؛ ففي لحظة ما كان يفيض بالطاقة والحيوية ويظل يصطدم بي أثناء لعبنا كرة السلة في الحديقة العامة في المنطقة، ثم في اللحظة التالية مباشرة يصبح ضجرا ومتجهم الوجه. وفي بعض الأحايين كانت روبي تسألني عنه وهي في حالة من الغضب عندما يصلها تقرير من المدرسة يقول إن مستواه الدراسي متوسط ، أو عندما يصاب بجرح في ذقنه، كانت في حالة من الارتباك والحيرة بشأن عند ولدها وعقله الجامح.
وكانت تقول لي: «قال لي في الأسبوع الماضي إنه سيصبح أحد فناني موسيقى الراب.» والآن يقول إنه سيلتحق بأكاديمية الدفاع الجوي ليصبح طيارا عسكريا. وعندما أسأله عن السبب يقول لي ببساطة: «حتى أطير.» كما لو كنت حمقاء. أقسم لك يا باراك أنني في بعض الأحيان لا أعرف إن كنت أعانقه أم أعاقبه بالضرب.»
وكنت أقول لها: «افعلي كليهما.»
قبل الكريسماس بيوم واحد طلبت من روبي أن تحضر إلى مكتبي حتى أعطيها هدية لكايل. وعندما دخلت المكتب كنت أتحدث في الهاتف، وعندما نظرت إليها بطرف عيني ظننت أنني رأيت فيها شيئا مختلفا، لكنني لم أستطع أن أحدده. ولم أدرك أن عينيها - الدافئتين البنيتي اللون الغامقتين اللتين كانتا متماشيتين مع لون بشرتها - تحولتا إلى ظل أزرق غير شفاف، كما لو أن أحدا لصق زرين بلاستيكيين أعلى قزحيتي عينيها، إلا بعدما أغلقت سماعة الهاتف واتجهت هي نحوي. سألتني عما إذا كان هناك أمر سيئ.
قلت لها: «ماذا فعلت بعينيك؟» «آه، هذه؟» هزت روبي رأسها وضحكت. قالت: إنها عدسات لاصقة يا باراك. إن الشركة التي أعمل فيها تصنع عدسات التجميل اللاصقة وهم يمنحونها لي بخصم. هل تعجبك؟» «كانت عيناك جميلتين في الأصل.»
قالت وهي تنظر لأسفل: «أرتديهما على سبيل التسلية فقط.» وتابعت: «ليس إلا للشعور بالاختلاف.»
وقفت عند هذا الحد دون أن أعرف ماذا أقول. وفي النهاية تذكرت هدية كايل وأعطيتها إياها. وقلت: «هذا لكايل.» وتابعت: «إنه كتاب عن الطائرات ... اعتقدت أنه سيحب قراءته.»
أومأت روبي برأسها ووضعت الكتاب داخل حقيبتها. وقالت: «هذا لطف منك يا باراك. إنني متأكدة من أنه سيحب قراءته بالفعل.» بعد ذلك وقفت على نحو مفاجئ وهندمت جونلتها. وقالت وهي تسرع تجاه الباب: «حسنا، من الأفضل أن أذهب الآن.»
فكرت في عيني روبي سائر اليوم واليوم الذي تلاه. وقلت لنفسي إنني لم أتصرف بصورة ملائمة معها، وجعلتها تشعر بالخجل من استخدام شيء يجعلها تعجب بنفسها في حياة لا تتيح سوى القليل من هذه الأشياء. أدركت أن جزءا مني توقع منها ومن القادة الآخرين أن يمتلكوا نوعا من المناعة ضد وابل الصور التي تغذي الشعور بعدم الثقة لدى كل مواطن أمريكي؛ مثل صور عارضات الأزياء النحيفات في مجلات الموضة، أو صور الرجال ذوي الفكوك المربعة في سياراتهم السريعة، تلك الصور التي كنت أنا شخصيا يمكن أن أتأثر بها وأسعى للحصول على الحماية منها. وعندما ذكرت هذا الموقف لصديقة لي من ذوي البشرة السوداء وصفت المسألة على نحو أكثر صراحة.
قالت صديقتي بسرعة: «ما الذي أدهشك؟» وتابعت: «هل أدهشك أن السود لا يزالون يكرهون أنفسهم؟»
أجبت عليها بالنفي وقلت لها إن ما شعرت به لم يكن دهشة. فمنذ اكتشافي الأول المخيف لكريمات تفتيح البشرة في مجلة «لايف» أصبحت معتادا على مجموعة من مفردات الوعي باللون داخل مجتمع السود، مثل: الشعر الجميل أو الشعر الرديء، والشفاه الغليظة أو الشفاه النحيفة، وإن كنت من ذوي البشرة البيضاء فأنت من السعداء، أما إن كنت من ذوي البشرة السوداء فتراجع للوراء. في الجامعة كانت ميول الموضة لدى السود وموضوعات الاعتداد بالنفس التي تدل عليها الموضة من الموضوعات المتكررة - إن لم تكن حساسة - في محادثات السود، خاصة بين الطالبات اللاتي كن يبتسمن بمرارة عند رؤيتهن أحد الطلبة السود وهو دوما يواعد الفتيات ذوات البشرة الفاتحة، كما كن يتعرضن بالنقد اللاذع لأي رجل أسود كان به من الحمق ما يكفي لأن يجعله يعلق على تسريحة شعر الفتيات السوداوات.
كنت في الغالب أصمت عند التطرق لمثل هذه الموضوعات، وكنت أقيم بيني وبين نفسي مدى تأثري بها. لكنني لاحظت أن هذه المحادثات نادرا ما كانت تدار بين مجموعة كبيرة من الطلاب، ولم تكن تطرح إطلاقا أمام أي من الطلاب البيض. أدركت بعد ذلك أنه في الجامعات التي فيها الطلبة البيض هم السواد الأعظم تكون مكانة معظم الطلاب السود ضئيلة للغاية ، وتضطرب فيها هوياتنا فنعجز عن الاعتراف لأنفسنا بأن فخرنا بلوننا الأسود لا يزال ناقصا. وحقيقة أننا يمكن أن نعترف للبيض باضطرابنا وبالشكوك التي تساورنا، وأن نضع ما في عقولنا تحت اختبار أولئك الذين تسببوا في هذا القدر الكبير من الأذى في المقام الأول، هذه الحقيقة في واقع الأمر مضحكة، وتعبر في ذاتها عن كراهية الذات حيث لا يوجد سبب يدعو لتوقع أن ينظر البيض إلى كفاحنا على أنه مرآة لما في أرواحهم، فضلا عن كونه دليلا أكبر على سلوكيات السود المتطرفة.
أعتقد أنه بعد ملاحظتي هذا الاختلاف بين ما نتحدث عنه سرا وما نتحدث عنه علنا تعلمت ألا أفرط في تصديق أولئك الذين يقولون إن اعتداد السود بأنفسهم هو علاج لجميع مشكلاتهم مثل تعاطي المواد المخدرة، أو الحمل في مرحلة المراهقة، أو جريمة يكون طرفاها من السود. عند وصولي إلى شيكاغو، كانت عبارة الاعتداد بالنفس تتوارد على شفاه الجميع؛ النشطاء السياسيين والاجتماعيين، وضيوف البرامج الحوارية التليفزيونية والإذاعية، والمعلمين، وعلماء الاجتماع. كانت هذه العبارة جامعة وبارعة في وصف آلامنا وأصبحت أيضا طريقة مقبولة للتحدث عن الأشياء التي كنا نحتفظ بها لأنفسنا. لكن كلما حاولت التأكيد على فكرة الاعتداد بالنفس هذه والخصائص المعينة التي كنا نأمل ترسيخها في الذهن والوسائل المعينة التي ربما كنا نشعر من خلالها بالرضا عن النفس، كانت المحادثات تسلك طريقا من التراجع يبدو وكأنه لا نهاية له. وكانت الأسئلة التي تطرح نفسها هي: هل تكره نفسك بسبب لونك أم لأنك لا تستطيع القراءة أو الحصول على وظيفة؟ أو ربما بسبب أنك لم تكن محبوبا في طفولتك لأن لون بشرتك كان شديد السواد؟ أو شديد البياض؟ أم لأن والدتك كانت تتعاطى الهيروين ... ترى لماذا كانت تتعاطى ذلك الشيء على أية حال؟ هل كنت تشعر بالحزن بسبب شعرك المجعد أم لأن الشقة التي تقطن فيها ليست دافئة أو مشتملة على أثاث جيد؟ أم لأنك كنت تتخيل في أعماقك أن الكون ليس له رب؟
ربما لم يستطع أحد تجنب هذه الأسئلة وهو يشق طريقه نحو الخلاص الشخصي، وما شككت فيه هو أن كل هذا الحديث عن الاعتداد بالنفس يمكن أن يكون لب سياسة فعالة للسود. يتطلب الاعتداد بالنفس من الناس الكثير من الاعتماد الصادق على أنفسهم، فمن دون هذا الصدق يتدهور الأمر بسهولة ليصبح مجرد نصيحة مبهمة. فكرت بيني وبين نفسي أن عدد السود الفقراء يمكن أن يتناقص عن طريق التحلي بالمزيد من الاعتداد بالنفس، غير أن الشكوك لم تساورني في أن الفقر لم يؤثر على اعتدادنا بأنفسنا. ورأيت أنه من الأفضل التركيز على الأشياء التي ربما نتفق عليها جميعا. هذا مثل تعليم رجل أسود بعض المهارات الملموسة ومنحه وظيفة. وتعليم طفل أسود كيفية القراءة والحساب في مدرسة ذات مستوى تعليمي متميز وآمنة. ورأيت أنه عند الاهتمام بالأساسيات يستطيع كل منا البحث عن معنى شعورنا بقيمة الذات.
غيرت روبي اعتقاداتي تغييرا جذريا، وهدمت الجدار الذي كنت قد أقمته بين مشاعر وسلوكيات السود والسياسة، بين مواردنا المالية وأرواحنا. وفي الواقع كان هذا الموقف بعينه المثال الأكثر أهمية على ما كنت أسمعه وأراه يوميا. وها هو ذا قد عبر عنه أحد القادة السود عندما شرح لي أنه لم يلجأ مطلقا لشخص أسود لأداء أي نوع من الأعمال (لأن ذوي البشرة السوداء يفسدون الأمور وسينتهي بي الحال بالدفع إلى البيض لعمل المهمة من جديد.) كما اتضح هذا المثال من الأسباب التي أوردتها قائدة أخرى لعدم استطاعتها حشد أفراد آخرين في كنيستها (إن السود متكاسلون ولا يريدون فعل أي شيء يا باراك.) في مثل هذه الملحوظات التي أبداها القادة كانت كلمة «زنجي» تحل محل كلمة «أسود» في المعتاد؛ تلك الكلمة التي كان يروق لي أن أفكر في أنها تقال على سبيل الدعابة، وأن هذه الدعابة قد ميزت مرونتنا كشعب. إلى أن سمعتها لأول مرة من أم شابة استخدمتها نعتا لطفلها لإخباره بأنه عديم القيمة، ورأيت جماعة من الصبية في سن المراهقة يستخدمونها لجرح مشاعر أحدهم أثناء مشاجرة سريعة بالألفاظ الجارحة. وبذلك لم يكن تغيير المعنى الأصلي للكلمة كاملا على الإطلاق؛ فقد كنا نحن أول من ابتلي ببلايا هذه الكلمة مثلما حدث مع الوسائل الدفاعية الأخرى التي استخدمناها لصد جرح محتمل.
إذا كانت لغة عوام الناس ومزاحهم وقصصهم أشياء اعتمدت عليها العائلات والمجتمعات والاقتصاديات في بنائها، إذن فإنني لم أستطع فصل تلك القوة عن الجرح والتشوهات التي استمرت بداخلنا. وأدركت أن أكثر ما أزعجني عندما نظرت إلى عيني روبي هو تداعيات هذه الحقيقة. رأيت أن القصص التي اعتدت سماعها من القيادة وكل الحكايات المتواردة عن الشجاعة والتضحية والتغلب على الظروف الصعبة لم تحدث بسبب الطاعون أو القحط أو حتى مجرد الفقر. وإنما نبعت من تجربة خاصة للغاية مع الكراهية. تلك الكراهية التي لم ترحل عنا إطلاقا، والتي شكلت قصصا مضادة - مدفونة في داخل أعماق كل شخص - تتمحور حول البيض الذين كانوا يظهرون فيها أحيانا قساة القلوب وأحيانا أخرى وهم يتصفون بالجهل، وأحيانا كانت هذه القصص تدور حول شخص بعينه من البيض وأحيانا أخرى حول صورة غير محددة لنظام يدعي السيطرة على حياتنا. اضطررت حينها إلى أن أسأل نفسي عما إذا كان من الممكن استعادة الروابط بين المجتمع دون أن يطرد السود بصورة جماعية هذا الشكل المخيف الذي لازم أحلامهم. ترى هل كان يمكن أن تحب روبي نفسها دون أن تكره العيون الزرقاء؟ •••
تعامل رفيق الشباز مع هذه القضايا بما يحقق رغباته الخاصة. ومع الوقت بدأت أراه بصورة أكثر انتظاما، وذات صباح بعد اجتماع مع مكتب العمدة للتوظيف والتدريب بخصوص مشروع التنمية المحلية، اتصل بي وأخذ يتحدث سريعا بخصوص مركز التوظيف الذي طالبنا به المدينة.
قال لي رفيق: «يجب أن نتحدث يا باراك.» وتابع: «إن كل ما تحاولون فعله بخصوص التدريب الوظيفي يحتاج إلى أن يتلاءم مع خطة التنمية الشاملة العامة التي أعمل عليها. فلا يمكن التفكير في هذا الشيء بمعزل عن الأمور الأخرى ... يجب أن تنظروا للصورة بأكملها. فإنكم لا تفهمون القوى الموجودة هنا. إنها هائلة يا رجل. فالجميع هنا على استعداد لطعنك من الخلف.» «من هذا؟» «رفيق. ما الخطب، ألا يزال أمامك الكثير لتقوله؟»
نعم كان أمامه الكثير . طلبت منه أن ينتظر على الخط حتى أحضر لي فنجانا من القهوة، وعندما عدت طلبت منه أن يبدأ حديثه من جديد، لكن بصورة أكثر بطئا. وفي النهاية استنتجت أن رفيقا كان لديه اهتمام بإقامة مركز لخدمات مكتب العمدة للتوظيف والتدريب الذي كنا قد اقترحناه على المدينة في مبنى معين قريب من مكتبه في شارع ميشيجان. لكنني لم أسأل عن طبيعة هذا الاهتمام. إذ كنت أشك في إمكانية أن أحصل على إجابة مباشرة منه، وعلى أية حال تصورت أننا ربما نستطيع الاستفادة منه كحليف في سلسلة المفاوضات الصعبة مع السيدة ألفاريز. وفي هذا الصدد قلت إنه إذا كان المكتب الذي فكر فيه يفي بالمواصفات المطلوبة فسوف أكون مستعدا لاقتراحه كأحد البدائل الممكنة.
وهكذا كونت أنا ورفيق تحالفا غير مستقر لم يلق كثيرا من استحسان قادة مشروع التنمية المحلية. كنت أفهم دواعي قلقهم، فكلما جلسنا مع رفيق لمناقشة استراتيجيتنا المشتركة قاطع المناقشة وألقى على أسماعنا دروسا عن المؤامرات السرية الجارية، وعن الشعب الأسود المستعد جميعه لخيانة أهله. كانت حيلة فعالة من حيل المفاوضات، وكلما ارتفع صوته تدريجيا وانتفخت أوداجه لجأت أنجيلا وويل والآخرون فجأة إلى صمت غريب، وهم يشاهدون رفيقا كما لو كان في نوبة صرع. ولأكثر من مرة كنت أضطر إلى الاندفاع سريعا والصياح في وجهه، ليس بصورة غاضبة بقدر ما كنت أحاول أن أجعله يقلل من حدة انفعاله، وفي النهاية ترتسم ابتسامة صغيرة أسفل شاربه ونستطيع بعدها العودة إلى العمل.
ومع ذلك فإنني عندما أصبح بمفردي مع رفيق كانت تدور بيننا في بعض الأحيان محادثات عادية. وبمرور الوقت انتهى بي المطاف إلى الإعجاب رغما عني بتصميمه وجرأته وبإخلاصه لمفاهيمه الخاصة. أكد لي رفيق حقيقة أنه كان رئيسا لإحدى العصابات وأنه تربى في ألتجيلد، وقال إنه اعتنق الإسلام بفضل زعيم مسلم محلي لا ينتمي إلى منظمة «أمة الإسلام» التي يرأسها الزعيم لويس فرقان. وأخبرني ذات يوم: «إن لم أعتنق الإسلام لأصبحت الآن في عداد الأموات.» وأضاف: «في الواقع كانت عندي اتجاهات هدامة. إذ تربيت في ألتجيلد وتجرعت كل السموم التي كان البيض يرضعوننا إياها. وكما ترى فإن من تعمل معهم يعانون المشكلة نفسها، حتى إن لم يكونوا قد أدركوها بعد. إنهم يقضون نصف حياتهم قلقين مما يفكر فيه البيض. ويبدءون بتحميل أنفسهم مسئولية كل المساوئ التي يرونها كل يوم، معتقدين أنهم لن يستطيعوا تحسين أي وضع إلى أن يقرر البيض أنهم صالحون. إلا أنهم في أعماقهم يعرفون أنهم ليسوا صالحين. وهم يعرفون ماذا فعل هذا البلد في أمهاتهم وآبائهم وأخواتهم. لذا فإن الحقيقة هي أنهم يكرهون البيض، لكنهم لا يستطيعون الاعتراف بذلك لأنفسهم. بل يكبحونه داخلهم ويحاربون أنفسهم. ويهدرون كثيرا من طاقتهم بهذه الطريقة.»
أكمل رفيق حديثه وقال: «سأخبرك شيئا يعجبني في البيض.» وتابع كلامه: «إنهم يعرفون من هم. انظر مثلا إلى الإيطاليين. إنهم لا يهتمون بالعلم الأمريكي أو أي شيء من هذا القبيل عندما يأتون إلى هنا. وأول شيء يفعلونه هو إنشاء مافيا للتأكد من أن مصالحهم سوف تتحقق. وانظر إلى الأيرلنديين الذين يتولون السلطة في مجلس المدينة ويحصلون لأبنائهم على الوظائف. والأمر نفسه ينطبق على اليهود ... أتريد إخباري أنهم يهتمون بالأطفال السود في الجانب الجنوبي من شيكاغو أكثر من اهتمامهم بأقاربهم في إسرائيل؟ اللعنة، إن الأمر متعلق بقرابة الدم يا باراك. وكل يعتني بمن هو منه. قضي الأمر. ويمكنني أن أقول لك إن السود هم بمفردهم من يتصفون بذلك القدر من الحمق الذي يجعلهم يهتمون بأمر أعدائهم.»
كانت تلك هي الحقيقة كما رآها رفيق؛ الحقيقة التي لم يهدر طاقته في انتقادها وتفنيدها. كان رفيق يعيش في عالم يشبه عالم الفيلسوف توماس هوبز، وفي هذا العالم كان الشك حقيقة مسلما بها، وكان الولاء يبدأ من الأسرة ويمتد إلى المسجد ثم إلى العرق الأسود ... ونتيجة لذلك لم يعد من الممكن تطبيق مفهوم الولاء. قدمت هذه النظرة المحدودة لرابطة الدم والقبيلة لرفيق وسيلة لتركيز اهتمامه. وكان يجادل بقوله إن احترام الذات لدى السود هو الذي منح العمدة منصبه حيث إن احترام الذات لديهم غير حياة مدمني المخدرات في ظل تعاليم المسلمين. وكان التقدم في حوزتنا ما دمنا لا نخون أنفسنا.
لكن ما الذي أدى إلى الخيانة بالضبط؟ منذ أن تعرفت على السيرة الذاتية لمالكولم إكس حاولت أن أفك لغز القومية السوداء، وجادلت بأن الرسالة الإيجابية للقومية - عن التضامن والاعتماد على النفس والنظام والمسئولية المشتركة - ليست في حاجة إلى أن تكون معتمدة على كراهية البيض أكثر من اعتمادها على سماحتهم. وكنت أحدث نفسي وأحدث أصدقائي السود بأننا بوسعنا أن نخبر هذا البلد عن مواطن الأخطاء، وكان هؤلاء الأصدقاء يستمعون إلي دون التوقف عن الإيمان بقدرة البلد على التغير.
في تحدثي مع القوميين المجاهرين بهويتهم القومية - من أمثال رفيق - اكتشفت كيف لعب الاتهام العام لكل ما هو أبيض دورا رئيسيا في رسالتهم عن الشعور بالأمل، وفي الطريقة التي أصبح يعتمد فيها كل طرف على الآخر على الأقل نفسيا. ذلك لأنه عندما يتحدث القومي عن إحياء القيم باعتباره الحل الوحيد للتغلب على فقر السود، فإنه كان ينتقد الجمهور الأسود من المستمعين إليه نقدا ضمنيا - إن لم يكن نقدا صريحا - بحجة أننا لسنا مضطرين لأن نحيا بالطريقة التي حيينا بها. وما دام هناك أشخاص استطاعوا استيعاب هذه الرسالة البسيطة واستخدامها لخلق حياة جديدة لأنفسهم - هؤلاء الأشخاص الذين كانت لديهم الميول ذات المشاعر المتبلدة التي طالب بها «بوكر تاليافيرو واشنطن» أتباعه ذات مرة - فإن هذا الحديث بدا في آذان العديد من السود وكأنه يذكرهم بالتفسيرات التي دوما ما كان يقدمها البيض كأسباب لفقر السود؛ التفسيرات التي استمررنا نعاني بسببها، إن لم يكن من الشعور الموروث بالدونية، فإنه من الضعف الثقافي بعد ذلك. كانت رسالة تجاهلت السببية والأخطاء، رسالة خارج حدود التاريخ وتخلو من السيناريو أو الحبكة التي ربما تصر على تسلسل الأحداث. وفيما يتعلق بأناس جردوا من تاريخهم ولا يملكون ما يؤهلهم لاستعادة هذا التاريخ بأي شكل من أشكاله - بخلاف الشكل الذي يرفرف على شاشات التليفزيون - فإن الدليل على ما كنا نراه يوميا كان يؤكد أسوأ شكوكنا في أنفسنا.
قدمت القومية هذا التاريخ في صورة قصة أخلاقية واضحة كان من السهل تناقلها وفهمها. وكان الهجوم المعتاد على العرق الأبيض والسرد المستمر للتجربة القاسية التي تعرض لها السود في هذا البلد هو عصا التوازن التي استطاعت منع أفكار المسئولية الشخصية والجماعية من إلقاء نفسها في بحر من اليأس والإحباط. نعم، كان القوميون يقولون إن حالة السود المزرية لم تحدث بسبب عيب متأصل فيهم كسود، بل تسبب فيها البيض. وفي الواقع فإن البيض ليس لديهم مشاعر، بل مخادعون أيضا لدرجة تجعلنا لم نعد نتوقع أي شيء منهم. فشعورك بكراهيتك لذاتك - الذي يدفعك إلى الإفراط في شرب الخمر أو إلى السرقة - غرس بداخلك على أيديهم. لذا اطردهم بعيدا عن تفكيرك، وحرر قواك الحقيقية. أو كما تقول الأغنية: «انهض أيها العرق الجبار.»
ساعدت عملية الاستبدال هذه - أي الاشتراك في انتقاد الذات في الوقت الذي نبعد فيه أنفسنا عن موضوع الانتقاد - في تفسير النجاح الباهر لمنظمة أمة الإسلام في تغيير حياة مدمني المخدرات والمجرمين. على أنه إذا كانت قد تناسبت بصفة خاصة مع هؤلاء الذين يعيشون في قاع المجتمع الأمريكي، فإنها خاطبت أيضا جميع الشكوك المستمرة لذلك المحامي الذي سعى بكل ما أوتي من قوة لتحقيق النجاح الباهر في حين كان يتعرض لصمت الناس جميعا عند دخوله أماكن الاجتماعات، وطلاب الجامعة من الشباب الذين كانوا يقدرون بحذر المسافة بين أنفسهم وبين الحياة في شوارع شيكاغو المتدنية وهم يشعرون بالخطر الذي توحي به هذه المسافة، وجميع الأفراد السود الذين اتضح أنهم شاركوني صوتا كان يهمس بداخلهم قائلا لهم: «إنكم لا تنتمون إلى هذا المكان.»
إلى حد ما، كان رفيق محقا عندما أصر على أن جميع السود كانوا في أعماقهم قوميين. هذا في حين كان الغضب موجودا باستمرار، بداخلهم، متراكما في أعماقهم. وعندما فكرت في روبي وعينيها الزرقاوين، وفي الصبية وهم ينادون بعضهم بعضا بالزنجي وما هو أسوأ، تساءلت عما إذا كان رفيق - الآن على الأقل - مخطئا في تفضيل إعادة توجيه هذا الغضب؛ أي هل كانت سياسة السود التي منعت الغضب من البيض بصفة عامة - أو فشلت في السمو بالولاء للعرق عن كافة مستويات الولاء الأخرى - سياسة غير ملائمة للمهمة.
كان من المؤلم وضع هذه الفكرة في الحسبان؛ ألم لم يختلف الآن عما كان قبل سنوات طويلة. فقد تناقضت مع الأخلاقيات التي علمتني إياها والدتي؛ أخلاقيات الفوارق الدقيقة بين أصحاب النية الحسنة والذين يرجون إلحاق الضرر بي، بين سوء النية والجهل أو اللامبالاة. لقد كانت لي مساهمة شخصية في هذا الإطار الأخلاقي حيث اكتشفت أنني لن أستطيع الهروب منه مهما حاولت. ومع ذلك فربما كان هذا الإطار الأخلاقي هو الإطار الذي لم يعد السود في هذا البلد قادرين على احتماله، وربما يكون قد أضعف عزيمتهم وتسبب في إحداث الاضطراب بين الطبقات. واستدعت الأوقات العصيبة وجود إجراءات عصيبة مثلها، ورأى كثيرون من السود أن الأوقات كانت عصيبة بصفة دائمة. ربما لو كانت القومية قد استطاعت أن تخلق حالة فعالة وقوية من التقوقع، والوفاء بوعدها باحترام الذات، لقلت أهمية الجرح الذي أصاب حسني النية من البيض أو الاضطراب الداخلي الذي سببته لأفراد مثلي. •••
هذا لو كانت القومية استطاعت. أصبح من الواضح أن القضايا المتعلقة بالكفاءة، وليس العواطف، سببت معظم خلافاتي مع رفيق، وذات مرة - بعد انقضاء اجتماع شائك للغاية مع مكتب العمدة للتدريب والتوظيف - طلبت منه إن كان في مقدوره حشد أتباعه إذا كان من الضروري أن تكون هناك مواجهة حاسمة بين العامة من جهة ومجلس المدينة من جهة أخرى.
قال رفيق: «ليس لدي وقت حتى أتجه إلى أماكن عديدة لتوزيع النشرات محاولا شرح كل شيء للعامة.» وتابع قائلا: «معظم الأفراد هنا لا يهتمون بالأمر بطريقة أو بأخرى. ومن يهتم منهم بالأمر زنجي خائن سيحاول إفساد الأمور. والمهم الآن هو أن نجعل خطتنا محكمة للغاية ونحصل على موافقة مجلس المدينة. تلك هي طريقة تنفيذ الأعمال. وبعد ذلك يمكنك إعلانها بأية طريقة تفضل.»
اختلف أسلوبي مع أسلوب رفيق؛ فمع كل هذا الحب الذي كان يعلن أنه يكنه للسود، بدا وكأنه لا يثق بهم كثيرا. لكنني عرفت أيضا أن أسلوبه كان ناتجا عن عدم قدرة لأنني اكتشفت أن مؤسسته وكذلك المسجد التابع له لم يستطيعا الحصول على عضوية أكثر من 50 شخصا. ولم ينبع تأثيره من أي دعم مؤسسي قوي، لكن من استعداده لحضور أي اجتماع يمت بصلة - ولو من بعيد - لروزلاند ومن دحض آراء معارضيه فيها.
إن ما كان رفيق يعتبره صحيحا كانت المدينة كلها تعتبره كذلك، ودون التأثير المركز لحملة هارولد، انحلت القومية إلى أن أصبحت موقفا أكثر منها برنامجا ماديا، مجموعة من المظالم وليست قوة منظمة، وصورا وأصواتا ملأت وسائل الإعلام ولكنها خلت من أي وجود مادي. ومن بين المنظمات القليلة الهادفة إلى رفع الراية القومية، لم يكن لأية منظمة عدد كبير من الأنصار والأتباع سوى منظمة أمة الإسلام؛ فقد كانت خطب الزعيم فرقان التي كان يرفع فيها صوته ويخفضه على نحو إيقاعي يحضرها جمهور كبير، وكان هناك أيضا عدد كبير يستمع إلى برامجه الإذاعية. لكن العضوية النشطة في المنظمة بشيكاغو كانت أصغر من ذلك بكثير - إذ بلغت بضعة آلاف وربما بلغت قرابة عدد جماعة المصلين في إحدى أكبر أبرشيات السود في شيكاغو - وكانت قاعدة هذه المنظمة نادرا ما تشجع على المناقشة السياسية أو تدعم البرامج الواسعة النطاق. وفي الحقيقة فإن الوجود الملموس للمنظمة في الأحياء كان وجودا اسميا فقط، ومقتصرا بصفة أساسية على الأفراد الحسني المظهر الذين يرتدون الحلل وأربطة العنق ويقفون في تقاطعات الطرق العامة الرئيسية لبيع جريدة الأمة التي حملت اسم «ذا فاينال كول».
كنت بين الحين والآخر أشتري الجريدة من هؤلاء الرجال المهذبين دائما. وكان سبب شرائي لها أحيانا هو شفقتي عليهم بسبب ارتدائهم حللا ثقيلة في الصيف ومعاطف خفيفة في الشتاء، أو بسبب أن عناوينها شديدة الإيجاز على غرار صحف «التابلويد» كانت تلفت انتباهي (مثل: سيدة قوقازية تعترف: البيض أبالسة.) وعلى الصفحة الأولى كنت أجد إعادة نشر خطب الزعيم، بالإضافة إلى أخبار مقتطفة مباشرة من وكالة «أسوشيتد برس» ما لم يكن مقصودا بها أغراض تحريرية تجميلية (مثل: أعلن السناتور اليهودي ميتزنبوم اليوم ...). واحتوت الجريدة أيضا على باب للصحة، مشتملا على وصفات أطعمة قدمها الزعيم فرقان خالية من لحم الخنزير، وإعلانات عن شرائط فيديو مسجل عليها خطب الزعيم (وكان يمكن شراؤها باستخدام بطاقات الفيزا أو الماستركارد)، علاوة على بعض الإعلانات عن مستلزمات النظافة والزينة - مثل معجون الأسنان وما شابه ذلك - التي طرحتها المنظمة تحت العلامة التجارية «باور» كجزء من استراتيجية لتشجيع السود على إنفاق أموالهم داخل نطاق مجتمعهم.
بعد فترة من الوقت أصبحت الإعلانات المروجة لمنتجات «باور» أقل ظهورا في جريدة «ذا فاينال كول»، وبدا أن العديد ممن كانوا يستمتعون بخطب الزعيم فرقان استمروا في تنظيف أسنانهم ولكن بمعجون كريست. بالإضافة إلى ذلك نشرت حملة «باور» أخبارا عن الصعوبة التي تواجهها أية شركة سوداء؛ مثل الحواجز التي تعوق الدخول إلى السوق، ونقص التمويل، وتقدم المنافسين عليها بعدما أخرجوها من نطاق المنافسة منذ أكثر من 300 عام.
على أنني ظننت أنها قد عكست أيضا الاضطراب الحتمي الذي نشأ عندما اختزلت رسالة الزعيم فرقان إلى الحقائق الدنيوية المتعلقة بشراء معجون أسنان. وحاولت أن أتخيل مدير إنتاج «باور» وهو يستعرض توقعات مبيعاته. ورأيت أنه ربما تساءل لوهلة إن كان هناك معنى لتوزيع هذه المنتجات على سلاسل محلات السوبر ماركت القومية حيثما يفضل السود الشراء أم لا. وإذا كان قد رفض هذه الفكرة، فربما كان سيضع في حسبانه ما إذا كان سيستطيع أي سوبر ماركت يملكه السود - في محاولاته للتنافس مع السلاسل القومية - توفير مساحة على أرففه لمنتج كان هدفه استبعاد الزبائن البيض. وهل كان الزبائن السود سيشترون معجون أسنان بالبريد؟ وماذا عن احتمالية كون المورد الأرخص لأية مادة من المواد التي تدخل في تصنيع معجون الأسنان من البيض؟
كانت القضايا المتعلقة بالمنافسة والقرارات التي فرضها اقتصاد السوق وقاعدة الأغلبية موضوعات جميعها متعلقة بالسلطة. وكانت تلك الحقيقة القاسية - المتمثلة في أن البيض لم يكونوا أشباحا من السهل طردهم من أحلامنا، لكنهم كانوا موجودين في حياتنا اليومية باعتبارهم حقيقة نشطة ومتغيرة - هي التي شرحت لنا أخيرا كيف يمكن أن تزدهر القومية كعاطفة وأن تتعثر في خطواتها كبرنامج. وما دامت القومية بقيت كلعنة تطهيرية على العرق الأبيض فيمكنها إذن أن تحظى بتصفيق المراهقين العاطلين عن العمل المنصتين إلى الراديو أو رجال الأعمال المشاهدين للبرامج التليفزيونية التي تعرض في وقت متأخر من الليل. لكن التدني من مثل هذه الحماسة الموحدة إلى الخيارات العملية التي واجهها السود كل يوم كان انحدارا شديدا للغاية. حيث انتشرت الحلول الوسط انتشارا واسعا، وتساءل المحاسبون السود عن أشياء مثل: كيف سأفتح حسابا في البنك الذي يملكه السود إذا كان سيكلفني مبالغ إضافية عند الإيداع ولن يعطيني حتى قرضا تجاريا لأنه لا يستطيع تحمل المخاطرة؟ كما ذكرت إحدى الممرضات السوداوات أيضا قائلة: «البيض الذين أعمل معهم ليسوا شديدي السوء، لكن حتى إن كانوا كذلك لا أستطيع أن أترك وظيفتي؛ من ذا الذي سيدفع إيجار شقتي غدا أو يطعم أطفالي اليوم؟»
لم يكن لدى رفيق أية إجابات جاهزة عن هذه الأسئلة؛ فقد كان مهتما بتغيير قواعد السلطة بصورة أقل من اهتمامه بلون متوليها الذين يستمتعون بنعيمها. لم يكن هناك قط مكان على قمة الهرم، ومع ذلك ففي أي سجال يشكل في هذا الإطار كان ينتظر وقت طويل إلى أن يفيد السود بأي آراء علنا. وفي أثناء هذا الانتظار كانت تحدث أشياء مضحكة. فما كان يبدو في يد مالكولم إعلانا للحرب - وهو الإعلان بأننا لم نعد نستطيع تحمل ما لا يمكن تحمله - كان في الأصل شيئا سعى مالكولم للتخلص منه؛ كان عنصرا آخر من العناصر المثرية للخيال، وقناعا آخر للنفاق، وعذرا آخر للكسل وللتراخي. اكتشف سياسيون سود أقل موهبة من هارولد ما عرفه السياسيون البيض منذ وقت طويل الذي يتمثل في أن الحملات المعادية للعرق يمكن أن تخلق مجموعة كبيرة من القيود. أما القادة الأصغر في السن الذين يتوقون لصنع اسم لأنفسهم فقد دخلوا بكل ثقلهم وهم ينشرون نظريات التآمر في جميع أنحاء المدينة؛ فقالوا إن الكوريين يمولون منظمة كلو كلوكس كلان، وإن الأطباء اليهود يحقنون الرضع السود بفيروس الإيدز. وبذلك كانت هذه الأمور طريقا مختصرا لتحقيق الشهرة، إن لم يكن المال دائما. كان غضب السود يجد دائما سوقا رائجة مثله مثل الجنس أو العنف على شاشة التليفزيون.
لم يبد أن أي شخص تحدثت معه في الحي قد حمل هذا الحديث على محمل الجد. وكما كان الحال فقد كف الكثيرون بالفعل عن الأمل في أن السياسة بإمكانها تحويل حياتهم إلى الأفضل، وفرض مطالب أقل عليهم، وفيما يتعلق بهم فقد كانت ورقة الاقتراع - إذا ما اشتركوا في التصويت من الأساس - تذكرة لمشاهدة عرض جميل. وقال لي البعض إنه لم يكن لدى السود أية سلطة حقيقية للتأثير في الحوادث العارضة المتعلقة بمعاداة السامية أو انتهاك حقوق العمال الآسيويين، وعلى أية حال كان السود في حاجة إلى فرصة للتنفيس عن غضبهم بين الفينة والفينة، وكنا نقول بعضنا لبعض: ترى ماذا يقول في اعتقادك هؤلاء الناس عنا من وراء ظهورنا؟
مجرد كلام. لكن ما أثار قلقي بالفعل لم يكن الضرر الذي ألحقه الهراء بالمجهودات المبذولة في مبنى الاتحاد أو الألم النفسي الذي سببه للآخرين. بل كان المسافة بين كلامنا وأفعالنا، والتأثير الذي كنا نشعر به كأفراد وجماعات. وهذه الفجوة أفسدت كلا من اللغة والتفكير، وجعلتنا مهملين وشجعتنا على أن نحيد عن الحقيقة، وفي النهاية قتلت قدرتنا على تحميل أنفسنا المسئولية من ناحية وتحميل بعضنا بعضا إياها من ناحية أخرى. وبينما لم يعتبر أي من هذه الأمور جديدا على السياسيين أو القوميين السود - حيث استطاع رونالد ريجان التعامل مع الأمور بصورة جيدة باستخدام مهارته في اللعب بالألفاظ، وبدت الطبقة البيضاء من الشعب الأمريكي مستعدة لإنفاق أموال كثيرة على الأراضي في الضواحي وقوات الأمن الخاصة لإنكار وجود صلة دائمة بين البيض والسود - كان السود هم الذين قدموا هذا التصور. إن بقاء السود في هذا البلد كان معتمدا بصفة دائمة على أقل قدر من الأوهام، وكان غياب هذه الأوهام هو الذي استمر في الحياة اليومية لمعظم من قابلتهم من السود. وبدلا من تبني مثل هذه الأمانة الثابتة في أعمالنا العامة فإننا بدونا وكأننا نفقد سيطرتنا على الأمور وندع أرواحنا الجماعية تحلق أينما يحلو لها حتى ولو انغمسنا في يأس جديد.
ألم يكن الاعتداد بالنفس معتمدا فقط على الكفاح المستمر للموازنة بين الكلمات والأفعال، والرغبات الصادقة وخطط العمل القابلة للتطبيق؟ كان هذا الاعتقاد هو الذي قادني إلى العمل في مجال التنظيم، وهو أيضا الذي أرشدني إلى التوصل - ربما للمرة الأخيرة - إلى أن مفاهيم نقاء العرق والثقافة لم تكن ستستطيع الاستمرار بكونها الأساس للاعتداد بالنفس النموذجي للأمريكيين السود أكثر مما كانت لي. وكان إحساسنا بالوحدة ينشأ من شيء أكثر نقاء من السلالات التي ورثناها، وكان له جذور في قصص السيدة كرينشو والسيد مارشال وروبي ورفيق ... في كل التفاصيل المشوشة المتناقضة لخبراتنا. •••
ابتعدت عن العمل لمدة أسبوعين لزيارة عائلتي. وعندما عدت اتصلت بروبي وأخبرتها بأنني كنت في حاجة إليها لحضور اجتماع في مساء يوم السبت.
صمت طويل. ثم قالت: «بخصوص ماذا هذا الاجتماع؟» «سترين. لكن استعدي في السادسة مساء ... سنتناول الطعام في البداية.»
كان مكان الاجتماع يبعد بساعة كاملة عن شقة روبي، حيث كان في حي من أحياء الجانب الشمالي حيثما هاجر المغنون وراقصو الجاز سعيا وراء جمهور يدفع لهم المال. وجدنا مطعما فيتناميا طلبنا فيه طبق نودلز وجمبري وتحدثنا في أثناء تناول الطعام عن رئيسها في العمل، وعن المضاعفات التي كانت تعانيها بسبب آلام ظهرها. بدت المحادثة متكلفة، مع أننا لم تمر علينا لحظات صمت أو تفكير، وفي أثناء حديثنا كنا نتجنب نظرات كل منا للآخر.
بعدما دفعنا الحساب ومشينا إلى مبنى المسرح كان المسرح قد امتلأ بالفعل عن آخره. أرشدنا أحد العاملين في المسرح إلى مقاعدنا التي اتضح لنا أنها تقع أمام مقاعد مجموعة من الفتيات السوداوات اللاتي كن في رحلة ميدانية. كان بعض الفتيات يتصفحن بحرص شديد الكتيبات التي كانت معهن ويحذون حذو سيدة معهن أكبر في السن - اعتقدت أنها المدرسة - كانت تجلس بجانبهن. وكان معظمهن يشعر بعدم الراحة بسبب الجلوس لفترة طويلة، حيث كن يهمسن ويستهزئن باسم المسرحية الطويل، نتوزيك شانج، ويسألن أسئلة عن المدرسة المصاحبة التي كانت صبورة على نحو مثير للإعجاب طوال الوقت.
على حين غرة عم الظلام المسرح وصمتت الفتيات. وبعدها أنيرت الأضواء، وكان ضوءا أزرق باهت اللون، وظهرت سبع سيدات سوداوات على خشبة المسرح يرتدين جونلات وأوشحة فضفاضة، وكن يؤدين حركات التوائية غريبة للإيحاء بشعورهن بالبرد القارس. صرخت إحداهن وكانت ضخمة الجثة مرتدية ثوبا بني اللون قائلة: ... تبعثرت النوت الموسيقية،
دون إيقاع أو نغمات،
تحيرت الضحكات،
متناثرة فوق كتف إحدى الفتيات السوداوات،
كم هو مضحك وهيستيري
رقصها الخالي من النغمات!
لا تقل لمخلوق إنها
ترقص فوق كئوس البيرة والحصوات ...
بينما كانت تتحدث تقدمت ببطء السيدات الأخريات اللاتي شكلن جوقة من مختلف الظلال والأشكال - منهن البنية اللون المائلة للحمرة والبيضاء المائلة للصفرة بفعل كريم التفتيح، منهن الممتلئة الجسم والنحيفة، منهن الصغيرة السن والأخرى الأكبر منها سنا - ومددن أذرعهن عبر المسرح وقلن:
كل منكم، أي منكم،
أنشدوا ترنيمة الفتاة السوداء،
ادفعوها
لتعرف نفسها منكم
وتعرفكم
أنشدوها بإيقاعاتها
المحبة، المكافحة، إيقاع الصعوبات،
أنشدوا ترنيمتها عن الحياة ...
على مدار الساعة التالية تبادلت السيدات الأدوار في رواية قصصهن وإنشاد أغانيهن. غنين عن الزمن الضائع والأحلام المهملة وما حدث لهن في الماضي. وقصصن غنائيا حكاياتهن مع الرجال الذين أحببنهم لكنهم خانوهن واغتصبوهن، وحكاياتهن عن الألم الدفين في أعماق هؤلاء الرجال؛ الألم الذي كان مفهوما في بعض الأحيان ومصفوحا عنه في أحايين أخرى. وعرضت كل منهن على الأخرى العلامات الجلدية في أجسادهن والنتوءات العظمية في أقدامهن، وكشفت هؤلاء السيدات عن جمالهن بتأرجح طبقات أصواتهن وارتعاد أيديهن، إنه جمال مخادع يزيد وينقص. وبعد ذلك ندبن أطفالهن المجهضين والآخرين المقتولين والضائعين منهن. وفي أثناء تقديم الأغاني في مراحلها المختلفة - العنيفة والغاضبة والرقيقة والحازمة - رقصت كل واحدة منهن رقصة الرومبا ورقصة الفالس المنفردة ورقصن وهن يقفزن على الحبل، واصطدمن بعضهن ببعض في رقصات ينفطر لها القلب. واستمررن في الرقص إلى أن اندمجت أرواحهن وأصبحن شخصا واحدا. وفي نهاية المسرحية أنشدت هذه الروح بيتا شعريا واحدا:
اكتشفت إلها في نفسي،
وإني أحبها حبا جما
أضيئت الأنوار وانحنت الجوقة لتحية الجمهور، وهللت الفتيات تهليلا عظيما تشجيعا لهن. وفي النهاية ساعدت روبي في ارتداء معطفها وخرجنا معا إلى ساحة انتظار السيارات. كانت درجة الحرارة قد انخفضت عما كانت عليه، وأومضت النجوم كقطع الثلج في صفحة السماء السوداء. وفي أثناء انتظارنا في السيارة حتى تصل إلى درجة حرارة التشغيل، مالت روبي نحوي وقبلتني على وجنتي.
وقالت لي: «شكرا لك.»
في ذلك الحين كانت عيناها - البنيتان الغامقتان - متلألئتين. أخذت بيدها المخبأة داخل قفاز بسبب البرد وشددت عليها سريعا قبل أن أبدأ القيادة. ولم تنطق كلمة أخرى بعدها، ومنذ بداية رحلة عودتنا إلى الجانب الجنوبي إلى أن أوصلتها حتى باب منزلها وتمنيت لها أحلاما سعيدة، لم نكسر حاجز الصمت النفيس.
الفصل الحادي عشر
وصلت إلى موقف سيارات المطار في الثالثة و15 دقيقة واتجهت إلى صالة الوصول سريعا قدر استطاعتي. طفت سريعا حول المكان مرات عديدة وأنا ألهث من كثرة الطواف، وكانت عيناي تنعم النظر في الحشود المتزاحمة من الهنود والألمان والبولنديين والتايلنديين والتشيكيين الذين يحملون حقائبهم.
اللعنة! أعرف أنه كان يجب أن أصل في وقت مبكر عن ذلك. ربما تكون قد قلقت وحاولت الاتصال بي. لكن ترى هل أعطيتها رقم هاتف مكتبي؟ وماذا لو فاتتها رحلتها الجوية؟ وماذا إذا كانت قد مشت بجانبي ولم أعرفها؟
نظرت إلى الصورة التي بيدي والتي أرسلتها لي منذ شهرين، كانت قد اتسخت من كثرة إمساكي بها. وبعدها نظرت لأعلى فوجدت الصورة أمام عيني وقد أصبحت تنبض بالحياة؛ سيدة أفريقية ظهرت لي من خلف بوابة الجمارك تمشي بخطوات رشيقة وهادئة، وها قد تحولت عيناها اللامعتان الهائمتان لتنظر في عيني مباشرة، وعندما ارتسمت على وجهها ابتسامة أصبح وجهها الأسمر المستدير الذي يبدو متفتحا مثل زهرة الوود روز وكأنما نحتته يد فنان. «باراك؟» «أوما؟» «يا إلهي ...»
عانقت أختي ورفعتها عن الأرض وضحكنا وكلانا ينظر إلى الآخر، وحملت حقيبتها وبدأنا نمشي معا إلى ساحة انتظار السيارات. علقت ذراعها في ذراعي بخفة شديدة. وفي هذه اللحظة أدركت أنني أحبها حبا جما بصورة غريزية، لكنني بعدما رحلت وجدت نفسي متشككا في حبي لها محاولا تفسيره لنفسي؛ وحتى هذه اللحظة لا أستطيع تفسيره، ولا أعرف إلا أن حبي لها كان صادقا ولا يزال كذلك وأنني ممتن بشدة لهذا الحب.
قالت أوما ونحن في طريقنا إلى المدينة: «إذن أخي لا بد أن تحكي لي كل شيء.» «بخصوص ماذا؟» «كل شيء عن حياتك دون شك.» «من البداية؟» «من أية نقطة تريد.»
أخبرتها عن شيكاغو ونيويورك، وعن عملي كمنظم، وعن أمي وجدي ومايا، وقالت لي إنها سمعت الكثير عنهم من أبي وتشعر أنها تعرفهم بالفعل. وصفت لي أوما مدينة هيدلبيرج حيث كانت تدرس للحصول على شهادة الماجستير في علم اللغة، وروت لي تجربة العيش في ألمانيا والمحن التي واجهتها هناك.
وقالت لي: «أعتقد أنه ليس لدي حق في الشكوى.» وتابعت قائلة: «أنا حاصلة على منحة دراسية وعندي شقة. ولا أعرف في الواقع ماذا كنت سأفعل إذا كنت ما زلت في كينيا. وحتى الآن أعتقد أنني لست مهتمة كثيرا بالحياة في ألمانيا. فأنت تعلم أن الألمان يفضلون التفكير في أنفسهم على أنهم متحررون للغاية عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع الأفارقة، لكن إذا ما تطرقت إلى هذه المسألة حتى ولو من بعيد فستجد أنهم لا يزالون يحملون بعض أفكار ومواقف طفولتهم. ففي الحكايات الخيالية الألمانية التي تروى للأطفال كانت العفاريت دوما من ذوي البشرة السوداء. وأشياء كهذه ليس من السهولة بمكان نسيانها. وفي بعض الأحيان كنت أحاول أن أتخيل شعور الرجل العجوز عندما غادر وطنه للمرة الأولى. وهل شعر بالوحدة نفسها التي ...»
الرجل العجوز! هذا هو ما أطلقته أوما على أبينا. بدت لي على الفور - إلى حد ما - مألوفة وبعيدة؛ قوة جوهرية لم أفهمها فهما كاملا. اكتشفت أوما في شقتي أنه توجد على رف مكتبتي صورة له احتفظت بها أمي. «يبدو بريء الوجه أليس كذلك؟ وشابا أيضا.» هكذا قالت أوما وهي تمسك بالصورة بالقرب من وجهي. وتابعت: «إن فمك يشبه فمه.»
أخبرتها أنه من الأفضل أن تستريح قليلا في الفراش، وأذهب أنا إلى مكتبي لبضع ساعات لأنجز بعض الأعمال.
هزت رأسها. وقالت: «لست متعبة. دعني أذهب معك.» «ستشعرين بتحسن لو أخذت سنة من النوم.»
ردت علي قائلة: «أوه يا باراك! أرى أنك متسلط مثل الرجل العجوز أيضا. لم تقابله سوى مرة واحدة فقط؟ يبدو أنها صفة تجري في العروق.»
ضحكت إلا أنها لم تضحك، بل جالت بناظريها في وجهي كما لو كانت أمام لغز تحاول حله، وشعرت أنها تواجه مشكلة تنغص عليها حياتها بالرغم من ثرثرتها المرحة المفعمة بالحيوية.
طفت بها في جولة بالجانب الجنوبي بعد ظهر هذا اليوم، هي الجولة نفسها التي قمت بها في أيامي الأولى في شيكاغو، والتي لم يتبق لي منها سوى بعض الذكريات. عندما وصلنا إلى مكتبي تصادف وجود أنجيلا ومنى وشيرلي هناك. وأخذن يسألن أوما عن كل شيء في كينيا وعن كيفية تضفير شعرها وتحدثها بلباقة تامة كملكة إنجلترا، واستمتعت السيدات الأربع كثيرا وهن يتحدثن عني وعن عاداتي الغريبة.
بعدئذ قالت أوما: «يبدون معجبات بك للغاية.» وتابعت: «إنهن يذكرنني بعماتنا في كينيا.» أنزلت أوما زجاج نافذة السيارة ووجهت وجهها للريح، وهي تشاهد شارع ميشيجان في أثناء مرورنا به؛ حيث الأطلال المحزنة لمسرح روزلاند القديم، والمرأب المليء بالسيارات الصدئة المتهالكة. وسألتني وهي تستدير نحوي: «أهذا هو ما تفعله لهم يا باراك؟» وتابعت: «أقصد أن هذا هو العمل التنظيمي؟»
هززت كتفي. وقلت: «لهم. ولي.»
عاد تعبير الحيرة والخوف نفسه يرتسم على وجه أوما. وقالت: «إنني لا أحب السياسة كثيرا.» «لماذا؟» «لا أعرف. الناس دوما ينتهي بهم الأمر وهم محبطون.»
عندما رجعنا إلى المنزل كان هناك خطاب في انتظارها في صندوق البريد، من طالب ألماني يدرس بكلية الحقوق، كانت - طبقا لما قالت - على علاقة به. كان الخطاب طويلا، مكونا على الأقل من سبع صفحات، وحين كنت أعد العشاء جلست هي على طاولة المطبخ تقرأ الخطاب وهي تضحك تارة وتتنهد تارة أخرى، وفجأة بدت على وجهها ملامح رقيقة تواقة.
قلت: «اعتقدت أنك لم تحبي الألمان.»
مسحت عينيها وضحكت. قالت: «نعم ... لكن أوتو مختلف. إنه لطيف للغاية! في بعض الأحيان كنت أعامله بأسلوب غير لائق! لا أعرف يا باراك. إنني في بعض الأحيان أفكر في أنه من المستحيل أن أثق بأي شخص ثقة عمياء. وأفكر فيما فعله الرجل العجوز في حياته، وأضحت فكرة الزواج تصيبني ... كيف أقولها ... بالخوف. الأمر نفسه ينطبق على أوتو وحياته المهنية لأننا كنا سنضطر إلى العيش في ألمانيا. فبدأت أتخيل نفسي في هذه الحياة وأنا أعيشها كاملة أجنبية، ولا أعتقد أنني سأتحمل ذلك.»
طوت الخطاب ووضعته في مظروفه مرة أخرى. وسألتني: «ماذا عنك يا باراك؟» وتابعت: «هل تعاني المشكلات نفسها، أم أنني بمفردي أعاني هذا الارتباك؟» «أعتقد أنني أعرف شعورك.» «هيا يا باراك فلتخبرني.»
ذهبت إلى الثلاجة وأخذت منها ثمرتين من الفلفل الأخضر ووضعتهما على لوح التقطيع. وقلت لها: «حسنا ... أحببت سيدة في نيويورك. هي بيضاء. وسوداء الشعر، وتميل عيناها إلى الخضرة. وكان صوتها عذبا. تقابلنا لقرابة عام. غالبا في أيام العطلات. أحيانا في شقتي وأحيانا أخرى في شقتها. أتعرفين شعور من ينغمس في عالمه الخاص؟ لم يكن في هذا العالم سوى شخصين - أنا وهي - مختفيين عن الأنظار ويغمرنا الدفء. كنا منغمسين في لغتنا. كنا منغمسين في عاداتنا. هكذا كانت حياتنا.
دعتني هذه السيدة في أحد أيام العطلات في منزل عائلتها الريفي. كان والداها هناك، وكانا لطيفين وكريمين إلى حد بعيد. كنا في الخريف الرائع ومن حولنا الغابات، وركبنا الزوارق الطويلة، وجدفنا بمجاديفها في بحيرة ثلجية مستديرة وكانت أوراق الشجر الذهبية الصغيرة تتجمع على ضفتيها. كانت العائلة تعرف كل شبر في هذه الأرض. وكيف تكونت تلالها وكيف كونت تيارات النهر الجليدية البحيرة، وأسماء المستعمرين البيض الأوائل وأسلافهم ومن قبلهم أسماء الهنود الذين كانوا فيما مضى يجولون في المنطقة متعقبين حيوانات الصيد. كان المنزل الذي يعيشون فيه قديما جدا ، كان منزل جدها لأبيها. وكان جدها هذا قد ورثه من جده لأبيه. وكانت لديهم مكتبة مليئة بالكتب القديمة وصور الجد بصحبة أفراد مشهورين كان يعرفهم، من رؤساء ودبلوماسيين وصحفيين ورجال صناعة. وكانت الغرفة تتمتع بقدرة جاذبة هائلة. وأدركت، وأنا أقف وسطها، أن عالمينا - أنا وصديقتي - تفصل بينهما مسافة شاسعة كالمسافة نفسها التي تفصل بين كينيا وألمانيا. وعلمت أيضا أننا لو بقينا معا لعشت في عالمها في النهاية. مع ذلك فهذا هو ما كنت أفعله معظم أوقات حياتي. وبيني وبينها كنت شخصا عرف كيف يعيش غريبا.» «وماذا حدث؟»
هززت كتفي. قلت: «أبعدتها عني.» وتابعت: «بدأت الخلافات تنشب بيننا. وبدأنا نفكر في المستقبل الذي بدأ يضغط على عالمنا الدافئ الصغير. وذات مساء دعوتها لمشاهدة مسرحية جديدة من تأليف كاتب أسود. وكانت المسرحية تعبر عن الغضب الشديد للسود إلا أنها مضحكة للغاية. كانت تعبر تعبيرا صادقا عن مسرح السود الهزلي الأمريكي. وكان معظم الجمهور من السود، ضحك الجمهور وصفق وهللوا جميعا كما لو كانوا يسبحون في الكنيسة. وبعد انتهاء العرض المسرحي بدأت صديقتي تسألني عن السبب الدائم لغضب السود. وقلت لها إن الأمر متعلق بذكرياتهم - كما قلت إن أحدا لا يسأل اليهود عن سبب تذكرهم الهولوكوست - لكنها أخبرتني أن الأمر مختلف وعارضتها في ذلك، فقالت لي إن الغضب ليس إلا طريق مسدود. وبذلك تشاجرنا أمام المسرح. وعندما عدنا إلى السيارة بدأت تبكي. وقالت إنها لا تستطيع أن تكون سوداء. وإنها كانت ستفعل إذا كان ذلك بيدها. وإنها لا تستطيع أن تكون أحدا غير نفسها.» «يا لها من قصة محزنة يا باراك.» «نعم أعتقد ذلك. وربما حتى إن كانت سوداء لم تكن ستستمر العلاقة. أقصد أن هناك بعض السيدات السوداوات اللاتي جعلن قلبي ينفطر مثلها.» ارتسمت ابتسامة على شفتي ووضعت الفلفل المقطع في الإناء، ثم استدرت إلى أوما مرة أخرى. وقلت لها دون أية ابتسامة: «المشكلة أنني كلما عدت بذاكرتي إلى ما قالته صديقتي هذه الليلة أمام المسرح أشعر بالخجل من نفسي إلى حد ما.» «هل تعرف أي شيء عنها الآن؟» «أرسلت لي بطاقة بريدية في الكريسماس. إنها سعيدة الآن حيث أقامت علاقة مع شخص ما. أما أنا فلدي عمل أهتم به.» «وهل هذا كاف؟» «في بعض الأحيان.» •••
لم أذهب إلى العمل اليوم التالي، وقضينا هذا اليوم معا وزرنا معهد الفنون (أردت أن أرى الرأسين الصغيرين في متحف فيلد، لكن أوما رفضت)، إلى جانب أننا بحثنا عن الصور الفوتوغرافية القديمة التي كانت في خزانتي لمشاهدتها، وذهبنا إلى السوبر ماركت، حيث أقرت أوما أن الشعب الأمريكي ودود ووزنه زائد. في بعض الأحيان كنت أجد أوما صعبة المراس وفي أحيان أخرى متهورة، وفي أوقات كثيرة مشغولة بهموم العالم، ودائما ما كانت تؤكد قدرتها على الاعتماد على نفسها، وهو الأمر الذي كنت أراه رد فعل مكتسب، وكان هذا رد فعلي تجاه شعوري بالشك.
لم نتحدث كثيرا عن أبينا وكأن حديثنا كان يتوقف كلما أوشكنا على الاقتراب من ذكراه. وبعد ليلة تناولنا فيها العشاء ومشينا مسافة طويلة بمحاذاة حاجز الأمواج المنهار للبحيرة، شعر كلانا أننا لن نتقدم خطوة واحدة إلا إذا طرحنا هذا الموضوع للمناقشة. أعدت لنا كوبين من الشاي وبدأت أوما تخبرني عن الرجل العجوز، قدر ما أسعفتها ذاكرتها.
قالت: «لا أستطيع القول إنني بالفعل عرفته حق المعرفة يا باراك.» وتابعت: «ربما لم يستطع أحد معرفته حق المعرفة على الإطلاق. فحياته كان التشتت سمتها. ولم يعرف أحد سوى حلقات منفصلة منها، حتى أبناؤه.
كنت خائفة منه. فأنت تعلم أنه لم يكن بجانبنا عندما ولدت. كان في هاواي مع أمك وبعدها ذهب إلى هارفارد. وعندما عاد إلى كينيا كان أخونا الأكبر - روي - وأنا ما زلنا طفلين صغيرين. وقد عشنا مع أمنا في قرية أليجو حتى ذلك الوقت. وكنت صغيرة للغاية على أن أتذكر تفاصيل مجيئه. كنت في الرابعة من عمري في حين أن روي كان في السادسة؛ لذا ربما يستطيع هو إخبارك بما حدث بصورة أكثر إسهابا. إنني لا أتذكر إلا عودته بصحبة السيدة الأمريكية التي تدعى روث ، وأنه أخذنا من أمي لنعيش معهما في نيروبي. كما أتذكر أن هذه السيدة - روث - كانت أول شخص من ذوي البشرة البيضاء أتعامل معه عن قرب، وأنه على حين غرة أصبح من المفترض أن تكون هي أمي الجديدة.» «لماذا لم تظلي مع أمك؟»
هزت أوما رأسها. وقالت: «لا أعرف السبب بالضبط. إلا أنه في كينيا يحتفظ الأزواج بأطفالهم في حالات الطلاق، إذا كانوا يريدون ذلك. وعندما سألت أمي عن هذا الأمر كان من الصعب عليها التحدث بخصوصه. ولم تقل شيئا سوى أن زوجة أبي الجديدة رفضت أن تعيش مع زوجة أخرى وإنها - أمي - اعتقدت أننا كأطفال من الأفضل أن نعيش مع والدنا لأنه كان ثريا.
في السنوات الأولى كان والدنا يعاملنا معاملة حسنة. كان يعمل في شركة بترول أمريكية، هي شركة شل. وكان ذلك بعد استقلال كينيا ببضع سنوات، وكان لأبينا علاقات جيدة مع كبار المسئولين في الحكومة. فقد كان أغلبهم زملاء له في المدرسة. نائب الرئيس والوزراء، وكانوا جميعا يأتون إلى المنزل لزيارته في بعض الأحيان ويشربون معه الخمر ويتحدثون في أمور السياسة. كان أبي يملك منزلا كبيرا. وكان يملك سيارة فارهة، وكان الجميع معجبا به لأنه حصل على قدر هائل من التعليم من خارج البلاد مع أنه لا يزال حديث السن للغاية، كما كان متزوجا من امرأة أمريكية وهو ما كان حينذاك أمرا نادرا؛ مع أنه بعد ذلك كان يخرج مع أمي في بعض الأحيان - في الوقت الذي كان لا يزال متزوجا من روث. كما لو كان يريد أن يظهر للناس أنه مقتدر. أو بعبارة أخرى يستطيع أن يحظى بهذه السيدة الأفريقية الجميلة عندما يريد. في تلك الأثناء ولد إخوتنا الأربعة الآخرون. مارك وديفيد من روث وولدا في منزلنا الكبير في ويستلاندز، وآبو وبيرنارد من أمي وعاشا معها وعائلتها في القرية. وفي ذلك الوقت لم نكن نعرف أنا وروي أيا من آبو وبيرنارد لأنهما لم يأتيا إلى المنزل لزيارتنا على الإطلاق، وعندما كان أبونا يزورهما كان يذهب دائما بمفرده دون أن يخبر روث.
لم أفكر في هذا الأمر كثيرا إلا فيما بعد؛ أعني في الطريقة التي قسمت حياتنا قسمين لأنني كنت صغيرة للغاية. وأعتقد أن الأمر كان أكثر صعوبة على روي لأنه كان كبيرا بما يكفي لتذكر كيف كانت المعيشة في أليجو مع والدتنا وعشيرتنا. أما أنا فكل شيء كان على ما يرام. وفي الواقع كانت روث - أمنا الجديدة - لطيفة إلى حد معقول معنا، وكانت تعاملنا كابنيها تقريبا. وأعتقد أن والديها كانا من الأثرياء؛ فقد كانا يرسلان لنا هدايا جميلة من الولايات المتحدة. وكلما استقبلنا أي هدية منهما سعدت كثيرا. لكنني أتذكر أن روي أحيانا كان يرفض أخذ هداياهما، حتى إن أرسلا لنا الحلوى. وأتذكر أنه ذات مرة رفض أخذ الشيكولاتة التي أرسلاها، لكن ليلا بعدما اعتقد أني نائمة رأيته يأخذ بعضا مما احتفظت به في دولابي. لكنني لم أقل شيئا لأحد لأنني كنت أعرف أنه حزين.
بعد ذلك بدأت الأمور تتغير. فعندما أنجبت روث مارك وديفيد تحول تركيزها إليهما. بالإضافة إلى أن والدنا ترك الشركة الأمريكية ليعمل في الحكومة في وزارة السياحة. ولعله كانت له طموحات سياسية. في البداية سارت الأمور على ما يرام في الحكومة. لكن الانقسامات في كينيا أصبحت أكثر خطورة عن ذي قبل بحلول عام 1966م أو 1967م. كان الرئيس كينياتا ينتمي لقبيلة الكيكويو وهي أكبر القبائل. لذا بدأت ثاني أكبر القبائل - وهي قبيلة لوو - الشكوى من أن قبيلة الكيكويو يحصل أهلها على أفضل الوظائف. وبذلك فاضت الحكومة بالدسائس والمؤامرات. وقال نائب الرئيس الذي يدعى أودينجا، الذي كان ينتمي لقبيلة لوو، إن الحكومة ازدادت فسادا. وبدلا من خدمة من حاربوا في سبيل تحقيق الاستقلال أخذ السياسيون الكينيون مكان الاستعماريين البيض واشتروا كل الشركات والأراضي التي كان يجب إعادة توزيعها على الشعب. حاول أودينجا الشروع في تكوين حزبه السياسي إلا أنه حكم عليه بالإقامة الجبرية في منزله باعتباره شيوعيا. بالإضافة إلى أن وزيرا بارزا آخر ينتمي لقبيلة لوو - وهو توم مبويا - اغتيل رميا بالرصاص على يد قاتل محترف من قبيلة الكيكويو. وهكذا بدأ أهل قبيلة لوو يتظاهرون في الشوارع. واتخذت الشرطة الحكومية إجراءات صارمة ردا على ذلك. وقتل الناس. وبالطبع غرس كل ذلك شكا أكبر بين القبائل.
صمت معظم أصدقاء أبي وسط هذه الأحداث ولم يحركوا ساكنا وتعلموا التعايش معها. لكن أبانا بدأ في التحدث. وأخبر الناس بأن النظام القبلي في طريقه إلى تخريب البلد وأن أفضل الوظائف باتت تمنح لغير الأكفاء. حاول أصدقاؤه تحذيره من المجاهرة بهذه الأقوال، لكنه لم يهتم بالأمر. وكان دائما ما يعتقد أنه يعرف الأفضل. وعندما تخطى المسئولون ترقيته تذمر علنا. وقال لأحد الوزراء: «كيف يمكن أن تكون رئيسا علي، مع أنني أعلمك كيف تؤدي مهام وظيفتك كما ينبغي؟» وصل الأمر إلى كينياتا في صورة أن والدنا من مختلقي المشكلات، واستدعي بالتالي لمقابلة الرئيس. وطبقا لما قص علي، فإن كينياتا قال لأبينا إنه لن يعمل في أي مكان حتى يمشي حافي القدمين.
في الواقع لا أعلم مدى صحة هذه التفاصيل. لكنني متأكدة من أن الأحوال كانت سيئة للغاية مع والدي في علاقته مع الرئيس بوصفه عدوا. حيث طرد من الحكومة ووضع اسمه على القائمة السوداء. ولم تعرض عليه أي من الوزارات العمل فيها. وعندما اتجه إلى الشركات الأجنبية ليعمل فيها جرى تحذير هذه الشركات من مغبة تعيينه. ولذا بدأ يبحث عن عمل خارج البلاد إلى أن وافقوا على تعيينه في بنك التنمية الأفريقي في أديس أبابا، لكن قبل أن يعمل فعليا سحبت الحكومة جواز سفره ولم يستطع مغادرة كينيا.
في نهاية الأمر اضطر إلى قبول العمل في وظيفة متواضعة في وزارة الري، ولم ينل هذه الوظيفة إلا بعد تدخل أحد أصدقائه الذي أشفق عليه. وفي الحقيقة ساعدت هذه الوظيفة في توفير الطعام والشراب، لكنها كانت له بمنزلة الضربة القاضية. بدأ والدنا يفرط في شرب الخمر، وتوقف كثيرون من معارفه عن زيارته لأن رؤيتهم معه أصبحت من الأمور الخطيرة آنذاك. وأخبروه أن حياته ستتحول للأفضل إذا ما اعتذر وغير من مواقفه. لكنه رفض واستمر في قول كل ما يخطر بباله.
فهمت معظم هذه الأمور عندما كبرت. وفي هذا الحين أدركت أن الحياة في المنزل أصبحت صعبة للغاية. فوالدنا لم يكن يتحدث مع روي أو معي على الإطلاق إلا إذا كان يريد توبيخنا. وكان يأتي إلى المنزل في وقت متأخر جدا وهو مخمور، وكنت أسمعه وهو يصيح في وجه روث يأمرها أن تعد له الطعام. ونتيجة لذلك شعرت روث بمرارة كبيرة؛ فقد تغير والدنا معها، وفي بعض الأحيان عندما يكون خارج المنزل كانت تقول لروي ولي إن والدنا مجنون، وإنها مشفقة علينا لأن لنا أبا كهذا. ومع ذلك فلم أكن ألومها، بل بالعكس كنت أحيانا أوافقها الرأي. لكنني لاحظت أكثر من أي وقت آخر أنها كانت تعاملنا بأسلوب مختلف عن أسلوب معاملة ابنيها. وكانت تقول إننا لسنا طفليها، وإنها ليس بيدها شيء تفعله لنا لمساعدتنا. فبدأت أنا وروي نشعر بأنه ما من أحد يهتم بأمرنا. وعندما تركت روث والدنا لم يكن شعورنا هذا بعيدا بكثير عن الحقيقة.
تركت روث المنزل عندما كنت في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة من عمري، بعد أن تعرض أبي لحادث سيارة خطير. وعلى ما أعتقد كان مخمورا، ومات في هذا الحادث سائق السيارة الأخرى الذي كان مزارعا من البيض. ظل أبونا في المستشفى فترة طويلة بلغت السنة، وعشت أنا وأخي روي بصفة أساسية معتمدين على أنفسنا. وعندما خرج من المستشفى ذهب لزيارتك أنت وأمك في هاواي. وأخبرنا حينها أنكما - أنت وأمك - ستعودان معه وسنعيش جميعا كأسرة بكل ما تحمله الكلمة من معنى. لكنكما لم تأتيا معه عندما رجع وظللت أنا وروي نعيش معه بمفردنا.
بسبب الحادث بالطبع فقد أبونا وظيفته في وزارة الري، ولم يعد لدينا مكان نعيش فيه. ولفترة من الوقت أخذنا نتجول بين الأقارب لكنهم في النهاية قرروا طردنا لأن لديهم ما يكفي من المشكلات. بعد ذلك وجدنا منزلا حالته سيئة للغاية في جزء خطير من المدينة مشهور بالجرائم الكثيرة التي تحدث فيه، واستقررنا هناك سنوات عديدة. كانت أياما عصيبة. ذلك لأن أبانا لم يكن يملك من النقود سوى القليل؛ لذا كان مضطرا إلى الاقتراض من الأقارب لمجرد توفير الطعام. وهذا ما جعله أكثر خجلا من نفسه - على ما أعتقد - وازدادت طباعه حدة. ومع كل هذه المشكلات التي تعرضنا لها فإنه لم يعترف إطلاقا لي أو لروي بأن الأمور ليست على ما يرام. وأعتقد أن هذا هو ما جرحه لأقصى درجة؛ أي الأسلوب المتعجرف الذي كان لا يزال يخبرنا به بأننا أبناء الدكتور أوباما. كانت خزانات الطعام فارغة، لكنه كان يتبرع للجمعيات الخيرية حفاظا على المظاهر! كنت أناقشه في هذا الأمر في بعض الأحيان، لكنه لم يكن يقول شيئا سوى إنني فتاة حمقاء صغيرة لا أفهم ما يفعله.
كان الأمر أسوأ مع روي. فقد كانا يتشاجران مشاجرات عنيفة. مما أدى بروي في نهاية الأمر إلى ترك المنزل والعيش مع آخرين. لذا ظللت بمفردي مع والدي. وأحيانا كنت أظل مستيقظة لمنتصف الليل في انتظار مجيئه وهو يفتح الباب، قلقة من أن يكون قد حدث له مكروه. ومع الوقت اعتاد المجيء مترنحا من كثرة شرب الخمر، وكان يدخل غرفتي ويوقظني بحجة أنه يريد الجلوس في صحبة أحد أو تناول الطعام. وكان يتحدث معي بخصوص شعوره بالتعاسة وكيف تعرض للخيانة. لكنني في هذه الأحيان كنت أشعر بنعاس شديد فلا أفهم شيئا مما كان يقوله. وبدأت بيني وبين نفسي أتمنى أن يظل بالخارج إلى الأبد ولا يعود على الإطلاق.
الشيء الوحيد الذي أنقذني من هذه المأساة كان التحاقي بمدرسة كينيا الثانوية. إنها مدرسة للبنات كانت فيما مضى مخصصة للبريطانيات. وكانت هذه المدرسة صارمة القواعد للغاية وكانت ما زالت عنصرية، فلم يكن يسمح للمدرسين الأفارقة بالتدريس إلا في الوقت الذي التحقت بها فيه بعد رحيل معظم الطالبات البيضاوات. لكن مع كل هذه الأشياء فقد كنت طالبة نشطة. ولأنها كانت مدرسة داخلية فكنت أظل فيها في فترة الدراسة بدلا من المكوث مع أبي. وفي الواقع عرفت من هذه المدرسة معنى النظام. كما عرفت معنى أن يكون لديك شيء تتمسك به.
في إحدى سنواتي الدراسية لم يستطع أبي دفع مصاريف المدرسة، ولذا طردت منها. وكنت حينها غاية في الخجل وبكيت طوال الليل. ذلك لأنني لم أكن أعرف ماذا أفعل. لكنني رغم كل هذا كنت محظوظة. إذ سمعت إحدى المديرات بالمدرسة عما حل بي وأعطتني منحة دراسية سمحت لي بالبقاء في الدراسة. وعلى الرغم من قدر رعايتي لأبي وقلقي عليه فمن المؤسف أن أقول إنني كنت سعيدة لعدم اضطراري إلى العيش معه. لذا تركته بمفرده وتركت الماضي خلف ظهري.
في السنتين الأخيرتين في المدرسة الثانوية تحسنت أحوال أبي. كان ذلك عندما مات كينياتا وأصبح أبي قادرا إلى حد ما على العمل مرة أخرى في الحكومة. فحصل على وظيفة في وزارة المالية وبدأ ينعم بالمال من جديد إلى جانب السلطة. إلا أنني أعتقد أنه لم يتغلب أبدا على الشعور بالمرارة لما حدث له، خاصة عند رؤية زملائه الذين من عمره وهم يعملون في مناصب أعلى من منصبه حيث كانوا يتمتعون بالقدر الكافي من الذكاء السياسي الذي مكنهم من الوصول إلى هذه المناصب. بعد كل ذلك كان الوقت قد فات لجمع شتات عائلته. وظل فترة طويلة يعيش وحيدا في غرفة بأحد الفنادق حتى بعدما أصبح يستطيع ماديا شراء منزل. وكانت له علاقات عابرة مع نساء أوروبيات وأفريقيات إلا أن علاقته بأي منهن لم تدم طويلا. لم أكن ألتقي به تقريبا، وحتى عندما يتصادف ونتقابل لم يكن يعرف كيف يتعامل معي. أصبحنا كالغرباء لكنه كان لا يزال لديه الرغبة في التظاهر بأنه أب مثالي يوجه ابنته للتصرفات الصحيحة. أذكر أنني عندما حصلت على المنحة الدراسية للدراسة في ألمانيا كنت خائفة من أن أخبره. واعتقدت أنه ربما يقول إنني صغيرة جدا عن أن أذهب للدراسة في الخارج ويتدخل لإلغاء تأشيرتي كطالبة التي كان لا بد من أن تصدق عليها الحكومة. لذا سافرت دون أن أودعه.
ولم أبدأ في التخلص من بعض الغضب الذي كنت أشعر به نحوه إلا بعدما سافرت إلى ألمانيا. فمن بعيد استطعت التفكير جيدا فيما تعرض له وكيف أنه لم يستطع فهم أحد بالفعل حتى نفسه. وفي نهاية المطاف - بعد كل هذه الفوضى التي سببها لحياته - أعتقد أنه ربما كان على وشك الشروع في تغيير نفسه بالفعل. ذلك لأنني آخر مرة رأيته كان في رحلة عمل ممثلا كينيا في مؤتمر دولي في أوروبا. كنت قلقة للغاية من مقابلتنا لأننا لم نكن قد تحدثنا منذ زمن بعيد. لكنه عندما وصل إلى ألمانيا بدا متحررا بالفعل من التوتر العصبي بل ميالا للهدوء. وقضينا وقتا طيبا حقا. والواقع أنه كان جذابا حتى في أسوأ حالاته! اصطحبني معه إلى لندن حيث مكثنا في فندق فاخر، وهناك عرفني على جميع أصدقائه في النادي البريطاني. كان أبي يجذب لي المقعد لأجلس ويهتم بي اهتماما عظيما، مخبرا جميع أصدقائه كم هو فخور بي. وفي رحلة العودة من لندن لفت انتباهي في الطائرة كأس زجاجية صغيرة كان أبي يحتسي فيها الويسكي، ولأنها أعجبتني أخبرته بأنني سوف أسرقها، لكنه قال لي: «لا داعي لمثل هذه الأشياء.» واستدعى المضيفة وطلب منها، وكأنه يمتلك الطائرة، إحضار طقم كامل من هذه الكئوس. وعندما أعطتني المضيفة إياها شعرت بأنني عدت إلى الطفولة من جديد. أو بالأحرى شعرت بأنني أميرته المدللة.
في اليوم الأخير لزيارته لي في ألمانيا اصطحبني لتناول الغداء وتحدثنا عن المستقبل. وسألني إن كنت في حاجة إلى المال وأصر على منحي بعض المال. وأخبرني أنه بمجرد عودتي إلى كينيا سيجد لي زوجا صالحا. كم كان مؤثرا ما حاول فعله ... كما لو كان بوسعه تعويض كل الأوقات الضائعة. كان قد أصبح عندئذ أبا من جديد لطفل يدعى جورج أنجبه من سيدة شابة كان يعيش معها. لذا قلت له: «إنني وروي كبرنا بالفعل. وكل منا لديه حياته الخاصة وذكرياته، وما حدث بيننا جميعا من الصعب محوه من الذاكرة. أما جورج الرضيع فهو كالصفحة البيضاء التي لم يخط فيها قلم. وإن لديك الفرصة لتعامله معاملة حسنة حقا.» لم يفعل شيئا سوى هز رأسه، كما لو كان ... أقصد كما لو أنه ...»
لبرهة من الوقت، حملقت أوما في صورة أبي الفوتوغرافية بغير تركيز في الضوء الخافت. وبعدها وقفت واتجهت ناحية النافذة وأدارت ظهرها لي. قبضت أوما على جسدها وتسللت يداها ببطء شديد تجاه كتفيها المنحنيتين. وبدأت ترتعد بصورة عنيفة. فنهضت من مكاني وذهبت خلفها ولففت ذراعي حولها وهي تبكي، والحزن يأخذ طريقه إليها في صورة موجات بطيئة وعميقة. وقالت لي بين عبراتها: «أرأيت يا باراك؟» وتابعت قائلة: «كنت في بداية معرفتي به. وكنا قد وصلنا إلى المرحلة التي ... التي ربما استطاع فيها توضيح نفسه وتفسير تصرفاته. وفي بعض الأحيان أعتقد أنه ربما تجاوز المرحلة الحرجة بالفعل وبدأ في التحول نحو الأفضل. لكن بعدما مات شعرت بأنني ... مخدوعة للغاية. وهو الشعور الذي لا بد وأن يكون راودك.»
في الخارج سمعنا صوتا مرتفعا لسيارة عند زاوية الشارع ورأينا رجلا يعبر الشارع وحيدا في ظل الضوء الأصفر الصادر عن أعمدة الإنارة. وعلى حين غرة اعتدلت قامة أوما وانتظم تنفسها - كما لو كانت قوة إرادتها هي التي دفعتها لفعل ذلك - ومسحت عينيها بكم قميصها. وقالت وهي تبتسم ابتسامة سرعان ما اختفت من وجهها: «انظر إلى ما فعلته بأختك.» استدارت نحوي. وقالت: «أتعرف، اعتاد أبونا أن يتحدث عنك كثيرا! وكان يستعرض صورتك أمام الجميع متباهيا ويخبرنا عن مدى مهارتك في المدرسة. وأظن أنه ووالدتك اعتادا تبادل الخطابات. وهذه الخطابات - حسب اعتقادي - كانت تريحه دون شك. وفي الأوقات العصيبة - عندما توقف الجميع عن مساعدته - كان أبي يحضر خطاباتها إلى غرفتي ويقرؤها بصوت عال. كان يوقظني ويصر على أن أسمع، وعندما ينتهي من القراءة يمسك بالخطابات في يده ويذكر إلى أي مدى كانت أمك طيبة القلب وحنونا. وكان يقول: «أترين؟» ويتابع كلامه: «على الأقل هناك أناس يهتمون بأمري بإخلاص.» كان يقول ذلك لنفسه مرات ومرات عديدة ...»
أعددت الأريكة لأوما لتنام عليها في حين كانت هي تنظف أسنانها. وسرعان ما استغرقت في سبات عميق تحت البطانية وهي منكمشة على نفسها. أما أنا فظللت مستيقظا، متكئا على مقعد في ضوء مصباح المكتب، وأخذت أنظر إلى هدوء وجهها وأستمع إلى إيقاع تنفسها، محاولا فهم ما قالته واستيعابه. شعرت أن حياتي انقلبت رأسا على عقب، تماما كما لو أنني استيقظت من النوم فوجدت الشمس زرقاء وسط سماء صفراء، أو كما لو أنني سمعت الحيوانات تتحدث مثلنا نحن بني البشر. إنني طيلة حياتي حملت في ذاكرتي صورة واحدة لأبي، أتمرد عليها في بعض الأحيان لكن دون أن أناقشها، صورة حاولت أن أتخذها لنفسي فيما بعد. صورة المثقف الذكي والصديق السخي، والقائد المستقيم ... ففي والدي اجتمعت كل هذه الصفات. أقول كل هذه الصفات وأكثر لأنه لولا زيارته القصيرة لي في هاواي لم يكن ليظهر في حياتي إطلاقا لينتقص من هذه الصورة لأنني لم أر ما يراه معظم الرجال في مرحلة ما في حياتهم، مثل رؤية جسد أبيهم وهو يتضاءل، أو آماله وهي تتبخر، أو علامات الحزن والندم وهي تكسو وجهه.
نعم، لقد رأيت مراحل الضعف هذه في شخصيات أخرى؛ في جدي وشعوره بالإحباط، وفي لولو والتنازلات التي قدمها. لكن هذين الرجلين أصبحا عبرة لي، ربما أحببتهما لكنني لم أحاول إطلاقا تقليدهما، الأبيض منهما أو الأسمر اللذين لم ينطبق مصيرهما على مصيري. كانت الصورة التي رسمتها لأبي - الرجل الأسود ابن القارة الأفريقية - متضمنة كل الصفات التي سعيت لأن أتسم بها؛ سمات مارتن ومالكولم ودوبواز ومانديلا. وإذا كنت بعد ذلك رأيت أن الرجال السود الذين عرفتهم - فرانك أو راي أو ويل أو رفيق - فشلوا في الارتقاء إلى هذه المعايير السامية، وإذا ما تعلمت احترامهم من أجل كفاحهم الذي خاضوه والاعتراف بأنهم بمنزلة أهل لي، فإن صوت والدي ظل مع ذلك لم يمسسه سوء، ملهم وموبخ، يوافقني على أفعالي أو يمتنع عن منحي هذه الموافقة. فكنت كأني أسمعه أحيانا يقول لي: «إنك لا تعمل بجد كاف يا باري. لا بد أن تساعد زملاءك في كفاحهم. انتبه أيها الرجل الأسود!»
والآن - بعدما جلست في ضوء المصباح الكهربائي متأرجحا قليلا على مقعد صلب الظهر - تلاشت هذه الصورة عن أبي على حين غرة وحلت محلها ... ماذا؟ شخص سكير؟ زوج بذيء اللسان؟ موظف حكومي مهزوم ووحيد؟ اعتقدت أنني طوال حياتي كنت أكافح من أجل شيء ليس أكثر من شبح! وللحظة شعرت بدوار، وإن لم تكن أوما في الغرفة كنت سأضحك بصوت عال. لقد خلع الملك عن عرشه. ونحيت جانبا الستائر الخضراء الزمردية. وباتت حشود الغوغاء داخل عقلي لها مطلق الحرية في أن تتجاوز جميع الحدود؛ أي يمكنني فعل ما يخطر ببالي ويسعدني. فلا أحد لديه السلطة - ما عدا أبي - لأن ينهني عن ذلك. ومهما أفعل من سوء فلن يكون أسوأ مما فعله هو نفسه.
انقضى الليل ببطء شديد وحاولت أن أستعيد توازني في ظل شعوري بعدم الرضا كثيرا عن تحرري الذي ما لبثت أن اكتشفته. فماذا سيقف في طريق خضوعي للهزيمة نفسها التي أطاحت بوالدي؟ ومن ذا الذي سيحميني من الشك أو يحذرني من جميع الأشراك الدفينة في روح رجل أسود؟ إن الصورة الخيالية التي رسمتها لأبي ساعدت على الأقل في إبعادي عن الشعور باليأس. لكنه الآن مات، حقيقة لا خيالا. ولم يعد في مقدوره إخباري كيف أعيش.
ربما كان كل ما يستطيع إخباري به هو ما حدث له بالفعل. وخطر ببالي أنني مع كل هذه المعلومات الجديدة فإنني لا أزال لا أعرف الرجل الذي كان أبا لي. ما الذي حل بقوته والتزامه في الحياة؟ ما الذي شكل طموحاته؟ لقد تخيلت مجددا المرة الأولى والأخيرة التي تقابلنا فيها، واكتشفت أن الرجل الذي عرفته بعد سرد كل هذه الحقائق لا بد أنه كان متخوفا من المستقبل مثلما كنت، كان رجلا عاد إلى هاواي لينعم النظر في ماضيه وربما يحاول أن يستعيد أفضل جزء في كيانه؛ الجزء الضائع. لم يكن عندئذ قادرا على إخباري بمشاعره الحقيقية مثلما لم أستطع التعبير عن رغباتي وأنا في العاشرة من عمري. لقد تبلدت مشاعرنا عند رؤية أحدنا الآخر، وعجزنا عن الفرار من الشكوك التي كانت أرواحنا في حاجة إليها إذا ما نظرنا إلى الأمر عن قرب. والآن بعد 15 سنة نظرت إلى وجه أوما النائم ورأيت الثمن الذي دفعناه مقابل هذا الصمت. •••
بعد 10 أيام جلست أنا وأوما على المقاعد البلاستيكية الصلبة في صالة المغادرة في المطار، لنشاهد الطائرات من الجدار الزجاجي المرتفع. وسألتها عما تفكر فيه فابتسمت ابتسامة رقيقة.
وقالت: «كنت أفكر في أليجو، في ميدان هوم.» وتابعت: «أرض جدي التي لا تزال الجدة تعيش فيها. إنها أجمل بقعة يا باراك. عندما أكون في ألمانيا ويكون الطقس باردا في الخارج وأشعر بالوحدة أغمض عيني في بعض الأحيان وأتخيل أنني هناك. في الأرض الفسيحة جالسة ومن حولي الأشجار الكبيرة التي زرعها جدنا. أتخيل الجدة وهي تتحدث وتخبرني بأشياء مسلية، وأسمع البقرة وهي تمشي خلفنا، ونقر الدجاج على حدود الحقل، وأشم رائحة النار في أكواخ إعداد الطعام. وتحت شجرة المانجو - بالقرب من حقول الذرة - ترقد جثة أبينا ...»
كانت الطائرة قد بدأت استقبال الركاب. لكننا ظللنا جالسين وأغمضت أوما عينيها وشدت على يدي.
وقالت: «علينا أن نذهب إلى بلدنا» وتابعت: «علينا أن نعود إلى وطننا يا باراك ونراه هناك.»
الفصل الثاني عشر
بذل رفيق كل ما في وسعه لجعل المكان أنيقا ومنظما. ووضعت لافتة جديدة أعلى المدخل، وترك الباب مفتوحا قليلا للسماح بنفاذ ضوء الربيع إلى الداخل. ونظفت الأرضيات وأعيد ترتيب الأثاث في المكان. وكان رفيق يرتدي حلة سوداء ورابطة عنق جلدية سوداء، وكان حذاء الكونغوفو الذي يرتديه لامعا لأقصى درجة. ولبضع دقائق ظل شغله الشاغل هو طاولة طويلة قابلة للطي موضوعة في أحد أركان الغرفة وهو يوضح لبعض من رجاله كيفية ترتيب الكعك وشراب البنش، أخذ يحرك صورة هارولد المعلقة على الحائط يمينا ويسارا.
سألني قائلا: «أتبدو لك الصورة في وضع مستقيم؟» «نعم يا رفيق.»
كان العمدة سيأتي لقص شريط مركز خدمات مكتب العمدة للتدريب والتوظيف في روزلاند وافتتاحه. وبالطبع اعتبر ذلك إنجازا عظيما، ولمدة أسابيع ظل رفيق يطالب ببدء النشاط في هذا المبنى الذي كان يملكه. لكنه لم يكن الوحيد الذي طلب ذلك. فقد قال عضو مجلس المدينة إنه سيكون سعيدا باستضافة العمدة في مكتبه. أما عضو مجلس الشيوخ عن الولاية - الذي كان أحد التابعين السياسيين القدامى الذي ارتكب خطأ عندما ساند أحد المرشحين البيض في انتخابات العمدة السابقة - فقد وعد بأن يساعدنا في الحصول على الأموال اللازمة لتنفيذ أي مشروع نريده إذا جعلناه يشترك في برنامج الحفل. بالإضافة إلى ذلك اتصل القس سمولز ليقول إننا يمكن أن نساعد أنفسنا عن طريق السماح له بتقديم صديقه «الصالح هارولد». وكلما دخلت مكتب مشروع التنمية المحلية أعطتني السكرتيرة مجموعة من أحدث الخطابات التي تلقتها.
وقبل أن يرن جرس الهاتف من جديد قالت لي: «لقد أصبحت شخصية مشهورة بالفعل يا باراك.»
نظرت إلى الجماهير الكبيرة التي تجمعت داخل مخزن رفيق - وكان أغلبهم من السياسيين والعالة الطفيليين - ووجدت أن جميعهم يختلسون النظر إلى الباب كل بضع دقائق، في حين أن رجال الشرطة المرتدين ملابس مدنية يتحدثون في أجهزة اللاسلكي ويتفقدون المكان. وبينما أجاهد لأشق طريقي إلى الغرفة وجدت ويل وأنجيلا فانتحيت بهما جانبا. «مستعدان؟»
فأومآ برأسيهما بالإيجاب. «تذكرا أن عليكما إقناع هارولد بحضور اجتماعنا الحاشد في الخريف. على أن يكون ذلك في حضور المسئول عن جدول أعماله. وأخبراه بكل المجهودات التي نبذلها هنا ولماذا ...»
في هذه اللحظة، تهامس الحضور وبعدها خيم الصمت فجأة على الجميع. وتوقف صف من السيارات وفتح باب سيارة ليموزين، ومن وراء كتيبة من رجال الشرطة رأيت هارولد ذاته. كان يرتدي حلة زرقاء ومعطفا مجعدا واقيا من المطر، أما شعره الأشيب فقد بدا أشعث بعض الشيء، وكانت قامته أقصر مما توقعت. ومع ذلك فقد كان شخصية ذات حضور طاغ، وكانت ابتسامته ابتسامة رجل في أوج عظمته. وفي الحال بدأ الجميع يهتفون: «هارولد! هارولد!» وحينها استدار العمدة نحوهم ورفع يده إطراء لهم. وبدأ هارولد - بعد أن سبقته السيدة ألفاريز ورجال الشرطة في ملابسهم المدنية - في شق طريقه عبر الجمهور المحتشد. فمر بجانب عضو مجلس الشيوخ وعضو مجلس المدينة. ثم مر بجانب رفيق ثم بجانبي. ثم تجاوز يد القس سمولز الممدودة له. حتى توقف في النهاية أمام أنجيلا مباشرة.
قال لها «السيدة رايدر.» وحينها أخذ بيدها وانحنى انحناءة بسيطة. واستكمل كلامه قائلا: «تشرفت بلقائك. لقد سمعت أخبارا ممتازة عن عملك.»
بدت أنجيلا وكأنها على وشك فقدان الوعي. وعلى الفور سألها العمدة هل ستعرفه على شركائها، ضحكت وارتبكت قبل أن تستجمع رباطة جأشها وتأخذه ليتعرف على القادة. وكانوا جميعا يقفون وقفة عسكرية وكأنهم فريق كشافة. وتعلو وجوههم الابتسامة العريضة نفسها. وعندما انتهى من التعرف عليهم مد العمدة يده لأنجيلا واتجها معا نحو الباب ولاحقتهما الجماهير.
همست شيرلي لمنى في أذنها قائلة: «أتصدقين ما يحدث يا عزيزتي؟»
استمرت هذه المراسم 15 دقيقة. وأغلقت الشرطة مبنيين في شارع ميشيجان، ونصبت منصة صغيرة أمام المكتب الذي كان سيفتتح فيه المركز التابع لمكتب العمدة للتوظيف والتدريب بعد قليل. عرفت أنجيلا هارولد على كل أعضاء الكنيسة الذين كان لهم دور في المشروع، إلى جانب السياسيين الموجودين بين الحضور. وبعدها ألقى ويل كلمة عن مشروع التنمية المحلية. هنأنا العمدة على مشاركتنا المدنية، في حين كان عضو مجلس الشيوخ والقس سمولز وعضو مجلس المدينة يحاولون الوقوف في أماكن متميزة خلف العمدة وهم يبتسمون ابتسامات عريضة أمام عدسات المصورين الذين استأجروهم. وبعد أن قص الشريط وانتهى الأمر أسرعت السيارة الليموزين إلى الحدث التالي، وتفرقت الجماهير على الفور، ولم يتبق سوى بعض منا يقف في الشارع المليء بالقاذورات.
اتجهت إلى أنجيلا وهي مشغولة بالتحدث مع شيرلي ومنى. وكانت تقول لهما: «عندما سمعته يقول «السيدة رايدر» أقسم لكما إنني كنت على وشك الموت.»
هزت شيرلي رأسها. وقالت: «إنني أعرف هذا الشعور.»
قالت منى وهي ترفع لأعلى كاميراتها من طراز إنستاماتيك: «إن لدينا الصور التي تشهد على صحة هذا الحدث.»
حاولت أن أقاطع حديثهن. قلت: «هل حددتن ميعادا للاجتماع الحاشد؟» «بعد ذلك أخبرني بأنني أبدو أصغر من أن تكون لدي ابنة عمرها 14 عاما. أتتخيلون؟»
كررت سؤالي مرة أخرى: «هل وافق على حضور اجتماعنا الحاشد؟»
نظر إلي الثلاثة بفراغ صبر. وقلن: «أي اجتماع حاشد؟»
شعرت باليأس من هذا الرد وأخذت أمشي عبر الشارع بخطوات غاضبة سريعة. وعندما وصلت إلى السيارة سمعت ويل آتيا من خلفي، وقال: «إلى أين ستذهب بهذه السرعة؟» «لا أعرف، إلى أي مكان.» حاولت إشعال سيجارة لكن الرياح ظلت تطفئ عود الثقاب. رميت علبة الكبريت على الأرض بغضب عارم واستدرت إلى ويل. قلت: «أتعرف يا ويل؟» «ماذا؟» «إننا تافهون. نعم، إننا كذلك. فقد كانت لدينا فرصة لأن نوضح للعمدة أن لنا أنشطة حقيقية في المدينة، وأنه ينبغي له أن يأخذ أمرنا مأخذ الجد. لكن ماذا نفعل؟ إننا نتصرف وكأننا مجموعة من الأطفال المولعين بذوي الشهرة. حيث نقف ونبتسم للمصورين ونضحك ونقلق في النهاية هل التقطت لنا صور معه أم لا ...» «أتعني أنك لم تلتقط لك صورة معه؟» ابتسم ويل بابتهاج وصورني بكاميرا فورية، ثم وضع يده على كتفي. وقال: «أتمانع أن أقول لك شيئا يا باراك؟ إنك تحتاج إلى أن تهدأ قليلا. إن ما تسميه تفاهة كان ممتعا لأقصى حد لأنجيلا وغيرها. ومن الآن حتى 10 سنوات قادمة سيظللن يتفاخرن به. ذلك لأنه أشعرهن بأهميتهن. وكنت أنت السبب في ذلك. لذا ماذا إذا نسين دعوة هارولد إلى الاجتماع الحاشد؟ سنتصل به مرة أخرى لنعرض عليه الأمر.»
قفزت إلى سيارتي سريعا وأنزلت زجاج النافذة. وأنا أقول: «فلتنس الأمر يا ويل. إنني محبط.» «نعم، أرى ذلك بوضوح. لكن عليك أن تسأل نفسك عن سبب شعورك الزائد بالإحباط.» «ما هو هذا السبب في اعتقادك؟»
هز ويل كتفيه. وقال: «أعتقد أنك لا تريد إلا أن تنجز عملا ذا قيمة. لكنني أعتقد أيضا أنك لا تشعر بالرضا إطلاقا. فإنك تريد أن يحدث كل شيء بسرعة. تريد ذلك كما لو أن لديك شيئا تريد إثباته.» «إنني لا أريد إثبات أي شيء يا ويل.» أدرت محرك السيارة وبدأت أبتعد عنه إلا أنني لم أنطلق بها بالسرعة التي تجعلني لا أسمع كلمات وداعه. «ليس عليك أن تثبت أي شيء لنا يا باراك. إننا نحبك . والرب أيضا يحبك!» •••
انقضى قرابة عام منذ وصولي إلى شيكاغو وبدأ يؤتي جهدنا أخيرا ثماره. وازداد عدد مجموعات ويل وماري التي تعقد اجتماعاتها في زوايا الشوارع إلى أن بلغ عددها 50 مجموعة، إلى جانب أن هذه المجموعات نظمت حملات لتنظيف الأحياء، ورعت أيام المهنة (التي تطرح فيها الوظائف للعاطلين عن العمل) لشباب المنطقة، وحصلت على موافقات من عضو مجلس المدينة لتحسين خدمات الصرف الصحي. وفي أقصى الشمال طالبت السيدة كرينشو والسيدة ستيفينز هيئة إدارة المتنزهات بشيكاغو بتحسين وتجميل المتنزهات الخربة، وقد بدأ العمل في ذلك بالفعل، وجرى إصلاح الشوارع وبالوعات الصرف الصحي، وبدأ تشغيل برامج مراقبة الجريمة. وأسس مركز خدمات التوظيف الجديد الذي كان فيما سبق مخزنا فارغا غير مستخدم.
مع الوقت ازدادت الثقة بالمؤسسة وبي أنا شخصيا. وبدأت أتلقى دعوات لحضور المناقشات العامة وإدارة ورش العمل، وعرف السياسيون المحليون اسمي وإن كانوا لم يفلحوا في نطقه كما ينبغي. وفيما يخص قيادتنا فإنني لم أكن أخطئ إلا قليلا. وفي إحدى المرات سمعت شيرلي تخبر قائدا جديدا عني ذات يوم قائلة له: «كان يجب أن تراه عندما حضر لأول مرة إلى هنا.» وتابعت قائلة: «كان مجرد صبي. لكنك عندما تنظر إليه الآن ستعتقد أنه شخص مختلف.» كانت شيرلي تتحدث وكأنها أم فخورة بابنها، وبذلك أصبحت الابن البديل الذي عاد إلى رشده بعد فترة من السلوك السيئ.
إن الحصول على تقدير من أعمل معهم والتحسن الملموس الذي أراه في الحي من الأشياء التي يمكنني الاعتزاز بها. كان ينبغي أن يكون كافيا. لكن ما قاله ويل كان صحيحا لأنني لم أرض بكل ذلك.
ربما كان الأمر متعلقا بزيارة أوما والأخبار التي أحضرتها معها عن أبي. ومع أنني شعرت ذات مرة بالحاجة إلى أن أعيش طبقا لتوقعاته، فإنني شعرت في هذا الوقت كما لو كنت مضطرا إلى أن أصلح كل أخطائه. وكانت طبيعة هذه الأخطاء لا تزال غير واضحة في عقلي؛ فقد كنت لا أستطيع بعد قراءة معالم الطريق التي تحذر من المنعطفات الخاطئة التي سلكها. وبسبب هذا الاضطراب ولأن الصورة التي رسمتها له بقيت متناقضة للغاية - في بعض الأحيان توحي بشيء وفي أحيان أخرى بشيء آخر، دون أن تجمع بين الشيئين في آن - فإنني وجدت نفسي في لحظات مختلفة من اليوم أشعر كما لو كنت أعيش حياة مقدرة سلفا كنت قد تخيلتها من قبل، كما لو كنت أتبع أبي في طريق الخطأ وأنا سجين مأساته.
إلى جانب كل ذلك كانت لدي مشكلاتي مع مارتي. فقد فصلنا رسميا مجهوداتنا الذاتية أحدنا عن الآخر ذلك الربيع. ومنذ ذلك الحين كان يقضي معظم أوقاته في كنائس الضواحي، حيث اتضح أن الأبرشيين - السود منهم والبيض على حد سواء - كانوا مهتمين بموضوع التوظيف بصورة أقل من اهتمامهم برحيل البيض من الأحياء التي يقطنها السود، ومسألة انخفاض قيم العقارات التي سادت الجانب الجنوبي منذ عقد من الزمان.
اتصفت هذه المسائل بصعوبتها؛ إذ كانت تحفل بالعنصرية والحساسية الزائدة التي كان يرى مارتي أنها مذمومة. لذا قرر أن يوقف هذا النشاط ويبدأ نشاطا آخر من جديد. فعين منظما آخر لأداء معظم المهام اليومية في الضواحي وأصبح مشغولا بإنشاء منظمة جديدة في جاري، وهي مدينة انهار فيها الاقتصاد منذ زمن بعيد وكانت الأوضاع فيها سيئة للغاية - طبقا لقول مارتي - لدرجة أنه لم يهتم أحد هناك بلون المنظم، وفي أحد الأيام طلب مني مارتي أن أذهب معه. «إن هذا التدريب ليس جيدا لك. فالجانب الجنوبي شاسع للغاية، ومليء بعناصر التشتت، لكن ليس هذا خطأك. كان علي أن أتفهم الموضوع بصورة أفضل من ذلك.» «لا أستطيع أن أترك الأمر يا مارتي. لقد بدأت بالفعل من هنا.»
نظر إلي بصبر شديد. وقال: «اسمع يا باراك. إن إخلاصك مثير للإعجاب. لكنك الآن في موقف لا بد أن تهتم فيه بأمر نجاحك الشخصي. وإن بقيت هنا فسيكون مصيرك الفشل لا محالة. وقبل أن تحقق أي إنجاز حقيقي ستتخلى عن العمل التنظيمي.»
كان مارتي قد خطط لكل شيء في عقله، مثل الوقت الذي ستستغرقه مسألة تعيين وتدريب منظم بديل عني، والحفاظ على ميزانية معقولة دون صرفها. وبينما كنت أستمع إليه وهو يعرض خططه خطر ببالي أنه لم تكن له أية صلة شخصية بالناس أو بالمكان في سنواته الثلاث التي قضاها في المنطقة، وأن الشعور بالألفة والمودة لم يكن يحصل عليه إلا من زوجته الفاتنة وابنه الوسيم. وفي عمله كان ما يدفعه هو مجرد الفكرة التي يرمز إليها المصنع المغلق، لكن الأمر كان أكبر من المصنع، وأكبر من أنجيلا أو ويل أو القساوسة الشاعرين بالوحدة الذين وافقوا على أن يعملوا معه. ربما كانت هذه الفكرة ستنطلق في أي مكان، لكن من وجهة نظر مارتي كان الأمر ببساطة متعلقا بإيجاد الدمج الملائم للظروف والمزيج المناسب للعناصر. «مارتي.» «نعم؟» «لن أذهب إلى أي مكان.»
في نهاية الأمر توصلنا إلى اتفاق ينص على أن يقدم لي الاستشارة التي كنت ما زلت في حاجة إليها إلى حد بعيد، وفي مقابل هذا العمل الاستشاري يحصل على أجر يساعده في توفير الدعم المادي لعمله في مكان آخر. وفي اجتماعاتنا الأسبوعية كان يذكرني باختياري هذا وبأن إنجازاتي المتواضعة لا تشتمل على أية مخاطرة، وبأن الرجال الذين يرتدون ملابس أنيقة وسط المدينة لا يزالون في السلطة يمارسون أنشطتها ويتخذون القرارات. وكان يقول: «إن الحياة قصيرة يا باراك.» ويتابع كلامه قائلا: «وإن لم تحاول تغيير الأمور من حولك تغييرا حقيقيا فربما تنساها.»
نعم. التغيير الحقيقي! بدا هذا الأمر كهدف سهل تحقيقه أيام الجامعة، وكامتداد لإرادتي الشخصية وإيمان أمي، مثل زيادة متوسط درجاتي أو الإقلاع عن شرب الخمور؛ إنها مسألة تحمل المسئولية وتحديد مهامها. والآن فقط - بعد مرور عام على بدء نشاط التنظيم - لم يبد أن هناك شيئا واحدا بسيطا وسهلا. من كان المسئول عن مكان مثل ألتجيلد؟ هكذا وجدت نفسي أتساءل. لم يكن هناك رجال بيض ماضغو تبغ من أمثال عضو الحزب الديمقراطي بول كونور، ولا مجرمون أقوياء لاحقتهم هيئة بنكرتون للأمن. لم يكن هناك سوى مجموعة صغيرة من الرجال والسيدات السود المتقدمين في العمر الذين اتصفوا بالخوف والقليل من الطمع أكثر من اتصافهم بالحقد أو القدرة على التخطيط للأمور عن عمد. ربما اشتملت هذه المجموعة على أفراد مثل السيد أندرسون - مدير مشروع ألتجيلد - الأصلع المتقدم في العمر الذي لم يتبق له سوى عام واحد على التقاعد. أو السيدة ريس الممتلئة الجسم ذات الوجه المفتوح المسام التي كانت رئيس مجلس المستأجرين الرسمي، وقضت معظم حياتها وهي تحاول الحفاظ على استمرار المميزات التي تحصل عليها من عملها؛ الراتب الذي كانت تتقاضاه بصفة شهرية ومقعد في المأدبة التي كانت تقام سنويا، إلى جانب حصول ابنتها على شقة رائعة وابن أخيها على وظيفة في هيئة الإسكان بشيكاغو. أو القس جونسون - قس السيدة ريس ورئيس الكنيسة الكبيرة الوحيدة في ألتجيلد - الذي أوقفني عن الحديث عند رؤيتي للمرة الأولى والأخيرة عندما ذكرت كلمة «تنظيم».
قال القس الجليل: «إن المشكلة لا تكمن في هيئة الإسكان بشيكاغو.» وتابع: «بل تكمن في الأساس في أن الفتيات هنا ينخرطن في كل أنواع الفجور.»
قال لي بعض المستأجرين في ألتجيلد إن السيد أندرسون لم يصلح شقق أحد ممن يعارضون السيدة ريس وقائمة المرشحين في أثناء انتخابات المكتب الاستشاري المحلي، وإن السيدة ريس كانت بذلك تابعة للقس جونسون، وإن القس كان يملك مكتبا لتقديم خدمات الحراسة الأمنية بموجب عقد أبرم مع هيئة الإسكان بشيكاغو. لم أستطع تحديد هل ما قيل صحيح أم لا، أو هل سيحدث الأمر برمته فرقا أم لا. إن هؤلاء الأفراد الثلاثة عكسوا آراء وتصرفات معظم من كانوا يعملون في ألتجيلد؛ المدرسين وإخصائيي علاج الإدمان ورجال الشرطة. كان المال هو السبب الذي دعا البعض للذهاب إلى ألتجيلد في حين كان للبعض الآخر رغبة حقيقية في تقديم يد المساعدة. وأيا كانت دوافعهم فإنهم اعترفوا في مرحلة معينة بشعورهم الجماعي بالملل الذي نخر في عظامهم. وفقدوا ثقتهم السابقة بقدرتهم على تغيير حالة التدهور التي رأوها في كل شيء حولهم. وفي ظل فقدان الثقة شعروا بفقدان القدرة على التمرد على كل ما حدث لهم. وببطء شديد تلاشت فكرة المسئولية - عن أنفسهم وعن الآخرين - وحل محلها تواضع توقعاتهم وكوميديا نابعة من المواقف السوداوية التي تعرضوا لها.
كان ويل محقا إلى حد ما؛ فإنني شعرت أن هناك شيئا لا بد من إثباته: إلى أهل ألتجيلد، إلى مارتي، إلى أبي، وإلى نفسي. ما فعلته كان له أهمية أثرت على أشياء أخرى. ولم أكن ساعيا بجنون وراء أوهام يستحيل تحقيقها. وفيما بعد عندما حاولت شرح بعض هذه الأمور إلى ويل ضحك وهز رأسه مفضلا أن يعزو موقفي الغاضب يوم قص الشريط إلى غيرة صبيانية. وقال لي: «أرى أنك مثل الديك الصغير يا باراك، وهارولد مثل الديك الكبير. فما حدث أن الديك الكبير عندما حضر التفت جميع الدجاجات حوله ومنحنه كل الاهتمام. مما جعل الديك الصغير يدرك أن عليه تعلم أشياء لم يكن يعرفها.»
بدا ويل مستمتعا بالمقارنة التي عقدها، وضحكت أنا أيضا معه عندما ذكرها. لكن بيني وبين نفسي علمت أنه أساء فهم طموحاتي وأساء استيعابها. إن أكثر ما أردته في الواقع هو نجاح هارولد، ومثله مثل أبي الحقيقي، فإن العمدة - وإنجازاته - بدا وكأنه قد أوضح نطاق ما كان ممكنا فعله، وأما مواهبه ونفوذه فكان لهما الفضل في تقييم آمالي. وفي أثناء سماعي له وهو يتحدث إلينا في هذا اليوم، وهو في قمة بهائه ومرحه، لم أستطع فعل أي شيء سوى التفكير في القيود المفروضة على هذا النفوذ. ربما استطاع هارولد أن يجعل الخدمات في المدينة أكثر عدلا وإنصافا. فقد حصل المتخصصون السود، الحاصلون على درجات علمية عالية، على حصص أكبر من الأعمال في المدينة. وأصبح هناك مشرفون سود على المدارس، ومأمور شرطة أسود ومدير أسود لهيئة الإسكان. وهكذا فإن وجود هارولد في السلطة قدم المواساة للناس، مثلما فعل تدين ويل وقومية رفيق. لكن بين طيات تألق النصر الذي حققه هارولد في ألتجيلد أو أي مكان آخر، لم يبد أن شيئا واحدا قد تغير.
لقد تساءلت هل فكر هارولد - بعيدا عن دائرة الضوء - في هذه القيود. وهل شعر - مثل السيد أندرسون أو السيدة ريس أو أي عدد من المسئولين السود الآخرين الذين يتولون الآن مسئولية حكم الضواحي الفقيرة المكتظة بالسكان - بأنه مقيد مثله مثل من يحكمهم، وبأنه وريث تاريخ بائس، وجزء من نظام منغلق ليس به إلا القليل من العوامل المحفزة؛ نظام ظل يفقد حماسه كل يوم وينحدر إلى حالة منخفضة المستوى من الثبات.
تساءلت هل شعر هو أيضا بأنه سجين القدر. •••
كانت الدكتورة مارثا كوليار هي الشخص الذي تمكن في النهاية من انتشالي من حالة الجبن التي عشتها. والجدير بالذكر أن مارثا كانت مديرة مدرسة كارفر - التي كانت إحدى المدرستين الابتدائيتين في ألتجيلد. وعندما تحدثت معها للمرة الأولى هاتفيا لتحديد موعد معها لم تطرح علي الكثير من الأسئلة. «يمكنني أن أستغل أية مساعدة أحصل عليها.» وتابعت: «أراك في الثامنة والنصف.»
كانت المدرسة على الحد الجنوبي لألتجيلد، واشتملت على ثلاثة مبان ضخمة من الطوب صنعت شكل حدوة حصان أحاطت بساحة كبيرة مشتملة على حفر مليئة بالقاذورات. عندما دخلت المدرسة أرشدني الحارس إلى المكتب الرئيسي الذي كانت فيه سيدة سوداء قوية البنية في منتصف العمر ترتدي زيا أزرق اللون وتتحدث إلى سيدة أصغر سنا منها كانت عصبية وفي حالة يرثى لها.
قالت الدكتورة كوليار وهي تضع ذراعها فوق كتف السيدة: «اذهبي الآن إلى المنزل واستريحي قليلا. وأنا سأجري بعض المكالمات الهاتفية، وأرى إن كان في مقدورنا اتخاذ الإجراءات الضرورية لتسوية الأمر.» أوصلت السيدة إلى الباب واستدارت نحوي. قالت: «لا بد أنك أوباما. فلتتفضل هنا. أتشرب قهوة؟»
قبل أن تعطيني الفرصة لأن أرد اتجهت ناحية السكرتيرة. وقالت لها: «أعدي فنجانا من القهوة للسيد أوباما. ألم يصل عاملو طلاء الجدران بعد؟»
هزت السكرتيرة رأسها وعبست الدكتورة كوليار. وقالت وأنا أتبعها إلى مكتبها: «امنعي أية مكالمات هاتفية عدا ما تستقبلينه من مهندس المباني عديم القيمة. أود إخباره صراحة برأيي فيه.»
كان مكتبها مفروشا بأثاث بسيط، وجدرانه عارية إلا من بعض جوائز خدمات المجتمع القليلة المعلقة وصورة كبيرة لطفل أسود مكتوب عليها «الرب لا يخلق أنجاسا». سحبت الدكتورة كوليار مقعدا وقالت لي: «إن الفتاة التي غادرت مكتبي الآن أم لأحد أبنائنا هنا في المدرسة. مدمن للمخدرات، وصديقها ألقي القبض عليه الليلة الماضية، لكنها غير قادرة على دفع الكفالة المطلوبة لإطلاق سراحه؛ لذا أخبرني بما يمكن أن يفعله عملك التنظيمي لشخص مثلها.»
دخلت السكرتيرة ومعها القهوة التي طلبتها لي. قلت لها: «كنت آمل أن تكون لديك بعض الاقتراحات.» «ليس لدي أي اقتراحات سوى الإطاحة بهذا المكان وإعطاء الناس فرصة ليبدءوا من جديد.»
عملت هذه السيدة مدرسة 20 عاما ومديرة مدرسة 10 أعوام، وكانت معتادة على المناقشات الحادة مع رؤسائها - الذين كانوا من البيض فيما مضى وأصبح معظمهم من السود الآن - بخصوص الاعتمادات المالية والمناهج وسياسات التعيين. ومنذ أن تعينت في مدرسة كارفر أنشأت مركزا لتعليم الأمهات والأبناء، وظيفته تعليم الأمهات الشابات مع أبنائهن في فصل واحد. أوضحت دكتورة كوليار هذا الأمر بقولها: «تريد معظم الأمهات هنا الأفضل دائما لأبنائهن.» وتابعت قائلة: «لكنهن لا يعرفن كيف يوفرن ذلك لهم. لذا نقدم لهن الاستشارات الخاصة بالتغذية والرعاية الصحية وكيفية التعامل مع التوتر. ونحن نعلم منهن من لا تستطيع القراءة حتى يتمكن من القراءة لأطفالهن في المنزل. وقدر استطاعتنا نساعدهن في الحصول على شهادة تعادل الثانوية العامة، أو نعينهن مساعدات للمدرسين.»
ارتشفت دكتورة كوليار رشفة من فنجان القهوة. وأضافت: «إن ما لا نستطيع فعله هو تغيير البيئة التي يعود إليها هؤلاء الفتيات وأبنائهن بعدما يخرجون من المدرسة يوميا. وعاجلا أو آجلا سيترك الأطفال المدرسة وتتوقف الأمهات عن الحضور ...»
رن جرس هاتفها ليخبرها بحضور عامل طلاء الجدران.
قالت دكتورة كوليار وهي تنهض من مقعدها: «اسمع يا أوباما.» وتابعت: «فلتحضر الأسبوع التالي لتتحدث مع مجموعة الأمهات. وحاول أن تعرف ما يدور بعقولهن. إنني لا أشجعك على فعل ذلك الآن. لكن إذا ما اختلفت آراء الأمهات مع آرائك واحتججن بغضب عارم فلن أستطيع إيقافهن، أليس كذلك؟»
ضحكت بابتهاج ومشت معي حتى أوصلتني إلى المدخل، حيث كان هناك صف غير منتظم من الأطفال في الخامسة والسادسة من أعمارهم يقفون استعدادا لدخول الفصل. لوح بعضهم لنا وابتسموا، وأخذ اثنان منهم كانا يقفان بالقرب من مؤخرة الصف يدوران حول نفسيهما وذراعاهما قريبتان جدا من جانبيهما، وحاولت فتاة صغيرة ضئيلة الحجم أن تنزع سترتها عنها وتخرجها من رأسها إلا أنها واجهت صعوبة في إخراج ذراعيها من كمي السترة. وبينما كان يحاول المدرس أن يقودهم لصعود السلم فكرت في قدر السعادة والثقة بالآخرين اللتين بدوا متسمين بهما، وأنه على الرغم من المصاعب والمآسي التي عانوها - مثل الولادة المبكرة أو التعرض للإدمان وتجربة معظمهم القاسية للفقر - فإن السعادة التي وجدوها في تنقلهم من مكان لآخر، والفضول الذي أظهروه عند التطلع إلى أي وجه جديد كانا مماثلين لسعادة وفضول جميع الأطفال في شتى الأماكن. لقد جعلوني بالفعل أتذكر الكلمات التي قالتها ريجينا منذ سنوات في مكان وزمان مختلفين: «إن الأمر ليس متعلقا بك.»
قالت دكتورة كوليار: «أليسوا لطفاء؟» «نعم إنهم كذلك بالفعل.» «إن التغيير سيحدث لاحقا. في غضون خمس سنوات، مع أن حدوثه يبدو وشيكا في جميع الأحيان.» «ما هذا التغيير؟» «عندما تتوقف أعينهم عن الضحك. يمكن أن تظل أصواتهم مسموعة، لكن إذا نظرت إلى الأعين فستجد أنها تخبئ شيئا ما داخلها.» •••
بدأت أقضي ساعات عديدة أسبوعيا مع هؤلاء الأطفال وآبائهم. كانت أمهاتهم جميعا قد اقتربن من بلوغ سن العشرين أو تجاوزنها بقليل، قضى معظم هؤلاء الأمهات حياتهن في ألتجيلد وتربين على يد أمهات في سن المراهقة. لقد وصفن بغير حرج الحمل في سن الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة، وتركهن مقاعد المدرسة، والروابط الضعيفة التي تربطهن بآباء أطفالهن والذين يظهرون ويختفون من حياتهن وقتما شاءوا. وأخبرنني أيضا عن تعايشهن مع نظام الحياة الذي اشتمل في معظم حالاته على الانتظار؛ الانتظار لرؤية الإخصائي الاجتماعي، والانتظار في المكاتب لكي يصرفوا شيكات الرعاية الاجتماعية، والانتظار لركوب الأتوبيس للذهاب إلى أقرب سوبر ماركت يبعد بمسافة خمسة أميال لشراء حفاضات للأطفال بسعر أرخص.
برع هؤلاء الأمهات في استخدام ما يساعدهن في البقاء على قيد الحياة في عالمهن المفروض عليهن ولم يتذمرن من ذلك. مع أنهن لم يكن ساخرات؛ وهذا ما فاجأني. ولا يزال لديهن طموحات. كانت المدرسة تضم فتيات مثل ليندا لوري وبيرناديت لوري، الأختين اللتين ساعدتهما الدكتورة كوليار في الحصول على شهادات تعادل الثانوية العامة. والآن كانت بيرناديت تدرس في الجامعة المحلية، أما ليندا فإنها حملت مرة أخرى ومكثت في المنزل لتعتني بابن بيرناديت - تايرون - وابنتها جويل، لكنها قالت إنها ستلتحق بالجامعة هي الأخرى بمجرد أن يولد ابنها الجديد. بعد ذلك قالتا إنهما ستبحثان عن وظيفتين في مجال إدارة الأغذية أو ربما السكرتارية. وبعدها ترحلان عن ألتجيلد. وذات مرة عندما ذهبت إلى شقة ليندا أرتني الأختان ألبوم صور مليئا بقصاصات مأخوذة من مجلة «بيتر هومز آند جاردنز». وأشارتا إلى المطابخ البيضاء البراقة والأرضيات المصنوعة من الخشب الصلب، وأخبرتاني أنهما ستعيشان في منزل كهذا في أحد الأيام. كما قالتا إن تايرون سوف يتلقى دروسا في السباحة وجويل سترقص البالية.
في بعض الأحيان، وأنا أستمع إلى مثل هذه الأحلام البريئة، كنت أجد نفسي أحاول مقاومة الرغبة العارمة في أن أضم هاتين الفتاتين وابنيهما بين ذراعي، وأن أتشبث بهم جميعا ولا أسمح لأي منهم بالابتعاد عني. وفي الواقع أعتقد أن الفتاتين شعرتا برغبتي هذه، وكانت ليندا بجمالها الأسمر المبهر ترتسم على وجهها ابتسامة وهي تنظر إلى بيرناديت وتسألني عن سبب عدم زواجي حتى الآن.
وكنت أرد عليها قائلا: «أعتقد أنني لم أجد الزوجة المناسبة.»
وكانت بيرناديت تمازح ليندا بالضرب على ذراعها وهي تقول: «توقفي عن قول ذلك! إنك تجعلين وجنتي السيد أوباما تحمران خجلا.» وتضحكان معا، وأدرك حينها أنني بأسلوبي الخاص أبدو دون شك بريئا لهما كما تبدوان كلاهما لي.
كانت خطتي بسيطة لمثل هؤلاء الأمهات. فلم نكن نملك بعد القوة لتغيير سياسة الرعاية الاجتماعية أو توفير وظائف محلية أو جلب أموال أكثر لتمويل المدارس. لكن ما نستطيع فعله هو البدء في تحسين الخدمات الأساسية في ألتجيلد، مثل إصلاح الحمامات والمدافئ والنوافذ. تخيلت أنه بتحقيق بعض النجاحات هناك يمكن أن يكون هؤلاء الأمهات بالفعل القاعدة الرئيسية لمؤسسة مستقلة للمستأجرين. وفي ضوء هذه الاستراتيجية التي فكرت فيها وزعت مجموعة من استمارات الشكاوى في اجتماع الأمهات التالي، وطلبت من كل منهن أن يحصلن على آراء جيرانهن في المبنى السكني الذي يسكن فيه. ووافقن على هذه الخطة، لكن عندما انتهى الاجتماع اقتربت مني إحدى الأمهات - تسمى سادي إيفانز - حاملة في يدها قصاصة صغيرة من جريدة.
قالت: «رأيت هذا الخبر في الجريدة بالأمس يا سيد أوباما.» وأضافت: «لا أعرف ماذا يعني لكنني أردت أن أعرف رأيك فيه.»
كان هذا الخبر إشعارا قانونيا منشورا في القسم المبوب بالجريدة بخط صغير. وفحواه أن هيئة الإسكان بشيكاغو تطلب من المقاولين المؤهلين تقديم عروضهم لإزالة مادة الأسبستوس من مكتب الإدارة في ألتجيلد. سألت الأمهات هل أبلغت إحداهن بالتعرض المحتمل للأسبستوس. فهززن رءوسهن بالنفي.
سألت ليندا: «أتعتقد أن شققنا بنيت باستخدام هذه المادة؟» «لا أعرف. لكن بإمكاننا كشف النقاب عن الأمر. من منكن تريد الاتصال بالسيد أندرسون في المكتب الإداري؟»
نظرت في أرجاء الغرفة، لكن لم يرفع أحد يده. «فلتتطوع إحداكن. لا أستطيع أن أجري الاتصال الهاتفي بنفسي. ذلك لأنني لا أعيش هنا.»
وأخيرا رفعت سادي يدها. وقالت: «سأتصل أنا.»
لم أكن أفضل أن تكون سادي هي من تقوم بهذه المهمة. فهي سيدة قصيرة ضئيلة الحجم صوتها رفيع تبدو معه خجولة. كانت ترتدي فساتين لا يتجاوز طولها ركبتيها، وتحمل معها أينما ذهبت إنجيلا له غلاف من الجلد. وعلى عكس الأمهات الأخريات كانت متزوجة من شاب كان يعمل موظفا في أحد المتاجر نهارا ويتدرب ليصبح خادما في الكنيسة، ولم يكن للزوجين تعاملات مع أحد خارج كنيستهما.
كل هذه الأشياء جعلتها غير مناسبة من بين مجموعة الأمهات ولم أكن متأكدا من أنها ستكون جادة بصورة كافية للتعامل مع هيئة الإسكان بشيكاغو. لكنني عندما عدت إلى المكتب ذلك اليوم أخبرتني السكرتيرة بأن سادي حددت موعدا بالفعل مع السيد أندرسون وأنها اتصلت بالأمهات كافة لإخبارهن بهذا الأمر. وفي صباح اليوم التالي وجدت سادي واقفة بالخارج أمام مكتب إدارة ألتجيلد، تبدو كاليتيمة، بمفردها في الضباب الرطب.
قالت لي وهي تنظر إلى ساعتها: «إنك لا تنتظر مجيء أحد يا سيد أوباما، أليس كذلك؟» «ناديني باراك. استمعي إلي، ألا تزالين تريدين فعل هذا الأمر؟ إن لم تكوني تشعرين بالارتياح بخصوصه يمكننا إعادة تحديد ميعاد آخر للاجتماع إلى أن نجد أما أخرى تقوم به بدلا منك.» «لا أعرف، هل تعتقد أنه يمكن أن تواجهني أية مشكلات؟» «أعتقد أن لديك الحق في سرد المعلومات التي يمكن أن تؤثر على صحتك. لكن ذلك لا يعني أن السيد أندرسون سيفكر بهذه الطريقة. سأقف بجانبك وكذلك سائر الأمهات، لكن عليك فعل ما يبدو منطقيا لك.»
جذبت سادي معطفها إلى الأمام ونظرت مرة أخرى إلى ساعتها. وقالت وهي تتجه فجأة ناحية الباب: «يجب ألا نجعل السيد أندرسون ينتظر أكثر من ذلك.»
كان واضحا من التعبير المرسوم على وجه السيد أندرسون عندما دخلنا مكتبه أنه فوجئ بمجيئي. طلب منا الجلوس وسألنا هل نريد احتساء قهوة.
قالت سادي: «لا شكرا كثيرا.» وتابعت: «إنني أقدر فعليا موافقتك على مقابلتنا في غضون هذا الوقت القصير.» أخرجت سادي - وهي لا تزال ترتدي معطفها - الإشعار القانوني وقدمته بحذر على مكتب السيد أندرسون. وقالت: «رأت بعض الأمهات في المدرسة هذا الخبر وكنا قلقين ... حسنا أردنا أن نعرف إن كانت مادة الأسبستوس قد استخدمت في بناء شققنا.»
ألقى السيد أندرسون نظرة متعجلة على الخبر، ووضعه جانبا. قال: «لا داعي للقلق يا سيدة إيفانز. وتابع: «إننا نجدد هذا المبنى وبعد أن أزال المقاولون أحد الجدران وجدوا الأسبستوس في الأنابيب. وقد أزيلت المادة كإجراء وقائي.» «حسنا ... ألا يجب أن يتخذ الإجراء الوقائي ذاته في شققنا، أعني ألا توجد مادة الأسبستوس في شققنا أيضا؟»
وهكذا نصب الفخ وتلاقت عينا السيد أندرسون مع عيني. وقلت لنفسي إن التعتيم يمكن أن يحظى بشهرة مماثلة للشهرة التي تثيرها قضية الأسبستوس. ولا شك في أن الشهرة ستجعل مهمتي أسهل. ومع ذلك، فإنني عندما رأيت السيد أندرسون يتململ على مقعده محاولا تقدير الموقف أردت أن أسدي إليه النصيحة بأن يتوقف عما سيحاول فعله. لقد كان لدي شعور ما بأن روحه مألوفة لي؛ روح رجل متقدم في السن خدعته الحياة وكانت له نظرة كثيرا ما رأيتها في عيني جدي. وإلى حد ما أردت أن يعرف السيد أندرسون أنني فهمت المأزق الذي وقع فيه، وأردت أن أخبره بأنه ليس عليه إلا أن يشرح أن المشكلات في ألتجيلد كانت موجودة قبل وصوله، ويعترف بأنه هو أيضا في حاجة إلى المساعدة، فربما يظهر عندئذ أي حل لهذه المشكلة.
على أنني لم أتفوه ببنت شفة، وانصرف نظر السيد أندرسون عني. وقال لسادي: «لا، سيدة إيفانز.» وتابع: «لا يوجد الأسبستوس في الوحدات السكنية. ذلك لأننا وضعنا هذه الوحدات تحت الاختبار بصورة كاملة.»
قالت سادي: «حسنا، هذا أمر مريح. شكرا لك. أشكرك كثيرا.» بعد ذلك نهضت من مقعدها وصافحت السيد أندرسون وتوجهت ناحية الباب. لكنها عادت إليه مرة أخرى عندما كنت على وشك قول شيء.
قالت سادي: «عذرا.» وتابعت: «نسيت أن أسألك عن شيء. إن الأمهات الأخريات ... حسنا ... يردن الاطلاع على نسخة من هذه الاختبارات. أقصد النتائج. والهدف من ذلك أن نجعل الجميع مطمئنين على الأطفال.»
تلعثم السيد أندرسون وهو يقول: «إنني ... إن النتائج جميعها موجودة في مكتب وسط المدينة.» وتابع: «محتفظ بها في الأرشيف هناك.» «أتعتقد أن باستطاعتك إحضار نسخة منها الأسبوع القادم؟» «نعم، حسنا ... بالطبع. سأرى ما الذي أستطيع فعله. موعدنا الأسبوع القادم.»
عندما خرجنا من المكتب أخبرت سادي أنها أحسنت صنعا. «هل تعتقد أنه يقول الحقيقة؟» «لا أعرف. سنرى قريبا.» •••
مر أسبوع. واتصلت سادي بمكتب السيد أندرسون وأخبرت بأن إحضار نتائج الاختبارات سيستغرق أسبوعا آخر. مر أسبوعان ولم يرد أحد على مكالمات سادي. حاولنا الاتصال بالسيدة ريس ثم مدير المقاطعة لهيئة الإسكان بشيكاغو، ثم أرسلنا خطابا إلى المدير التنفيذي لهيئة الإسكان بشيكاغو، إلى جانب نسخة أخرى منه إلى مكتب العمدة. ولم نحصل على أي رد.
سألت بيرناديت: «ماذا سنفعل الآن؟» «سنذهب إلى وسط المدينة . إذا لم تأت النتائج إلينا فسنذهب نحن لإحضارها.»
في اليوم التالي خططنا لما سنقوم به. وكتبنا خطابا آخر إلى المدير التنفيذي لهيئة الإسكان بشيكاغو نخبره فيه بأننا سنكون في مكتبه بعد يومين للحصول على إجابات وافية بخصوص الأسئلة المطروحة بشأن الأسبستوس. ثم أصدرنا بيانا صحفيا مقتضبا. وعاد أطفال مدرسة كارفر إلى منازلهم بمنشور ملصق في ستراتهم يحث أمهاتهم على الاشتراك معنا في الأمر. وقضت سادي وليندا وبيرناديت معظم ساعات المساء يتصلن هاتفيا بجيرانهن.
وعندما جاء يوم الحساب لم أجد سوى ثمانية أشخاص في الأتوبيس الأصفر الذي كان واقفا أمام المدرسة. وقفت أنا وبيرناديت في موقف السيارات محاولين اجتذاب أمهات أخريات وقت حضورهن لأخذ أولادهن من المدرسة. لكنهن قلن إن لديهن مواعيد مع الأطباء أو لا يستطعن إيجاد جليسات أطفال ليجلسن معهن وقت غيابهن. إلى جانب ذلك لم يهتم بعضهن بإبداء أي اعتذارات، بل مررن بجانبنا كما لو كنا متسولين نستجدي الطعام والمال. وعندما وصلت أنجيلا ومنى وشيرلي لمعرفة كيف تطورت الأمور أصررت على أن يركبن معنا لتقديم دعم معنوي. حيث بدا الجميع محبطا ما عدا تايرون وجويل اللذين كانا مشغولين برسم تعبيرات مضحكة على وجوههما وهما ينظران إلى السيد لوكاس، الأب الوحيد في المجموعة. اتجهت الدكتورة كوليار نحوي ووقفت بجانبي.
قلت: «أعتقد أننا اكتملنا.»
قالت لي: «أفضل مما توقعت.» وتابعت: «إنه جيش أوباما.» «هذا صحيح.»
قالت وهي تربت على ظهري: «حظ سعيد.»
تحرك الأتوبيس ومر بجانب مستوقد حرق القمامة القديم ومصنع رايرسون ستيل للصلب، واتجه نحو متنزه جاكسون بارك، ومنه إلى طريق ليك شور درايف. وعندما اقتربنا من وسط المدينة وزعت نسخة من الخطة وطلبت من الجميع قراءتها بدقة. وفي أثناء انتظاري انتهاءهم من القراءة لاحظت أن السيد لوكاس قاطب الجبين وعابس. وفي الواقع كان السيد لوكاس رجلا لطيفا قصير القامة، وكان يتلعثم قليلا في حديثه ويعمل في ألتجيلد في وظائف لبعض الوقت، وكان يساعد أم أطفاله قدر استطاعته. اتجهت نحوه وسألته هل ضايقه شيء.
قال بهدوء: «لا أجيد القراءة .»
وبعدها نظرنا معا إلى الصفحة الممتلئة بالكلمات.
قلت له: «لا توجد مشكلة.» سرت نحو مقدمة الأتوبيس وتابعت: «استمعوا إلي جميعا! سنقرأ الخطة معا للتأكد من أننا فهمناها على نحو صائب. ما مطلبنا؟» «عقد اجتماع مع المدير!» «أين؟» «في ألتجيلد!» «ماذا لو قالوا إنهم سيردون علينا لاحقا؟» «إننا نريد الرد الآن!» «ماذا إن فعلوا شيئا لا نتوقعه؟» «إننا يد واحدة!»
صاح تايرون: «محتالون!»
كان مقر مكتب هيئة الإسكان بشيكاغو في مبنى رمادي قوي في وسط مدينة شيكاغو. نزل الجميع من الأتوبيس ودخلنا الردهة وازدحم المصعد بنا. وفي الدور الرابع دخلنا قاعة الانتظار المضاءة إضاءة ساطعة حيث كانت تجلس موظفة استقبال خلف مكتب فخم.
قالت وهي لا تكاد ترفع عينيها من المجلة التي كانت تتصفحها: «هل أستطيع مساعدتكم؟»
قالت سادي: «إننا نريد مقابلة المدير من فضلك.» «هل لديكم موعد معه؟» «إنه ...» استدارت سادي نحوي، فقلت: «إنه يعلم أننا قادمون.» «حسنا، إنه ليس بمكتبه الآن.»
قالت سادي: «من فضلك اعرضي الأمر على نائبه.»
نظرت موظفة الاستقبال لنا نظرة عدائية، لكننا أصررنا على موقفنا. فقالت في النهاية: «تفضلوا بالجلوس.»
جلس أولياء أمور الأطفال وعم الصمت الجميع. وأشعلت شيرلي سيجارة لكن أنجيلا ضربتها في ضلوعها بمرفقها. «من المفترض أننا مهمومون بأمر الصحة، هل تتذكرين؟»
همهمت شيرلي بتذمر وهي تقول: «فات أوان ذلك لي»، لكنها أعادت علبة السجائر إلى حقيبتها مرة أخرى. وخرج مجموعة من الرجال في ملابسهم الرسمية من الباب الموجود خلف مكتب موظفة الاستقبال ونظروا إلينا نظرة سريعة في طريقهم إلى المصعد. همست ليندا في أذن بيرناديت وردت لها الأخرى الهمسة.
فقلت بصوت مرتفع: «بم تتهامسان؟»
قهقهتا. وقالت بيرناديت: «أشعر بأنني في انتظار مقابلة مديرة المدرسة.»
قلت: «أعيروني أسماعكم.» وتابعت: «إنهم يؤسسون هذه المكاتب الكبيرة لغرس الشعور بالخوف بداخلكم. ولكن تذكروا أن هذه هيئة «عامة». الناس الذين يعملون هنا مسئولون أمامكم.»
قالت لنا موظفة الاستقبال بصوت عال يطابق علو صوتي: «عذرا.» وتابعت: «لقد أخبرت بأن المدير لن يكون قادرا على مقابلتكم اليوم. عليكم إخبار السيد أندرسون في ألتجيلد بأية مشكلات تعانونها.»
قالت بيرناديت: «استمعي إلي.» وتابعت: «لقد قابلنا السيد أندرسون بالفعل. وإذا لم يكن المدير موجودا الآن فإننا نريد مقابلة نائبه.» «إنني آسفة لكن هذا غير ممكن.» وتابعت: «إذا لم تغادروا المكتب الآن فسأضطر إلى استدعاء الأمن.»
في هذه اللحظة، فتحت أبواب المصعد ودخل العديد من مصوري التليفزيون والعديد من الصحفيين. وسألني أحدهم قائلا: «هل هذا هو احتجاج بشأن الأسبستوس؟»
أشرت إلى سادي. وقلت: «هذه هي المتحدثة الرسمية عنا.»
بدأ طاقم المصورين في الاستعداد وأخرج الصحفيون مذكراتهم. واستأذنت منهم سادي وأخذتني جانبا.
قالت: «لا أريد التحدث أمام الكاميرات.» «لماذا؟» «لا أعرف. لكنني لم أظهر في التليفزيون من قبل.» «ستبلين بلاء حسنا.»
وفي غضون بضع دقائق بدأت الكاميرات تصور وعقدت سادي بصوتها المرتعد قليلا أول مؤتمر صحفي لها. وعندما بدأت الرد على الأسئلة أسرعت سيدة - ترتدي حلة حمراء وتضع بإفراط زينة على رموشها - تجاه منطقة الاستقبال. ابتسمت هذه السيدة بتحفظ لسادي وقدمت نفسها على أنها الآنسة برودناكس، مساعدة المدير. وقالت: «إنني آسفة جدا لعدم وجود المدير. وتابعت قائلة: «تفضلوا معي وأنا متأكدة من أننا سنحل هذا الأمر.»
صاحت صحفية: «هل تحتوي الوحدات السكنية التي تقدمها هيئة الإسكان بشيكاغو على الأسبستوس؟» «هل سيقابل المدير الأمهات؟»
صاحت الآنسة برودناكس من خلف الصحفية: «إننا معنيون بالمحصلة النهائية الأفضل للقاطنين هناك.» بعد ذلك تبعناها إلى غرفة كبيرة بها العديد من المسئولين العابسين الذين كانوا جالسين بالفعل حول طاولة اجتماعات. علقت الآنسة برودناكس على مدى لطف الأطفال وعرضت على الجميع احتساء القهوة وتناول الكعك.
قالت ليندا: «لا نريد تناول الكعك.» وأردفت: «إننا نريد إجابات عن أسئلتنا.»
وهكذا كان الحال. دون أن أنطق بأية كلمة اكتشف أولياء الأمور أنه لم يجر أي اختبار، ووعدوا بأن الاختبارات ستبدأ فعليا بنهاية هذا اليوم. بالإضافة إلى ذلك اتفقوا على عقد اجتماع مع المدير وحصلوا على مجموعة من بطاقات التعارف، وشكروا الآنسة برودناكس على منحهم وقتها. أعلن عن يوم الاجتماع إلى الصحافة قبل أن يزدحم بنا المصعد للنزول لأسفل لركوب الحافلة. وعندما خرجنا إلى الشارع أصرت ليندا على أن أدعو الجميع - بما فيهم سائق الحافلة - على فشار بالكراميل، وعندما بدأ الأتوبيس يتحرك حاولت تقييم خطتنا، موضحا أهمية الإعداد وكيف تكاتف الجميع في عمل جماعي كفريق.
قالت: «هل رأيتم وجه السيدة عندما رأت الكاميرات؟» «وهل رأيتموها وهي تتعامل بلطف مع الأطفال؟ كل ما هنالك أنها تحاول أن تكون لطيفة معنا حتى لا نطرح أي سؤال.» «ألم تكن سادي رائعة؟ لقد جعلت كلا منا يشعر بالفخر يا سادي.» «اتصلت بابنة عمي للتأكد من أن جهاز الفيديو الخاص بها يعمل. إننا سنظهر على شاشة التليفزيون.»
حاولت أن أمنع الجميع من أن يتحدثوا فورا، لكن منى شدتني من قميصي. وقالت لي: «توقف عن ذلك يا باراك. أسمعت؟» وأعطتني كيس فشار. وقالت: «تناوله.»
جلست بجانبها. وحمل السيد لوكاس الأطفال على حجره لمشاهدة نافورة باكينجهام. وفي حين كنت أمضغ حبات الفشار الصلبة وأنظر إلى البحيرة - الهادئة الفيروزية اللون - حاولت استدعاء لحظة أكثر إرضاء لذاتي. •••
لقد تغيرت نتيجة لهذه الرحلة تغيرا جوهريا. كان تغيرا مهما ليس لأنه غير ظروفي المادية الملموسة بطريقة أو بأخرى (حيث الثروة والأمان والشهرة)، لكن لأنه أشار ضمنا إلى ما يمكن أن يكون متاحا، ومن ثم دفعني وقدم لي الدعم والتشجيع الكافيين - بصرف النظر عن الشعور الحالي بالفرحة البالغة وأي شعور تال بالإحباط - لاستعادة شيء كان في حوزتي من قبل، حتى ولو لبرهة قصيرة. كان الطريق الذي سلكناه بالحافلة هو ما شجعني على الاستمرار. وأعتقد أنه ربما لا يزال يشجعني.
كانت الشهرة أمرا لطيفا دون شك. وفي مساء اليوم التالي لعودتنا من مكتب هيئة الإسكان بشيكاغو كان وجه سادي يظهر على جميع شاشات التليفزيون. واكتشفت الصحافة - التي اشتمت رائحة المشكلات - أن مشروعا آخر بالجانب الجنوبي استخدمت فيه أنابيب مبطنة بالأسبستوس الفاسد. وبدأ أعضاء مجلس المدينة يطالبون بإجراء تحقيقات فورية. واتصل المحامون للإعداد لرفع دعوى قضائية جماعية.
على النقيض من ذلك، فإن الأمر، من وجهة نظري، كان بعيدا كل البعد عن هذه الجوانب، في أثناء إعدادنا للاجتماع مع مدير هيئة الإسكان بشيكاغو بدأت ألاحظ حدوث أشياء رائعة. فقد بدأ أولياء الأمور يتحدثون عن أفكار متعلقة بحملات مستقبلية. واشترك بالفعل أولياء أمور جدد. ووضع الاستفتاء الذي خططنا له فيما سبق موضع التنفيذ، وبدأت ليندا - التي اقتربت من وضع طفلها - تتهادى في مشيتها وهي منتفخة البطن من منزل لآخر لتجميع استمارات الشكاوى، وشرح السيد لوكاس لجيرانه كيف يملئون هذه الاستمارات بصورة صحيحة، مع أنه هو نفسه كان يعجز عن قراءة هذه الشكاوى. حتى إن هؤلاء الذين عارضوا مجهوداتنا بدءوا يغيرون آراءهم ويشتركون معنا؛ فقد وافقت السيدة ريس على دعم الحدث وسمح القس جونسون لبعض أعضائه بالإعلان عن حملتنا في خدمة الأحد. وهكذا فجرت خطوات سادي المحدودة والصادقة ينابيع الأمل لتسمح للناس في ألتجيلد باستعادة سلطة كانت في حوزتهم من البداية.
كان من المقرر أن يعقد الاجتماع في صالة الألعاب الرياضية بكنيسة أوار ليدي لأنها كانت المبنى الوحيد في ألتجيلد الذي كان بمقدوره استيعاب 300 شخص أملنا في حضورهم. وصل القادة إلى مكان الاجتماع مبكرا عن الموعد بساعة وراجعنا مطالبنا للمرة الأخيرة، التي تمثلت في أن تتعاون مجموعة من السكان مع هيئة الإسكان بشيكاغو لضمان استمرار مراقبة وجود الأسبستوس وعدم انتشار استخدامه، وأن تضع الهيئة جدولا زمنيا صارما لإجراء الإصلاحات. وفي أثناء مناقشة مجموعة من التفاصيل في اللحظات الأخيرة لفت نظري عامل الصيانة هنري إلى نظام تكبير الصوت. «ما المشكلة؟» «إن النظام لا يعمل. يبدو أن هناك اختلالا في تشغيل الدائرة الكهربية أو ما شابه.» «إذن أليس لدينا ميكروفون؟» «نعم. وبذلك ستضطر إلى استخدام هذا.» أشار عامل الصيانة إلى مكبر صوت واحد بحجم حقيبة سفر صغيرة ملحق به ميكروفون حالته سيئة معلق بسلك واحد يكاد أن ينقطع. جاءت سادي وليندا بجانبي وحملقتا في الصندوق البدائي.
وقالت ليندا: «لا بد أنك تمزح.»
ضربت على المايك. وقلت: «سيفي بالغرض ، وليس عليكما إلا أن تتحدثا فيه.» بعد ذلك قلت وأنا أنظر إلى مكبر الصوت: «لكن حاولا ألا يمسك المدير بالميكروفون أكثر من اللازم. وإلا فإنه سيتحدث لساعات. امسكا به حتى لا يتحدث إلا بعد أن تطرحا عليه الأسئلة. تماما مثل أوبرا وينفري.»
قالت سادي وهي تنظر إلى ساعتها: «إن لم يأت أحد فلن نحتاج إلى ميكروفون.»
حضر الناس. حضروا من جميع المناطق في الجاردنز؛ الشيوخ والمراهقون والأطفال. وفي تمام السابعة كان قد وصل 500 شخص، وفي السابعة و15 دقيقة وصل عدد الحضور إلى 700 فرد. وبدأ أعضاء أطقم العمل في التليفزيون يضعون كاميراتهم وطلب منا السياسيون المحليون الحاضرون أن نعطيهم فرصة لإثارة حماسة الجمهور. أما مارتي الذي جاء لمشاهدة الحدث فإنه لم يستطع الاحتفاظ بهدوئه وعدم التحدث.
قال: «لقد حققت شيئا هنا بالفعل يا باراك. وهؤلاء الناس جاهزون للتحرك.»
كان كل شيء على ما يرام ما عدا مشكلة واحدة، وهي أن المدير لم يكن قد وصل بعد. وقالت الآنسة برودناكس إنه عالق بالطريق؛ لذا قررنا أن نبدأ بأول جزء من برنامج العمل المحدد. وبعد انتهاء المناقشة التمهيدية كانت عقارب الساعة قد أعلنت تمام الثامنة. وسمعت الناس يتذمرون وهم يحركون الهواء حول وجوههم في هذا المكان الحار الخالي من الهواء النقي. بالقرب من الباب رأيت مارتي وهو يحاول قيادة الجمهور في أنشودة. وانتحيت به جانبا: «ماذا تفعل؟» «إنك تفقد الناس. ولا بد من فعل شيء للإبقاء على حماسهم.» «اجلس من فضلك.»
كنت على وشك إلغاء الاجتماع والتحدث مع الآنسة برودناكس بهذا الخصوص، عندما علت الضوضاء من الجزء الخلفي لصالة الألعاب الرياضية ودخل المدير من الباب ومن حوله عدد من المساعدين. كان رجلا أسود اللون أنيقا متوسط البنية في بداية الأربعينيات من عمره. أخذ يعدل رابطة عنقه ويتجه نحو مقدمة الغرفة وعلى وجهه ملامح الجدية.
قالت سادي في الميكروفون: «مرحبا.» وأضافت: «إن لدينا جمهورا كبيرا في حاجة إلى التحدث معك.»
صفق الحضور وسمعنا بعض صيحات الاستهجان. ودارت أضواء التليفزيون.
قالت سادي: «إننا مجتمعون هنا الليلة للتحدث بشأن مشكلة تهدد صحة أطفالنا. لكن قبل أن نتحدث عن الأسبستوس نحتاج إلى التعامل مع المشكلات التي ننصهر معها يوميا في بوتقة واحدة. ليندا؟»
سلمت سادي الميكروفون إلى ليندا التي استدارت ناحية المدير وأشارت إلى مجموعة استمارات الشكاوى. «السيد المدير، إننا لا نتوقع جميعنا في ألتجيلد حدوث معجزات. لكننا نتوقع الحصول على الخدمات الأساسية. هذا هو كل ما في الأمر. الخدمات الأساسية. والآن فإن هؤلاء الناس أتعبوا أنفسهم في ملء هذه الاستمارات بنظام ووضوح شديدين لذكر الأشياء التي طالما طالبوا هيئة الإسكان بشيكاغو بإصلاحها، لكن يد الإصلاح لم تطلها قط. لذا فإن سؤالنا الآن هو: هل تقبل التعاون معنا - هذه الليلة أمام كل هؤلاء السكان - لإجراء هذه الإصلاحات؟»
في الواقع، الأحداث التي جرت في اللحظات التالية مختلطة في ذاكرتي وغير واضحة. لكن حسبما أتذكر فإن ليندا قدمت الميكروفون إلى المدير ليدلي بإجابته، وعندما اقترب من الميكروفون أخذته ليندا مرة أخرى.
وقالت: «فلتكن إجابتك بنعم أو لا من فضلك.» ذكر المدير شيئا أوحى بأنه سيرد بأسلوبه الخاص ومد يده مرة أخرى لأخذ المايك. لكن ليندا سحبته تجاهها هذه المرة أيضا، وفي هذه المرة فقط بدا الأمر وكأنه استهزاء ما بالرجل مثله مثل حركة الطفل الذي يغيظ أحد أقرانه ببسكويت الآيس كريم. حاولت أن ألوح إلى ليندا لتتغاضى عما قلته قبل الاجتماع بخصوص الميكروفون وتعطيه للمدير، لكنني كنت واقفا في المؤخرة بعيدا جدا عنها. وفي الوقت نفسه أمسك المدير بسلك المايك وللحظة نشأ نزاع بين المسئول الشهير والسيدة الحامل التي كانت ترتدي بلوزة وبنطلونا ضيقين. ومن خلفهما وقفت سادي ثابتة دون حراك، وجهها لامع وعيناها واسعتان. بدأ الجمهور - وهم غير فاهمين ما يحدث - في الصياح، بعضهم في وجه المدير والبعض الآخر في وجه ليندا.
بعد ذلك ... حدث هرج ومرج. أخلى المدير سبيل سلك الميكروفون، واتجه نحو باب الخروج. وأسرع الناس الجالسون بالقرب من الباب وراءه لكنه انطلق سريعا. جريت وراءه، وعندما تمكنت من الخروج بشق الأنفس كان المدير قد أمن نفسه وركب سيارته الليموزين التي أحاطتها أعداد كبيرة من الناس، الذين وضع بعضهم وجوههم أمام زجاج النوافذ الملون وضحك بعضهم الآخر، وتذمر آخرون ووقف معظمهم في أماكنهم مذهولين. أخذت السيارة تتقدم ببطء شديد، بمقدار بوصة في كل حركة إلى الأمام، إلى أن فتح الطريق أمامها، وأسرعت - متحركة بصعوبة فوق الشارع المليء بالحفر - وتخطت الرصيف إلى أن اختفت عن الأنظار.
عدت إلى صالة الألعاب الرياضية ماشيا وأنا في حالة من الذهول والاضطراب وأمامي جماهير غفيرة عائدة إلى منازلها. وبالقرب من الباب تجمع الناس في دائرة صغيرة حول شاب يرتدي سترة جلدية بنية اللون، عرفت أنه مساعد عضو مجلس المدينة.
كان هذا الشاب يقول للناس من حوله: «إن هذا من عمل فردولياك. لا بد أنكم رأيتم الرجل الأبيض وهو يثير الناس. إنهم يحاولون تشويه صورة هارولد.»
بعد هذا التجمع ببضعة أقدام رأيت السيدة ريس والعديد من مساعديها وهي تتحدث. أشارت إلي بكلمات لاذعة: «أرأيت ما فعلت!» وتابعت: «إن هذا ما يحدث عندما تحاول إشراك هؤلاء الشباب في الأمر. إنك تسببت في إحراج أهل الجاردنز في التليفزيون وكل وسائل الإعلام. ورآنا ذوو البشرة البيضاء ونحن نتعامل مثل الزنوج الحمقى! تماما مثلما توقعوا منا.»
لم يتبق داخل مكان عقد الاجتماع سوى بعض أولياء الأمور. ووقفت ليندا في أحد الأركان تبكي بحرقة. اتجهت نحوها ووضعت ذراعي حول كتفها.
وقلت: «هل أنت بخير؟»
قالت وهي تحاول إرجاع دموعها: «إنني محرجة للغاية.» وتابعت: «لا أعرف ماذا حدث يا باراك. في ظل حضور كل هؤلاء الناس ... يبدو أنني دائما ما أفسد الأمور.»
قلت لها: «إنك لا تفسدين الأمور. وإذا كان هناك من فعل ذلك فلا بد أنه أنا.» جمعت الآخرين حولها وحاولت أن أشجعهم. وقلت إن عدد الحضور كان هائلا، وهذا يعني أن الناس كانوا مستعدين للمشاركة وأن معظمهم لا يزالون يدعمون مجهوداتنا. ولا بد أن نتعلم من أخطائنا.
قالت شيرلي: «ومن المؤكد أن المدير الآن يعرف من نكون.»
أثارت هذه الجملة بعض الضحكات الواهنة. وقالت سادي إنها مضطرة للعودة إلى المنزل، أما أنا فقد أخبرت المجموعة أن باستطاعتي ترتيب المكان. وعندما شاهدت بيرناديت وهي تحمل تايرون نائما بذراع واحدة وتشعر بالتعب من ثقل وزنه وهي تتجول في المكان، شعرت بتقلص في معدتي. ربتت دكتورة كوليار على كتفي.
وسألتني: «إذن من يستطيع أن يخفف عنك ما تشعر به؟»
هززت رأسي. «لقد أقبلت على المخاطرة أملا في تحقيق ما تريد، وستتحسن الأحوال بين الحين والآخر.» «لكن النظرات التي تعلو وجوههم ...»
قالت كوليار: «لا تقلق.» وتابعت: «إنهم صامدون. لكن ليس كما يبدو - بما فيهم أنت ونحن جميعا. وهم سيتغلبون على المشكلة. ذلك لأن حدوث شيء كهذا يعد جزءا من بلوغ مرحلة النضج. وفي بعض الأحيان تكون هذه المرحلة مؤلمة.» •••
كان يمكن أن تصبح النتائج العكسية أسوأ. لكن لأننا بدأنا الاجتماع في وقت متأخر عن الوقت المحدد له فلم تستطع سوى محطة تليفزيونية واحدة إعادة عرض تلك الحرب بين ليندا والمدير. وعلقت إحدى الصحف صباحا على الإحباط الذي شعر به السكان نتيجة استجابة هيئة الإسكان البطيئة لمشكلة الأسبستوس وتأخر المدير مساء الاجتماع. وفي الواقع فإنه كان باستطاعتنا أن نعلن أن الاجتماع كان نصرا من نواح عدة؛ ففي الأسبوع التالي رأى البعض في منطقة الجاردنز رجالا يرتدون ملابس واقية وأقنعة يمنعون تسرب الأسبستوس الذي هدد بإلحاق مخاطر فورية. وأعلنت هيئة الإسكان بشيكاغو أنها طالبت وزارة الإسكان والتنمية الحضرية الأمريكية بإيداع عدة ملايين من الدولارات في صناديق التمويل الطارئة لعمليات الإصلاح.
ساعدت هذه الامتيازات في رفع الروح المعنوية لبعض أولياء الأمور، وبعد بضعة أسابيع من تضميد جراحنا والخروج من حالة الإحباط التي عشنا فيها بدأنا تنظيم اجتماع آخر للتأكد من أن هيئة الإسكان أوفت بالتزاماتها. وعلى الأقل في ألتجيلد فقط، لم أستطع أن أزعزع شعورهم بأن نافذة الاحتمالات التي لم تكد تفتح إلا لوقت وجيز أغلقت وبعنف مرة أخرى. استمرت ليندا وبيرناديت والسيد لوكاس في العمل في مشروع التنمية المحلية، وإن كان على مضض، إخلاصا منهم لي أكثر من إخلاصهم بعضهم لبعض. أما عن السكان الآخرين الذين اشتركوا معنا في الأسابيع السابقة للاجتماع فإنهم أقلعوا عن المشاركة. ورفضت السيدة ريس التحدث معنا نهائيا. وفي حين لاحظ بعض الناس اتهاماتها لنا ولأساليبنا ودوافعنا فإن الشجار الذي حدث فقط هو الذي أكد الشك بين السكان في أن المشاركة النشطة مهما كان قدرها لن تغير أحوالهم، إلا أنها ربما تسبب مشكلات هم في غنى عنها.
بعد قرابة شهر من عمليات الإصلاح المبدئية تقابلنا مع وزارة الإسكان والتنمية الحضرية لمحاولة إقناع المسئولين بشأن طلب الميزانية الخاصة بهيئة الإسكان بشيكاغو. وإلى جانب صناديق التمويل الطارئة لعمليات الإصلاح طالبت هيئة الإسكان بشيكاغو المسئولين الفيدراليين بأكثر من مليار دولار لإجراء الإصلاحات الأساسية على المشاريع في جميع أنحاء المدينة. وأخذ رجل أبيض طويل القامة حازم يعمل في وزارة الإسكان والتنمية الحضرية يقرأ المبالغ المطالب بها. «دعوني أكن واضحا معكم.» وتابع: «إن هيئة الإسكان بشيكاغو ليست أمامها أية فرصة في الحصول حتى على نصف ما طالبت به. ولا نستطيع أن نفعل شيئا إلا إزالة الأسبستوس من المباني. أو تركيب مواسير جديدة وبناء أسطح للمنازل عند الحاجة. لكن في الواقع لا يمكنكما الحصول على المطلبين.»
قالت بيرناديت: «إذن فإنك تخبرنا أننا بعد كل ذلك سنكون في حال أسوأ مما كنا عليها.» «حسنا، ليس بالضبط. لكن تلك هي الأولويات المتاحة أمامنا للميزانية القادمة من واشنطن هذه الأيام. أنا آسف.»
رفعت بيرناديت تايرون على حجرها. وقالت: «أخبره بذلك.»
قررت سادي ألا تشترك معنا في هذا الاجتماع. واتصلت بي لتخبرني أنها قررت أن تتوقف عن العمل في مشروع التنمية المحلية. «لا يعتقد زوجي أنها فكرة جيدة؛ أن أقضي كل هذا الوقت في العمل بدلا من أن أعتني بعائلتي. ويقول إن الشهرة جعلتني متكبرة ... وإنني أصبحت متعجرفة.»
اقترحت عليها أنها لا بد أن تظل معنا ما دامت عائلتها تعيش في الجاردنز.
لكنها قالت: «لن يتغير شيء يا سيد أوباما.» وتابعت: «إننا لن نركز إلا على ادخار أموالنا حتى نستطيع الانتقال من هنا سريعا قدر استطاعتنا.»
الفصل الثالث عشر
«ما الدنيا إلا مكان.» «ماذا؟ أتقول ما الدنيا إلا مكان؟» «نعم هذا هو ما أقوله.»
عدنا إلى السيارة بعد تناول العشاء في الهايد بارك وكان جوني في حالة مزاجية سعيدة دفعته للتحدث دون تحفظ. وعادة ما يكون كذلك خاصة بعد تناول وجبة رائعة واحتساء الخمر. في أول لقاء لي به - عندما كان لا يزال يعمل مع إحدى جماعات المجتمع المدني في وسط المدينة - بدأ يشرح لي العلاقة بين موسيقى الجاز والأديان الشرقية، وبعدها انحرف فجأة للحديث عن مؤخرات السيدات السوداوات، ثم انتقل بعدها الحديث لسياسة البنك المركزي الأمريكي. في هذه اللحظات كانت تتسع عيناه وتتسارع وتيرة حديثه ويتألق وجهه المستدير الملتحي بدهشة طفولية. وكان ذلك جزءا من سبب تعييني لجوني؛ المتمثل - حسب اعتقادي - في فضوله وتقديره للأشياء المنافية للعقل. لقد كان فيلسوف المآسي.
قال لي جوني: «سأضرب لك مثلا.» وتابع: «منذ بضعة أيام ذهبت لحضور اجتماع في مقر ولاية إلينوي. وبالطبع إنك تعلم كيف أن هذا المبنى مفتوح من المنتصف، أليس كذلك ... بالإضافة إلى شكل الردهة الكبيرة وما إلى ذلك. حسنا، تصادف تأخر الرجل الذي كان من المفترض أن أقابله، فحدث - وأنا واقف أنظر إلى القاعة من الطابق الثاني عشر ومتمعن في الفن المعماري الذي استخدم في البناء - أن طارت جثة أمام عيني على حين غرة ساقطة على الأرض. كان حادث انتحار.» «إنك لم تذكر لي شيئا بخصوص هذا الأمر.» «نعم، لا أعرف كيف أقول لك، إن هذا الحادث أثر في بصورة كبيرة. تخيل أنني في هذا الارتفاع استطعت سماع صوت ارتطام الجثة بالأرض وكأنني بجانبها تماما. كم كان رهيبا ذلك الصوت! وبعدما سقطت الجثة، وسرعان ما اندفع موظفو المبنى إلى درابزين السلم لرؤية ما حدث. وكنا جميعا ننظر لأسفل فتأكدنا أن الجثة راقدة على الأرض، منكمشة حول نفسها وبلا حراك. وبدأ الناس يصرخون ويغطون أعينهم بأيديهم. لكن الشيء الغريب هو رجوعهم إلى الدرابزين مرة أخرى للنظر من جديد. ثم يصرخون ويغطون أعينهم من جديد. والسؤال هو لماذا يفعلون ذلك؟ وماذا كانوا يتوقعون أن يجدوا عندما عادوا لينظروا في المرة الثانية؟ لكن كما تعلم فالناس غرباء . ونحن لا نستطيع التحكم في أنفسنا في مثل هذه المواقف المروعة ...
على أية حال، جاء رجال الشرطة وطوقوا المكان وأخذوا الجثة بعيدا. وبدأ عمال النظافة في المبنى ينظفون المكان بالمكنسة. هذا دون استخدام أية أدوات خاصة؛ فقط مكنسة وممسحة. كانوا يكنسون حياة. وفي قرابة خمس دقائق انتهت عملية النظافة. وبدا الأمر منطقيا على ما أعتقد ... أقصد أن الأمر بدا وكأنهم ليسوا في حاجة إلى أية معدات أو سترات خاصة أو شيء من هذا القبيل. لكن هذا جعلني أفكر في شعوري لو كنت واحدا من هؤلاء العمال وأنا أنظف المكان من أشلاء أحد الأشخاص. لا بد أن ينظف أحد الأشخاص المكان، أليس كذلك؟ لكن ماذا سيكون شعورك وأنت تتناول عشاءك في المساء بعدما أديت هذه المهمة؟» «من قفز؟» «هذا موضوع آخر يا باراك!» أخذ جوني نفسا من سيجارته وتصاعدت دوائر الدخان من فمه. وقال: «كانت فتاة بيضاء صغيرة، ربما في السادسة أو السابعة عشرة من عمرها، وكانت تشبه عازفي موسيقى البانك روك، إلى جانب أن شعرها كان أزرق اللون وكانت تضع حلقة في أنفها. بعد فترة تساءلت عما كانت تفكر فيه عندما كانت في المصعد. أقصد أنه لا بد أن أفرادا آخرين كانوا بجانبها وهي في طريقها لأعلى. ربما أمعنوا النظر إليها واستخلصوا أنها غريبة الأطوار، ثم عادوا إلى التفكير في شئونهم الخاصة. هذه الشئون تشمل الترقي الوظيفي أو في مباراة فريق شيكاغو بولز لكرة السلة أو غير ذلك. وفي كل هذه الأثناء كانت الفتاة واقفة بجانبهم، وكل هذا الألم يعتصرها. لا بد أن ما بداخلها كان ألما هائلا لأنها قبل أن تقفز مباشرة حتما كانت تنظر لأسفل وتعرف أن ما ستفعله سيؤلمها.»
أطفأ جوني السيجارة. وقال: «إذن هذا هو ما أقوله يا باراك. تمثلت بانوراما الحياة بأكملها في هذا الحدث. أشياء مجنونة تحدث من حولنا. وتجد نفسك تتساءل: هل تحدث هذه الأشياء في مكان آخر؟ وهل كانت لها سابقة من قبل؟ ألم تسأل نفسك هذه الأسئلة إطلاقا؟»
أعدت ترديد عبارته الأولى: «ما الدنيا إلا مكان.» «انظر هناك! إنه أمر جدي حقا.»
كنا قد وصلنا تقريبا إلى سيارة جوني عندما سمعنا فرقعة صغيرة لم تستمر وقتا يذكر، مثل فرقعة البالون. نظرنا في اتجاه الصوت ورأينا شابا يظهر من أحد الأركان ويتقدم في اتجاهنا في خط مائل. لا أتذكر بوضوح ملامحه وماذا كان يرتدي، مع أني لاحظت أن عمره لا يتخطى الخامسة عشرة. ولا أتذكر إلا أنه جرى بخطوات يائسة ودبت قدماه بحذائه الخفيف على الرصيف بلا صوت تقريبا وتحركت أطرافه الطويلة الرفيعة بقوة وعنف وتضخم صدره كما لو كان يحاول التحرر من حبل وهمي ملفوف حوله.
انبطح جوني على أرض عشبية أمام إحدى الشقق، وسرعان ما حذوت حذوه. وبعد ثوان قليلة ظهر صبيان آخران في الركن نفسه يجريان بأقصى سرعة. لوح أحدهما بمسدس صغير، وكان قصير القامة وإلى حد ما ممتلئ القوام ويرتدي بنطلونا مطويا حول الكاحلين. أطلق هذا الصبي ثلاث طلقات نارية في اتجاه الصبي الأول دون أن يتوقف محاولا أن يصيبه. وبعد أن أدرك أنه لم يصبه مشى ببطء واضعا السلاح تحت قميصه. وبجانبه جاء زميله النحيف الكبير الأذنين.
قال الصبي النحيف: «حقير غبي!» ثم بصق بارتياح، وضحك الاثنان معا قبل الاستمرار في المشي إلى أسفل الشارع، وكان لجسديهما ظلان قصيران ممتلئان على الأسفلت. •••
جاء الخريف التالي والشتاء الذي تلاه. وتعافيت من الشعور باليأس والإحباط الناتج عن حملة الأسبستوس وتعاملت مع قضايا أخرى وقادة آخرين. وساعد وجود جوني في التخفيف عني من ضغط العمل وكانت ميزانيتنا مستقرة، وبذلك فإن ما أضعته في حماسة الشباب استطعت تعويضه بالخبرة العملية. وفي الواقع ربما كانت الألفة المتزايدة مع المكان - إلى جانب خبرة الزمان - هي التي منحتني الشعور بأن هناك شيئا مختلفا يحدث لأطفال الجانب الجنوبي في ذلك الربيع عام 1987م؛ جرى تخطي حدود خفية، وعادت تظهر صفحة من صفحات القبح.
لم يكن هناك شيء محدد استطعت الإشارة إليه أو إحصائيات حاسمة، فلم يكن هناك شيء مختلف عن حوادث إطلاق النار من السيارات المتحركة ، وصافرات عربات الإسعاف، والأصوات الصادرة ليلا من الأحياء التي هجرها ساكنوها وتركوها أرضا خصبة للمخدرات وحروب العصابات والسيارات الهاربة بسرعة الريح، والتي نادرا ما كانت الشرطة أو الصحافة تتجرأ على دخولها حتى يعثر على جثة ملقاة على الرصيف، وبرك الدم المبعثر بغير انتظام. في أماكن مثل ألتجيلد تتناقل سجلات السجون من الآباء إلى الأبناء على مدار أكثر من جيل، وفي أوائل أيامي في شيكاغو رأيت جماعات صغيرة من الصبية - في الخامسة أو السادسة عشرة من عمرهم - يعيشون في زوايا شارع ميشيجان أو شارع هولستيد، مغطين رءوسهم وأعناقهم، وأحذيتهم مفكوكة الرباط ويضربون بأرجلهم الأرض في إيقاع غير منظم في شهور السنة الباردة، وفي الصيف يرتدون قمصانا، ويتصلون من الهواتف العامة على من يتصل بهم على أجهزة الاستدعاء التليفوني الخاصة بهم، على أن هذه الجماعة الصغيرة سرعان ما ينفرط عقدها عندما تعبر سيارات الشرطة بجانبهم بصمتها المباغت.
كان التغير الذي شعرت به أكثر من تغير في الحالة العامة، مثله مثل الشعور بالكهرباء الصادرة من عاصفة على وشك أن تهب. وقد شعرت به وأنا عائد إلى المنزل ذات مساء عندما رأيت أربعة صبية طوال القامة يمشون بجانب مبنى سكني محاط بالأشجار بكسل شديد ويقطعون صفا من الشتلات الصغيرة التي كان زوجان مسنان قد انتهيا للتو من زراعتها أمام منزلهما. شعرت به كلما نظرت إلى أعين الشباب الجالسين على كراسي متحركة الذين بدءوا يظهرون في الشوارع في هذا الربيع؛ هؤلاء الشباب الذين أصابهم الشلل وهم في ريعان الشباب والذين إذا نظرت إلى أعينهم وجدتها خالية من أي دليل على التأثر بحالهم، كانت نظرات أعينهم هادئة وقاسية وتخيف أكثر مما تلهم.
وهذا هو الشيء الجديد؛ أعني التوصل إلى توازن من نوع جديد بين الأمل والخوف، الشعور الذي يشترك فيه الكبار والشباب على حد سواء بأن بعض أولادنا - إن لم يكن معظمهم - كانوا ينحرفون عن بر الأمان. حتى إن أمضوا كل حياتهم في الجانب الجنوبي مثل جوني فقد لاحظوا هذا التغيير. قال لي في أحد الأيام ونحن جالسان في شقته نحتسي الجعة: «إنني لم أر شيئا مثل ذلك مطلقا يا باراك.» وتابع: «أقصد أن الظروف كانت قاسية وأنا في مراحل نضجي، لكن كانت هناك حدود. كنا نسيء التصرف ونتشاجر، لكن في حضور الآخرين في المنزل إذا رآك شخص أكبر سنا وأنت تتحدث بصوت مرتفع أو تسيء التصرف كانوا يوبخونك. وكان معظمنا يستمع إليهم ويحترمهم. أتفهم ما أعني؟
ولكن الآن، في ظل انتشار المخدرات والأسلحة اختفى كل ذلك. لا تظن أن الصبية كلهم يحملون مسدسات. فربما لا يحملها إلا واحد منهم أو اثنان. وفي هذا التجمع يقول أحدهم للآخر شيئا فيرد عليه آخر برصاصة ويرديه قتيلا! وعندما يسمع الناس قصصا من هذا القبيل لا يصنعون شيئا حتى محاولة التحدث إلى هؤلاء الصبية. وبذلك بدأنا نعمم في حديثنا عنهم مثلما يفعل البيض. وعندما نراهم متمركزين في أحد الأماكن نتخذ طريقا آخر بعيدا عنهم. حتى إن الأطفال المتميزين يبدءون بعد فترة يدركون أنه لن يعتني بهم أحد. لذا يقومون هم بهذه المهمة ويعتنون بأنفسهم. وخلاصة القول إنه سيكون لديك أطفال في الثانية عشرة من عمرهم يضعون قوانينهم الخاصة.»
احتسى جوني رشفة من الجعة وتجمعت الرغوة فوق شاربه. وأكمل حديثه: «إنني لا أعرف يا باراك. أحيانا أخاف منهم. لا بد للمرء أن يخشى من شخص لا يهتم بأي شيء. لا بد أن يفعل ذلك مهما كان صغيرا.»
بعد أن عدت إلى شقتي فكرت فيما قاله جوني. هل كنت أخاف منهم؟ لم أعتقد ذلك ... على الأقل ليس بالطريقة التي قصدها جوني. وعند تفكيري في ألتجيلد وأحوال المناطق الأخرى التي من العسير العيش فيها، كانت مخاوفي دائما تعتمل داخل نفسي، مخاوفي القديمة المتعلقة بعدم الانتماء. ولم تخطر ببالي مطلقا فكرة الإيذاء البدني. والأمر نفسه انطبق على الفرق الذي قدمه جوني بين الأطفال المتميزين والأطفال العدوانيين لأن هذا الفرق لم يبد منطقيا لي. وبدا الأمر معتمدا على افتراض تعارض مع تجربتي متمثل في أن الأطفال ربما يكونون إلى حد ما قد وضعوا شروط تطورهم. فكرت في ابن بيرناديت البالغ من العمر خمسة أعوام وهو يجري مسرعا فرحا في شوارع ألتجيلد غير المستوية بين مبنى معالجة مياه الصرف الصحي ومقلب النفايات. أين موقعه في دائرة الخير؟ إذا انتهى به الأمر وهو عضو في عصابة أو مسجون، هل هذا سيثبت وجوده إلى حد ما أم سيعتبر خارجا عن القانون، أم سيكون ذلك نتيجة للبيئة غير الملائمة التي عاش فيها؟
وماذا عن كايل: كيف كان يمكن لأحد تفسير ما مر به؟ اتكأت إلى الخلف على كرسيي مفكرا في ابن روبي الذي أتم السادسة عشرة فقط. ولم يزده العامان التاليان لوصولي إلى شيكاغو سوى العديد من البوصات طولا وكبر حجم وظهور أثر قليل فوق شفته العليا تمهيدا للشارب. كان لا يزال مؤدبا في تعامله معي ولا يزال مستعدا للتحدث معي بخصوص فريق شيكاغو بولز لكرة السلة. وقال لي إن هذا العام قاد جوردن الفريق إلى النهائيات. لكن كلما ذهبت لزيارتهما أجده قد غادر المنزل للتو أو خرج مع أصدقائه. وفي بعض الليالي كانت روبي تتصل بي في المنزل للتحدث عنه وتخبرني كيف أنها لم تعد تعرف أين يذهب، وكيف أصبحت درجاته تنخفض في المدرسة، وكيف يفعل أشياء ويخفيها عنها، وأن باب غرفته كان دائما مغلقا.
كنت أطمئنها دائما بقولي: «لا تقلقي، كنت أسوأ بكثير عندما كنت في مثل عمره.» لكنني لا أعتقد أنها صدقت هذه الحقيقة، على أن مجرد سماع هذه الكلمات كان يبدو وكأنه يجعلها تشعر بحال أفضل. وفي أحد الأيام حاولت معرفة ما يفكر فيه كايل وما ينوي فعله، فدعوته ليصاحبني للعب كرة السلة في صالة الألعاب الرياضية بجامعة شيكاغو. كان هادئا في معظم الطريق إلى هايد بارك محاولا منعي طرح أي سؤال بإصدار أصوات متذمرة أو هز كتفيه. لكنني سألته ألا يزال يفكر في الالتحاق بالقوات الجوية، فهز رأسه وقال إنه سيظل في شيكاغو ويبحث عن وظيفة ويحصل على مركز مرموق في المجتمع. بالإضافة إلى ذلك سألته لماذا غير رأيه فقال إن القوات الجوية لن تسمح أبدا لرجل أسود بقيادة طائرة.
نظرت إليه بغضب. وقلت له: «من أخبرك بهذا الهراء؟»
هز كايل كتفيه: «لست في حاجة لأن يخبرني أحد بذلك. الأمر دوما ما يسير على هذا النحو.» «هذا تفكير خاطئ. إن بوسعك فعل ما تريد إذا كنت مستعدا لأن تبذل ما في استطاعتك لفعله.»
ابتسم كايل ابتسامة مصطنعة، وأدار وجهه ناحية النافذة وتركت أنفاسه بصمات على الزجاج. وقال: «حسنا، كم عدد الطيارين السود الذين تعرفهم؟»
لم تكن صالة الألعاب الرياضية مزدحمة عندما وصلنا، واضطررنا إلى انتظار انتهاء مباراة واحدة قبل أن ندخل إلى الملعب. وكان ذلك بعد أن مر على الأقل ستة أشهر على آخر مرة لعبت فيها كرة السلة وأصبح للسجائر تأثيرها علي؛ في الشوط الأول من المباراة نجح اللاعب الذي يراقبني في انتزاع الكرة مني دون مخالفة إلا أنني طالبت الحكم بأن يحتسب مخالفة مما جعل اللاعبين الجالسين على حدود الملعب يصيحون بسخرية. وفي الشوط الثاني مشيت على خط منتصف الملعب وأنا أشعر بدوار خفيف.
حتى أتجنب التعرض لإحراج أكثر من ذلك قررت أن أخرج في الشوط الثالث وأشاهد كايل وهو يلعب. لم يكن أداؤه سيئا، لكنه كان يراقب لاعبا يتجاوزني في العمر ببضع سنوات، كان يعمل ممرضا في مستشفى، وكان قصير القامة، لكن أداءه في الملعب عنيف وسريع جدا. وبعد بضع لعبات أصبح واضحا أن الرجل عرف طريقة لعب كايل. وبعد أن أحرز ثلاث نقاط على التوالي بدأ يتحدث معه الحديث المعتاد. «ألا تستطيع أن تلعب أفضل من ذلك أيها الصبي؟ كيف ستسمح لرجل كبير مثلي بأن يجعل صورتك بهذا السوء؟»
لم يرد كايل عليه لكن اللعب بينهما أصبح عنيفا. وعندما تحرك الرجل تجاه السلة ارتطم به كايل بشدة فوقع الرجل على الأرض. وبعدها ألقى الرجل الكرة تجاه صدر كايل، ثم استدار ناحية أحد زملائه. وقال: «أترى؟ هذا الوضيع لا يستطيع الدفاع ...»
على حين غرة ودون سابق إنذار استدار كايل. ولكم فك الرجل بقبضة يده وأسقطه على الأرض. جريت إلى الملعب بعد أن أبعد اللاعبون الآخرون كايل بالفعل عن الرجل. كانت عيناه متسعتين وصوته مرتعدا وهو يشاهد محاولة وصول الممرض إلى قدميه بصعوبة وهو يبصق قدرا كبيرا من الدماء.
همهم كايل بتذمر: «لست وضيعا.» وأعادها قائلا: «لست وضيعا.»
كنا محظوظين لأنه حين اتصل أحد الحضور بضابط الأمن في الطابق السفلي لم يعترف الممرض بالحادث لشعوره بالإحراج. وفي طريق عودتنا أعطيت كايل محاضرة طويلة عن الاحتفاظ بهدوئه، وعن العنف، وعن المسئولية. بدت كلماتي سخيفة وخالية من أي معنى وجلس كايل دون أن يرد علي بكلمة واحدة، وكان لا ينظر إلا إلى الطريق. وعندما انتهيت استدار ناحيتي وقال: «لا تقل لأمي شيئا، اتفقنا؟»
اعتقدت وقتئذ أن هذا مؤشر طيب. وقلت إنني لن أذكر لروبي شيئا مما حدث ما دام أنه لن يتحدث معها بشأنه ووافق على مضض.
كان كايل صبيا حسنا لأنه كان لا يزال مهتما بشيء ما. لكن هل كان هذا كافيا لإنقاذه؟ •••
بعد أسبوع من مغامرتي أنا وجوني في هايد بارك، قررت أنه حان الوقت للتعامل مع المدارس العامة.
بدا هذا الموضوع منطقيا لنا. ولم يعد الفصل العنصري يثير اهتمامنا كثيرا؛ فقد تخلى البيض عن نظام المدارس العامة. ولم تعد مدارس البيض أو السود مكتظة بالطلاب، على الأقل في المدارس الثانوية بأحياء السود لأن نصف الطلاب الجدد فقط كانوا يضطرون إلى البقاء في المدارس لحين التخرج. وخلافا لذلك، فقد ظلت مدارس شيكاغو في حالة من الأزمات الدائمة؛ فعجز الميزانية السنوية يصل إلى مئات الملايين من الدولارات، وهناك نقص في الكتب المدرسية وورق الحمامات، واشتراك نقابة المعلمين في إضراب مرة كل سنتين على الأقل، والتعامل من منطلق بيروقراطية قاسية وتشريع دولة غير مبال. وكنت كلما ازدادت معرفتي بالنظام ازداد اقتناعي بأن إصلاح المدارس هو الحل الممكن الوحيد لمأساة الشباب الذين رأيتهم في الشارع، وأنه في ظل عدم وجود عائلات مستقرة أو احتمالات للعمل في وظائف مهنية معتمدة على المجهود البدني، يكون التعليم هو آخر أمل لهم. لذا ففي شهر أبريل - في أثناء عملي في قضايا أخرى - وضعت خطة عمل للنشاط التنظيمي وبدأت أوزعها على القادة.
على أن هذه الخطة لم تترك في نفوسهم انطباعات قوية مؤثرة.
كان سبب ذلك إلى حد ما ينبع من مشكلة عدم وجود مصلحة شخصية وعدم توافق الآراء. فمثلا أخبرني أعضاء كنيسة مسنون أنهم بالفعل ربوا أبناءهم، أما أولياء الأمور الأصغر سنا - مثل أنجيلا وماري - فقد أرسلوا أطفالهم إلى المدارس الكاثوليكية. ولم يتحدث أحد عن أكبر مصدر للمقاومة إلا نادرا، وهو في الواقع يتمثل في الحقيقة المرة التي فحواها أن كل كنيسة من كنائسنا كانت مليئة بالمدرسين ومديريها ومراقبيها. ولم يرسل من هؤلاء المعلمين أطفاله إلى المدارس العامة إلا قليل لأنهم كانوا يعلمون كثيرا عن هذا الأمر. لكنهم كانوا يدافعون عن الحالة الراهنة بالمهارة والحماسة نفسها التي كان أقرانهم من البيض يدافعون بها عنها منذ عقدين. وكانوا يقولون لي إنه لم يكن هناك موارد مالية كافية لإجراء الإصلاح كما ينبغي (وكانوا بالفعل محقين في ذلك.) كانت مجهودات الإصلاح - مثل اللامركزية أو الحد من البيروقراطية - جزءا من مجهودات بذلها البيض لاستعادة السيطرة من جديد (وهذا أمر غير صحيح مائة بالمائة.) أما الطلاب فقد كانوا صعاب المراس. كانوا كسالى. كانوا عنيدين. كانوا بطيئين. لكن ربما لم يكن ذلك خطأهم، ومن المؤكد أنه لم يكن خطأ المدارس أيضا. في الواقع لم يكن هناك أي أطفال سيئين لكن المؤكد أنه كان هناك العديد من الآباء السيئين.
في مخيلتي كانت هذه المحادثات رمزا للتسوية غير المعلنة التي توصلنا إليها منذ ستينيات القرن العشرين، والتي سمحت لنصف أطفالنا بإحراز تقدم حتى إن لم يستطع النصف الآخر فعل ذلك. والأكثر من ذلك أن المحادثات أغضبتني وبسبب الدعم الفاتر المفتقد للحماسة الذي تلقيناه من القيادة قررت أنا وجوني أن نعالج الأمر ونبدأ بزيارة بعض المدارس في المنطقة على أمل تجميع أصوات تدعمنا بخلاف أولياء الأمور الشباب في ألتجيلد .
بدأنا حملتنا بمدرسة كايل الثانوية التي كانت تنعم بأفضل سمعة في المنطقة. وكانت المدرسة تتكون من مبنى واحد جديد نسبيا لكنه مفتقر للمسات الشخصية والجمالية، حيث كان مشتملا على أعمدة صلبة جرداء وممرات عارية طويلة ونوافذ زجاجها ضبابي لا يمكن فتحها، مثلها مثل النوافذ في الصوبات الزجاجية. قال لنا المدير - وكان رجلا كيسا حسن المظهر اسمه دكتور لوني كينج - إنه كان متحمسا للعمل مع مجموعات مجتمعية مثل مجموعتنا. بعد ذلك ذكر أن أحد المستشارين في مدرسته - وكان يدعى السيد أسانتي موران - كان يحاول بدء برنامج إرشادي للشباب في المدرسة واقترح أن نقابله.
اتبعنا المسار الذي أشار علينا به دكتور كينج إلى أن وصلنا إلى مكتب صغير بالقرب من مؤخرة المبنى. وكان المكتب مزينا ببعض اللمسات الأفريقية مثل: خريطة للقارة وصور لملوك وملكات أفريقيا القدماء، ومجموعة من الطبول، وأوان من نبات القرع، وقطعة من القماش منسوجة يدويا بألوان مبهجة معلقة على الحائط. وخلف المكتب كان يجلس رجل طويل القامة مهيب له شارب طويل كثيف ملفوف لأعلى وفك بارز. كان الرجل يرتدي زيا أفريقيا وسوارا من شعر الفيل حول معصمه السميك. وقد بدا في بادئ الأمر غير سعيد حيث كان أمامه على المكتب كومة متراصة من امتحانات القبول في الجامعات. لذا شعرت أن اتصال دكتور كينج به كان مقاطعة لعمله غير مرحب بها. على العكس من ذلك طلب منا الجلوس وأخبرنا أن نناديه باسمه دون ألقاب، وعندما أصبحت قضيتنا أكثر وضوحا بدأ يشرح لنا بعض أفكاره.
قال لنا وهو ينظر إلي وإلى جوني تباعا: «إن أول شيء عليكما إدراكه هو أن نظام المدارس العامة لا يهتم بتعليم الأطفال السود. ولم يكن كذلك على الإطلاق. والمدارس التي تقع في قلب المدينة شغلها الشاغل هو الانضباط الاجتماعي الذي لا يطبق إلا في أثناء الحصة الدراسية. انتهى الأمر. وفي الواقع فإن هذه المدارس تعمل كأنها حظيرة؛ أو بالأحرى سجون صغيرة. وعندما يبدأ الأطفال السود في الخروج من الحظيرة بعد انتهاء الحصص ومضايقة البيض لا يهتم المجتمع إطلاقا بقضية تعليم هؤلاء الأطفال.
لا تفكرا إلا فيما يمكن أن يشتمل عليه التعليم الحقيقي لهؤلاء الأطفال . في مستهل الأمر لا بد أن يبدأ التعليم بتعريف الطفل بنفسه وبعالمه وبثقافته وبمجتمعه. وتلك هي نقطة البداية لأية عملية تعليمية لأن هذا هو ما يجعل الطفل مستعدا وبحماس لأن يتعلم، والذي يدفعه لذلك هو الوعد الذي يتلقاه بكونه جزءا من شيء ما وبقدرته على السيادة والتحكم في بيئته. لكن فيما يتعلق بأي طفل أسود فإن كل الموازين تتغير. فمن يومه الأول في المدرسة، ماذا يتعلم؟ يتعلم تاريخا غير تاريخه. ويتعلم ثقافة غير ثقافته. ليس ذلك فقط، بل إن الثقافة التي من المفترض أن يتعلمها هي الثقافة نفسها التي رفضته - بكل ما في الكلمة من معنى - وأنكرت إنسانيته.»
اتكأ أسانتي للخلف على مقعده وشبك يديه أسفل صدره، وطرح علينا السؤال الآتي: «هل من المثير للدهشة أن يفقد الطفل الأسود اهتمامه بالتعليم؟ بالطبع لا. إن الأمر أسوأ للأولاد عن البنات لأن البنات على الأقل لديهن أمهات يستطعن التحدث معهن، على عكس الأولاد الذين ليس لديهم من يتحدثون إليه. ونصفهم لا يعرف أحدا حتى آباءهم، ولا يوجد من يرشدهم في مرحلة البلوغ ... ليشرح لهم معنى الرجولة. وهنا تكمن الكارثة لأنه في كل مجتمع يكون للشباب ميول عنيفة. وهذا سواء أكانت هذه الميول موجهة ومنظمة في مسارات إبداعية أم في مسارات تهديمية للشباب أنفسهم أو المجتمع أو لكليهما.
لذا فإن هذا هو الأمر المفترض التركيز عليه هنا. وحيثما أكون أحاول ملء هذه الفجوة. فأشرح التاريخ الأفريقي للطلاب والجغرافيا والتقاليد الفنية الأفريقية. إنني أحاول منحهم مبادئ قويمة مختلفة عما تعلموه؛ شيئا يدحض تأثيرات المادية والفردية والإشباع الفوري التي يتجرعونها على مدار 15 ساعة خارج المدرسة. إنني أعلمهم أن الأفارقة جزء من المجتمع. كما أعلمهم أنهم يحترمون من يكبرهم سنا. وفي الواقع شعر زملائي الأوروبيون بالخطر من تعاليمي هذه، لكنني أخبرتهم أن الأمر ليس متعلقا بتشويه سمعة ثقافتهم، بل إن الغرض الفعلي هو منح الشباب قاعدة يستندون إليها طوال حياتهم. وإن لم ينغمسوا في تقاليدهم الخاصة فلن يصبحوا قادرين إطلاقا على تقدير ما تقدمه الثقافات الأخرى ...»
في هذه اللحظة سمعنا طرقا على الباب، وعندما فتح نظر شاب نحيف طويل القامة نظرة سريعة إلى الداخل. اعتذر لنا أسانتي قائلا إن لديه موعدا آخر ورأى أنه سيكون سعيدا إذا قابلنا مرة أخرى لمناقشة برامج الشباب الممكنة في المنطقة. بعدها سألني أسانتي عن اسمي وهو يوصلني أنا وجوني إلى الباب، وأدليت له بمعلومات قليلة عن تاريخي.
عندما سمع حديثي ابتسم أسانتي وقال: «اعتقدت ذلك بالفعل!» وأضاف: «أتعلم، كانت أولى رحلاتي للقارة الأفريقية إلى كينيا. وكان ذلك منذ 15 عاما لكنني أتذكر الرحلة كما لو لم تكن إلا أمس. لقد غيرت هذه الرحلة حياتي للأبد. وفي الواقع كان أهل كينيا ودودين ورحبوا بي ترحيبا حارا. وأرضها جميلة لم أر مثلها قط. وبالفعل شعرت أنها وطني.» تلألأ وجهه بذكراه هناك. وسألني: «متى كانت آخر مرة ذهبت فيها إلى كينيا؟»
ترددت. قلت: «في حقيقة الأمر لم أذهب إلى هناك مطلقا.»
بدا أسانتي مرتبكا للحظة. وقال بعد لحظات صمت: «حسنا ... إنني متأكد من أنك عندما تذهب إلى هناك ستتغير حياتك أنت أيضا.» وبذلك تصافحنا ولوح للشاب الجالس في قاعة الانتظار وأغلق الباب وراءه.
خيم علينا الصمت أنا وجوني في معظم طريق عودتنا إلى مكتبنا. وبعد أن قطعنا مسافة كبيرة استدار جوني تجاهي وقال: «هل أستطيع أن أطرح عليك سؤالا يا باراك؟» «بكل تأكيد.» «لماذا لم تذهب إلى كينيا من قبل؟» «لا أعرف. ربما أكون خائفا مما سأجده هناك.» «فهمت.» أشعل جوني سيجارة وأنزل زجاج النافذة لإخراج الدخان. وقال: «كم كان غريبا تفكيري في أبي بعد سماعي حديث أسانتي هناك! لا أقصد أن أبي كان متعلما أو شيئا من هذا القبيل. لكني أقصد أنه لا يعرف شيئا عن أفريقيا. بعد أن ماتت أمي كان مضطرا لأن يربيني أنا وإخوتي بالاعتماد على نفسه. فعمل لمدة 20 عاما سائقا لسيارة بضائع بشركة سبيجال. لكن الشركة سرحته عن العمل قبل أن يحصل على معاشه كاملا؛ لذا ظل يعمل لدى شركة أخرى في الوظيفة نفسها. هذه الوظيفة هي نقل الأثاث .
لم يبد أبي مستمتعا بالحياة على الإطلاق، أتفهم ما أقصد؟ إنه في أيام العطلات كان يظل في المنزل وكان يزورنا بعض أعمامي لاحتساء الخمر وسماع الموسيقى. وكانوا يشكون مما فعله رؤساؤهم في العمل هذا الأسبوع. هذا فعل كذا. وهذا فعل كذا. لكن ما إن يبدأ أحدهم في التحدث عن شيء آخر مختلف بالفعل أو طرح فكرة طيبة حتى يحبطه الآخرون. فمثلا يقول أحدهم: «كيف لزنجي عديم الفائدة مثلك أن يبدأ مشروعا بنفسه؟» ويقول آخر: «خذ هذه الزجاجة من أمام جيمي؛ يبدو أن الخمر ذهبت بعقله.» وكانوا جميعا يضحكون، لكنني أرى أنهم لم يكونوا يضحكون من قلوبهم. وفي بعض الأحيان، عندما أكون بالمنزل، كان أعمامي يقولون لي: «من المؤكد أن عقلك ناضج أيها الصبي، تبدو كرجل أبيض بحديثك المنمق اللبق.»
أخرج جوني من فمه تيارا متدفقا من الدخان إلى الهواء المليء بالضباب الكثيف. وأضاف: «عندما كنت في المدرسة الثانوية كنت أشعر بالخجل منه. أقصد والدي. فقد كان يعمل كثيرا ويجلس في المنزل ويشرب الخمر هو وإخوته. لذا أقسمت أنني لن ينتهي بي الحال وأصبح مثله. لكنني عندما فكرت في هذا الأمر فيما بعد أدركت أن أبي لم يسخر قط عندما كنت أتحدث عن رغبتي في الالتحاق بالجامعة. أقصد أنه لم يقل شيئا عن الأمر، لكنه كان يتحقق دائما من أنني وأخي استيقظنا للذهاب إلى المدرسة، وأننا لم نضطر إلى العمل، وأن معنا مصروف الجيب الصغير. ويوم تخرجي أتذكر أنه حضر مرتديا سترة ورابطة عنق وصافحني فقط. هذا كل ما هنالك ... صافحني وبعدها عاد للعمل ...»
توقف جوني عن الكلام وخلا الطريق أمامنا. وبدأت أفكر في هذه الصور المعلقة في مكتب أسانتي - صور الملكة نفرتيتي الداكنة اللون في عرشها الذهبي، وشكل زولو القوي الأبي في ردائه الطويل المصنوع من جلد النمر - وفكرت في اليوم الذي ذهبت فيه إلى المكتبة منذ سنوات قبل أن يأتي والدي لزيارتي في هاواي بحثا عن مملكتي السحرية وحقي المجيد المكتسب بالولادة. وتساءلت عن الفارق الذي يمكن أن تحدثه هذه الصور على طفل غادر لتوه مكتب أسانتي. وظننت أن تأثير هذه الصور على الطفل يفوق تأثير أسانتي نفسه. في الواقع كان أسانتي رجلا حسن الاستماع. وكانت لديه القدرة على مد يد العون لأي شاب.
قلت لجوني بعد ذلك: «كان هناك.» «من؟» «والدك. كان هناك من أجلك.»
حك جوني ذراعه. وقال: «نعم يا باراك أعتقد أنه كان هناك.» «ألم تخبره قط بهذا؟» «لا، لأننا لم نعتد التحدث معا.» نظر جوني من النافذة، ثم استدار لي: «ربما علي أن أتحدث معه.»
قلت له وأنا أهز رأسي: «نعم جون ربما يتعين عليك فعل ذلك.» •••
على مدار الشهرين التاليين ساعدنا أسانتي ودكتورة كوليار في إعداد اقتراح مقدم إلى شبكة نصح الشباب لتوفير الخدمات التعليمية الخاصة والإرشادية إلى المراهقين المعرضين للخطر، ولإشراك أولياء الأمور في عملية تخطيطية طويلة المدى للإصلاح. وكان هذا المشروع مثيرا للحماسة بصورة كبيرة، لكنني لم أركز عليه كلية لأنني كنت مشغول البال بشيء آخر. وعند انتهاء تقديم الاقتراح أخبرت جوني بأنني سأبتعد عن العمل لبضعة أيام على أن يتولى هو مسئولية حضور بعض الاجتماعات التي خططنا لها لبدء الإعداد لخطة دعم أكبر. سألني جوني: «إلى أين ستذهب؟» «لزيارة أخي.» «لم أكن أعلم أن لك أخا.» «لم أكن أعرفه كل هذه الفترة.»
في صباح اليوم التالي ركبت الطائرة إلى مدينة واشنطن عاصمة الولايات المتحدة حيث كان يعيش أخي روي في هذه الفترة. كنا قد تحدثنا لأول مرة خلال زيارة أوما إلى شيكاغو وحينها أخبرتني بأن روي تزوج من سيدة أمريكية كانت تعمل في برنامج «فيلق السلام» وانتقل للعيش في الولايات المتحدة. وفي أحد الأيام اتصلنا به للاطمئنان عليه، وكان سعيدا للغاية بهذه المكالمة، وكان صوته منخفضا وهادئا كما لو كنا تحدثنا معه أمس. وفي هذه المكالمة قال لنا إن وظيفته وزوجته وحياته الجديدة في أمريكا وكل شيء «جميل». نطق روي هذه الكلمة ببطء وخرجت المقاطع اللفظية على نحو هادئ فقال «جميييل»، بالطريقة نفسها التي أخبرني بها أن زيارتي له ستكون «رااائعة » وأن بقائي معه ومع زوجته في منزلهما لن «يسبب أي مشششكلة». وبعد أن وضعنا سماعة الهاتف وانتهت المكالمة أخبرت أوما أنه يبدو في حالة طيبة، إلا أنها نظرت إلي بارتياب، وقالت: «لا، إنك لا تعرف روي؛ إنه دائما لا يظهر مشاعره الحقيقية، وهو في هذا الأمر مثله مثل أبينا. وفي الواقع ومع أنهما لم يكونا على وفاق معا فهو يذكرني به في كثير من الأمور، على الأقل كان ذلك عندما كان يعيش في نيروبي حيث إنني لم أره منذ جنازة ديفيد؛ لذا ربما يكون الزواج قد جعله يعيش حياة مستقرة هادئة.»
لم تستطرد أوما أكثر من ذلك، وإنما قالت فحسب إنه من الأفضل أن تتعرف عليه بنفسك. لذا رتبت مع روي أن أزوره، فأسافر إلى واشنطن العاصمة أثناء عطلة نهاية الأسبوع الطويلة وزيارة المعالم السياحية، وفكرت أننا سنقضي وقتا رائعا. لكن عندما وصلت إلى مطار رونالد ريجان القومي بحثت عنه عند بوابة المطار إلا أنني لم أجده في انتظاري، فاتصلت بمنزله ورد على الهاتف معتذرا: «اسمع يا أخي، هل يمكنك الإقامة في أي فندق هذه الليلة؟» «لماذا؟ هل حدث مكروه؟» «لا، لم يحدث شيء خطير. إن الأمر متعلق بي وبزوجتي فقد تشاجرنا؛ لذا فإن حضروك الليلة إلى المنزل لن يكون أمرا مستساغا. أتفهمني؟» «بكل تأكيد. إنني ...» «اتصل بي عندما تجد فندقا للمبيت، اتفقنا؟ سنتقابل الليلة ونتناول عشاءنا معا. سأمر عليك في تمام الثامنة.»
أقمت في أرخص غرفة وجدتها في الفندق وانتظرت بها، وفي الساعة التاسعة سمعت طرقا على الباب. وعندما فتحته وجدت رجلا ضخما يقف أمامي واضعا يديه في جيبيه وعلى وجهه الشديد السواد ابتسامة عريضة أظهرت أسنانه المستوية.
قال لي: «أهلا أخي، كيف حالك؟»
في صور روي التي كانت لدي، كان نحيفا للغاية ومرتديا زيا أفريقيا، إلى جانب أنه كان له شارب ولحية صغيرة وكان مصففا شعره على الطريقة الأفريقية، لكن الرجل الذي عانقني عندما فتحت الباب كان وزنه أكبر، يصل تقريبا إلى مائتي رطل [90,7 كيلوجراما] - على ما أعتقد - وكانت وجنتاه مكتنزتين لحما أسفل نظارته السميكة. والآن لم تعد له لحية وتغير القميص الأفريقي ليحل محله جاكيت رمادي اللون وقميص أبيض ورابطة عنق. كانت أوما على حق؛ فتشابه أخي مع أبي كان مثيرا للقلق. عندما نظرت إلى أخي شعرت كأنني عدت طفلا في العاشرة من عمري.
قلت له في أثناء مشينا تجاه سيارته: «أرى أن وزنك ازداد.»
نظر روي لأسفل إلى بطنه المنتفخة وربت عليها، وقال: «نعم، إنها الوجبات السريعة. إنها موجودة في كل مكان؛ ماكدونالدز وبرجر كينج. إنك لست مضطرا إلى الخروج - حتى من سيارتك - لشرائها؛ إذ أطلب وأنا في السيارة: فطيرتين باللحم والصوص الخاص والخس والجبن أو ساندوتش الهامبورجر العملاق بالجبن.» ثم هز روي رأسه وأضاف: «فيرد علي العامل ستحصل على ما تريد في الحال. إنه لأمر رائع!»
أرجع روي رأسه للخلف وهو يضحك، وسرى بداخله صوت ساحر جعل جسده كله يهتز كما لو كان لا يستطيع تصديق العجائب التي تقدمها له هذه الحياة الجديدة. كانت ضحكاته معدية؛ لذا فإنني ضحكت إلا أنني لم أضحك في أثناء طريقنا لتناول العشاء. كانت سيارته التويوتا صغيرة على أن تستوعب حجمه - كان كطفل يجلس في إحدى سيارات الملاهي في العيد - ولم يبد بارعا في تحريك ذراع ناقل الحركة أو الإلمام بقواعد الطريق بما فيها حد السرعة المسموح به. وفي طريقنا كنا على وشك الاصطدام مرتين بالسيارات القادمة من الاتجاه المقابل، وعند أحد المنعطفات حادت السيارة عن طريقها وصعدت فوق رصيف مرتفع.
صحت بصوت أعلى من الصوت الهادر للموسيقى المنبعثة من شريط الكاسيت الذي يديره: «هل تقود السيارة دائما بهذه الطريقة؟»
ابتسم روي ونقل السرعة إلى المستوى الخامس وقال: «قيادتي ليست حسنة، أليس كذلك؟ فدائما ما تشكو ماري زوجتي من هذا الأمر أيضا، خاصة بعد الحادث ...» «أي حادث؟» «لم يكن خطيرا؛ فأنا لا أزال حيا أرزق!» ضحك مرة ثانية وهز رأسه كأن السيارة تعمل أوتوماتيكيا دون أن يقودها، وكان وصولنا الآمن سيكون مثالا آخر على نعم الرب الوفيرة.
كان المطعم المفترض أن نتناول العشاء فيه مكسيكيا، وكان بجانب مرفأ صغير. اخترنا طاولة عشاء تطل على المياه مباشرة، وطلبت جعة وطلب روي كأسا من كوكتيل المارجريتا، وتحدثنا بعض الوقت عن عملي وعمله محاسبا في إحدى الشركات الكبرى للتمويل العقاري. أكل روي باستمتاع شديد واحتسى كأسا أخرى من المارجريتا، إلى جانب أنه ضحك ومزح عند حديثه على مغامراته في أمريكا. لكن ما إن نفد الطعام حتى بدأت آثار المجهود الذي بذله تظهر عليه، وفي النهاية سألته لماذا لم تصحبنا زوجته على العشاء، فتلاشت ابتسامته وقال: «أعتقد أننا على وشك الطلاق.» «أنا آسف لسماعي هذا الخبر.» «قالت لي إنها سئمت من بقائي خارج المنزل لساعة متأخرة من الليل، وإنني أفرط في شرب الخمر، بالإضافة إلى أنها أخبرتني أنني أصبح تدريجيا نسخة من أبي.» «وما رأيك في ذلك؟» «ما رأيي؟» أدنى رأسه، ثم نظر إلي بشجن فرأيت في عدستي نظارته لهب الشموع يتراقص كمشاعل الاحتفالات الصغيرة. قال لي وهو يتكئ بجسده للأمام: «الحقيقة هي أنني أعتقد أنني أكره نفسي، وأنني ألوم أبي في ذلك.»
على مدار الساعة التالية قص علي روي جميع الصعاب التي تحدثت عنها أوما من قبل؛ عن انتزاعه من أمه وكل شيء اعتاده، وعن فقر أبينا المفاجئ، وعن المشاجرات والمشكلات، وعن رحلته الأخيرة. أخبرني عن حياته بعد أن ترك منزل أبينا متنقلا بين منازل أقاربه واحدا تلو آخر وكيف جرى قبول التحاقه بجامعة نيروبي ثم حصوله فيما بعد على وظيفة في مكتب محاسبة محلي بعد التخرج، وكيف علم نفسه الانضباط في العمل؛ فكان يصل إلى عمله مبكرا ويكمل المهام المنوط به أداؤها بصرف النظر عن سهره طويلا خارج المنزل في الليلة السابقة. شعرت وأنا أستمع إليه بالإعجاب نفسه الذي شعرت به عند سماعي أوما وهي تتحدث عن حياتها وعن قدرتهما على الاحتمال التي أظهراها في الأوقات العصيبة، وعن العند نفسه الذي أخرجهما من ظروفهما الصعبة. على أنني شعرت أن أوما - وليس روي - مستعدة لأن تترك الماضي وراء ظهرها، وأن لديها إلى حد ما المقدرة على أن تسامح، إن لم يكن من الضروري أن تنسى. أما روي فقد بدت ذكرياته عن أبينا أكثر تعلقا بحاضره وأشد سخرية، وظل الماضي عنده جرحا لم يندمل.
أثناء رفع الأطباق من على المائدة في المطعم قال لي روي: «لم يكن - أبي - يعجبه شيء، وكان ذكيا ولم يكن ليسمح لك بالإهمال إطلاقا. وإن عدت يوما إلى المنزل تحمل شهادة تفيد حصولك على ثاني أفضل درجات في الفصل يسألك لماذا لم تحرز الدرجات النهائية، وكان يقول «إنك من عائلة أوباما، وعليك أن تكون الأفضل دائما.» وكان يصدق ذلك بالفعل. بعد ذلك كنت أراه مخمورا ولا يملك مالا ويعيش حياة المتسولين. فكنت أسأل نفسي: كيف يمكن لأحد بمثل هذا الذكاء الحاد أن تنهار حياته بهذا الشكل المأساوي؟ لم يبد هذا منطقيا لي على الإطلاق.
وبعد أن أصبحت أعيش معتمدا على نفسي، حتى بعد مماته، كنت أحاول حل هذا اللغز كما لو كنت لا أستطيع الهروب منه. إنني أتذكر أنه كان علينا نقل جثته إلى أليجو لإقامة الجنازة، ولأنني كنت الابن الأكبر سنا كنت مسئولا عن ترتيبات الجنازة، وقد أرادت الحكومة أن يكون الدفن طبقا للشريعة المسيحية، لكن العائلة أرادت أن يتم طبقا للشريعة الإسلامية. حضر الناس إلى ميدان هوم من كل مكان، وكان علينا أن ننتحب عليه طبقا لتقاليد قبيلة لوو، وأن نحرق الخشب ثلاثة أيام، ونستمع إلى بكاء الناس وعويلهم. لم أكن أعرف نصف هؤلاء الناس النائحين الذين كانوا يريدون تناول الطعام واحتساء الجعة. وتهامس البعض بأن أبانا تسمم وأنني لا بد من أن آخذ بثأره، وسرق بعضهم أشياء من المنزل. بعد ذلك بدأ أقاربنا يتشاجرون على إرث أبي، من ضمنهم آخر صديقة له أم أخينا الرضيع جورج التي كانت تريد الحصول على كل شيء ووقف في جانبها البعض ومنهم العمة سارة، وانحاز البعض الآخر إلى أمي. كان الأمر برمته ضربا من ضروب الجنون، وبدا الخلل في كل شيء.
بعد انتهاء الجنازة لم تكن لدي رغبة في مصاحبة أحد ؛ فالإنسان الوحيد الذي كنت أثق به كان ديفيد أخانا الصغير. اسمح لي أن أقول لك إن هذا الرجل كان حسنا، وكان يشبهك قليلا لكنه كان يصغرك سنا ... إذ كان في الخامسة عشرة أو السادسة عشرة من عمره. حاولت أمه روث أن تربيه طبقا لأسلوب الحياة الأمريكية، لكن ديفيد تمرد عليها؛ فقد أحب الجميع وترك منزله كي يأتي ويعيش معي. وعندما طلبت منه العودة إلى المنزل مرة أخرى رفض وقال لي إنه لا يريد أن يصبح أمريكيا؛ كان ديفيد أفريقيا من عائلة أوباما بحق.
عندما مات ديفيد كانت الضربة القاضية لي. وكنت متأكدا من أن العائلة بأكملها شقيت لسماع هذا الخبر. فبدأت أشرب الخمر وأتشاجر ولم أعد أهتم بأي شيء. قلت لنفسي إن كان أبي وديفيد قد ماتا فإنني حتما سأموت. في بعض الأحيان كنت أتساءل عما كان يمكن أن يحدث إن بقيت في كينيا. في هذه الأثناء فكرت في نانسي، الفتاة الأمريكية التي كنت على علاقة بها والتي كانت عندئذ قد عادت إلى أمريكا؛ لذا اتصلت بها ذات يوم وقلت لها إنني أريد أن أذهب إليها. وعندما وافقت اشتريت تذكرة وركبت أول طائرة متجهة إلى الولايات المتحدة. لم آخذ أمتعتي أو أخبر المكتب الذي كنت أعمل به أو أودع أحدا أو أي شيء.
فكرت في هذا الوقت أن باستطاعتي أن أبدأ من جديد. لكنني الآن موقن من أنني لا أستطيع إطلاقا أن أبدأ من جديد. ليس في واقع الأمر. يعتقد المرء أن لديه القدرة على التحكم في حياته، لكنه في الواقع مثل السمكة في شبكة شخص آخر. في بعض الأحيان أفكر أن هذا هو سبب تعلقي بوظيفة المحاسبة. ذلك لأنني طوال اليوم أتعامل مع الأرقام. أضيفها وأضربها، وإن كنت دقيقا في حساباتي فسيكون لدي حل دائم لأية مشكلة. فالعملية برمتها قائمة على التسلسل والترتيب. لذا مع الأرقام يستطيع المرء التحكم ...»
احتسى روي رشفة أخرى من مشروبه وأبطأ من وتيرة حديثه على حين غرة كأنه سقط بعيدا في أعماق مكان آخر أو كأن روح أبينا قد تملكته. وقال: «إنني أكبر إخوتي، كما ترى. وطبقا لتقاليد قبيلة لوو فإنني الآن رب المنزل. أنا مسئول عنك وعن أوما وعن كل الإخوة الأصغر سنا. ومسئوليتي هي تقويم الأمور جميعها. ودفع مصاريف المدرسة لإخوتي. والتأكد من ارتباط أوما بزوج صالح. وبناء منزل ملائم ولم شمل العائلة من جديد.»
مددت يدي على الطاولة ولمست يده. وقلت له: «ليس عليك أن تفعل ذلك بمفردك يا أخي.» وتابعت: «يمكننا أن نشترك معا في هذه المسئولية.»
لكن بدا لي أنه لم يسمعني. وحملق فقط في النافذة، وبعد ذلك لوح للنادل فجأة كما لو كان قد استيقظ من حالة لاوعي. «أتريد شرابا آخر؟» «لماذا لا نطلب الحساب الآن؟»
نظر إلي روي وابتسم. «أستطيع أن أقول إنك شخص كثير القلق يا باراك. وتلك هي مشكلتي أيضا. أعتقد أننا في حاجة إلى تعلم كيف نتقبل الأوضاع كما هي ونرضى بالأمر الواقع. أليس هذا ما تقولونه في أمريكا؟ فقط تقبل الأوضاع وارض بالأمر الواقع ...» ضحك روي مجددا بصوت عال استدار تجاهه الجالسون على المائدة المجاورة لنا. لكنها كانت ضحكة بلا روح فبدت جوفاء غير صادقة، كما لو كانت آتية من مسافة شاسعة ومن مكان لا حياة فيه. •••
سافرت على طائرة اليوم التالي؛ لا بد أن روي كان يريد قضاء بعض الوقت مع زوجته ولم يكن لدي المال الذي أدفعه لقضاء ليلة أخرى في الفندق. تناولنا الفطور معا وفي الصباح بدا أفضل حالا. وعند بوابة المطار تصافحنا وتعانقنا ووعدني بأن يزورني بمجرد أن تستقر الأمور. في أثناء رحلة العودة إلى شيكاغو وعلى مدار ما تبقى من عطلة نهاية الأسبوع لم أستطع أن أخلص نفسي من الشعور بأن روي في خطر ما، وأن شياطين ذكرياته القديمة تقوده إلى الجحيم، وفكرت أنني إذا تصرفت كما ينبغي أن يتصرف الأخ فسوف أمنع سقوطه في هوة الجحيم.
عندما دخل جوني مكتبي في وقت متأخر بعد ظهر يوم الإثنين كنت لا أزال أفكر في روي.
قال جوني: «عدت مبكرا . كيف كانت الرحلة؟» «كانت جميلة. وكان من الرائع أن أرى أخي.» أومأت برأسي وأنا أطرق على حافة المكتب برفق. قلت: «إذن ماذا حدث أثناء غيابي؟»
جلس جوني على أحد المقاعد. وقال: «حسنا، تقابلنا مع عضو مجلس الشيوخ عن الولاية. وقد تعهد بتقديم مشروع قانون للحصول على التمويل اللازم لبرنامج التطوير للنظام المدرسي. ربما لن يصل إلى النصف مليون دولار بأكملها لكنه سيفي بالغرض.» «رائع. وماذا عن مديري المدارس الثانوية؟» «عدت للتو من اجتماع مع دكتور كينج، مدير المدرسة التي يعمل بها أسانتي. ولم يرد سائر المديرين على اتصالاتي.» «ممتاز. وماذا قال دكتور كينج؟»
قال جوني: «ابتسم طوال الوقت. وقال إنه أعجب بالاقتراح بالفعل. وسعد للغاية عندما سمع أن هناك إمكانية للحصول على التمويل. وقال إنه شجع المديرين الآخرين على التعاون معنا وأننا سنحصل على دعمه الكامل. وقال: «لا يوجد شيء أكثر أهمية من إنقاذ شبابنا.»» «رائع.» «نعم. رائع. وعندما كنت على وشك مغادرة مكتبه أعطاني هذه فجأة.» أمسك جوني حقيبته وأخرج ورقة منها وأعطاني إياها. قرأت سطورا قليلة قبل أن أعطيها له مرة أخرى. «سيرة ذاتية؟» «ليست أية سيرة ذاتية يا باراك. إنها تخص زوجته. يبدو أنها سئمت البقاء في المنزل، ويعتقد دكتور كينج أنها ستكون مديرة «رائعة» لبرنامجنا. وفي هذا الصدد يجب ألا نسيء فهمه فنظن أنه يضغط علينا. وبمجرد تخصيص التمويل سيكون هناك اعتبارات أخرى، من المؤكد أنك تعلم ما أقصد.» «أعطاك السيرة الذاتية الخاصة بزوجته ...» «ليس فقط الخاصة بزوجته.» أمسك جوني مرة أخرى بحقيبته وأخرج ورقة أخرى ولوح بها في الهواء. وقال: «أعطاني السيرة الذاتية الخاصة بابنته أيضا. وأخبرني أنها ستكون مستشارة رائعة ...» «لا ...» «إنني متأكد يا باراك من أنه خطط لكل شيء. أتعلم؟ بالإضافة إلى أنه طوال وقت حديثنا لم يشعر بالخجل إطلاقا. كان يتصرف وكأن ما يفعله هو أكثر شيء طبيعي يحدث في العالم. أمر لا يصدقه عقل.» هز جوني رأسه، ثم فجأة صاح وكأنه واعظ. وقال: «نعم! إنه الدكتور لوني كينج! مثال الجرأة والبسالة ! الشجاع المقدام! صاحب الأفكار الجريئة! لم يبدأ البرنامج بعد، وها هو ذا يفكر فيه مستقبلا.»
بدأت أضحك.
أضاف قائلا: «إنه لا يريد وظيفة واحدة فقط! بل اثنتين! اذهب وتحدث معه عن بعض الأطفال وسيعطيك السير الذاتية الحمقاء لعائلته بأكملها ...»
صحت صيحة قلدته فيها. قلت: «دكتور لوني كينج!»
قهقه وهو يقول: «نعم! دكتور لوني كينج!» مما جعلني أضحك أكثر وبلغ بنا الضحك مبلغا جعلنا ننحني لأعلى ولأسفل ونحن نقهقه، ولا نلبث أن نلتقط أنفاسنا حتى نعود لتكرار هذه العبارة مرة أخرى «دكتور لوني كينج!» كما لو كانت تشتمل على أوضح الحقائق على الإطلاق أو أكثر العناصر أهمية من بين الأربعة عناصر المكونة للعالم المادي. ظللنا نضحك إلى أن توهجت وجوهنا وآلمتنا ضلوعنا وسالت الدموع من أعيننا وشعرنا بأننا لم نعد نستطيع الضحك لأكثر من ذلك، وقررنا أن نرتاح الوقت المتبقي بعد ظهر هذا اليوم دون عمل ونحتسي الجعة. •••
في هذه الليلة قريبا من منتصف الليل توقفت سيارة أمام المبنى الذي أقطنه وبها مجموعة من المراهقين وسماعات مكبرة للصوت تصدر أصواتا عالية للغاية لدرجة أن أرضية الشقة بدأت تهتز. في مثل هذه المواقف اعتدت تجاهل هذه الأشياء المزعجة والتساؤل: إلى أين سيذهبون إن غادروا هذا المكان؟ لكن في هذا المساء على وجه التحديد كان في المبنى ضيف جديد؛ فقد عرفت أن جاري في الشقة التي بجواري أنجبا طفلا جديدا وأحضراه إلى المنزل؛ لذا ارتديت شورتا واتجهت لأسفل لأتحدث مع زوار الليل الواقفين أسفل المبنى. وعندما اقتربت من السيارة توقف من بداخلها عن الحديث ونظر جميعهم تجاهي. «استمعوا إلي، إننا نحاول أن ننام. لماذا لا تذهبون إلى مكان آخر؟»
لم يقل أي من الصبية الأربعة الجالسين في السيارة كلمة واحدة، بل لم يتحركوا على الإطلاق. أفاقتني الرياح من نعاسي وعلى حين غرة شعرت أنني متجرد من ملابسي مع أنني كنت أقف على الرصيف في منتصف الليل مرتديا شورتا. لم أستطع رؤية وجوههم وهم داخل السيارة، وكان الظلام دامسا فلم أستطع تحديد أعمارهم، وهل كانوا في وعيهم أم ثملين، أخيارا أم أشرارا. ربما كان كايل واحدا منهم. أو روي. أو جوني.
ربما كنت أنا نفسي واحدا منهم. وأنا واقف في مكاني حاولت أن أتذكر الأيام التي كنت فيها جالسا في سيارة كهذه وروحي تعج بالاستياء المكتوم وبالإحباط حتى أثبت فقط أنني موجود في هذا العالم. تذكرت الشعور بالغضب المبرر عندما كنت أصرخ في وجه جدي لأي سبب كان. كما تذكرت المشاجرات الدامية في المدرسة الثانوية. وتذكرت تبجحي وأنا ذاهب إلى الفصل المدرسي في حالة سكر جلية أو حالة من النشوى نتيجة تعاطي المخدرات مع علمي بأن مدرسي سيشمون رائحة الجعة أو الماريجوانا عندما أتنفس، منتظرا أن ينبس أحدهم ببنت شفة. بدأت أصور نفسي عبر أعين هؤلاء الشباب ووجدت صورة للسلطة الطائشة وبدأت أعرف المقاييس التي يعيشون طبقا لها، وأنه إن لم يستطع أحدهم النجاح في التخلص مني فسينجح الأربعة بالتأكيد في ذلك إذا ما اجتمعوا معا.
عندما حاولت اختراق الظلام لمعرفة ما يدور بخلدهم داخل السيارة، فكرت في أنه مع كون هؤلاء المراهقين أضعف أو أقوى مني عندما كنت في عمرهم، فإن الفرق الوحيد بيننا يتمثل في أن العالم الذي عشت فيه أوقاتي العصيبة كان أكثر تسامحا من عالمهم. لم يملك هؤلاء الشباب أي هامش للخطأ؛ إذا حملوا أسلحة فإنها لن توفر لهم الحماية من هذه الحقيقة. وفي الواقع فإن هذه الحقيقة - التي يشعرون بها بالتأكيد لكنهم لا يستطيعون الاعتراف بها ولا بد من أن يرفضوها حتى يعيشوا يوما آخر - هي التي أجبرتهم، وأجبرت غيرهم من أترابهم، في النهاية على إغلاق الطريق أمام أي شعور بالتعاطف شعروا به من قبل. علاوة على أن رجولتهم العنيدة غير المقيدة بأي ضوابط لن تكبح - على عكس ما انتهى الأمر بي - بأي شعور بالحزن على جرح كبرياء من يكبرهم سنا. ولن تهدأ ثورة غضبهم باعترافي بالخطر الذي ربما يداهمني إذا تسببت في جرح شفة أحدهم، أو انطلقت بسيارتي بأقصى سرعة على الطريق السريع وقد ذهبت المسكرات بعقلي. في الواقع وجدت نفسي وأنا واقف مكاني أفكر في أننا دائما يدور داخلنا حوار بين شعورنا بالذنب والتعاطف وبين شعورنا الدفين بأن هناك حاجة إلى نظام ما، ليس بالضرورة أن يكون هذا النظام هو النظام الاجتماعي الموجود بالفعل، بل أقصد نظاما أكثر أهمية وأشد إلحاحا؛ شعور آخر بأن لكل منا دورا يجب أن يؤديه في النظام، ورغبة لا تنتهي مهما بدا عدم ثبات النظام في بعض الأحيان. إنني أظن أن هؤلاء الشباب سيضطرون إلى البحث لوقت طويل أو الكد للعثور على نظام يتعامل معهم على أنهم ليسوا أشكالا للخوف أو الازدراء. وهذا الشك يخيفني لأنني الآن أصبحت لي حياة في العالم الذي أعيش فيه، ولي وظيفة، ومنهج في الحياة أتبعه. وقدر استطاعتي على التعبير فإنه لا توجد أية صلة بيني وبين هؤلاء الشباب؛ لأننا فريقان مختلفان يتحدث كل منا لغة مختلفة ويعيش حياة مختلفة.
دار محرك السيارة التي انطلقت بعيدا محدثة صوتا حادا مزعجا. وعدت إلى شقتي وأنا أعترف لنفسي بأنني كنت غبيا ومحظوظا في آن، وأدركت أنني خائف بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
الفصل الرابع عشر
كان مبنى قديما في أحد الأحياء العتيقة بالجانب الجنوبي، ومع أنه لا يزال متينا فإنه في حاجة ماسة إلى الترميم وربما إلى سطح جديد. كان الحرم مظلما ومشتملا على مقاعد خشبية عديدة، منها ما تصدع ومنها ما انكسر، وكانت هناك سجادة حمراء مفروشة على الأرض تنبعث منها رائحة رطوبة عفنة، وفي أماكن مختلفة بدا سطح الأرضية المغطى بالسجادة غير مستو ارتفاعا وانخفاضا. أما مكتب القس فيليبس فكان على هذه الحالة الرثة البالية نفسها ولم يكن مضاء إلا بمصباح مكتب عتيق ألقى بظلاله الكئيبة الصفراء على الغرفة كلها. هذا بالإضافة إلى أن القس فيليبس نفسه كان متقدما في السن. وعندما فتح ستار النافذة بدا القس - وهو محاط بأكوام الكتب القديمة المتراصة - ملتصقا بالحائط دون أية حركة فصار كبرواز معلق عليها، ولم يكن ظاهرا منه بوضوح سوى شعره الناصع البياض وصوته الجهوري الروحاني الذي كان له صدى كالصوت المسموع في الأحلام.
تحدثنا لما يقرب من ساعة، ودار معظم حديثنا عن الكنيسة. لكننا لم نتحدث عن كنيسته بقدر ما تحدثنا عن الكنيسة بوجه عام؛ التطور التاريخي لكنائس الأمريكيين من أصل أفريقي (الكنائس السوداء) والكنيسة بوصفها مؤسسة والكنيسة بوصفها فكرة. كان رجلا مطلعا واسع المعرفة وبدأ حواره معي بالحديث عن تاريخ ديانة العبيد؛ أخبرني عن الأفارقة - الذين حطوا رحالهم على شواطئ عاتية لم تستقبلهم بالترحاب - أنهم كانوا يجلسون في حلقات حول نار موقدة يخلطون في أحاديثهم بين الأساطير الجديدة وإيقاعات الماضي، وأصبحت أغانيهم وكأنها سفينة تحمل أجمل الأفكار؛ البقاء والحرية والأمل. استمر القس في حديثه متذكرا الكنيسة الموجودة في الجانب الجنوبي في شبابه وقال إنها كانت مكانا صغيرا من الخشب المدهون باللون الأبيض بنيت بعرق المزارعين المستأجرين وبقروشهم القليلة التي كانوا يدخرونها، واستطرد قائلا إنه مكان كانت تختفي فيه في صباح أيام الآحاد الحارة المشرقة كل مشاعر الذعر وتندمل فيه جراح الأسبوع بأسرها بفعل الدموع وصيحات الشكر والامتنان وتصفيق الأيادي والتلويح بها للحث على الأفكار العنيدة نفسها؛ البقاء والحرية والأمل. تحدث القس عن زيارة مارتن لوثر كينج إلى شيكاغو والغيرة التي لاحظها كينج بين بعض خدام الكنائس وخوفهم من اغتصاب سلطتهم، ثم استطرد في حديثه عن ظهور المسلمين قائلا إنه تفهم غضبهم؛ فقد كان هذا الغضب غضبه هو نفسه، الغضب الذي لم يتوقع أن يهرب منه كلية إلا أنه تعلم كيفية التحكم فيه عن طريق الصلاة، وحاول ألا يورث هذا الغضب أطفاله.
شرح القس بعد ذلك تاريخ الكنائس في شيكاغو. وقد كان بالمدينة عندئذ آلاف الكنائس وبدا هو وكأنه يعرفها جميعا؛ فقد تحدث عن الكنائس الصغيرة التي تنشأ أمام المتاجر والكنائس الضخمة المبنية بالحجارة، ثم حدثني عن المصلين الأفروأمريكيين ذوي البشرة الفاتحة الذين كانوا يجلسون جلسة عسكرية وهم ينشدون ترانيمهم المتشددة، وأولئك المصلين الذين يتعبدون بحماس بالغ وتهتز أجسادهم وهم يتفوهون بلغة غير مفهومة. أوضح القس فيليبس أن معظم الكنائس الكبيرة في شيكاغو كانت مزيجا من هذين النمطين من المصلين، وأنها مثال على النعم الخفية للفصل العنصري، ومثال على الطريقة التي فرضت على المحامي والطبيب أن يعيشا ويتعبدا بجانب الخادم والعامل الأجير. كانت الكنيسة كقلب هائل الحجم ينبض بالحياة؛ إذ كانت توزع السلع وتروج المعلومات والقيم والأفكار ذهابا وإيابا؛ بين الغني والفقير، بين المتعلم والأمي، بين المذنب ومن نال الخلاص.
قال القس فيليبس إنه لا يعرف كم من الوقت يمكن أن تستمر كنيسته في أداء دور القلب هذا. فمعظم رعاياها الأكثر ثراء انتقلوا إلى أحياء أكثر نظافة وعاشوا حياة سكان الضواحي. على أنهم لا يزالون يحضرون الصلاة في أيام الآحاد إخلاصا منهم أو ربما من باب الاعتياد. لكن طبيعة ارتباطهم بالكنيسة طرأ عليها التغير؛ فكانوا مترددين في التطوع لعمل أي شيء - مثل الاشتراك في برنامج تعليمي أو الزيارات المنزلية - ربما يضطرهم إلى البقاء في المدينة بعد حلول الظلام. أضاف القس أن هؤلاء يحتاجون إلى مزيد من الأمان في المناطق حول الكنيسة، وبناء سياج حول مكان انتظار السيارات لحماية سياراتهم. وتوقع القس فيليبس أنه بمجرد أن يموت سيتوقف العديد من رعايا الكنيسة عن الحضور إليها وسينشئون كنائس جديدة منسقة مثل شوارعهم الجديدة. وكان القس يخشى من أن تتقطع في النهاية صلات الارتباط بالماضي وتختفي من ذاكرة الأطفال الحلقات التي كان يجلس حولها أجدادهم المسيحيون الأفارقة حول النار ...
بدأ صوته ينخفض تدريجيا حتى توقف عن الحديث وشعرت أن التعب قد تمكن منه؛ لذا طلبت منه أن يقترح علي أسماء قساوسة آخرين ربما يكون لديهم اهتمام بالعمل التنظيمي فذكر بضعة أسماء، وقال إن القس جيريميه رايت الابن - الشاب النشيط - قس كنيسة المسيح المتحدة للثالوث يستحق أن نتحدث معه، حيث إن رسالته ستروق للشباب من أمثالي. أعطاني القس فيليبس رقم هاتفه، وعندما نهضت من مكاني لأغادر مكتبه قلت له: «إذا استطعنا جمع شمل 50 كنيسة فقط فسنصبح قادرين على تغيير بعض الأمور التي حدثتني عنها.»
أومأ القس فيليبس برأسه وقال: «ربما تكون محقا يا سيد أوباما. إن لديك بعض الأفكار الشائقة. لكن كما ترى اعتادت الكنائس هنا على التصرف حسب أهوائها الخاصة. وفي بعض الأحيان ينطبق هذا على رعايا الكنائس أكثر مما ينطبق على القساوسة.» فتح الباب لي، ثم صمت. وقال بعد ذلك: «بالمناسبة، إلى أية كنيسة تنتمي؟» «إنني ... إنني أحضر الصلوات في كنائس مختلفة.» «لكن ألست عضوا في أية كنيسة؟» «أعتقد أنني لا أزال أبحث.» «حسنا، أفهم ذلك. على أن كونك عضوا في كنيسة بعينها ربما يساعدك كثيرا في رسالتك. ولا يهم بأية كنيسة ستكون عضوا. إن ما تطلبه من القساوسة يتطلب منا - من أجل مصلحة المسيحية - أن ننحي جانبا بعض اهتماماتنا الدينية. وهذا يتطلب منا أن يكون لدينا قدر كبير من الإيمان بداخلنا. وسيجعلنا هذا في حاجة إلى معرفة مصدر استقائك هذا الإيمان. الإيمان هو المهم.»
عندما أصبحت خارج المبنى ارتديت نظارتي الشمسية ومررت بجانب مجموعة من الرجال المسنين الذين جلسوا على مقاعد على رصيف الشارع يلعبون الورق. كان الطقس في ذلك اليوم رائعا حيث كانت درجة الحرارة 24 درجة مئوية (75 درجة فهرنهايت) وكان ذلك في أواخر شهر سبتمبر. وبدلا من أن أقود سيارتي مباشرة إلى ميعادي التالي قررت أن أنتظر وأفتح باب السيارة وأخرج ساقي منها وأنا على المقعد لأشاهد العجائز وهم يلعبون الورق. لم يتحدثوا كثيرا. وذكروني بالرجال الذين كان جدي معتادا لعب البريدج معهم، كانوا يشبهونهم إلى حد كبير؛ نفس الأيادي القوية السميكة، ونفس الجوارب الأنيقة، ونفس الأحذية الصغيرة العجيبة الشكل، ونفس حبات العرق بين ثنيات أعناقهم أسفل قبعاتهم المسطحة مباشرة. حاولت أن أتذكر أسماء هؤلاء الرجال الذين كانوا في هاواي، وماذا كانوا يعملون لكسب قوت يومهم، وبدأت أتساءل عما تبقى من الأشياء التي تركوها لي وظلت عالقة في نفسي. كم كان هؤلاء الرجال السود غامضين؛ هذا الغموض الذي كان أحد أسباب مجيئي إلى شيكاغو. أما الآن وبينما أغادر شيكاغو فقد وجدت نفسي أتساءل هل فهمتهم فهما أفضل من ذي قبل.
لم أخبر أحدا بقراري هذا ما عدا جوني. وفكرت في أن أعلن للآخرين هذا الخبر فيما بعد . وحتى شهر يناير لم يصلني رد من أي من كليات الحقوق التي أرسلت إليها أطلب الالتحاق بها. وفي هذا الوقت كان من المفترض بدء نشاط برنامج الشباب الجديد، وكان من المفترض أيضا أن أجمع ميزانية العام المقبل، وأن أدعو بعض الكنائس الأخرى للمشاركة في العمل التنظيمي. وفي حقيقة الأمر فإنني لم أخبر سوى جوني بهذا القرار إلا لأنني كنت أرغب في معرفة هل لديه الاستعداد للبقاء في شيكاغو ليحل محلي كمنظم قائد أم لا، وربما يكون السبب أيضا أنه صديقي وكنت أرغب في أن أفسر له ما يدور بخلدي وأشرح الأمر له. لكن جوني نفسه لم يكن يرى أن هناك حاجة إلى أي تفسيرات. ولحظة أن أخبرته بكليات الحقوق التي تقدمت للالتحاق بها - في جامعة هارفارد وجامعة ييل وجامعة ستانفورد - ارتسمت على شفتيه ابتسامة عريضة وربت على ظهري.
وصاح قائلا: «كنت أعرف ذلك!» «تعرف ماذا؟» «أن رحيلك عن هنا ليس إلا مسألة وقت. مسألة وقت ليس أكثر.» «لماذا فكرت بهذه الطريقة؟»
هز جوني رأسه وضحك. قال: «اللعنة، تسأل يا باراك؛ لأن لديك «خيارات». هذا هو السبب. أقصد أن باستطاعتك أن ترحل عن شيكاغو. إنني أعرف أنك شاب حي الضمير تقوم بعملك كما ينبغي، لكن عندما يكون على المرء الاختيار بين الدراسة في جامعة هارفارد أو جامعة روزلاند لا بد أنه سيختار جامعة روزلاند.» ومرة ثانية هز رأسه. وأضاف: «إنها هارفارد يا رجل! إنني لا أتمنى إلا أن تتذكر أصدقاءك عندما تكون جالسا في المكتب الخلاب وسط المدينة.»
لسبب أو لآخر جعلتني ضحكات جوني أتخذ موقفا دفاعيا. حيث أصررت على أنني سأعود مرة أخرى إلى الحي. وأخبرته بأنني لم أخطط للانبهار بالثروة والسلطة التي تعنيها هارفارد، وأكدت ضرورة ألا ينبهر بهما هو الآخر. صدق جوني بمزاح على كلامي. وقال: «إنك لست في حاجة لأن تخبرني بكل هذا. فلست أنا من سيترك المدينة.»
هدأت انفعالاتي وشعرت بالإحراج من ثورتي غير المبررة.
وقلت له: «حسنا ... لم أكن أريد أن أقول لك إلا أنني سأعود، هذا كل ما في الأمر. لا أريد أن يساء فهمي سواء من جانبك أو من جانب القادة.»
ضحك جوني برقة. وقال: «لن يسيء فهمك أحد يا باراك. إننا فخورون بأن نراك ناجحا.»
كانت الشمس في هذا الوقت تفر ببطء خلف السحاب، ونهض اثنان من لاعبي الورق وارتدى كل منهما المعطف الثقيل الذي كان يضعه على ظهر مقعده. أشعلت سيجارة وحاولت فك شفرة الحوار الذي دار بيني وبين جوني. ترى هل ساورته الشكوك في نواياي؟ أم أنني لا أثق بنفسي؟ لقد أمعنت النظر في قراري هذا 100 مرة على الأقل. إنني في حاجة إلى فترة راحة، أردت الذهاب إلى كينيا، فأوما قد عادت بالفعل منذ عام إلى نيروبي لتدرس في الجامعة، وقد يكون هذا وقتا مثاليا للقيام بزيارة طويلة.
كانت هناك بعض الأشياء التي ينبغي أن أتعلمها عبر الدراسة في كلية الحقوق ستساعدني في إحداث تغيير حقيقي. أشياء عن أسعار الفائدة، واندماج الشركات، والعملية التشريعية، والطريقة التي تعمل بها الشركات والبنوك معا، وكيفية نجاح أو فشل الشركات العاملة في مجال الاستثمار العقاري. بالإضافة إلى ذلك سأتعلم الكثير عن أداة القوة بكل تفاصيلها وتعقيداتها، إنها العلم الذي عرضني للخطر قبل مجيئي إلى شيكاغو ولكنني الآن سأعيده إلى المكان الذي هو في مسيس الحاجة إليه؛ سأعيده إلى روزلاند، وسأعيده إلى ألتجيلد، وسأفعل مثلما فعل بروميثيوس مع النار.
تلك هي القصة التي كنت أرويها لنفسي، القصة نفسها التي تخيلت أبي وهو يرويها لنفسه منذ 28 عاما عندما ركب الطائرة إلى أمريكا؛ أرض الأحلام. ربما يكون قد اعتقد هو الآخر أنه يؤدي عملا عظيما، وأنه لم يسافر فرارا من أمور لا تتطابق مع المنطق. وفي الواقع عاد بعدها إلى كينيا، أليس كذلك؟ بلى، لكنه عاد رجلا ذا روح ممزقة، وسرعان ما دفنت خططه وأحلامه ...
ترى هل سألقى نفس المصير؟ ربما كان جوني محقا في أنه بمجرد أن ينحي المرء التبريرات جانبا تصبح المسألة دائما مسألة هروب. هروب من الفقر أو السأم أو الجريمة أو القيود المفروضة بسبب لون البشرة. ربما لا يكون التحاقي بكلية الحقوق إلا تكرارا لنمط بدأ منذ قرون عندما وطئت أقدام البيض الشواطئ الأفريقية - بعدما دفعتهم مخاوفهم من أمور لا تتطابق مع المنطق - حاملين معهم بنادقهم وجوعهم الأعمى حتى يسحبوا المهزومين في قيودهم. أعادت هذه المواجهة الأولى رسم خريطة حياة السود، وأعادت تحديد مركز عالمهم، وخلقت الفكرة الجديدة المتمثلة في الهروب؛ تلك الفكرة التي ظلت باقية في نفس فرانك وغيره من السود العجائز الذين وجدوا ملاذا لأنفسهم في هاواي، وفي نفس جويس الفتاة ذات العينين الخضراوين في جامعة أوكسيدنتال التي كانت ترغب في أن تكون إنسانة فحسب، وفي أوما الممزقة المشاعر بين ألمانيا وكينيا، وفي روي الذي اكتشف أنه لن يستطيع أن يبدأ حياته من جديد. وظلت باقية هنا في الجانب الجنوبي من شيكاغو بين رعايا كنيسة القس فيليبس الذين ربما سار بعضهم بجانب الدكتور مارتن لوثر كينج مؤمنين بأنهم يسيرون من أجل تحقيق هدف سام، ومن أجل الحقوق والمبادئ ومن أجل جميع البشر أبناء الرب، على أن هؤلاء الرعايا أدركوا في مرحلة ما أن السلطة متعنتة والمبادئ ليست ثابتة، وأنه حتى بعد سن القوانين وإلغاء تنفيذ حكم الإعدام دون محاكمة استمر أقرب مفهوم للحرية يحمل بين طياته معنى الهروب - الهروب النفسي إن لم يكن المادي - بعيدا عن أنفسنا وبعيدا عما عرفناه في رحلة إلى خارج حدود إمبراطورية الرجل الأبيض، أو ربما أقرب من ذلك، إلى قلبها.
لم تكن المقارنة دقيقة تماما، ولم تكن العلاقة بين البيض والسود ومعنى الهروب مماثلين من منظوري لما كانا عليه من منظور فرانك أو أبي أو حتى من منظور روي. وفي ظل أنين شيكاغو من ضغط الفصل العنصري، وفي ظل التوتر بين الأعراق تسبب نجاح حركة الحقوق المدنية على الأقل في خلق بعض التداخل بين المجتمعات، ومنح أمثالي مساحة أكبر للمناورة. فكرت في أنني يمكنني العمل في المجتمع الأسود كمنظم أو محام وفي الوقت نفسه أسكن في وسط المدينة في بناية شاهقة. أو العكس تماما؛ العمل في مؤسسة قانونية كبيرة وأسكن في الجانب الجنوبي وأشتري منزلا كبيرا وسيارة جميلة وأتبرع ل «الجمعية الوطنية للارتقاء بالملونين» وإلى حملة هارولد الانتخابية، وألقي الخطب في المدارس الثانوية المحلية، ويطلقون علي لقب المثل الأعلى لنجاح الرجل الأسود.
هل يشوب هذا شائبة؟ من الواضح أن جوني لم يفكر بهذه الطريقة. أدركت الآن أن الابتسامة التي ارتسمت على شفتيه لم تكن تعبيرا عن رأيه في، ورأيت أنه - مثله مثل قادتي - لم ير أي خطأ في السعي لتحقيق مثل هذه النجاحات. وكان هذا درسا من الدروس التي تعلمتها خلال عامين ونصف قضيتها في شيكاغو، ألم يكن كذلك؟ تعلمت درسا فحواه أن معظم السود لم يكونوا مثل صورة أبي التي حلمت بها ولم يكونوا مثل الرجل الذي كان بطلا في القصص التي حكتها لي أمي؛ رجل المثل العليا المتضخمة الذي يصدر أحكامه وآراءه سريعا. على النقيض من ذلك كان معظم هؤلاء السود أشبه بلولو - زوج أمي - حيث كانوا عمليين للغاية وعرفوا أن الحياة قاسية للغاية فلا ينبغي أن يصدر أي منهم حكما عن الآخر، وعرفوا أن الحياة غاية في الفوضوية فلا يمكن العيش فيها طبقا لمثاليات مجردة. لم يتوقع أي منهم أن أضحي بنفسي من أجلهم؛ لم يتوقع ذلك رفيق الذي كان يلح علي قبل قليل في مساعدته لجمع تبرعات من مؤسسات البيض لتمويل مشروعه الأخير، وكذلك القس سمولز الذي قرر أن يرشح نفسه في انتخابات الولاية للحصول على عضوية مجلس الشيوخ، وكان يتوق للحصول على دعمنا. وكان شغلهم الشاغل جميعا أن لوني الأسمر معيار كاف للالتحاق بعضوية المجتمع، وهو ما يعتبر في حد ذاته أمرا كريها ينبغي أن أتحمله.
هل كان ما أحضرني إلى شيكاغو الرغبة في الحصول على قبول الآخرين؟ هذا أحد الأسباب التي أتت بي إلى هنا، وبكل تأكيد فإن هذا القبول أحد معاني المجتمع. لكن هناك معنى آخر للمجتمع ودافعا أكثر إلحاحا وتأثيرا . بالطبع كان يمكن أن يكون المرء أسود دون أن يأبه بما يحدث في ألتجيلد أو روزلاند. أو يأبه بأحوال صبية مثل كايل وأمهات صغيرات مثل بيرناديت أو سادي. أما أن يحسن المرء لنفسه وللآخرين ويضفي معنى على معاناة المجتمع بالإسهام في التئام جرحها، فهذا الأمر يتطلب ما هو أكثر. إنه يتطلب نوعا من الالتزام مثل ما كانت تقوم به دكتورة كوليار يوميا في ألتجيلد، وتضحيات مثل التي كان السيد أسانتي مستعدا لتقديمها لطلابه.
ويتطلب ذلك إيمانا أيضا. ألقيت نظرة سريعة على النافذة الصغيرة في الطابق الثاني في الكنيسة وتخيلت القس العجوز داخلها وهو يكتب مسودة العظة التي سيلقيها يوم الأحد. لقد سألني عن مصدر إيماني. وعلى حين غرة خطر ببالي أنني ليس لدي إجابة عن سؤاله. وربما أكون في الوقت الراهن لدي إيمان بذاتي. لكن إيمان المرء بنفسه لا يمكن أن يكون كافيا.
أطفأت سيجارتي وأدرت محرك السيارة. ونظرت من المرآة الخلفية وأنا أقود، وشاهدت لاعبي الورق الصامتين العجائز وهم يختفون عن أنظاري. •••
تقابلت مع عدد أكبر من خدام الكنائس السود في المنطقة على أمل إقناعهم بالانضمام إلى عملنا التنظيمي، وكان جوني يدير الأنشطة اليومية الخاصة بهذا العمل. كانت هذه العملية تسير بخطوات بطيئة؛ إذ كان معظم القساوسة السود - على عكس القساوسة الكاثوليكيين - مستقلين بصورة كبيرة ومنغلقين على أنفسهم في أبرشياتهم غير مبالين ولا يحتاجون كثيرا إلى أية مساعدات خارجية. وكلما اتصلت بهم هاتفيا أبدوا، عادة، ارتيابهم مني أو راوغوني حائرين من سبب رغبتي في استقطاع بضع دقائق من وقتهم ظانين تارة أنني مسلم وتارة، وهو الأسوأ، أنني أيرلندي. أما القساوسة الذين قابلتهم فقد تطابقت شخصياتهم مع الشخصيات التي تظهر في روايات ريتشارد رايت أو خطب مالكولم إكس، القساوسة أصحاب اللحى الذين شاب شعرهم المتظاهرين بالتقوى وهم يبشرون بالجنة في الحياة الآخرة، أو متدينين بارعين يجوبون الشوارع للترويج لدينهم راكبين سيارات تلفت الأنظار وأعينهم لا تفارق سلة التبرعات.
وكلما أتيحت لي الفرصة لمقابلة هؤلاء الرجال وجها لوجه انبهرت. ذلك لكونهم - كمجموعة - مراعين حقوق الآخرين ومثابرين ولديهم من الثقة وتحديد الهدف ما جعلهم أفضل المنظمين على الإطلاق في أحيائهم . كانوا كراما في منحي أوقاتهم، ومهتمين بالقضايا، ومستعدين - بطريقة تبعث على الدهشة - للتحدث أمامي عن أنفسهم بكل صراحة. مثلا تحدث أحد الخدام ذات مرة عن إدمانه المقامرة فيما مضى. وأخبرني خادم آخر عن سنواته التي قضاها مديرا تنفيذيا ناجحا وهو سكير في الخفاء. تحدث جميعهم عن فترات من الشك الديني؛ كانت هذه الفترات تبدأ بالتفكير في فساد العالم من حولهم وعدم نقاء قلوبهم، ثم السقوط في الهاوية وتحطم كبريائهم، وفي النهاية يأتي إحياء النفس من جديد، النفس التي تتحول إلى شيء أكبر، أصر هؤلاء الرجال على أن هذا كان مصدر ثقتهم؛ ألا وهو سقوطهم الشخصي ثم خلاصهم فيما بعد. وكان هو ما أعطاهم المرجعية لأن ينشروا تعاليم الإنجيل.
وكان بعضهم يسألني: هل سمعت الإنجيل؟
هل تعرف مصدر إيمانك؟
عندما طلبت أسماء قساوسة آخرين للتحدث معهم أعطاني العديد منهم اسم القس رايت الذي كان الخادم نفسه الذي ذكره لي القس فيليبس ذاك اليوم في كنيسته. كان من الواضح أن الخدام الأصغر سنا ينظرون إلى القس رايت باعتباره معلما، وإلى كنيسته باعتبارها نموذجا لما يأملون هم أنفسهم في تحقيقه. أما عن القساوسة الأكبر سنا فكانوا أكثر احتراسا عند مدحهم إياه ومنبهرين بالتطور السريع لأبرشية المسيح المتحدة للثالوث، لكنهم إلى حد ما يحتقرون شعبيتها بين العاملين الشباب السود. (قال لي أحد القساوسة عنها ذات مرة: «كنيسة المتعلمين السود».)
في أواخر شهر أكتوبر، سنحت لي الفرصة لزيارة القس رايت ورؤية الكنيسة بنفسي. وعندما ذهبت رأيت مبنى مفعما بالحياة في شارع 95 في حي سكني يبعد عن مشروعات لودين هوم ببعض المباني. في البداية توقعت أن أرى مبنى ضخما مهيبا، لكن اتضح أنه مبنى متواضع منخفض، مبني بالطوب الأحمر، وبه نوافذ بزوايا، ومحاط بأشجار ونباتات خضراء، وشجيرات تبدو وكأن نحاتا بارعا قد نحتها بيديه، ولافتة صغيرة مثبتة في الأرض المكسوة بالعشب مكتوب عليها بحروف كبيرة «حرروا جنوب أفريقيا ». أما عن الكنيسة من الداخل فإنها كانت جميلة وتعج بالنشاط. وكان بها مجموعة من الأطفال الصغار المنتظرين أهلهم لأخذهم من دار الحضانة. مرت مجموعة من الفتيات المراهقات ترتدي ما كان يشبه زي الرقص الأفريقي. وظهر أربع سيدات متقدمات في السن من حرم الكنيسة، وصاحت إحداهن «الرب خير!» ورد عليها الأخريات قائلات: «طوال الزمان!»
في نهاية المطاف جاءتني سيدة جميلة ذات أسلوب مرح ومفعم بالحيوية، وعرفتني بنفسها قائلة إن اسمها تراسي وإنها إحدى مساعدات القس رايت. وقالت إن القس سيتأخر بضع دقائق وسألتني هل أرغب في تناول القهوة. وفي أثناء اتباعي لها في طريق المطبخ في الجزء الخلفي للكنيسة بدأنا نتحدث وكان حديثنا في معظمه عن الكنيسة وإن كانت قد حدثتني قليلا عن نفسها. قالت لي إنها مرت بعام عصيب؛ فزوجها توفي قريبا، وفي غضون بضعة أسابيع ستنتقل إلى الضواحي. ثم استطردت قائلة إنها قاومت كثيرا هذا القرار لأنها عاشت معظم حياتها في المدينة، لكنها رأت أن الرحيل سيكون أفضل لابنها المراهق. بدأت تشرح لي كيف أن زيادة عدد عائلات السود في الضواحي ستساعد ابنها في أن يسير بحرية إلى مدرسته دون أن يتعرض للمضايقة، وكيف أن المدرسة التي سيلتحق بها تشتمل مناهجها على حصص للموسيقى وفرقة موسيقية وأنه سيحصل على آلات موسيقية وزي موحد بالمجان.
قالت تراسي برقة: «أراد ابني دائما أن يكون عضوا في فرقة موسيقية.»
وبينما كنا نتحدث لاحظت رجلا في أواخر سن الأربعين يسير تجاهنا. كان شعره وشاربه ولحيته بيضا، ويرتدي حلة رمادية من ثلاث قطع. تحرك ببطء وبانتظام نحونا كما لو كان يريد الحفاظ على طاقته وعدم إهدارها، كان ينظر بالتتابع إلى رسائله واحدة تلو الأخرى وهو يمشي ويهمهم لنفسه بأحد الألحان. «باراك!» هكذا قال كما لو كنا صديقين قديمين، «دعنا نر هل ستسمح تراسي لي بأخذ دقيقة من وقتك.»
قالت تراسي وهي تقف وتجذب ثوبها لأسفل: «لا تنتبه إليه يا باراك.» وتابعت: «كان من المفترض أن أحذرك من أن القس يحب المزاح في بعض الأحيان .»
ابتسم القس رايت وقادني إلى مكتب صغير يعج بأشياء كثيرة مبعثرة، وقال بعد أن دخل وأغلق الباب خلفه : «آسف على التأخير.» وتابع: «إننا نحاول بناء حرم جديد للكنيسة، وكان علي مقابلة المصرفيين. إنهم دائما في حاجة إلى أشياء إضافية من المرء. وآخر ما طلبوه هو بوليصة أخرى للتأمين على حياتي خشية أن أموت غدا. إنهم يتصورون أن الكنيسة بأكملها ستنهار في عدم وجودي.» «هل هذا صحيح؟»
هز القس رايت رأسه. وقال: «إنني لست الكنيسة يا باراك. وإن لقيت حتفي غدا، لا آمل إلا أن يدفنني رعايا الكنيسة دفنا لائقا. وإنني أميل إلى التفكير في أن بعض الدموع ستسيل حزنا على موتي. لكن بمجرد أن أدفن تحت الأرض بستة أقدام فإنهم سرعان ما سيبحثون ما يمكن فعله كي تؤدي الكنيسة رسالتها.»
تربى القس في فيلادلفيا وكان ابنا لخادم معمداني. قاوم الرجل نداءه الداخلي للاشتغال بوظيفة أبيه في البداية؛ ولذا التحق بالقوات البحرية بعد تخرجه، واهتم بمعرفة الكثير من المعلومات عن تجارة المشروبات الروحية وعن الدين الإسلامي والقومية السوداء في ستينيات القرن العشرين. لكن نداء الإيمان في قلبه ظل باقيا بوضوح، وفي آخر المطاف التحق بجامعة هاورد، ثم بجامعة شيكاغو حيث قضى ست سنوات يدرس للحصول على شهادة الدكتوراه في تاريخ الأديان. تعلم اللغة العبرية واليونانية وقرأ أعمال تيليش ونيبور وكتابات علماء اللاهوت التحرريين السود. أحضر القس معه إلى كنيسة الثالوث منذ عقدين من الزمن غضب رجل الشارع وفكاهته. ومع أنني لم أعرف الكثير عن سيرته إلا فيما بعد؛ فقد أصبح من الواضح من لقائي الأول معه - على الرغم من إنكاره المستمر لهذا الأمر - أن موهبته الشاملة وقدرته على توحيد العناصر المتعارضة لتجربة السود، إن لم يكن التوفيق بينها، كانت الأساس للنجاح الذي حققته الكنيسة في النهاية.
قال لي القس رايت: «إن لدينا العديد من الشخصيات المختلفة هنا.» وتابع: «علماء الثقافة الأفريقية من ناحية. والمتمسكون بالتقاليد من ناحية أخرى. وبين الحين والآخر أجد أنه لا مفر لي من أن أتدخل وأهيئ الأمور قبل أن يختلف الحزبان. لكن هذا نادرا ما كان يحدث. وفي المعتاد إن خطرت ببال أحدهم فكرة استحداث خدمة دينية جديدة أخبره بأن يسعى لتطبيقها ولا أعرقل طريقهم.»
من الواضح أن منهجه في العمل أتى بثماره؛ فقد ازداد عدد أعضاء الكنيسة من 200 عضو إلى أربعة آلاف عضو خلال مدة توليه المنصب، وكانت هناك أنشطة ترضي جميع الأذواق بدءا من اليوجا وحتى النوادي المبنية على طراز تلك الموجودة في جزر البحر الكاريبي. كان القس سعيدا للغاية بالتقدم الذي تحرزه الكنيسة في زيادة عدد أعضائها مع أنه أقر بأن المشوار أمامهم لا يزال طويلا.
قال القس رايت: «ليس هناك شيء أصعب من الحصول على اشتراك إخوة في مرحلة الشباب مثلك.» وتابع: «في الواقع إنهم يهتمون بصفة أساسية بكونهم لطفاء غير حادي الطباع. ويقلقون بشأن ما يقوله عنهم أصدقاؤهم. ويقولون لأنفسهم إن الكنيسة تليق بالسيدات أكثر من الرجال، وإنه من علامات الضعف أن يعترف أي رجل بأن لديه احتياجات روحانية.»
نظر القس إلي بعد ذلك نظرة جعلتني أشعر بالتوتر. لذا قررت أن أغير مجرى المحادثة إلى موضوع آخر أكثر ألفة لكلينا، فأخبرته عن مشروع التنمية المحلية وعن القضايا التي كنا نركز عليها موضحا الحاجة إلى أن تنضم إلينا الكنائس الكبيرة مثل كنيسته. جلس في صمت وصبر واستمع إلى كلامي وعندما انتهيت أومأ برأسه.
وقال لي: «سأحاول مساعدتك إذا استطعت.» واستدرك: «لكن ينبغي لك أن تعرف أن انضمامنا إليك لا يعد بالضرورة شرفا لك.» «لماذا؟»
هز القس كتفيه. وقال: «لا يقدر بعض رجال الدين زملائي ما نتحدث بصدده. فهم يشعرون أننا بذلك سنختلف اختلافا جذريا عنهم. وبالنسبة إلى آخرين فإننا لا نختلف اختلافا كافيا. وبعضهم يرانا عاطفيين للغاية. ويرانا آخرون غير عاطفيين بصورة كافية. وتركيزنا على التاريخ الأفريقي وعلى الثقافة ...»
قاطعته بقولي: «يقول بعض الناس إن الكنيسة قادرة على التحول السريع إلى الأفضل.»
تلاشت ابتسامة القس. وقال بحدة: «هراء!» وتابع: «الناس الذين يتفوهون بهذا الكلام يعكسون اضطرابهم الداخلي. فهم آمنوا بكل الأشياء التي تعوق عملنا معا. ونصف هؤلاء يعتقدون أن أفراد العصابات السابقة أو المسلمين السابقين ينبغي ألا يكون لهم علاقة بشئون الكنيسة. ويعتقد النصف الآخر أن أي رجل أسود متعلم أو يعمل في وظيفة أو ينضم إلى كنيسة تحترم الثقافة هو رجل مشتبه فيه إلى حد ما.
إننا لا نؤمن بهذه الانقسامات الزائفة هنا. كما أن الأمر ليس متعلقا بالدخل المالي يا باراك. فالشرطيون لا يسألون عن حسابي في البنك عندما يوقفون سيارتهم بجانب الطريق ويجعلونني أقف مباعدا بين قدمي ورافعا يدي لأعلى. هؤلاء الإخوة لا يستوعبون الأمر كما ينبغي، شأنهم شأن ذلك الأستاذ الذي يدرس علم الاجتماع في جامعة شيكاغو ويتحدث عن «الأهمية المتناقصة للعرق.» فهل يعرف هذا الأستاذ في أية دولة يعيش؟»
بعد ذلك سألته: أليست الانقسامات الطبقية مسألة حقيقية؟ وذكرت للقس المحادثة التي كانت بيني وبين مساعدته بخصوص ميل البعض للرحيل من المدينة. فخلع نظارته وحك عينيه المتعبتين.
وقال بهدوء: «لقد أبلغت تراسي برأيي في مسألة الرحيل من المدينة.» وأضاف: «إن ابنها سيذهب إلى هناك دون معرفة من هو أو إلى أين ينتمي.» «من الصعب المخاطرة بأمن طفلك.» «إن الحياة ليست آمنة لرجل أسود في هذا البلد يا باراك. وأبدا لم تكن كذلك. ومن المحتمل أنها لن تكون أيضا.»
بعد ذلك اتصل السكرتير ليذكر القس رايت بميعاده التالي. تصافحنا ووافق على أن تعد تراسي قائمة بأسماء الأعضاء المفترض أن يقابلوني. ثم وأنا في مكان انتظار السيارات جلست في سيارتي أتصفح سريعا صفحات كتيب فضي اللون أخذته من مكتب الاستقبال بالكنيسة. اشتمل هذا الكتيب على مجموعة من المبادئ الإرشادية - مثل نظام قيمة السود - التي تبنتها الأبرشية عام 1979. وفي أعلى القائمة مكتوب وعد للرب «الذي سيهبنا القوة حتى نتوقف عن التواكل، وحتى نصبح نشطاء مسيحيين سودا وجنودا هدفنا حرية السود وتحقيق كرامة البشرية كلها.» وتلا هذا الوعد وعد آخر تجاه المجتمع الأسود والعائلات السوداء والتعليم وأخلاقيات العمل والنظام واحترام الذات.
كانت هذه القائمة صادقة ومخلصة، لكنني أشك في أنها لم تكن مختلفة عن القيم التي يمكن أن يكون القس فيليبس العجوز قد تعلمها في كنيسته المطلية باللون الأبيض في الريف منذ 60 عاما. كانت هناك فقرة بعينها في كتيب كنيسة الثالوث تتميز عن غيرها من الفقرات؛ إذ تشتمل على وصية يظهر في نبرتها وعي أكثر بالذات في احتياجها إلى مزيد من التوضيح. عنوان الوصية: «التبرؤ من السعي للانضمام إلى الطبقة المتوسطة.» وبدأ متنها بالعبارة التالية: «في الوقت الذي يوصى فيه بالسعي للحصول على «دخل متوسط» بكل ما أوتيت من قوة»، فإن هؤلاء الذين أنعم الرب عليهم بموهبة (أو بموفور الحظ) مما ساعدهم على تحقيق النجاح وسط الاتجاه الأمريكي السائد لا بد من أن يتجنبوا الوقوع في الفخ النفسي ل «الطبقة المتوسطة» السوداء التي تدفع الناجحين من الرجال والسيدات دفعا إلى الاعتقاد في أنهم أفضل من الباقين وتعلمهم كيف يفكرون من منطلق «نحن» و«هم» بدلا من «جميعنا»!» •••
أعدت التفكير مرة أخرى في هذه الوصية في الأسابيع التي تلت مقابلتي للقس رايت وقت لقائي بالأعضاء الآخرين لكنيسة الثالوث. رأيت أن سلوك القس رايت كان على الأقل مبررا إلى حد ما عندما رفض الانتقادات الموجهة إلى الكنيسة لأن أغلبية الأعضاء من الطبقة العاملة مثلهم مثل المدرسين وموظفي السكرتارية والعمال الحكوميين في الكنائس السوداء الكبرى في أنحاء المدينة. أما سكان مشاريع الإسكان القريبة فقد جرى اجتذابهم وتوفير الوظائف لهم، وصممت برامج للوفاء باحتياجات الفقراء - مثل المساعدات القانونية والتعليمية وبرامج علاج الإدمان - وكلها أمور كانت تلتهم قدرا كبيرا من موارد الكنيسة.
وحتى الآن يعرف الجميع أن عدد المختصين السود بالكنيسة غير كاف، من مهندسين وأطباء ومحاسبين ومديري شركات. فبعضهم ترعرع في كنيسة الثالوث وبعضهم انتقل إليها من طوائف مسيحية أخرى. واعترف العديد منهم بأنهم ابتعدوا عن ممارسة الدين لوقت طويل؛ بعض هؤلاء فعل ذلك عن عمد كجزء من وعي فكري أو سياسي، لكن البعض الآخر فعل ذلك لأن الكنيسة بدت غير ملائمة لهم وهم يعملون في مؤسسات البيض بصفة أساسية.
في مرحلة ما أخبروني جميعا بأن طريقهم الروحاني صار مسدودا، وهو الشعور - الغامض والمقبض للصدر من أول وهلة - بأنهم انفصلوا عن ذاتهم. وبصفة متقطعة ثم منتظمة، كانوا يعودون إلى الكنيسة ليجدوا فيها بعضا من الأشياء نفسها التي يسعى كل دين إلى تقديمها إلى أتباعه؛ الملاذ الروحاني والفرصة كي يرى المرء مواهبه مقدرة أيما تقدير بطريقة لا يستطيع المال أن يوفيها حق قدرها، والطمأنينة - عندما تتيبس العظام ويشيب الشعر - بأنهم منتمون إلى شيء سيبقى بعد زوال حياتهم، وأنه عندما يحين أجلهم سيكون هناك أناس يحيون ذكراهم.
فكرت في أن الدافع الديني ليس هو ما يحرك هؤلاء الناس جميعا، وأنهم لم يعودوا للكنيسة من أجل المسيح فقط. وخطر ببالي أن كنيسة الثالوث - بأفكارها الأفريقية وبتركيزها على تاريخ السود - استمرت في أداء الدور الذي وصفه القس فيليبس في البداية كأداة لإعادة توزيع القيم وترويج الأفكار. إلا أن عملية إعادة التوزيع لم تسر عندئذ في اتجاه واحد فحسب من مدرس المدرسة أو الطبيب الذي كان يرى أن المسيحية تحتم عليه مساعدة المزارع المستأجر أو الشاب القادم من الجنوب في التكيف مع حياة المدن الكبيرة. بل أصبح تيار الثقافة يسير في الاتجاه العكسي أيضا؛ فعضو العصابات السابق والأم المراهقة يدعيان أنهما تعرضا لقدر أكبر من الحرمان ومن ثم ينبغي التعامل معهما على أساس أنهما متساويان مع غيرهما، وهكذا يصبح وجودهما في الكنيسة عاملا يزود المحامي أو الطبيب بخبرات مستقاة من الشوارع. وعن طريق فتح أبوابها أمام الجميع أكدت كنيسة الثالوث لأعضائها أن أقدارهم واحدة، وأن كلمة «جميعنا» الجلية لا تزال باقية.
كان هذا المجتمع الثقافي برنامجا فعالا أكثر مرونة من القومية العادية وأكثر تحملا من أي من برامجي التنظيمية. ولكن لا أزال لا أستطيع التوقف عن التساؤل بخصوص هل كان يكفي منع مزيد من الناس من الرحيل عن المدينة أو إبعاد الشباب عن دخول السجن. وهل الزمالة المسيحية بين مدير مدرسة أسود على سبيل المثال، وولي أمر أسود لأحد الطلاب، يمكن أن تغير أسلوب إدارة المدارس؟ وهل يسمح الاهتمام بالإبقاء على هذه الوحدة للقس رايت بأن يعبر عن رأيه في آخر الاقتراحات المقدمة لإصلاح الإسكان العام؟ وإن كان رجال مثل القس رايت قد فشلوا في التعبير عن آرائهم، وإن رفضت الكنائس مثل الثالوث الاشتراك بفاعلية في الأمر والمخاطرة بحدوث نزاع فعلي، إذن ما فرصة الحفاظ على وحدة المجتمع الأكبر؟
في بعض الأحيان كنت أطرح هذه الأسئلة على من أقابلهم. وكانوا يجيبونني بنظرة الارتباك نفسها التي كان ينظر بها لي القس فيليبس والقس رايت. ووجهة نظرهم أن المبادئ الموضحة في كتيب الثالوث مقالات إيمانية لا تزيد عن الاعتقاد في يوم البعث. وقالوا لي إن لديك أفكارا طيبة. وربما إن انضممت إلى الكنيسة يمكنك مساعدتنا في بدء برنامج للمجتمع. لماذا لا تأتي يوم الأحد؟
وما كنت أفعله هو أن أهز كتفي وأكرر السؤال مرة أخرى، غير قادر على الاعتراف بأنني لم أعد أستطيع التمييز بين الإيمان والهراء، وبين الإيمان والثبات؛ بمعنى أنني كنت أومن بالصدق الذي كنت أسمعه منهم، وفي نفس الوقت بقيت متشككا في دوافعي الخاصة ومحترسا من الاهتداء الضروري، وكان كل ذلك بسبب صراعاتي الكثيرة مع مفهوم الرب التي منعتني من تقبل فكرة أن الخلاص يمكن أن أحصل عليه بمثل هذه السهولة. •••
مات هارولد واشنطن قبل يوم واحد من الاحتفال بعيد الشكر.
حدث ذلك دون سابق إنذار. وقبل وفاته ببضعة أشهر كان هارولد قد فاز في الانتخابات المعادة فوزا ساحقا على فردولياك وبيرن محطما سياج الفشل الذي أحاط بالمدينة على مدار الأربع سنوات السابقة. أدار هارولد حملته الانتخابية هذه المرة بمهارة شديدة؛ إذ استعمل حنكته التي حصل عليها بخبرة السنوات وتخلى في هذه الحملة عن تلك الحماسة التي اتصف بها عام 1983؛ كانت حملة توحيد ودعم، حملة ميزانيات متوازنة ومشاريع عامة. استطاع هارولد التواصل مع بعض السياسيين القدامى - من الأيرلنديين والبولنديين - المستعدين لصنع السلام، وأرسلت إليه الشركات الأموال معلنة تقبلها لوجوده. ومن ثم فإن سلطته أصبحت آمنة للغاية مع أن أصوات الاستياء علت في النهاية في قاعدته من بين القوميين السود اليائسين بسبب استعداده لتقليل عدد العاملين من البيض والهيسبانيين، وبين النشطاء المحبطين بسبب فشله في التعامل مباشرة مع الفقر، وبين من فضلوا الحلم على الحقيقة، والأهمية على الحلول الوسط.
لم يعط هارولد اهتماما كثيرا لهذه الانتقادات. ورأى أنه لا يوجد سبب للمخاطرة والتسرع. وقال إنه سيكون العمدة على مدار العشرين عاما القادمة.
ثم حل الموت؛ مفاجئا وبسيطا وحاسما، بل سخيفا في حدوثه بصورة عادية وانتزاعه النبض من قلب هذا الرجل الضخم.
كان الجو ممطرا وباردا في عطلة نهاية الأسبوع هذه. وخيم الصمت على شوارع الحي. وبكى الناس داخل المنازل وخارجها. وأخذت المحطات الإذاعية التي تبث برامجها للسود تعيد إذاعة خطب هارولد - ساعة بعد أخرى - وكأنهم يحاولون استدعاء روح الميت. وفي مجلس المدينة كانت الصفوف تمتد بطول بضع بنايات حيث الحزانى ذاهبون لزيارة الجثة الراقدة في سلام. وظهر السود في كل مكان مذهولين ومذعورين وخائفين من المستقبل وفي حالة من عدم القدرة على تحديد الاتجاهات.
عندما حان وقت الجنازة عزف مؤيدو حكومة واشنطن على ألحان الصدمة الأولى. فبدءوا في مقابلة الناس وإعادة تجميعهم محاولين تحديد استراتيجية للحفاظ على السيطرة ومحاولين أيضا اختيار وريث عادل لهارولد. لكن في الواقع كان أوان ذلك قد فات. حيث لم يكن هناك أي حزب سياسي أو مبادئ معترف بها بوضوح حتى تتبع. كانت المبادئ السياسية للسود قد تركزت حول رجل واحد كان مشرقا كالشمس الساطعة في السماء. لكنه غاب الآن عن الأنظار ولم يستطع أحد الاتفاق على معنى وجوده السابق.
دب النزاع بين مؤيدي واشنطن. وظهرت الفصائل. وانتشرت الإشاعات. وفي يوم الإثنين - اليوم الذي كان من المقرر فيه أن يحدد مجلس المدينة عمدة جديدا ليكون في الحكم لحين ميعاد الانتخابات - انفك الائتلاف الذي منح هارولد منصبه. ذهبت إلى مجلس المدينة مساء هذا اليوم لأشاهد الموت الثاني؛ حيث إن الناس - وكان أغلبهم من السود - تجمعوا خارج قاعات الاجتماع في مجلس المدينة من بعد الظهيرة، كان منهم الشيوخ والفضوليون، رجالا وسيدات يحملون شعارات ولافتات. كانوا يصرخون في وجوه أعضاء مجلس المدينة الذين أبرموا صفقة مع جبهة البيض. ولوحوا بأوراق الدولارات في وجه عضو مجلس المدينة الأسود الهادئ الطباع المعسول اللسان الذي كان في السلطة منذ وجود الأحزاب السياسية التي تهدف إلى تحقيق مآربها الشخصية، والذي يدعمه أعضاء مجلس المدينة البيض. لذا أطلقوا على الرجل لقب الخائن وخادم البيض. وأخذوا يهتفون ويمشون بخطوات غاضبة سريعة ويقسمون بأنهم لن يبرحوا أماكنهم.
على الرغم من كل ذلك فقد تمتعت السلطة بالصبر، وكانت تعرف ماذا تريد؛ حيث كان بوسعها هزيمة اللافتات، والصلوات، وبقاء الناس سهارى في الطريق تحت أضواء الشموع معبرين عن احتجاجهم. وقرابة منتصف الليل، وقبل أن يبدأ المجلس فعليا في أخذ الأصوات، فتح الباب إلى قاعات الاجتماع لوقت وجيز، ورأيت اثنين من أعضاء مجلس المدينة يتناقشان بصوت خفيض. كان أحدهما أسود من رجال هارولد، والآخر أبيض من مؤيدي فردولياك. وأخذا يتهامسان ويبتسمان ابتسامات قصيرة، وينظران إلى الحشود التي لا تزال تنشد، محاولين سريعا التوقف عن الابتسام، كانا ضخمي الجثة ممتلئي القوام يرتديان حلتين ذواتي الصفين من الأزرار ورأيت في عينيهما نظرة الجوع نفسها؛ رجلين يعرفان النتيجة مسبقا.
غادرت مجلس المدينة بعد ذلك. واخترقت الزحام الذي تدفق إلى الشوارع ومشيت عبر طريق دالي بلازا قاصدا سيارتي. كم كانت الرياح باردة وحادة مثل شفرة السكين، وأنا في طريقي شاهدت لافتة بخط اليد ملقاة على الأرض بجانبي. كان مكتوبا عليها: «عاشت روحه» بحروف كبيرة واضحة. وأسفل الكلمات رأيت صورة هارولد، الصورة التي رأيتها كثيرا وأنا أنتظر إخلاء أحد المقاعد في صالون سميتي للحلاقة، حيث الوجه الوسيم الأشهب والابتسامة الرقيقة المتسامحة، والعينان المتلألئتان، رأيت صورته وهي تتطاير في الهواء وكأنها ورقة شجر تحركها رياح الخريف. •••
مرت الشهور بسرعة هائلة وأنا أتذكر دائما الأشياء التي لم تنجز بعد. وعملنا بالتعاون مع تآلف له شعبيته في المدينة كلها من أجل كسب التأييد لبرنامج إصلاح المدارس. وعقدنا مجموعة من الاجتماعات المشتركة مع المكسيكيين في أقصى الجانب الجنوبي لوضع استراتيجية بيئية مشتركة للمنطقة. واستشاط جوني غضبا وأنا أحاول أن أحشوه بكافة الأشياء التي تعلمتها في ثلاث سنوات.
سألته: «إذن من قابلته هذا الأسبوع؟» «حسنا، تقابلت مع السيدة بانكس في كنيسة ترو فاين هولينيس. ويبدو أن لديها إمكانيات فائقة. فهي معلمة ولها اهتمامات كثيرة بالتعليم. وأعتقد أنها دون شك ستتعاون معنا.» «ما وظيفة زوجها؟» «نسيت في الواقع أن أسألها.» «ما رأيها في نقابة المعلمين؟» «لم يكن لدي سوى نصف ساعة فقط يا باراك ...»
في شهر فبراير، تلقيت خطاب قبولي للدراسة في كلية الحقوق بجامعة هارفارد. وجاء مع الخطاب قدر كبير من المعلومات. وذكرني هذا الأمر بالمعلومات التي تلقيتها من أكاديمية بوناهو ذلك الصيف منذ 14 عاما. وتذكرت كيف كان جدي يجلس طوال الليل يتصفح الكتيب الدعائي الذي يعرض لدروس الموسيقى ودورات التأهيل ونوادي الإنشاد الجماعي وشهادة إتمام الدراسة الثانوية؛ تذكرت كيف كان يلوح بالكتيب ويخبرني بأنه سيكون ورقتي الرابحة وبأن من سأتعرف عليهم في أكاديمية بوناهو سيظلون معي طوال حياتي، وأنني سوف أكون عضوا نشطا في المجتمع وستتاح لي كل الفرص التي لم تتح له. تذكرت كيف كان في نهاية المساء يبتسم ويمسح على شعري وتتلألأ الدموع في عينيه كما لو كان على وشك البكاء ورائحة الويسكي تنبعث من فمه. وكيف كنت أبتسم له وأتظاهر بأني أفهم ما يقوله لكنني كنت في الواقع أتمنى لو كنت لا أزال في إندونيسيا أركض بين حقول الأرز حافي القدمين، منغمسة قدماي في الوحل الرطب البارد وأنا واحد من أفراد ذلك الصف من الأطفال ذوي البشرة السمراء الذين يجرون وراء طائرة ورقية ممزقة.
راودني هذا الشعور نفسه الآن.
رتبت لدعوة 20 خادم كنيسة - أو ما يقرب من ذلك - الذين وافقت كنائسهم على الانضمام إلى المؤسسة على غداء عمل هذا الأسبوع في مكتبنا. وجاء معظم الخدام المدعوين ومعظم أفراد القيادة الرئيسيين. وناقشنا معا استراتيجيات العام القادم والدروس التي تعلمناها من موت هارولد. هذا بالإضافة إلى أننا حددنا فترة التدريب واتفقنا على قيمة المشاركة المالية، وتحدثنا عن الحاجة المستمرة لانضمام عدد أكبر من الكنائس. وعند انتهائنا من تحديد كل شيء أعلنت أنني سأرحل في شهر مايو وأن جوني سيكون المدير الجديد.
لم يفاجأ أحد بهذا الأمر. وجاءوا جميعهم إلي بعد ذلك وقدموا تهانيهم. وأكد لي القس فيليبس أنني اتخذت قرارا حكيما. وقالت منى وأنجيلا إنهما كانتا تعرفان أنني كنت سأصبح مهما يوما ما، وسألتني شيرلي عن مدى استعدادي لمساعدة ابن أخ لها وقع في إحدى بالوعات الصرف الصحي في الشارع وأراد رفع دعوى قضائية.
كانت ماري الوحيدة التي اعتلى وجهها الحزن. وبعد أن غادر معظم الخدام ساعدتني أنا وويل وجوني في ترتيب المكان. وعندما سألتها إن كانت في حاجة إلى أن أوصلها هزت رأسها.
قالت وهي تنظر إلي وإلى ويل وترتدي معطفها: «ما خطبكم أيها الرجال؟» ارتعد صوتها بعض الشيء. وأضافت: «لماذا دائما في عجلة من أمركم؟ لماذا لا يعجبكم شيء؟»
رددت عليها وفكرت في ابنتيها الجالستين في المنزل وفي أبيهما الذي لم تعرفاه مطلقا. وبعد ذلك مشيت معها إلى باب الغرفة وعانقتها. وعندما رحلت عدت إلى غرفة الاجتماعات حيث كان ويل ممسكا بطبق يتناول ما به من بقايا أجنحة الدجاج المقدمة للضيوف.
سألني وهو يأكل: «أتريد بعضا من الطعام؟»
هززت رأسي بالنفي وجلست على الطاولة. وشاهدني لفترة من الوقت وهو يمضغ بهدوء ويلعق الصوص الحار العالق بأصابعه.
وقال في النهاية: «إن هذا المكان يروق لك، أليس كذلك؟»
أومأت برأسي بالإيجاب. وقلت: «بلى، هذا صحيح يا ويل.»
احتسى رشفة من المياه الغازية التي أمامه وتجشأ. وقال: «ثلاث سنوات ليست فترة طويلة.» «ومن قال لك إنني سأعود مرة أخرى؟»
قال وهو يبعد طبقه بعيدا عنه: «لا أحد.» وتابع: «إنني أعرف فحسب.» ودون أن يتفوه بكلمة أخرى ذهب ليغسل يديه قبل أن يركب دراجته ويسير بها في الشارع. •••
استيقظت من النوم في السادسة صباح يوم الأحد. وكان الجو لا يزال مظلما بالخارج. حلقت ذقني ونظفت حلتي الوحيدة التي أملكها ووصلت إلى الكنيسة في السابعة والنصف. كانت معظم المقاعد مشغولة بالفعل. وقادني مرشد يرتدي قفازا أبيض إلى الطريق ومررنا بجانب سيدات طاعنات في السن ارتدين قبعات كبيرة عليها ريش، ورجال طوال القامة ارتسمت على وجوههم ملامح الجدية يرتدون حللا وأربطة عنق وقبعات مصنوعة من قماش منقوش، وأطفال في كامل أناقتهم كما هو معهود في أيام الآحاد. لوح لي ولي أمر تلميذ يدرس في مدرسة دكتورة كوليار، كان موظفا في هيئة شيكاغو للإسكان وكنت قد تشاجرت معه عدة مرات، ورددت على تلويحه بإيماءة جافة. شققت طريقي إلى أن وصلت إلى وسط أحد الصفوف وجلست بجانب سيدة ممتلئة الجسم تكبرني سنا لم تكن تستطيع التحرك بسرعة وعائلة مكونة من أربعة أفراد كان الأب يتصبب عرقا نظرا لارتدائه جاكيتا من الصوف الثقيل والأم تخبر ابنيها الجالسين بجانبها بأن يتوقفا عن ضرب أحدهما الآخر.
سمعت أحدهما الأصغر سنا وهو يسأل أخاه: «أين الرب؟»
فأجاب الأخ: «اصمت.»
وقالت لهما أمهما: «فلتهدآ الآن.»
بدأت الراعية المساعدة لكنيسة الثالوث - وكانت سيدة في منتصف العمر طال الشيب شعرها وتتسم بالجدية الشديدة - في قراءة نشرة الكنيسة، وقادت بعض الأصوات الحالمة في ترتيل بعض الترانيم التقليدية. بعد ذلك ملأت جوقة المنشدين الممشى بين الصفوف، وكان أفرادها يرتدون ثيابا بيضاء وشيلانا مصنوعة من قماش حريري، وكانوا يصفقون ويغنون وهم ينتشرون إلى خلف المذبح على ألحان آلة الأرغن التي تلي قرع الطبول المتسارع:
أنا مسرور، يسوع قد رفعني!
أنا مسرور، يسوع قد رفعني!
أنا مسرور، يسوع قد رفعني!
غنوا هللويا!
يسوع قد رفعني!
وفي حين اشترك رعايا الكنيسة في الغناء ظهر الشمامسة وبعدهم القس رايت خلف الصليب الكبير المعلق في عوارض السقف الخشبية. ظل القس صامتا أثناء تلاوة الصلوات، وكان يمعن النظر في وجوه من يقفون أمامه ومتتبعا بعينيه سلة التبرعات وهي تنتقل من يد لأخرى. وعندما انتهى رعايا الكنيسة من التبرع صعد إلى منبر الوعظ وقرأ أسماء من توفوا ذلك الأسبوع وأسماء المرضى، وكان يصاحب كل اسم يقرؤه همهمات من بعض الحضور دليلا على معرفتهم به.
قال القس: «لنضم أيدينا ونحن نركع ونصلي عند قدم الصليب القديم الصلد ...» «نعم ...»
قال القس: «ربنا، جئنا في البداية لنشكرك على ما قدمته لنا بالفعل ... جئنا لنشكرك أساسا من أجل يسوع، ربنا، جئنا من مختلف الطبقات في المجتمع. البعض من طبقات رفيعة والبعض الآخر من طبقات وضيعة ... لكننا جميعا سواسية عند قدم هذا الصليب. نشكرك ربنا يسوع ... حامل أثقالنا وشريكنا في حملنا الثقيل، إننا نشكرك ...»
كان عنوان العظة التي ألقاها القس رايت في ذلك الصباح هو «جرأة الأمل». وبدأ حديثه بقراءة فقرة من سفر صموئيل التي تتحدث عن قصة حنة؛ السيدة العاقر التي كانت ضرتها تستهزئ بها، والتي بكت وارتعشت في صلاتها أمام ربها. قال القس إن هذه القصة تذكره بعظة ألقاها قس زميل له في مؤتمر ما منذ بضع سنوات، وفيها وصف القس ذهابه إلى أحد المتاحف ومشاهدته لوحة اسمها «الأمل».
شرح القس رايت هذه الحادثة بقوله: «صورت اللوحة سيدة تعزف على القيثار تبدو من أول وهلة وكأنها جالسة فوق قمة شاهقة لأحد الجبال. على أن المرء إذا أمعن في النظر فسيجد أن السيدة مصابة بكدمات ومخضبة بالدماء، وأنها ترتدي أسمالا بالية ممزقة. وسيكتشف المرء أن أوتار القيثار جميعها مكسورة فيما عدا وترا واحدا باليا. بعد ذلك عندما تنتقل عين المرء إلى أسفل المشهد، حيث الوادي الذي يوجد عند سفح الجبل، سيجد في كل مكان آثارا للدمار الذي خلفته المجاعة، وقرعا لطبول الحرب، وعالما يئن من الحروب والحرمان.»
قلت في نفسي: «إنه عالمنا، عالم تلقي فيه البواخر السياحية في البحر كميات من الطعام في يوم واحد تفوق ما يراه في عام كامل معظم سكان مدينة «بورت أوبرنس» عاصمة هايتي، عالم فيه جشع البيض يتحكم في سكانه المحتاجين، عالم تعمه التفرقة العنصرية في أحد نصفيه واللامبالاة في نصفه الآخر ... هذا هو العالم! هذا هو العالم الذي يكمن الأمل فيه!»
هكذا قدم القس رايت عظته في سياق تأملي لعالم منهار. بينما كان الولدان الجالسان بجواري يعبثان بنسخة من النشرة التي تصدرها الكنيسة تحدث القس رايت عن مذبحة شاربفيل بجنوب أفريقيا والضربة النووية على هيروشيما اللتين تعبران عن قسوة قلوب صناع السياسة، سواء في البيت الأبيض أو في المجلس التشريعي. وبمجرد أن بدأت العظة تتجلى للذهن أصبحت قصص الحروب أكثر مللا، وأصبح الشعور بالألم أكثر تعلقا بالوقت الحاضر. تحدث القس عن الصعاب التي يمكن أن تواجهها الأبرشية في الغد، وألم من هم بعيدون عن قمة الجبل الذين ينتابهم القلق من عدم قدرتهم على دفع فاتورة الكهرباء. وتحدث أيضا عن ألم أولئك القريبين من قمة الجبل المجازية: سيدات الطبقة المتوسطة اللاتي لديهن كل احتياجاتهن الدنيوية إلا أن أزواجهن يعاملونهن مثل «الخادمات وحارسات المنزل والرفيقات، كل هذا في وقت واحد»، والأطفال الذين يهتم آباؤهم الأثرياء «بملمس الشعر أعلى الرأس أكثر من اهتمامهم بجودة التعليم داخلها.» «أليس هذا العالم ... هو الذي يعيش فيه كل منا؟» «نعم!» «مثلنا مثل حنة، مررنا بأوقات عصيبة! ويوميا نواجه الرفض واليأس.» «نعم هذا صحيح!» «ومع ذلك، تخيلوا مرة أخرى الصورة أمام أعينكم. الأمل! مثلها مثل حنة، عازفة القيثار التي تنظر لأعلى، وتصدر من قيثارتها بعض الألحان الواهنة إلى أعالي السماء. إن لديها الجرأة على أن تشعر بالأمل ... لديها الجرأة ... على أن تعزف الموسيقى ... وتسبح الرب ... بعزفها على الوتر الواحد ... الذي تبقى لها!»
بدأ الناس يصيحون وينهضون من مقاعدهم ويصفقون ويبكون، وكانت هناك ريح شديدة تحمل صوت القس إلى عوارض السقف الخشبية. وعندما شاهدت هذا وسمعته وأنا في مقعدي بدأت أسمع كل ألحان السنوات الثلاث المنقضية وهي تدور في دوامة بداخلي. شجاعة روبي وخوف ويل. الزهو بالعرق وغضب رجال من أمثال رفيق. الرغبة في التنفيس عن الغضب، والرغبة في الهروب، والرغبة في الاستسلام إلى إله قادر على تخليص المرء من اليأس.
وبين طيات هذا اللحن المنفرد - الأمل! - سمعت شيئا آخر؛ عند ذلك الصليب، وداخل آلاف الكنائس في المدينة كلها، تخيلت قصص عوام السود مندمجة مع قصة داوود وجالوت، وقصة موسى وفرعون، وقصص المسيحيين الذين ألقوا في جب الأسود، وقصة وادي حزقيال المليء بالعظام اليابسة. أصبحت هذه القصص - قصص البقاء والحرية والأمل - قصصنا نحن، قصتي أنا؛ فالدماء التي أريقت هي دماؤنا، والدموع التي انهمرت هي دموعنا، إلى أن بدت هذه الكنيسة السوداء في هذا اليوم المشرق كالسفينة تنقل القصة إلى أجيال المستقبل وإلى العالم الفسيح. وأصبحت محاولاتنا وانتصاراتنا فريدة وعالمية في آن، للسود ولغيرهم من بني البشر، وبتأريخ رحلتنا منحتنا هذه القصص والأغاني فرصة لاستعادة الذكريات التي لم نعد في حاجة إلى أن نشعر بالخجل منها، الذكريات التي من السهل استيعابها أكثر من ذكريات مصر القديمة، الذكريات التي ربما يتدارسها الناس جميعا وتعلق طويلا بأذهانهم والتي في ظلها نستطيع أن نستعيد قوتنا. وإذا كان بعض مني استمر في الشعور بأن هذا العشاء الرباني ليوم الأحد يعرض حالتنا بوضوح في بعض الأحيان، وإن كان في أحيان أخرى يخفي أو يكبت الصراعات الحقيقية بيننا، هذا العشاء الذي يفي بوعده من خلال الفعل فحسب، فإنني شعرت أيضا ولأول مرة كيف حملت هذه الروح - الوليدة غير الكاملة - بين طياتها إمكانية انتقالنا إلى ما هو أبعد من أحلامنا المحدودة.
قال القس: «جرأة الأمل! لا أزال أتذكر جدتي وهي تغني في المنزل وتقول: «هناك جانب مشرق في الحياة ... لا يهدأ لك بال حتى تجده ...»» «هذا صحيح!»
استطرد القس قائلا: «جرأة الأمل! تذكرت الأوقات التي لم نستطع فيها دفع الفواتير. وتذكرت الأوقات التي بدا الأمر فيها وكأنني لن أستطيع إطلاقا تحقيق أي شيء ... في سن الخامسة عشرة وأنا مقبوض علي في حادث سرقة كبيرة خططت لها بنفسي ... ومع ذلك فقد ظل أبي وأمي يغنيان ...
نشكرك يا يسوع. نشكرك يا يسوع.
نشكرك يا يسوع. نشكرك يا يسوع.
نشكرك يا يسوع.
نشكرك يا رب.
رددتنا من طريق طويل بعيد،
طريق طويل بعيد، طريق طويل بعيد.»
ثم قال القس: «ما أبعد هذا الغناء عن المنطق! سألت نفسي لماذا يشكران الرب رغم كل هذه الصعاب التي واجهاها؟ على أنني في الواقع لم أكن أنظر إلا إلى البعد الأفقي في حياتهما! «أخبراني الآن!»
لم أفهم أنهما كانا يتحدثان عن البعد الرأسي! عن علاقتهما بالرب! لم أفهم أنهما كانا يشكرانه مقدما على جرأة أملهم في! أشكرك يا رب على أنك لم تتخل عني عندما تخليت عنك! أشكرك يا رب ...»
شعرت بلمسة حانية على يدي عندما عادت جوقة المنشدين للغناء وإثارة الحماسة وعندما بدأت جماعة المصلين من رعايا الكنيسة في التصفيق لمن اتجهوا نحو المذبح لتلبية نداء القس رايت. نظرت لأسفل ورأيت الولد الأكبر يجلس بجانبي، وكان وجهه يتوجس خيفة بعض الشيء عندما أعطاني كيس مناديل ورقية، وكانت أمه بجانبه ترمقني وعلى شفتيها ابتسامة باهتة واستدارت لتعاود النظر إلى المذبح. شعرت بالدموع تنهمر على وجنتي وأنا أشكر الولد.
سمعت السيدة العجوز بجانبي تهمس برقة وهي تقول: «نشكرك يا يسوع.» وتابعت: «نشكرك على أنك أوصلتنا لما وصلنا إليه.»
الجزء
كينيا
الفصل الخامس عشر
حلقت الطائرة من مطار هيثرو وفوقها سماء عاصفة. وكان هناك مجموعة من الشباب البريطانيين يرتدون سترات غير مناسبة لأجسامهم يملئون مؤخرة الطائرة، وجلس أحدهم - وهو شاب| طويل نحيف شاحب الوجه لا يزال حب الشباب يزعج بشرته - على المقعد إلى جواري. وقرأ تعليمات الطوارئ مرتين بتركيز شديد، وبمجرد أن ارتفعت الطائرة التفت ليسألني عن وجهتي، فأخبرته أنني أتجه إلى نيروبي لزيارة عائلتي. «إن نيروبي مكان جميل حسبما أسمع. ولن أمانع أبدا في الذهاب إلى هناك يوما ما. أما أنا فأتجه إلى جوهانسبرج.» وشرح لي أن الحكومة البريطانية رتبت له ولزملائه - كجزء من برنامج دراسي يؤهل للحصول على درجة علمية في علم الجيولوجيا - العمل مع شركات تعدين في جنوب أفريقيا لمدة عام. وقال: «يبدو أن لديهم نقصا في الأيدي العاملة المدربة هناك، ومن ثم إذا كنا محظوظين فسيجعلوننا نعمل لديهم في موقع دائم. وهي على ما أظن أفضل فرصة لنا للحصول على عمل بأجر لائق، إلا إذا أراد المرء أن يتجمد على أحد أرصفة البترول في بحر الشمال. وأنا لا أرغب في هذا، شكرا لك.»
أخبرته أنه إذا حصل السود في جنوب أفريقيا على الفرصة فإن كثيرا منهم قد يكون مهتما بالحصول على مثل هذا التدريب.
فقال: «أظن أنك على حق.» وتابع : «أنا لا أوافق على سياسة التمييز العنصري هناك. إنها لعار.» ثم فكر لدقيقة. وقال: «لكن بقية القارة الأفريقية تتمزق الآن، أليس كذلك؟ على الأقل هذا ما أعرفه. فالسود في جنوب أفريقيا لا يموتون جوعا مثلما يحدث لهم في بعض تلك البلاد البائسة. إنهم في موقف لا يحسدون عليه، ولكن مقارنة ببعض المساكين في إثيوبيا ...»
جاءت إحدى المضيفات في الممر ومعها سماعات للأذن يمكن تأجيرها أثناء الرحلة، أخرج الشاب محفظته ودفع ثمن إيجار السماعة. وقال: «بالطبع سأحاول وأبتعد عن السياسة. أظن أن هذا ليس من شأني. والأمر نفسه يحدث في الوطن؛ فالجميع يحصلون على الإعانة التي تدفعها الحكومة للبطالة، وكبار السن في البرلمان يرددون نفس التفاهات القديمة. أفضل شيء يفعله المرء هو أن يهتم بالحيز الصغير الذي يشغله من العالم، هذا رأيي.» وأخرج سماعات الأذن ووضعها في أذنيه.
وقال قبل أن يرجع مقعده إلى الوراء لينام قليلا: «هلا توقظني عندما يحضرون الطعام.»
أخرجت كتابا من حقيبتي الصغيرة التي أحملها معي داخل الطائرة وحاولت أن أقرأ. كان الكتاب وصفا لعدة دول أفريقية كتبه صحفي غربي قضى عقدا من الزمان في أفريقيا، وسيطلق عليه خبير بأفريقيا، وهو شخص يفتخر على ما يبدو بقدرته المتزنة على التقدير. ناقشت الفصول القليلة الأولى من الكتاب تاريخ الاستعمار بشيء من التفصيل: استغلال الكراهية القبلية، ونزعة الاستعمار إلى تغيير الحدود، والتهجير، والاعتقالات، وجميع أشكال المهانة. أما الأعمال البطولية في بدايات الاستقلال لرجال مثل كينياتا ونكروما فقد وفاها المؤلف حق قدرها قبل أن ينتقل للحديث بعد ذلك عن انجرافهم إلى الاستبداد وهو ما يعزى، على الأقل إلى حد ما، إلى الدسائس الكثيرة للحرب الباردة.
وفي الفصل الثالث من الكتاب بدأت صور من الحاضر تطغى على الماضي. المجاعة والأمراض والانقلابات، والانقلابات المضادة التي ينفذها شباب أميون يبرعون في استخدام رشاشات كلاشنكوف «أيه كى-47» وكأنها عصا رعاة الأغنام، وبدا كأن الكاتب يقول لو أن أفريقيا لها تاريخ فإن مدى المعاناة الحالية جعلت هذا التاريخ غير ذي معنى.
حقا مساكين. وبلاد بائسة .
وضعت الكتاب جانبا، وأنا أشعر بغضب مألوف يجري في عروقي، غضب يثير جنوني كثيرا لأنه يفتقد إلى هدف واضح. وإلى جواري يشخر الشاب البريطاني برفق، ونظارته تنزلق قليلا على أنفه الذي يشبه زعنفة السمكة. تساءلت بداخلي: هل كنت غاضبا منه؟ هل ذنبه أنني - رغم كل ما تلقيته من تعليم، وما أعرفه من نظريات - لم أكن أمتلك إجابات جاهزة للأسئلة التي طرحها؟ إلى أي حد يمكنني أن ألومه لأنه يريد أن يحسن وضعه؟ ربما أشعر بالغضب فقط بسبب ألفته الشديدة معي، وافتراضه أنني بصفتي أمريكيا، بل أمريكيا أسود، قد أشاركه بطبيعة الحال نظرته المعتمة عن أفريقيا؛ افتراض يمثل في عالمه على الأقل تطورا من نوع ما، لكنه في نظري لا يمثل إلا تأكيدا على وضعي غير المستقر؛ فأنا غربي لا يشعر أن الغرب وطنه بحق، وأفريقي في طريقه إلى أرض مليئة بالغرباء.
كان هذا الشعور يتملكني طوال الفترة التي قضيتها في أوروبا؛ كنت متوترا ومتحفظا ومترددا في التعامل مع الغرباء. ولم أكن أخطط للأمر بهذا الشكل. فقد كنت أفكر في التوقف المؤقت هناك على أنه ليس إلا اتخاذ طريق غير مباشر للوصول إلى الجهة نفسها، وفرصة لأزور أماكن لم أرها من قبل. ولمدة ثلاثة أسابيع سافرت وحدي في أرجاء القارة معظم الأوقات بالحافلة وبالقطار، وفي يدي دليل إرشادي للسياح. احتسيت الشاي على ضفاف نهر التيمز، وشاهدت الأطفال وهم يطارد بعضهم بعضا بين أشجار الكستناء في حديقة لكسمبورج بفرنسا. ومررت عند الظهيرة بالضبط بساحة بلازا مايور بإسبانيا ورأيت ما بها من ظلال للوحات «دي شيريكو» والعصافير التي تحوم في السماء الفضية اللون، ورأيت حلول الظلام على تل بالاتين بإيطاليا منتظرا ظهور النجوم، واستمعت إلى صوت الرياح وما يحمله من همسات عن الفناء.
وفي نهاية الأسبوع الأول تقريبا أدركت أنني قد اقترفت خطأ. لم يكن الأمر أن أوروبا ليست جميلة، بل كان كل شيء كما تخيلته بالضبط. لكن المكان لم يكن مكاني. شعرت أنني أعيش قصة إنسان آخر؛ فقد وقف تاريخي غير المكتمل حاجزا بيني وبين الأماكن التي أراها مثل جدار غليظ من الزجاج. وبدأت أشك في أن هذا التوقف في أوروبا وسيلة أخرى للتأخير، مجرد محاولة أخرى لتجنب التصالح مع أبي. كنت مجبرا - بعد أن تجردت من اللغة والعمل والروتين، وتجردت حتى من الهواجس العنصرية التي أصبحت معتادا عليها بشدة والتي أصبحت أعتبرها (على العكس) علامة على النضج - على النظر إلى أعماق نفسي ولم أجد فيها سوى فراغ كبير.
فهل ستملأ هذه الرحلة إلى كينيا هذا الفراغ أخيرا؟ هكذا ظنوا في شيكاغو. إذ قال ويل في الحفل الذي أقيم بمناسبة رحيلي، سيكون كما في رواية «الجذور». وقال عنها أسانتي إنها رحلة مقدسة. وفي نظرهما، وكذلك في نظري، أصبحت أفريقيا فكرة أكثر من كونها مكانا حقيقيا، أرض ميعاد جديدة، مليئة بتقاليد عتيقة ومشاهد جارفة وصراعات نبيلة وطبول معبرة. ونظرا لتمتع أفريقيا ببعد المسافة عنا أصبحنا نحمل لها مشاعر خاصة، هي نفس المشاعر التي حملتها لأبي يوما ما. ماذا سيحدث بمجرد أن أمحو بعد المسافة؟ كان من الأفضل أن أومن أن الحقيقة ستحررني بصورة ما، لكن ماذا لو كنت مخطئا؟ ماذا لو كانت الحقيقة مخيبة للآمال، وأن موت أبي لم يكن يعني شيئا، وتركه لي لم يكن يعني شيئا، وأن الصلة الوحيدة التي تربطني به، أو بأفريقيا، هي الاسم، أو فصيلة الدم، أو احتقار الرجل الأبيض لكلينا؟
أطفأت المصباح الموجود فوق رأسي وأغمضت عيني، وتركت عقلي ينجرف عائدا إلى شخص أفريقي قابلته وأنا أسافر في أرجاء إسبانيا، رجل آخر يهرب. كنت أنتظر حافلة المساء على رصيف إلى جانب الطريق في منتصف المسافة بين مدريد وبرشلونة. وبعض الرجال كبار السن يجلسون إلى طاولات ويحتسون الخمر في أكواب قصيرة غير شفافة. وعلى أحد الجوانب طاولة للعبة البلياردو، ولسبب ما نظمت الكرات وبدأت ألعب وأنا أتذكر تلك الليالي مع جدي في الحانات في شارع هوتيل ستريت بما به من فتيات ليل وقوادين، وجدي هو الرجل الأبيض الوحيد في الملهى الحقير.
وحين كنت أنتهي من تنظيم الطاولة ظهر فجأة رجل يرتدي سترة صوفية خفيفة وسألني هل يمكنه أن يدعوني إلى فنجان من القهوة. لم يكن يتحدث الإنجليزية ولغته الإسبانية ليست أفضل مني كثيرا، لكن لديه ابتسامة رائعة ونظرة شخص في حاجة ماسة للصحبة. وأخبرني عندما وقفنا في الحانة أنه من السنغال وأنه يطوف جميع أنحاء إسبانيا جيئة وذهابا يعمل في أعمال موسمية. وأراني صورة بالية يحتفظ بها في محفظته لشابة لها وجنتان مستديرتان ناعمتان. وقال إنها زوجته وإنه اضطر أن يتركها بالسنغال. وقال إن شملهما سوف يجتمع بمجرد أن يدخر المال. وعندئذ سيكتب لها طالبا منها الحضور للعيش معه.
انتهى بنا الحال مستقلين الحافلة إلى برشلونة معا، ولم يتحدث أي منا كثيرا، فكان يتلفت إلي من حين لآخر يحاول أن يشرح لي دعابات برنامج إسباني يعرض في التليفزيون المثبت فوق مقعد السائق. وقبل الفجر بقليل نزلنا أمام محطة حافلات قديمة، وأشار صديقي إلى نخلة قصيرة كثيفة زرعت على جانب الطريق. وأخرج من حقيبة ظهره فرشاة أسنان ومشطا وزجاجة مياه أعطاها لي بأدب شديد. واغتسلنا معا قبل شروق الشمس، قبل أن نحمل حقائبنا على أكتافنا ونتجه إلى المدينة.
ماذا كان اسمه؟ لا أتذكر الآن، إنه مجرد متلهف آخر بعيد عن وطنه، واحد من كثيرين من أبناء المستعمرات القديمة، أحد أبناء الجزائر أو الهند الغربية أو باكستان، الذين يخترقون الآن الحواجز التي وضعها أسيادهم القدامى، ويرتبون لغزوهم العشوائي المنهك. ومع ذلك فعندما كنا نسير في اتجاه شوارع الرامبلا شعرت أنني أعرفه بالفعل، ومع أننا نأتي من طرفين متقابلين من العالم فإننا نقوم بالرحلة نفسها. وعندما افترقنا في النهاية ظللت في الشارع وقتا طويلا جدا أراقب صورة جسده النحيل وساقيه المتقوستين تبتعد وتبتعد، وتمنى بعض مني حينها لو أذهب معه إلى حياة مليئة بالطرقات المفتوحة والأيام المشرقة، في حين أن بعضا آخر أدرك أن مثل هذه الأمنية قصة، أو فكرة، جزئية كصورتي عن أبي أو عن أفريقيا. حتى استقررت على حقيقة أن هذا الرجل القادم من السنغال قد اشترى لي القهوة وقدم لي الماء، وهذا حقيقي، وربما يكون هذا هو كل ما يحق لأحدنا أن يتوقعه؛ مجرد مقابلة بالصدفة ، وقصة مشتركة، وعمل صغير يدل على الطيبة ...
اهتزت الطائرة قليلا ببعض الاضطرابات، وجاء طاقم العمل بالطائرة ليقدم لنا العشاء. أيقظت الشاب البريطاني الذي تناول طعامه بدقة مثيرة للإعجاب، وكان يصف وهو يأكل كيف يكون الحال عندما يتربى المرء في مانشستر. وفي النهاية رحت في سبات عميق. وعندما استيقظت كانت المضيفة توزع استمارات الجمارك استعدادا للهبوط. وفي الخارج كان الظلام لا يزال مخيما، لكن عندما ألصقت وجهي في الزجاج استطعت رؤية بعض الأضواء المتناثرة، وكانت ناعمة وغير واضحة مثل اليراعات، وبالتدريج بدأت تتجمع لتكون شكل مدينة بالأسفل. وبعد بضع دقائق ظهر منحدر من تلال مستديرة مظلمة في مقابل خيط طويل من الضوء في الأفق الشرقي. وبمجرد أن هبطنا في فجر يوم أفريقي رأيت سحبا رفيعة عالية تخط السماء وأسفلها يتوهج باللون الأحمر. •••
كان مطار كينياتا الدولي خاويا تقريبا، ويحتسي المسئولون شاي الصباح وهم يفحصون جوازات السفر، وفي منطقة تسلم الحقائب سير نقال يصدر صريرا يخرج الحقائب ببطء. لم أر أوما في أي مكان؛ لذا جلست على حقيبتي التي أحملها معي وأشعلت سيجارة. وبعد بضع دقائق جاء أحد حراس الأمن يسير باتجاهي وفي يده هراوة خشبية. فنظرت حولي بحثا عن طفاية سجائر، ظنا مني أنني في منطقة ممنوع التدخين فيها، ولكن بدلا من توجيه اللوم إلي ابتسم الحارس وسألني هل معي سيجارة أخرى له.
قال وأنا أشعل سيجارته: «هذه أول رحلة لك إلى كينيا، أليس كذلك؟» «بلى.» «أعلم ذلك.» جلس القرفصاء إلى جواري. وقال: «إنك من أمريكا. لعلك تعرف ابن أخي. اسمه سامسون أوتيينو. إنه يدرس الهندسة في تكساس.»
فأخبرته أنني لم أذهب إلى تكساس قط، فلم تتسن لي فرصة مقابلة ابن أخيه. وقد بدا أن هذا أصابه بالإحباط، فالتقط عدة أنفاس متعاقبة من السيجارة في تتابع سريع. وفي ذلك الوقت كان آخر الركاب في الرحلة التي أتيت فيها قد غادر المطار. فسألت الحارس ألا يزال هناك المزيد من الحقائب قادمة. فهز رأسه بشك.
وقال: «لا أظن هذا، ولكن إذا انتظرت هنا فسأجد لك من يساعدك.»
وانعطف حول ممر ضيق واختفى عن الأنظار، فوقفت كي أشد ظهري. وفي ذلك الوقت كان انفعال الترقب بداخلي قد جف، وابتسمت لذكرى العودة إلى الوطن التي تخيلتها لنفسي ذات مرة: انقشاع السحب، وهروب الشياطين القدامى، وارتجاف الأرض والأجداد يخرجون منها للاحتفال. وبدلا من ذلك شعرت بأنني متعب ووحيد. كنت على وشك البحث عن هاتف عندما ظهر حارس الأمن مرة أخرى مع سيدة رائعة الجمال سوداء البشرة نحيفة القوام يصل طولها إلى ما يقرب من ستة أقدام [180 سنتيمترا]، وترتدي زي العاملين في الخطوط الجوية البريطانية. وقدمت نفسها على أنها الآنسة أومورو، وقالت إن حقيبتي على الأرجح أرسلت خطأ إلى جوهانسبرج.
قالت: «أعتذر بشدة عن هذا الخطأ.» وتابعت: «هل تملأ من فضلك هذه الاستمارة، ويمكننا الاتصال بجوهانسبرج وإعادتها إلى هنا على متن أول طائرة قادمة.»
ملأت الاستمارة ونظرت إليها الآنسة أومورو نظرة سريعة قبل أن تعود وتنظر إلي. سألتني: «هل تمت بصلة للدكتور أوباما؟» «نعم، إنه أبي.»
فابتسمت الآنسة أومورو في تعاطف. وقالت: «أنا آسفة للغاية لرحيله. لقد كان والدك صديقا مقربا لعائلتي. وكان كثيرا ما يأتي إلى منزلنا وأنا طفلة.»
بدأنا نتحدث عن زيارتي، وأخبرتني هي عن دراستها في لندن، وكذلك شوقها للسفر إلى الولايات المتحدة. ووجدت نفسي أحاول أن أطيل الحوار، ولم يكن ذلك بسبب جمالها الفتان - فقد ذكرت أنها مخطوبة - بقدر ما كان لأنها عرفت اسمي. وأدركت أن هذا لم يحدث قط من قبل، لا في هاواي ولا إندونيسيا ولا لوس أنجلوس ولا نيويورك ولا شيكاغو. ولأول مرة في حياتي أشعر براحة وثبات الهوية التي قد يقدمها الاسم، وكيف يمكن أن يحمل تاريخا كاملا في ذكريات أناس آخرين، حتى إنهم يمكن أن يومئوا برءوسهم، ويقولون: «نعم، أنت فلان ابن فلان.» فلن يسأل أحد في كينيا كيف أتهجى اسمي، أو يتلعثم في نطقه لأن لسانه لم يعتد هذه الأسماء الغريبة. لقد كان اسمي ينتمي إلى هذا المكان، وكذلك أنا، وينجذب إلى شبكة من العلاقات والتحالفات والضغائن التي لم أفهمها بعد. «باراك!» استدرت لأجد أوما تقف هناك تقفز لأعلى وأسفل خلف حارس آخر لم يدعها تمر إلى منطقة الحقائب. استأذنت وهرعت إليها وضحكنا وتعانقنا بنفس الطريقة المضحكة التي تقابلنا بها لأول مرة. وإلى جوارنا سيدة طويلة سمراء البشرة تقف مبتسمة، فالتفتت أوما وقالت: «باراك، هذه عمتنا زيتوني، أخت والدنا.»
قالت زيتوني: «مرحبا بك في بلدك»، وقبلتني على كلتا وجنتي.
أخبرتهما عن الحقيبة وقلت إن شخصا هنا يعرف أبي. لكن عندما نظرت إلى حيث كنت أقف وجدت أن الآنسة أومورو قد اختفت عن الأنظار. سألت حارس الأمن إلى أين ذهبت. هز كتفيه وقال لا بد أنها استأذنت لبقية اليوم. •••
كانت أوما تقود سيارة قديمة لبنية اللون من طراز فولكس فاجن بيتل. وكانت السيارة تمثل لها مشروعا استثماريا. فنظرا لأن المواطنين الكينيين الذين يعيشون بالخارج يمكنهم شحن سيارة إلى كينيا بدون دفع رسوم الاستيراد الكبيرة، رأت أنها يمكنها استخدامها خلال السنة التي ستدرس فيها في جامعة نيروبي، ثم تبيعها بسعر تكلفة الشحن، وربما تجني من ورائها بعض الربح. ولسوء الحظ أصيب المحرك بصدمة عنيفة وسقط كاتم الصوت (الشكمان) في الطريق إلى المطار. وعندما انطلقنا إلى الطريق السريع ذي الحارات الأربع، وأوما تقبض بكلتا يديها على عجلة القيادة، لم أستطع أن أمنع نفسي من الضحك.
وقلت: «هل أخرج وأدفع السيارة من الخلف؟»
فعبست زيتوني. وقالت: «لا تقل شيئا عن هذه السيارة يا باري. إنها سيارة جميلة. لا تحتاج إلا إلى طلاء جديد. وفي الواقع لقد وعدتني أوما بالفعل أن أحصل على هذه السيارة بعد أن ترحل.»
هزت أوما رأسها. وقالت: «إن عمتك تحاول أن تغشني الآن يا باراك. كل ما في الأمر أنني وعدتها أن نتحدث بهذا الشأن.»
فقالت زيتوني وهي تغمز لي: «ما الذي سنتحدث بشأنه؟» وتابعت: «إنني سأمنحك أفضل سعر يا أوما.»
بدأت كلتاهما تتحدثان في الوقت نفسه وتسألانني كيف كانت رحلتي، وتخبرانني بالخطط التي جهزتاها لي وتسردان قائمة بالأشخاص الذين يجب أن أراهم. امتدت السهول الفسيحة أمامنا على جانبي الطريق، معظمها من حشائش السافانا، ومن حين لآخر تظهر شجرة شوكية في الأفق؛ مناظر بدت قديمة وطبيعية. وبالتدريج بدأ المرور يزدحم، وبدأت الحشود تتدفق من الريف في طريقها إلى العمل، وكان الرجال لا يزالون يقفلون أزرار قمصانهم الخفيفة والسيدات منتصبات القامة ورءوسهن مغطاة بأوشحة ملونة بألوان زاهية. والسيارات تسير في خطوط غير منتظمة عبر الحارات والطرق الملتوية، تراوغ لتتجنب الحفر في الأرض والدراجات والمشاة، في حين توقفت حافلات ركاب صغيرة قديمة غير ثابتة، قيل لي إن اسمها «ماتاتو»، دون أي تحذير كي تحمل المزيد من الركاب على متنها. بدا المشهد بأسره مألوفا لدي بصورة غريبة وكأنني قد مررت في الطريق نفسه من قبل. وحينها تذكرت أيامي في إندونيسيا وأمي ولولو يتحدثان في المقعدين الأماميين للسيارة، وتنبعث رائحة الأخشاب المحترقة والديزل نفسها، والسكون نفسه الذي كان يخيم في فترة الازدحام في الصباح، والنظرة نفسها على وجوه الناس وهم يشقون طريقهم لبدء يوم جديد لا يدور بمخيلاتهم الكثير من التوقعات سوى تمضية اليوم، وربما أمل محدود في أن يتغير حظهم، أو على الأقل يصمد كما هو.
ذهبنا لنوصل زيتوني إلى مجمع سكني كبير كئيب يطلق عليه «كينيا برويريز» حيث تعمل مبرمجة كمبيوتر. وعندما خرجت من السيارة انحنت علي مرة أخرى لتقبلني على وجنتي، ثم لوحت بأصبعها لأوما. وقالت: «اعتني بباري جيدا، واحرصي على ألا نفقده مرة أخرى.»
وعندما عدنا إلى الطريق السريع سألت أوما ماذا تعني زيتوني بفقداني مرة أخرى، فهزت أوما كتفيها.
وقالت: «إنه تعبير شائع الاستعمال هنا.» وتابعت: «عادة ما يعني أن هذا الشخص لم يرك منذ فترة. فتجده يقول لك «إنك فقدت». أو «لا تجعلني أفقدك». وفي بعض الأحيان يكون له معنى أكبر. على سبيل المثال: فمثلا ينتقل ابن أو زوج إلى المدينة أو إلى الغرب - مثل عمك عمر في بوسطن. هم يعدون بالعودة بعد الانتهاء من الدراسة. ويقولون إنهم سيرسلون للعائلة بمجرد أن يستقروا. وفي البداية يرسلون خطابا كل أسبوع. ثم يصبح مرة واحدة كل شهر . ثم يتوقفون تماما عن إرسال الخطابات. ولا يراهم أحد مرة أخرى. ومن ثم نقول إنهم فقدوا. هذا مع أن الجميع يعلمون أين هم.»
ناضلت السيارة لتصعد طريقا منحدرا محاطا ببساتين كثيفة وأشجار الأوكالبتوس والنباتات المعترشة. والمنازل القديمة الأنيقة تقف وراء سياج وأحواض الزهور، وقالت أوما إنها المنازل التي كانت في يوم من الأيام خاصة بالبريطانيين فقط، ولكنها الآن خاصة بمسئولي الحكومة والعاملين بالسفارات الأجنبية. وفي أعلى المنحدر انعطفنا يمينا وأوقفنا السيارة في نهاية طريق مليء بالحصى إلى جوار مبنى سكني أصفر اللون يتكون من طابقين استأجرته الجامعة لأعضاء هيئة التدريس. وهناك أراض خضراء شاسعة تنحدر من المبنى لتلتقي بالأرض المزروعة بأشجار الموز وغابة عالية، وبالأسفل مجرى مائي ضيق وغير نظيف يجري عبر واد واسع مليء بالأحجار.
كانت شقة أوما تقع في الطابق الأول وهي شقة صغيرة لكنها مريحة، بها أبواب على الطراز الفرنسي تجعل ضوء الشمس ينفذ إلى الغرف. وهناك أكوام من الكتب في كل مكان، ومجموعة من الصور، صورة فوتوغرافية وأخرى التقطت بكاميرا فورية، ملصقة معا على لوح واحد ومعلقة على أحد الحوائط، وهو عمل فني من مزيج من صور العائلة صنعته أوما لنفسها. وفوق سرير أوما لاحظت وجود صورة كبيرة لامرأة سوداء تنظر بوجهها لأعلى باتجاه زهر يتفتح، وأسفلها طبعت الكلمات «لدي حلم».
فسألتها وأنا أضع حقائبي: «ما حلمك يا أوما؟»
ضحكت. وقالت: «هذه هي أكبر مشكلة لدي يا باراك. لدي أحلام كثيرة. وأية امرأة لديها أحلام لديها دائما مشكلات.»
لا بد أن إنهاكي من الرحلة كان باديا علي لأن أوما اقترحت أن أنال قسطا من النوم في حين ذهبت هي إلى الجامعة لتلقي محاضراتها. سقطت على الفراش الصغير الذي أعدته لي ورحت في سبات عميق على صوت طنين الحشرات خارج النافذة. وعندما استيقظت كان وقت الغسق ولا تزال أوما بالخارج. ومن المطبخ لاحظت وجود سرب من القرود سود الوجوه يجتمع أسفل شجرة موز. أكبرها سنا يجلس بحذر أسفل الشجرة يشاهد بحاجبين معقودين والصغار يجرون هنا وهناك عبر الجذور الطويلة الملتوية. غسلت وجهي في الحوض ووضعت الماء كي يغلي لأصنع شايا، ثم فتحت الباب الذي يقود إلى الفناء. فتجمدت القردة في أماكنها، وأعينها جميعا تتجه إلي في انسجام. وعلى بعد بضعة أقدام امتلأ الجو بخفقات جناحين أخضرين ضخمين، وراقبت الصعود الحالم لطائر طويل العنق وهو يصدر سلسلة من الأصوات الغليظة ويتجه نحو شجرة بعيدة. •••
قررنا أن نبقى في المنزل تلك الليلة نطهو اليخني ونتبادل أخبارنا. وفي الصباح التالي سرنا إلى المدينة وتجولنا نشاهد معالمها دون قصد وجهة معينة. وكان مركز المدينة أصغر مما توقعت، وبه الكثير من الفنون المعمارية الاستعمارية كما هي: فرأيت صفوفا من المباني المطلية بالجص الأبيض من الأيام التي لم تكن فيها نيروبي أكثر من مجرد مخفر لخدمة إنشاء السكة الحديد البريطانية. وإلى جانب هذه المباني ظهرت مدينة أخرى، مدينة من المباني الإدارية الشاهقة الارتفاع والمحال الأنيقة والفنادق ذات الردهات التي لا تختلف كثيرا عن نظيراتها في سنغافورة وأطلنطا. إنه مزيج مثير ومحير؛ تناقض يبدو أنه يتكرر في أي مكان نذهب إليه؛ فأمام أحد موزعي سيارات مرسيدس بنز رأينا طابورا من نساء قبيلة ماساي يمر في طريقه إلى السوق ورءوس النساء حليقة خالية تماما من الشعر وأجسادهن النحيلة مغطاة بالشال الأحمر الذي يطلق عليه «شوكا» وشحمة الأذن على جانب وجوههن طويلة ومحاطة بخرز لامع، وعند مدخل مسجد في الهواء الطلق رأينا مجموعة من موظفي البنوك يخلعون أحذيتهم بحرص ويغسلون أرجلهم قبل الانضمام إلى الفلاحين وعمال الحفر في أداء صلاة العصر. كانت تلك المشاهد كما لو أن تاريخ نيروبي رفض أن يستقر في طبقات منتظمة، وكما لو أن الماضي والحاضر قد اصطدما تصادما مستمرا مزعجا.
تجولنا إلى داخل السوق القديمة، وهي مبنى ضخم يشبه الكهوف من الداخل تنبعث منه رائحة الفاكهة الناضجة ومحل جزارة قريب. كان الممر في مؤخرة المبنى يقود إلى متاهة من الأكشاك في الهواء الطلق حيث ينادي التجار على بضائعهم من المنسوجات والسلال والحلي النحاسية والتحف الأخرى. توقفت أمام أحد هذه الأكشاك حيث تعرض مجموعة من الأعمال النحتية الخشبية الصغيرة. تعرفت على أشكال الهدايا التي أهداني إياها أبي قبل وقت طويل: الأفيال والأسود وقارعي الطبول الذين يرتدون غطاء للرأس على الطراز القبلي. قال لي أبي يومها إنها أشياء صغيرة.
قال الشاب الذي يدير المحل: «تفضل يا سيدي.» وتابع: «لدينا عقد جميل لزوجتك.» «إنها أختي.» «أختك جميلة جدا. تفضل، سيكون هذا جميلا عليها.» «كم سعره؟» «فقط 500 شلن. إنه جميل.»
قطبت أوما ما بين حاجبيها وقالت للرجل شيئا باللغة السواحيلية. ثم فسرت قائلة: «إنه يبيعك بسعر عال.» وتابعت: «السعر المخصص للرجل الأبيض.»
ابتسم الشاب. وقال: «أنا آسف أيتها الأخت.» وتابع: «السعر للكينيين هو 300 شلن فقط.»
وداخل الكشك سيدة عجوز تربط خرزا زجاجيا بسلك لتجمعه معا وأشارت إلي وقالت شيئا جعل أوما تضحك. «ماذا قالت؟» «تقول إنك تشبه الأمريكيين.»
فقلت وأنا أضرب بيدي على صدري: «أخبريها أنني أحد أبناء قبيلة لوو.»
ضحكت العجوز وسألت أوما عن اسمي. وقد دفعت الإجابة السيدة للضحك أكثر، ونادت علي كي أقف إلى جوارها وهي تأخذ بيدي. فقالت أوما: «إنها تقول إنك لا تبدو من أبناء لوو، لكن وجهك طيب. وتقول إن لديها ابنة يجب أن تقابلها، وإذا اشتريت لها مياها غازية فسيمكنك الحصول على تحفتين من الأعمال المنحوتة والعقد الذي تصنعه مقابل 500 شلن.»
ذهب الشاب ليشتري لنا جميعا مياها غازية، وجلسنا على كراسي خشبية بلا ظهر أو مساند للذراعين أخرجتها العجوز من خلف خزانة كبيرة. وأخبرتنا عن عملها، والإيجار الذي يجب أن تسدده للحكومة لاستخدام الكشك، وكيف التحق ابنها الآخر بالجيش لأنه لم يعد هناك أرض ليعمل بها في قريتهم. وعلى الجانب الآخر سيدة أخرى تغزل خوصا ملونا وتحوله إلى سلال، وإلى جوارها رجل يقطع جلدا إلى شرائط طويلة لاستخدامه في صنع أحزمة الحقائب.
راقبت تلك الأيدي الرشيقة وهي تحيك وتقطع وتغزل، واستمعت إلى صوت السيدة العجوز يعلو فوق صوت العمل والمقايضات ، ولوهلة بدا العالم كله واضحا أمامي. فبدأت أتخيل إيقاعا ثابتا للأيام، يعيشها المرء على أرض ثابتة حيث يمكنه الاستيقاظ كل صباح وهو يعلم أن كل شيء كما كان في اليوم السابق، ويرى فيها كيف صنعت الأشياء التي يستخدمها، ويمكنه أن يسرد قصة حياة الأشخاص الذين صنعوها، ويمكنه أن يصدق أن جميعهم يكونون وحدة متماسكة دون أجهزة إدخال البيانات إلى الكمبيوتر أو أجهزة الفاكس. كل هذا وموكب ثابت من الوجوه السوداء يمر أمام أعيننا؛ وجوه الأطفال المستديرة ووجوه العجائز المجعدة، جميعها وجوه جميلة جعلتني أفهم التحول الذي زعمت أسانتي والأمريكيون السود الآخرون أنهم مروا به بعد زيارتهم الأولى لأفريقيا. وعلى مدار أسابيع أو شهور يمكنك الشعور بالحرية التي يولدها إحساس المرء بأنه ليس تحت المراقبة، حرية الإدراك أن شعرك ينمو كما ينبغي أن ينمو، وأن ردفك يتمايل بالطريقة التي ينبغي أن يتمايل بها. ويمكنك أن ترى رجلا يتحدث إلى نفسه ولا شك أنه مجنون، أو تقرأ عن الجرائم في الصفحات الأولى للجرائد اليومية وتفكر في فساد قلب الإنسان دون أن تضطر إلى التفكير فيما إذا كان المجرم أو المجنون يقول شيئا عن مصيرك أنت. هنا العالم أسود، ومن ثم فلا تكون سوى نفسك، ويمكنك اكتشاف جميع الأشياء الخاصة بحياتك فقط دون أن تعيش في كذبة أو ترتكب خيانة.
وفكرت كم من المغري أن أهرب بعيدا بهذه اللحظة كما هي. وأن أغلف هذا الشعور بالراحة بإتقان مثلما يغلف الشاب عقد أوما، وأصطحبه عائدا إلى أمريكا كي أتدثر به كلما فترت روحي.
ولكن بالطبع لم يكن هذا ممكنا، فقد انتهينا من تناول المياه الغازية، ودفعنا النقود، وغادرنا السوق، وهربت منا تلك اللحظة.
انعطفنا إلى شارع كيماثي، الذي يحمل اسم أحد قادة ثورة ماو. كنت قد قرأت كتابا عن كيماثي قبل أن أغادر شيكاغو وتذكرت صورة له يظهر فيها بين عدة رجال يطلقون شعرهم على الطراز الأفريقي يعيشون في الغابة وينشرون قسما سريا بين السكان الأصليين، أي النموذج المعتاد لمقاتلي حرب العصابات. وقد اختار لنفسه زيا ذكيا (فقد خدم كيماثي والقادة الآخرون لثورة ماو في الكتائب البريطانية في أوقات سابقة من حياتهم ) وهي صورة استغلت جميع المخاوف من الغرب الاستعماري، النوع نفسه من الخوف الذي استحضره نات ترنر في يوم من الأيام في الجنوب قبل الحرب الأهلية الأمريكية، والذي يثيره الآن اللصوص الذين ذهب الكوكايين بعقولهم في أذهان البيض في شيكاغو.
بالطبع ترقد ثورة ماو في ماضي كينيا. فقد ألقي القبض على كيماثي وأعدم. وأطلق سراح كينياتا من السجن وتوج أول رئيس لكينيا. وقد سارع بالتأكيد إلى البيض الذين كانوا مشغولين بحزم أمتعتهم ليطمئنهم أن شركاتهم لن تؤمم، وأن ملكية الأرض لن تمس ما دام الرجل الأسود هو الذي يمسك بزمام الحكومة. وأصبحت كينيا أكثر تلميذ مخلص للغرب في أفريقيا، ونموذجا للاستقرار، وتمثل تناقضا عمليا للفوضى التي تعم أوغندا، والاشتراكية الفاشلة في تنزانيا. وعاد مقاتلو الحرية السابقون إلى قراهم أو انضموا إلى الأعمال المدنية، أو رشحوا أنفسهم للحصول على مقعد في البرلمان. وأصبح كيماثي اسما على لافتة، اسما لشارع هيئ تماما من أجل السياح.
انتهزت الفرصة لدراسة هؤلاء السياح عندما جلست أنا وأوما لتناول الغداء في المقهى الخارجي لفندق نيو ستانلي. كان السياح - ألمانا ويابانيين وبريطانيين وأمريكيين - في كل مكان يلتقطون الصور ويلوحون لسيارات الأجرة، ويبعدون عنهم الباعة المتجولين في الشارع، والكثير منهم يرتدون سترات سفاري مثل الكومبارس أثناء تصوير فيلم. وفي هاواي، عندما كنا صغارا، كنت أنا وأصدقائي نضحك على سياح مثل هؤلاء، بالحروق الشمسية في جلودهم وسيقانهم النحيفة الشاحبة ونستمتع بمشاعر تفوقنا الواضح. أما هنا في أفريقيا فلم يبد السياح مضحكين. فقد شعرت بصورة ما أن وجودهم تعد على حقوق الآخرين، ووجدت براءتهم مهينة بصورة غامضة. وطرأ على ذهني أنه في افتقادهم التام لإدراك الذات كانوا يعبرون عن حرية لم أستطع أنا ولا أوما أن نشعر بها قط، ثقة جوهرية بضيق أفق تفكيرهم، ثقة مدخرة فقط لأولئك الذين ولدوا بين أحضان ثقافة إمبريالية.
وفي تلك اللحظة لاحظت أن عائلة أمريكية تجلس على بعد بضع طاولات منا. وعلى الفور قفز نادلان أفريقيان للعمل، وكلاهما ترتسم على وجهه ابتسامة ملء وجهه. ونظرا لأنه لم يكن أحد قد تقدم ليعرف طلباتنا أنا وأوما بدأت ألوح للنادلين اللذين يقفان عند المطبخ، وأنا أظن أنهما لم يريانا بصورة ما. ولبعض الوقت نجحا في تجنب إشاراتي، لكن استجاب لنا في النهاية رجل متقدم في السن له عينان ناعستان وأحضر لنا قائمتين للطعام. كان يبدو ممتعضا، وبعد عدة دقائق أخرى لم يبد عليه أنه ينوي العودة على الإطلاق. بدأ الغضب يظهر على وجه أوما، ومرة أخرى لوحت للنادل، الذي استمر على صمته وهو يدون طلباتنا. وفي ذلك الوقت حصلت العائلة الأمريكية على طعامها بالفعل، ونحن لم يصنع لنا شيء حتى إعداد الطاولة لوضع الطعام عليها. وسمعت طفلة تعقص شعرها الأشقر خلف ظهرها على شكل ذيل حصان تشتكي من أنه لا يوجد كاتشب، فنهضت أوما.
قالت: «هيا بنا.»
وبدأت تتجه نحو باب الخروج، ثم فجأة استدارت وعادت إلى النادل الذي كان يحدق فينا بنظرة جامدة.
قالت له أوما وصوتها يرتجف: «يجب أن تشعر بالخزي من نفسك.» وتابعت: «يجب أن تشعر بالخزي.»
أجاب عليها النادل بلهجة فظة باللغة السواحيلية.
فقالت له: «لا أبالي بعدد الأفواه التي يتحتم عليك إطعامها، ولكن لا يمكنك أن تعامل شعبك مثل الكلاب. انظر ...» وفتحت حقيبتها وأخرجت منها ورقة نقدية متجعدة فئة 100 شلن وصاحت: «أترى!» وتابعت: «يمكنني أن أدفع ثمن الطعام اللعين.»
وألقت الورقة على الأرض، ثم اتجهت نحو الشارع. ولعدة دقائق أخذنا نتجول دون وجهة محددة، حتى اقترحت أنا في النهاية أن نجلس على مقعد بجوار مكتب البريد المركزي.
ثم سألتها: «هل أنت بخير؟»
فأومأت برأسها. وقالت: «كان ذلك غباء مني، أقصد إلقاء النقود على الأرض بهذا الشكل.» وضعت حقيبتها إلى جوارها وأخذنا نراقب حركة المرور. ثم قالت: «أتدري، لا يمكنني الذهاب إلى النادي في أي من هذه الفنادق إذا كنت بصحبة سيدة أفريقية.» وتابعت: «سيطردنا رجال الشرطة للخارج ظانين أننا عاهرات. والأمر نفسه ينطبق على هذه المباني الإدارية الضخمة؛ إذا لم تكن تعمل هناك، وأنت أفريقي، فسيوقفونك حتى تخبرهم ماذا تريد. ولكن إذا كنت بصحبة صديق ألماني فستجد الابتسامات على وجوههم. وهم يسألونك: «مساء الخير يا آنسة، كيف حالك اليوم؟» وهزت أوما رأسها. وقالت: «لهذا كينيا هي أضحوكة باقي أفريقيا، مهما كان إجمالي الناتج القومي لها، وبصرف النظر عن الأشياء التي يمكنك شراؤها هنا. إنها عاهرة أفريقيا يا باراك. تفتح ساقيها لكل من يدفع.»
أخبرت أوما أنها قاسية للغاية على الكينيين وأن الأمر نفسه يحدث في جاكرتا أو مكسيكو سيتي، إنها مسألة اقتصادية فحسب. ولكن عندما بدأنا نسلك طريقنا عائدين إلى المنزل كنت أعلم أن كلماتي لم تفلح على الإطلاق في التخفيف من حدة ما تشعر به من مرارة. فظننت أنها على حق؛ فليس جميع السياح في نيروبي جاءوا لمشاهدة الحياة البرية. بعضهم أتى لأن كينيا تعرض عليهم دون خجل العودة للعصر الذي كانت فيه حياة البيض على الأراضي الأجنبية تقف شامخة على أعناق الأجناس السوداء؛ عصر من البراءة قبل أن ينشر رجال مثل كيماثي، والرجال الآخرون الغاضبون في سويتو أو ديترويت أو دلتا الميكونج، الجريمة والثورة في الشوارع. وفي كينيا كان لا يزال بإمكان الرجل الأبيض أن يسير في منزل إيزاك دينسين، ويتخيل قصة حب مع بارونة شابة غامضة، أو يحتسي الخمر أسفل مراوح السقف في فندق لورد ديلامير، ويعجب بصورة هيمنجواي وهو يبتسم بعد رحلة صيد ناجحة، محاطا بالوجوه المتجهمة للعمال الآسيويين البلهاء. يمكن أن يخدمه رجل أسود دون خوف أو شعور بالذنب، ويتعجب من سعر الصرف، ويترك بقشيشا كبيرا؛ وإذا شعر بعسر هضم عند رؤيته لمتسولين مصابين بالجذام خارج الفندق فيمكنه دائما أن يأمر بإحضار دواء منشط. ومع ذلك فقد جاء عهد السود. هذا بلدهم، ونحن مجرد زوار.
هل كان النادل يعلم أن عصر السود قد أتى؟ هل يعني ذلك أي شيء له؟ وفكرت في نفسي ربما سيعرف ذلك يوما ما. هذا عندما تتقدم سنه فتسمح له أن يعرف الاستقلال وصيحات الحرية باللغة السواحيلية ورفع الأعلام الجديدة. لكن مثل هذه الذكريات قد تبدو له الآن خيالية وبعيدة وساذجة. لقد تعلم النادل أن من كانوا يحكمون الدولة قبل الاستقلال لا يزالون يحكمونها، وهو لا يزال لا يمكنه أن يأكل في المطاعم أو يقيم في الفنادق التي بناها الرجل الأبيض. ويرى أموال المدينة تدور فوق رأسه والتكنولوجيا التي تلفظ بضائع من فمها الآلي. وإذا كان طموحا فسيبذل قصارى جهده ليتعلم لغة الرجل الأبيض، ويستخدم ماكينات الرجل الأبيض محاولا أن يجعل الغايات تتلاقى بالطريقة نفسها التي يفعل بها من يصلح أجهزة الكمبيوتر في نيوآرك أو سائق الحافلة في شيكاغو، بموجات متعاقبة من الحماس أو الإحباط، لكن غالبا باستكانة. وإذا أخبرته أنه يخدم بهذا مصلحة الاستعمار الحديث أو شيئا من هذا القبيل، فسيكون رده أنه يوافق على فعل ذلك إذا كان هذا هو المطلوب. فالمحظوظون هم من يخدمون، أما غير المحظوظين فينجرفون في تيار المهن غير الشريفة أو الغريبة المعتمة، والكثير منهم سيغرقون.
وقد لا يكون هذا هو كل ما يشعر به النادل. ربما لا يزال جزء منه يتمسك بقصص ماو، الجزء نفسه الذي يتذكر صمت الليل في القرية أو صوت أمه وهي تطحن الذرة أسفل مطحنة حجرية. ولا يزال شيء بداخله يخبره أن طرق الرجل الأبيض ليست طرقه، وأن الأشياء التي قد يستخدمها كل يوم ليست من صنعه. ويتذكر وقتا وطريقة لتخيل نفسه، يتركهما فقط كي يعاني. فلا يمكنه الهروب من قبضة ذكرياته، ومن ثم فإنه يباعد بين عالمين لا يشعر بالثقة في أي منهما، ودائما يكون غير متوازن، ويلعب أية لعبة تدرأ عنه الفقر المدقع الذي لا ينتهي، وهو حريص على أن يترك غضبه ينصب على الذين في مثل حالته فقط.
وهناك صوت يقول له نعم لقد حل التغيير، وتدمرت الطرق القديمة، ويجب أن تجد طريقة بأسرع ما يمكنك كي تكسب قوت يومك وتمنع الرجل الأبيض من الضحك عليك.
صوت يقول له لا، إنك ستحرق الأخضر واليابس في وقت أقرب. •••
في ذلك المساء اتجهنا بالسيارة شرقا إلى ضاحية كارياكو، وهي مجمع سكني شاسع محاط بأراض تتجمع فيها القمامة. وكان القمر قد اختفى خلف سحب كثيفة، وبدأت أولى خيوط الضوء تنبثق. وعندما كنا نصعد السلم المظلم وثب شاب من أمامنا إلى الرصيف المحطم واختفى في الظلام. وفي الطابق الثالث دفعت أوما بابا كان مفتوحا قليلا. «باري! أخيرا وصلت.»
احتضنتني بقوة عند منطقة الخصر سيدة قصيرة ممتلئة الجسد لها وجه مبتهج أسمر اللون. ومن خلفها كان هناك ما يقرب من 15 شخصا، جميعهم يبتسمون ويلوحون مثل حشد في عرض عسكري. نظرت السيدة القصيرة إلى الأعلى تجاهي وقطبت ما بين حاجبيها.
وسألت: «إنك لا تتذكرني أليس كذلك؟» «أنا ...» «أنا عمتك جين. أنا التي اتصلت بك عندما توفي والدك.» وابتسمت وأخذت يدي. وقالت: «تعال. يجب أن تقابل الجميع هنا. لقد قابلت زيتوني بالفعل. وهذه ...» قالتها وهي تقودني إلى سيدة جميلة متقدمة في العمر ترتدي زيا مزركشا: «هذه أختي، كيزيا. وهي والدة أوما وروي أوباما.»
التقطت كيزيا يدي ونطقت اسمي ومعه بضع كلمات باللغة السواحيلية.
فقالت جين: «إنها تقول إن ابنها الآخر قد عاد إلى الوطن أخيرا.»
كررت كيزيا باللغة الإنجليزية وهي تومئ وتجذبني إلى حضنها. قالت: «ابني عاد إلى الوطن.»
استكملنا رحلة التعارف في جميع أرجاء الغرفة وأنا أصافح عماتي وأولادهن وأولاد وبنات إخوتي. وقد حياني الجميع بفضول مبتهج، لكن دون علامات قوية على الارتباك كما لو أن لقاء أحد أقربائهم للمرة الأولى أمر يحدث كل يوم. كنت قد أحضرت علبة من الشيكولاتة للأطفال، وتجمعوا حولي في فضول مهذب والكبار يحاولون أن يشرحوا لهم من أنا. لاحظت أن هناك شابا في السادسة عشرة أو السابعة عشرة من عمره يقف مستندا إلى الحائط وعلى وجهه تعبير متحفظ.
فقالت أوما: «هذا أحد إخوتك.» وتابعت: «اسمه برنارد.»
تقدمت باتجاه الفتى وتصافحنا، فحص كلانا وجه الآخر. ووجدت نفسي غير قادر على التفوه بكلمة، لكني استطعت أن أسأله كيف حاله.
فأجاب برفق: «بخير على ما أظن»، مما دفع الجميع إلى الضحك.
وبعد أن انتهى التعارف قادتني جين إلى منضدة صغيرة عليها أطباق من لحم الماعز والخضراوات والسمك المقلي والكرنب والأرز. وفي أثناء تناول الطعام سألوني عن عائلتي في هاواي وحاولت أن أصف لهم حياتي في شيكاغو وعملي منظما للمجتمع الأهلي. وقد أومئوا برءوسهم بأدب، ولكن بدت الحيرة على وجوههم قليلا؛ لذا أخبرتهم أنني سأدرس القانون في جامعة هارفارد في الخريف.
قالت جين وهي تلتقط عظمة من طبق اللحم والخضراوات: «هذا رائع يا باري.» وتابعت: «لقد درس والدك في جامعة هارفارد أيضا. إنك ستجعلنا جميعا فخورين بك، تماما كما فعل هو. أترى يا برنارد، يجب أن تجتهد مثل أخيك.»
قالت زيتوني: «يظن برنارد أنه سيصبح نجما في كرة القدم.»
فالتفت إليه. وقلت: «هل هذا صحيح يا برنارد؟»
فقال وعدم الارتياح يبدو عليه لأن الأنظار التفتت إليه: «كلا.» وتابع: «كل ما في الأمر أنني اعتدت لعب الكرة.» «حسنا ... ربما يمكننا اللعب في وقت ما.»
فهز رأسه. وقال بجدية: «أنا الآن أحب لعب كرة السلة.» وتابع: «مثل ماجيك جونسون.»
خففت الوجبة بعضا من الإثارة التي كانت في البداية، واتجه الأطفال بعد ذلك لمشاهدة تليفزيون كبير يعرض الصورة باللونين الأبيض والأسود كان يبث سلسلة من علامات سخاء الرئيس: الرئيس يفتتح مدرسة، الرئيس يشجب الصحفيين الأجانب ومختلف العناصر الشيوعية، الرئيس يشجع الأمة على متابعة السير في طريق التقدم. ذهبت مع أوما لأرى باقي أجزاء الشقة التي كانت تتكون من غرفتي نوم متخمتين بمراتب قديمة.
فسألتها: «كم عدد من يعيشون هنا؟»
فقالت أوما: «لا أدري ما العدد الآن.» وتابعت: «إنه يتغير دائما. فجين لا تعرف كيف تقول لشخص لا، ومن ثم فكلما انتقل أحد أقربائنا إلى المدينة أو فقد عمله انتهى به الحال هنا. وفي بعض الأحيان يمكثون فترة طويلة، أو يتركون أطفالهم هنا. وقد ترك أبي وأمي برنارد هنا كثيرا. وعمليا جين هي التي ربته.» «وهل تستطيع هي الإنفاق على كل هذا؟» «في الواقع لا، إنها تعمل عاملة هاتف، ولا تتلقى راتبا كبيرا. ومع ذلك فهي لا تشتكي. ولأنها لا تنجب فهي ترعى أطفال الآخرين.»
عدنا إلى غرفة المعيشة، وجلست على أريكة قديمة، وفي المطبخ كانت زيتوني تتولى توجيه السيدات الأصغر سنا في غسيل الأطباق، وعدد قليل من الأطفال يتجادلون حول الشيكولاتة التي أحضرتها. تركت عيني تتجولان في المشهد؛ الأثاث المتهالك، ونتيجة الحائط التي تعود لعامين، والصور الباهتة، والتماثيل الخزفية الزرقاء لأطفال بأجنحة موضوعة على مناديل صوفية. وأدركت أنه هو المشهد نفسه في شقق ألتجيلد. السلسلة نفسها من الأمهات والبنات والأطفال، وضوضاء النميمة والتليفزيون، والحركة المستمرة في الطهي والتنظيف ورعاية الأطفال تثقل كاهل الجميع. والغياب نفسه للرجال.
ودعنا الجميع الساعة العاشرة مساء تقريبا ووعدنا بزيارة كل فرد على حدة. وفي طريقنا إلى الباب جذبتنا جين جانبا وخفضت صوتها وهمست لأوما. قالت: «يجب أن تأخذي باري ليرى عمتك سارة.» ثم التفتت إلي: «سارة هي شقيقة والدك الكبرى. أول واحدة ولدت. وتريد أن تراك بشدة.»
فقلت: «بالطبع.» وتابعت: «لكن لماذا لم تكن هنا الليلة؟ هل تقطن بعيدا عن هنا؟»
نظرت جين إلى أوما ودار بينهما حوار صامت. وفي النهاية قالت أوما: «تعال يا باراك.» وتابعت: «سأشرح لك في السيارة.»
كانت الشوارع خالية وزلقة من المطر. وقالت ونحن نمر من أمام الجامعة: «إن جين على حق يا باراك.» وتابعت: «يجب أن تذهب وترى سارة. لكنني لن أذهب معك.» «ولم لا؟» «الأمر يتعلق بالإرث الذي تركه أبي. فسارة أحد الأشخاص الذين عارضوا وصيته. فكانت تخبر الجميع أنني وروي وبرنارد لسنا أولاده.» ثم تنهدت. وأكملت: «لا أعلم. جزء مني يتعاطف معها. فقد عاشت حياة صعبة. ولم تحظ أبدا بالفرص التي أتيحت لأبي مثل الدراسة والسفر إلى الخارج. وقد جعلها هذا تشعر بالمرارة، فتظن بشكل ما أنني وأمي السبب في حالتها.» «ولكن بكم يقدر هذا الإرث؟» «ليس كثيرا. ربما معاش حكومي صغير. وقطعة أرض ليست لها قيمة. وأنا أحاول أن أبقى بعيدا عنها. ومهما كان الميراث فإنه على الأرجح أنفق على المحامين الآن. ولكن الجميع يتوقع الكثير من أبي. فقد جعلهم يظنون أنه يملك كل شيء، حتى وهو لا يملك شيئا. والآن بدلا من أن يستمروا في حياتهم، ينتظرون ويتجادلون فيما بينهم ظنا منهم أن أبي سينقذهم وهو في قبره. وقد تعلم برنارد هذا الانتظار. إنه ذكي حقا يا باراك، لكنه يجلس هناك طوال اليوم ولا يفعل شيئا. وقد ترك المدرسة وليست لديه فرص كثيرة في الحصول على عمل. وقد أخبرته أنني سأساعده كي يلتحق بمدرسة تجارية، أو أي شيء يريد، فقط حتى يفعل أي شيء. فيقول حسنا، ولكن عندما أسأله هل حصل على أي استمارات تقدم أو تحدث إلى ناظر المدرسة، أجد أنه لم يفعل شيئا. وفي بعض الأحيان أشعر أنني لو لم أخط معه كل خطوة فإن شيئا لن يحدث.» «ربما يمكنني المساعدة.» «نعم. ربما يمكنك التحدث إليه. ولكن الآن بما أنك هنا وقادم من أمريكا، فإنك جزء من الميراث. لهذا تود سارة أن تراك كثيرا. إنها تظن أنني أخفيك عنها لأنك الشخص الذي يملك كل شيء.»
عادت الأمطار تهطل مرة أخرى ونحن نوقف السيارة. كان المصباح الوحيد الذي يبرز من جانب المبنى يلقي بظلال شبكية مترقرقة على وجه أوما. وقالت هي برفق: «لقد سئمت الأمر برمته يا باراك.» وتابعت: «لن تصدق كم كنت أشتاق إلى كينيا عندما كنت في ألمانيا. كل ما كنت أفعله هو التفكير في العودة إلى الوطن. وفكرت كيف لا أشعر بالوحدة أبدا هنا؛ العائلة في كل مكان، ولا أحد يرسل والديه إلى دار لرعاية المسنين، أو يترك أطفاله مع غرباء. ثم أعود إلى هنا وأجد الجميع يطلبون مني المساعدة، وأشعر أنهم جميعا يتمسكون بي وأنني سأغرق. كما أني أشعر بالذنب لأنني كنت أسعد حظا منهم. فقد التحقت بالجامعة. ويمكنني الحصول على عمل. لكن ماذا بوسعي أن أفعل يا باراك؛ فأنا مجرد فرد واحد.»
أمسكت يد أوما ومكثنا في السيارة عدة دقائق نستمع إلى صوت هطول المطر. وقالت في النهاية: «لقد سألتني عن حلمي.» وتابعت: «في بعض الأحيان يراودني حلم أنني سأبني منزلا جميلا على أرض جدنا. منزلا كبيرا حيث يمكننا جميعا البقاء وإحضار عائلاتنا. ويمكننا زراعة أشجار فواكه مثل جدنا، وسيعرف أطفالنا الأرض ويتحدثون بلغة قبيلة لوو ويتعلمون تقاليدنا من الكبار. وستكون ملكا لهم.» «يمكننا أن نفعل كل هذا يا أوما.»
هزت رأسها. وقالت: «دعني أخبرك ما بدأت أفكر فيه. أفكر فيمن سيعتني بالمنزل إذا لم أكن أنا موجودة؟ من يمكنني الاعتماد عليه كي أتأكد أن الترسيب سيصلح أو أن السياج سيرمم؟ أعرف أن هذه أنانية رهيبة. وكل ما أستطيع فعله عندما أفكر بهذا الشكل أن أشعر بالغضب تجاه أبي لأنه لم يبن لنا هذا المنزل. نحن الأبناء يا باراك. لماذا علينا الاعتناء بكل فرد؟! كل شيء مقلوب رأسا على عقب، كل شيء في حالة جنون. فكان علي أن أعتني بنفسي، بالضبط مثل برنارد. والآن اعتدت أن أعيش حياتي الخاصة مثل الألمان. كل شيء منظم. وإذا احتاج شيء إلى إصلاح فأنا أصلحه. وإذا فسد شيء فهذا خطئي أنا. وإذا كانت لدي نقود فإني أرسلها إلى العائلة وهم يفعلون بها ما يريدون وأنا لا أعتمد عليهم، ولا هم يعتمدون علي.» «يبدو أنك وحيدة.» «أعلم هذا يا باراك. لهذا أعود دائما إلى الوطن. ولهذا لا أزال أحلم.» •••
بعد مرور يومين لم أكن قد استعدت حقيبتي بعد. أخبرنا مكتب شركة الطيران في وسط المدينة أن نتصل بالمطار، ولكن كلما حاولنا ذلك وجدنا الخطوط مشغولة. اقترحت أوما في النهاية أن نذهب إلى هناك بأنفسنا. وفي مكتب الخطوط الجوية البريطانية وجدنا شابتين تتحدثان عن ملهى ليلي افتتح لتوه. قاطعت حوارهما كي أسأل عن حقيبتي فقلبت واحدة منهما بلا مبالاة كومة من الأوراق.
ثم قالت: «ليس لدينا أي أوراق عنك يا سيدي؟» «تأكدي مرة أخرى من فضلك.»
هزت كتفيها. وقالت: «إذا أردت يمكنك العودة في منتصف الليل. فهناك رحلة قادمة من جوهانسبرج في هذا التوقيت.» «قيل لي إن حقيبتي سترسل إلي.» «آسفة، ليس لدي أي ذكر لحقيبتك هنا. إذا أردت يمكنك ملء استمارة أخرى.» «هل الآنسة أومورو هنا؟ إنها ...» «أومورو في إجازة.»
أزاحتني أوما جانبا. وقالت: «من غيرك هنا يمكننا التحدث إليه بما أنك لا تعرفين شيئا؟»
أجابتها بأسلوب فظ قبل أن تعود لاستكمال حديثها: «اذهبي إلى وسط المدينة إذا أردت التحدث إلى شخص آخر.»
كانت أوما لا تزال تغمغم ساخطة عندما دخلنا إلى مكتب الخطوط الجوية البريطانية في وسط المدينة. كان المكتب في مبنى عال يعلن فيه المصعد رقم كل طابق إلكترونيا بنبرة فخمة واضحة، وكانت هناك موظفة استقبال تجلس أسفل صور لأشبال أسود وأطفال يرقصون. وقالت لنا مرة أخرى إنه علينا التأكد من المطار.
قلت لها وأنا أحاول ألا أصرخ: «أريد التحدث إلى المدير من فضلك.» «أنا آسفة، السيد مادوري في اجتماع.» «اسمعي يا آنسة، لقد أتينا للتو من المطار حيث أخبرونا أن نأتي إلى هنا. وقبل يومين قيل لي إن حقائبي سترسل إلي. والآن تقولون لي إنه لا أحد يعلم حتى أنها مفقودة. أنا ...» توقفت في منتصف الجملة. وانسحبت موظفة الاستقبال وراء قناع حجري، وهو مكان لا تصل إليه المناشدات أو الصياح الغاضب. ويبدو أن أوما رأت الشيء نفسه، فلم تنبس ببنت شفة هي الأخرى، وسقطنا معا إلى كرسيين مريحين لا نعرف ماذا نفعل بعد ذلك، عندما ظهرت يد فجأة على كتف أوما. فالتفتت أوما لتجد أنها يد رجل أسود نحيف يرتدي سترة زرقاء. «عماه! ماذا تفعل هنا؟»
قدمتني أوما للرجل الذي كان قريبا لنا في نسب لم أستطع تعقبه. وسألنا هل نخطط للقيام برحلة، فأخبرته أوما بما حدث.
فقال عمنا: «اسمعا، لا تقلقا.» وتابع: «إن مادوري صديق مقرب لي. في الحقيقة أنا الآن على وشك تناول الغداء معه.» والتفت إلى موظفة الاستقبال التي كانت تراقب حديثنا باهتمام كبير.
وقالت مبتسمة: «السيد مادوري يعرف بالفعل أنك هنا.»
كان السيد مادوري رجلا قصير القامة ممتلئ الجسد له أنف ضخم وصوت أجش. وبعد أن أعدنا قصتنا على مسامعه أخذ سماعة الهاتف على الفور وقال: «مرحبا؟ نعم أنا مادوري. من المتحدث؟ اسمعي لدي الآن السيد أوباما الذي كان يبحث عن حقيبته. نعم، أوباما. إنه ينتظر وصول حقيبته منذ وقت طويل. ماذا؟ نعم ابحثي الآن من فضلك.» وبعد بضع دقائق انطلق رنين الهاتف . «نعم ... حسنا، أرسليها إلى ...» ومنح محدثته عنوان مكتب أوما، ثم أغلق الهاتف وأخبرنا أن الحقيبة سترسل إلى هناك بعد ظهر هذا اليوم.
وقال: «اتصل بي إذا واجهتك أية مشكلات أخرى.»
شكرنا الرجلين بشدة واستأذنا للانصراف على الفور خوفا من أن يتغير حظنا في أية لحظة. وفي الأسفل توقفت أمام صورة كبيرة لكينياتا معلقة على نافذة مكتب. كانت عينا الرجل تشعان ثقة ومكرا، ويده القوية التي يرتدي بها المجوهرات تقبض على عصا زعيم قبيلة كيكويو المنقوشة. فجاءت أوما ووقفت إلى جواري.
وقالت: «من هنا يبدأ كل شيء.» وتابعت: «الرجل الكبير. ثم مساعده أو عائلته أو صديقه أو قبيلته. الأمر نفسه ينطبق سواء أكنت تريد هاتفا أو تأشيرة سفر أو عملا. من أقرباؤك؟ من معارفك؟ فإذا كنت لا تعرف أحدا فانس الأمر. وهذا ما لم يفهمه أبي قط. لقد عاد إلى هنا وهو يظن أنه نظرا لأنه تلقى تعليما راقيا ويتحدث لغة إنجليزية صحيحة ويفهم خرائطه ورسومه البيانية فإن كل شخص سيود أن يوليه المسئولية. ونسي الشيء الذي يربط كل الأشياء بعضها ببعض هنا.»
فقلت بهدوء: «لقد تاه.»
وفي طريقنا عائدين إلى السيارة تذكرت قصة كانت أوما قد أخبرتني بها عن أبي بعد أن أفل نجمه. مساء أحد الأيام أخبرها أن تذهب إلى المتجر وتشتري له بعض السجائر. فذكرته أنهم لا يمتلكون نقودا، لكن أبي هز رأسه بنفاد صبر.
وقال: «لا تكوني سخيفة.» وتابع: «فقط أخبري صاحب المتجر أنك ابنة الدكتور أوباما وأنني سأدفع له فيما بعد.»
فذهبت أوما إلى المتجر، وكررت ما قاله لها والدها. فضحك صاحب المتجر وصرفها. ولخوفها من العودة إلى المنزل ذهبت إلى أحد أقاربها كان والدها قد ساعده في الحصول على عمل، وأقرضها الشلنات القليلة التي كانت تحتاج إليها. وعندما عادت إلى المنزل أخذ أبي السجائر ووبخها على التأخير.
قال لها وهو يفتح العلبة: «أرأيت!» وتابع: «لقد أخبرتك أنك لن تواجهي أية مشكلة. فالجميع هنا يعرفون أوباما.»
شعرت بوجود أبي وأنا أقطع مع أوما الشارع المزدحم. أراه في وجوه التلاميذ الذين يجرون من أمامنا، وسيقانهم السوداء النحيلة تتحرك مثل عصا المكابس بين أرجل السراويل الزرقاء والأحذية التي يفوق حجمها مقاس أرجلهم. أسمعه في ضحكات طلاب الجامعة الذين يرتشفون الشاي المحلى الكريمي ويأكلون سمبوسة في مقهى الشاي ذي الإضاءة الخافتة. أشم رائحته في دخان سجائر رجل الأعمال الذي يغطي إحدى أذنيه ويصرخ في الهاتف الذي يعمل بالعملة، وفي عرق العامل الذي يعمل باليومية في تحميل الحصى على عجلات تدفع باليد، ووجهه وصدره العاري مغطيان بالغبار. وفكرت في نفسي: أبي هنا، مع أنه لا يقول لي شيئا. إنه هنا ويطلب مني أن أفهم.
الفصل السادس عشر
قرع برنارد جرس الباب في تمام العاشرة. كان يرتدي شورتا أزرق اللون وقميصا ضيقا للغاية، وفي يديه كرة سلة برتقالية اللون يحملها في يديه كما لو أنه يحمل هدية.
سألني: «هل أنت جاهز؟» «تقريبا. امنحنى ثانية واحدة كي أرتدي الحذاء.»
تبعني إلى داخل الشقة واتجه إلى المكتب حيث كنت أعمل. وقال وهو يهز رأسه: «كنت تقرأ مرة أخرى يا باري.» وتابع: «ستسأم منك أية سيدة ترافقك؛ فأنت تقضي وقتك دائما مع الكتب.»
جلست لأعقد رباط حذائي الرياضي. وقلت: «لقد قيل لي هذا.»
فقذف الكرة في الهواء. وقال: «أما أنا فلا أهتم بالكتب. أنا رجل أفعال. مثل رامبو.»
فابتسمت. وقلت له وأنا أنهض وأفتح الباب: «حسنا يا رامبو.» وتابع: «لنر أداءك وأنت تركض حتى نصل إلى الملاعب.»
فنظر إلي برنارد بشك. وقال: «الملاعب بعيدة للغاية. أين السيارة؟» «استقلتها أوما إلى عملها.» وخرجت إلى الشرفة وبدأت أمارس بعض التمرينات الرياضية البسيطة. «وعلى أية حال، فقد أخبرتني أن الملاعب تبعد ميلا واحدا فقط عن هنا. وهذا إحماء جيد لساقيك الصغيرتين.»
فتبعني في أداء بعض التمرينات الرياضية بفتور قبل أن نبدأ السير في الطريق المفروش بالحصى الذي يقود إلى الطريق الرئيسي. كان الجو رائعا يخفف فيه النسيم المستمر من حدة أشعة الشمس، والطريق خاويا فيما عدا سيدة تسير على بعد مسافة منا تحمل فوق رأسها سلة بها قطع صغيرة من الخشب. وبعد أقل من ربع ميل توقف برنارد فجأة وقطرات العرق تتصبب على جبهته الناعمة العالية.
وقال وهو يستنشق الهواء بقوة: «أجريت ما يكفي من الإحماء يا باري.» وتابع: «أظن أنه علينا أن نسير الآن.»
يحتل حرم جامعة نيروبي مساحة بضعة أفدنة بالقرب من وسط المدينة. وكانت ملاعب كرة السلة توجد أعلى مضمار ألعاب القوى على منحدر قليل الارتفاع، وأرضيتها الأسفلتية المليئة بالحصى تتخللها الأعشاب. وراقبت برنارد ونحن نتبادل الأدوار في قذف الكرة تجاه السلة، وفكرت كم كان رفيقا كريما ومريحا في الأيام القليلة السابقة، وهو يأخذ على عاتقه مهمة إرشادي في أرجاء المدينة عندما كانت أوما مشغولة في تصحيح الاختبارات. وكان يمسك يدي وكأنه يحميني ونحن نشق طريقنا عبر الطرق المزدحمة، وكان صبره لا ينفد عندما أتوقف لأنظر إلى مبنى أو أقرأ لافتة يمر هو بها كل يوم، ويبدو أن سلوكياتي الغريبة تسليه لكن دون أن تبدو عليه أي من علامات الملل أو الاعتراض الكثيرة التي كنت أنا سأبديها وأنا في سنه.
وهذا اللطف وافتقاره للخداع جعلاه يبدو أصغر كثيرا من سنوات عمره السبع عشرة. ولكنني كنت أذكر نفسي دائما أنه في السابعة عشرة من عمره، وهي سن سيكون فيها تمتعه بمزيد من الاستقلالية والحدة في شخصيته مسألة لا غبار عليها. وأدركت أن ذلك الوقت الذي يمنحه لي لم يكن إلا لأنه لم يكن لديه شيء أفضل ليقوم به. كما أدركت أن صبره لم يكن إلا لأنه ليس لديه مكان محدد يريد الذهاب إليه. ويجب أن أتحدث إليه بهذا الشأن كما وعدت أوما أن أفعل، وسيكون حديث رجل لرجل ...
سألني برنارد وهو يستعد لقذف الكرة: «هل رأيت ماجيك جونسون وهو يلعب؟» مرت الكرة داخل الحلقة التي لا تحتوي على شبكة، فقذفت له الكرة مرة أخرى. «في التليفزيون فقط.»
أومأ برنارد. وقال: «كل شخص في أمريكا لديه سيارة. وهاتف .» كانت الجملة إخبارية أكثر من كونها استفهامية.
فقلت: «معظم الناس. لكن ليس كل شخص.»
قذف الكرة مرة أخرى فأصدرت صوتا مزعجا وهي تمر فوق الحلقة. وقال: «أظن أن الحياة هناك أفضل.» وتابع: «ربما أسافر إلى أمريكا، يمكنني أن أساعدك في عملك.» «ليس لدي عمل الآن. ربما بعد أن أنتهي من الدراسة في كلية الحقوق ...» «لا بد أنه من السهل الحصول على عمل.» «ليس للجميع. في الحقيقة الكثيرون يواجهون أوقاتا عصيبة في الولايات المتحدة. ولا سيما السود.»
أمسك الكرة. وقال: «ليست عصيبة مثل هنا.»
نظر أحدنا إلى الآخر، وحاولت أن أتخيل ملاعب كرة السلة في الولايات المتحدة. وكان من بين الصور التي تخيلتها: صوت الطلقات النارية في الجوار، وتاجر ماريجوانا يقتل في بئر السلم، وصورة أخرى. صوت ضحكات الصبية وهم يلعبون في الفناء الخلفي لمنازلهم في الضواحي، وأمهاتهم تنادي عليهم للدخول وتناول الطعام. كان هذا حقيقيا أيضا. اصطدمت الصورتان وتركتاني صامتا. وصرت راضيا بصمتي، فعاد برنارد إلى قذف الكرة.
عندما أصبحت الشمس في كبد السماء سرنا إلى محل لبيع الآيس كريم على بعد بضعة مبان من الجامعة. طلب برنارد أيس كريم بالشيكولاتة، وبدأ يأكله بانتظام، نصف ملعقة في كل مرة. فأشعلت سيجارة واتكأت بجسدي إلى الخلف على الكرسي.
وقلت: «أخبرتني أوما أنك تفكر في الالتحاق بإحدى مدارس التدريب المهني.»
فأومأ برأسه بتعبير غير واضح. «ما نوع الدراسة التي تثير اهتمامك؟» «لا أعلم.» ثم أخذ قطعة أخرى من الآيس كريم وفكر دقيقة. وقال: «ربما ميكانيكا السيارات. نعم ... أظن أن ميكانيكا السيارات مناسبة.» «هل جربت الالتحاق بأحد هذه البرامج؟» «كلا. ليس بالضبط.» ثم توقف ليتناول ملعقة أخرى. وقال: «يجب أن تدفع مقابلا لهذا.» «كم عمرك يا برنارد؟»
قال بحذر: «سبعة عشر.»
فأومأت له: «سبعة عشر.» وأطلقت دخان السيجارة في الهواء. ثم قلت: «سبعة عشر، إنك تعرف ماذا يعني هذا، أليس كذلك؟ يعني أنك رجل تقريبا. أصبحت شخصا ذا مسئوليات. تجاه عائلتك. وتجاه نفسك. ما أحاول أن أقوله لك هو أنه قد حان الوقت لتقرر القيام بشيء يثير اهتمامك. قد يكون هذا الشيء هو ميكانيكا السيارات. أو قد يكون شيئا آخر. ولكن مهما يكن هذا الشيء فعليك أن تحدد بعض الأهداف وتسعى لتحقيقها. يمكن أن أساعدك أنا وأوما في دفع مصاريف المدرسة، لكن لا يمكننا أن نعيش حياتك بدلا منك. عليك أن تبذل بعض المجهود. أتفهمني؟»
فأومأ برنارد بالإيجاب. وقال: «أفهمك.»
جلسنا يخيم علينا الصمت بعض الوقت نراقب ملعقة برنارد تدور في الآيس كريم الذي أصبح سائلا. وبدأت أتخيل كم تبدو كلماتي جوفاء في نظر أخي، أخي الذي كان كل ما ارتكبه من ذنب هو أنه ولد على الجانب الخطأ من عالم أبي الممزق. ولم يبد أنه استاء مني لهذا. ليس بعد. لا بد أنه يتساءل فقط لماذا أتظاهر أن قواعدي ستنطبق عليه بشكل ما. فكل ما كان يريده بعض التذكارات لعلاقتنا، ربما شرائط بوب مارلي أو حذاء كرة السلة بمجرد أن أرحل. أشياء قليلة للغاية يطلبها، وأي شيء آخر أقدمه، مثل نصيحة أو توبيخ أو طموحي له، سيبدو أقل شأنا من هذه الأشياء.
أطفأت السيجارة واقترحت أن نذهب. وعندما خرجنا إلى الشارع ألقى برنارد ذراعه حول كتفي.
وقال قبل أن يلوح مودعا ويختفي في الزحام: «من الجميل أن يكون لي أخ كبير قريب مني.» •••
ما معنى العائلة؟ هل هي فقط سلسلة جينية من آباء وذرية، أناس يشبهونني؟ أم أنها بناء اجتماعي ووحدة اقتصادية هي الوضع الأمثل لتربية الأطفال وتقسيم العمل؟ أم أنها شيء آخر مختلف تماما؛ مخزون من الذكريات المشتركة مثلا؟ نطاق من الحب؟ يد تمتد إليك في الفراغ؟
وضعت قائمة بالاحتمالات. ولكني لم أتوصل إلى إجابة محددة قط، وكنت أعي مسبقا، نظرا لظروفي، أن مثل هذه المحاولات محكوم عليها بالفشل. وبدلا من ذلك رسمت سلسلة من الدوائر حول نفسي؛ دوائر لها حدود تتغير بمرور الوقت وبتغير الأوجه، ولكنها مع ذلك قدمت لي وهم السيطرة. فهناك دائرة داخلية وبها الحب مستمر والحقوق غير خاضعة للنزاع. ثم دائرة ثانية: عالم من الحب الخاضع للتفاوض حيث الاختيار الحر للالتزام. ثم دائرة من الزملاء والمعارف مثل السيدة البشوشة الوجه التي كسا الشيب شعرها والتي تسجل البضائع على آلة تسجيل النقود في المتجر في شيكاغو. حتى تتسع الدائرة في النهاية لتضم أمة أو عرقا، أو اتجاها أخلاقيا محددا، وفيها لا يعود الالتزام مرتبطا بوجوه أو أسماء، ولكنها في الواقع تكون التزامات أتعهد بها أمام نفسي.
وفي أفريقيا انهار على الفور عالم الدوائر الذي رسمته. فقد كانت العائلة في كل مكان: في المتاجر، في مكتب البريد وفي الشوارع وفي الحدائق، جميعهم يتحدثون ويتجادلون عن ابن أوباما الذي فقد لوقت طويل. وإذا ذكرت بصورة عابرة أنني أحتاج إلى كراسة أو كريم حلاقة، يمكن أن تصر واحدة من عماتي على أن تصحبني إلى ركن ناء في نيروبي كي أشتريه بأرخص سعر، بصرف النظر عما تستغرقه الرحلة، أو كم قد تكون غير مناسبة لها.
وتجد الواحدة منهن تقول: «آه يا باري ... وماذا أهم من مساعدة ابن أخي؟»
وإذا اكتشف أحد أولاد عمومتي أن أوما قد تركتني أتولى أموري بنفسي، فقد يسير مسافة ميلين إلى شقة أوما لمجرد أن هناك احتمالا بعيدا أن أكون هناك وأحتاج إلى رفقة.
وتجد الواحد منهم يقول: «آه يا باري ... لماذا لم تتصل بي؟ تعال معي سأصحبك لتقابل بعض أصدقائي.»
أما الأمسيات فقد استسلمت أنا وأوما لعدد لا ينتهي من الدعوات التي كانت توجه إلينا من أعمامنا وأبناء إخوتنا وأولاد أعمامنا أو أولاد عماتنا، وجميعهم يطلبون منا، مخاطرين بأن نجرح مشاعرهم، أن نجلس ونتناول الطعام، مهما يكن توقيت الزيارة أو عدد الوجبات التي تناولناها بالفعل.
وتجدهم يقولون: «آه يا باري ... ربما لا يكون لدينا الكثير هنا في كينيا، لكن ما دمت هنا فسيكون لديك دائما شيء لتأكله!»
في البداية كان رد فعلي على كل هذه الرعاية مثل رد فعل طفل تجاه حضن أمه؛ مليء بعرفان تام وبسيط للجميل. وكان ذلك يتفق مع فكرتي عن أفريقيا والأفريقيين، وهو تناقض واضح للعزلة المتزايدة في الحياة الأمريكية، وهو تناقض تفهمته في إطار ثقافي وليس عنصريا. مقياس لما ضحينا به من أجل التكنولوجيا وسهولة الحركة، لكن ذلك المقياس هنا ، كما كان الحال في قرى السكان الأصليين خارج جاكرتا أو قرى أيرلندا أو اليونان، ظل في جوهره كما هو: السعادة الشديدة برفقة الأشخاص الآخرين ومتعة دفء العلاقات الإنسانية.
ومع ذلك بمرور الأيام أصبح القلق والشك يشوبان سعادتي. ويرجع هذا إلى حد ما إلى ما تحدثت عنه أوما تلك الليلة في السيارة؛ إدراك مفاجئ وحاد لثروتي الجيدة نسبيا، والأسئلة المزعجة التي تشير إليها تلك الثروة. ولم تكن المشكلة بالضبط أن أقرباءنا يعانون. فكل من جين وزيتوني لديهما عمل ثابت، وكيزيا تعيش من الدخل الذي يدره عليها بيع الأقمشة في الأسواق. وإذا كان هناك عجز في النقود فيمكن إرسال الأطفال إلى الجزء الداخلي من البلاد لبعض الوقت حيث كان يقيم هناك، كما قيل لي، أخ آخر اسمه آبو، مع عم في كندو باي حيث يوجد دائما عمل يومي للقيام به وطعام على مائدتهم وسقف يظلهم.
ومع ذلك فقد كان الحال في نيروبي سيئا ويزداد سوءا. فكانت الملابس التي يرتدونها غالبا مستعملة، والذهاب للطبيب لا يكون إلا في حالات الطوارئ القصوى. وكان معظم أفراد العائلة من الشباب لا يعملون، ومن بينهم الاثنان أو الثلاثة الذين تمكنوا من أن يتخرجوا في واحدة من جامعات كينيا رغم ظروف المنافسة الصعبة. وإذا ما أصاب المرض جين أو زيتوني، أو إذا ما أغلقت الشركتان اللتان تعملان بهما أبوابهما أو استغنتا عنهما، فإن الحكومة لن تقدم لهما أي معونة مالية، ولن يبقى سوى العائلة فقط، الأقارب، وهم أشخاص مثقلون بصعاب مماثلة.
ذكرت نفسي في ذلك الوقت بأنني أصبحت جزءا من العائلة، والآن لدي مسئوليات. ولكن ماذا يعني هذا بالضبط؟ في الولايات المتحدة استطعت أن أترجم هذه المشاعر إلى العمل في السياسة وتنظيم المجتمع وإلى نوع محدد من إنكار الذات. أما في كينيا فهذه الاستراتيجيات تبدو أفكارا مجردة بلا أمل، بل حتى منغمسة في ذاتها. فالالتزام بالعمل على منح السود مكانة وسلطة في المجتمع لن يساعد في إيجاد عمل لبرنارد. والإيمان بالديمقراطية القائمة على المشاركة لا يمكن أن يشتري لجين طقم ملاءات جديدا. ولأول مرة في حياتي أجد نفسي أفكر بشدة في النقود؛ افتقاري إليها والسعي للحصول عليها، والسلام البسيط الذي لا يمكن إنكاره والذي بوسعها أن تشتريه. وتمنى جزء مني لو أنني أستطيع أن أكون أهلا للصورة التي تخيلها أقربائي الجدد لي: محام في شركة أو رجل أعمال أمريكي أضع يدي على الصمام ومستعد لأن أمطر عليهم من ثروات الغرب.
ولكني بالطبع لم أكن أيا من الاثنين، وحتى في الولايات المتحدة تتضمن الثروة موازنة بين أشياء لا تجتمع معا لمن لم يولد في حضن هذه الثروة، وهو النوع نفسه من الموازنة التي أرى أن أوما تقوم بها الآن، وهي تحاول، بطريقتها الخاصة، أن تحقق توقعات العائلة. فكانت في ذلك الصيف تعمل بوظيفتين؛ تدرس في دورات لتعليم اللغة الألمانية لرجال الأعمال الكينيين إلى جانب وظيفتها في الجامعة. ولم تكن تريد أن تستخدم المال الذي ادخرته في إصلاح منزل الجدة في أليجو فحسب، بل أرادت أيضا أن تشتري قطعة أرض حول نيروبي، شيئا تزداد قيمته بمرور الزمن، وقاعدة تبدأ منها عملية البناء. كان لديها خطط وجداول وميزانيات ومواعيد لإنجاز العمل، وهي جميع الأشياء التي تعلمت أنها مطلوبة للتعامل مع العالم الحديث. المشكلة أن هذه الجداول كانت تعني أيضا الابتعاد عن شئون العائلة، وميزانيتها تعني الاعتذار عن الطلبات الدائمة للنقود التي كانت توجه إليها. وعندما يحدث هذا - عندما أصرت على الذهاب إلى منزلها قبل أن تقدم جين العشاء لأن الاجتماع العائلي بدأ متأخرا ساعتين عن موعده، أو عندما رفضت أن تترك ثمانية أشخاص يتكدسون في سيارتها لأنها مصممة لاستيعاب أربعة أشخاص فقط، وأن هذا سيمزق المقاعد - تجد نظرات الجراح الصامتة، التي لا تختلف كثيرا عن نظرات الاستياء، تبرق في جميع أنحاء الغرفة. لقد كان قلقها واستقلالها واستعدادها الدائم لأن تفكر في المستقبل، جميع هذه الأشياء صدمت العائلة على أنها غير طبيعية بطريقة ما . غير طبيعية ... وغير أفريقية.
إنها المعضلة نفسها التي طرحها أمامي فرانك العجوز تلك السنة التي تركت فيها هاواي ، التوتر نفسه الذي قد يشعر به بعض الأطفال في ألتجيلد إذا كانوا يستمتعون بشدة بأداء واجباتهم المدرسية، الشعور الغريب بذنب النجاح نفسه الذي أتوقع الشعور به إذا ما حاولت كسب النقود والمرور بحشود الشباب السود في زوايا الشوارع وأنا أسلك طريقي إلى مكتب في وسط المدينة. فبدون قوة للجماعة، بل جماعة أكبر حتى من العائلة الكبيرة، فإن نجاحنا يهدد دائما أن يترك آخرين خلفنا. وربما تكون هذه الحقيقة هي التي تركتني غير مستقر - حقيقة أنه حتى هنا في أفريقيا الأنماط نفسها التي تدفع المرء إلى الجنون هي التي تفرض سلطانها، وأنه لا أحد هنا يستطيع أن يخبرني ما الذي تتطلبه صلة القرابة، أو كيف يمكن التوفيق بين هذه المطالب وفكرة اتحاد البشر الأكبر. كان الأمر كما لو أننا، أنا وأوما وروي وبرنارد، نختلقها ونحن نتقدم في طريقنا. كما لو أن الخريطة التي قد تكون قاست في يوم من الأيام اتجاه وقوة حبنا، والشفرة التي من الممكن أن تفتح الحظ الوافر لنا، فقدت قبل وقت طويل، دفنت مع أجدادنا تحت الأرض الصامتة. •••
قرب نهاية أسبوعي الأول في نيروبي اصطحبتني زيتوني لزيارة عمتي الأخرى سارة. وظلت أوما غير راغبة في الذهاب، ولكن نظرا لأنه اتضح أن الميكانيكي الذي يصلح سيارتها يعيش بالقرب من سارة، فقد عرضت علينا أن تقلنا إلى الورشة، وقالت إنه من هناك يمكننا الذهاب سيرا. وفي صباح يوم السبت ذهبنا أنا وأوما لاصطحاب زيتوني واتجهنا شرقا مرورا بمبان أسمنتية وقطع أراض جافة بها قاذورات، حتى وصلنا في النهاية إلى حافة واد واسع معروف باسم «ماثار». أوقفت أوما السيارة ونظرت أنا من النافذة لأرى بالأسفل الجزء الفقير من المدينة، والأميال الممتدة من الأسطح المتموجة التي تومض تحت أشعة الشمس مثل أوراق طافية من نبات زنبق الماء الأبيض وهي تنبعج وتغطس في تسلسل مستمر عبر أرض الوادي.
فسألتها: «كم عدد الناس الذين يعيشون هناك؟»
هزت أوما كتفيها واستدارت إلى عمتنا. وقالت: «كم تظنين يا عمتي؟ ربما نصف مليون؟»
هزت زيتوني رأسها . وقالت: «كان ذلك الأسبوع الماضي. لا بد أن الرقم وصل إلى مليون هذا الأسبوع.»
أعادت أوما تشغيل محرك السيارة. وقالت: «لا أحد يعلم عن يقين يا باراك.» وتابعت: «فعدد سكان هذا المكان يزداد طوال الوقت. فالناس يتدفقون إلى هنا من الريف بحثا عن عمل وينتهي بهم الحال إلى البقاء هنا للأبد. ولبعض الوقت حاول مجلس المدينة إزالة المستوطنة. وقالوا إن لها مخاطر صحية، وإساءة إلى صورة كينيا. وجاءت الجرافات وفقد الناس ما كانوا يملكون من أشياء قليلة. ولكن بالطبع لم يكن لديهم مكان آخر يذهبون إليه. وبمجرد أن غادرت الجرافات أعاد الناس بناء كل شيء كما كان.»
توقفنا أمام كوخ منحدر مصنوع من الصفيح ظهر منه ميكانيكي وعدد من عماله للاعتناء بسيارة أوما. تركت أنا وزيتوني أوما في الورشة بعد أن وعدناها أن نعود في غضون ساعة، وبدأنا نسلك طريقنا في طريق واسع غير معبد. كان الجو حارا بالفعل، والطريق خاليا تماما من أي ظلال، وعلى كلا جانبيه صفوف من الأكواخ الصغيرة جدرانها مزيج من الأغصان الرقيقة المجدولة والطمي وأجزاء من الورق المقوى ورقائق الخشب التي يحصلون عليها من البحث في القمامة. ومع ذلك فالمنازل مرتبة والأرض الترابية أمام كل منزل نظيفة، وفي كل مكان خياطون ومصلحو أحذية ومصنعو أثاث ينخرطون في عملهم خارج أكشاك على جانب الطريق، ونساء وأطفال يبيعون الخضراوات التي يضعونها فوق مناضد خشبية متهالكة.
وفي النهاية وصلنا إلى إحدى حواف وادي ماثار، حيث كانت تقف سلسلة من المباني الخرسانية على طول طريق معبد. وكان ارتفاع المباني ثمانية طوابق وربما وصل إلى اثني عشر طابقا، ومع ذلك فهي غير مكتملة البناء بصورة تثير الفضول؛ فالدعامات الخشبية والأسمنت الجاف متروكان في العراء كما لو أن هذه المباني تعرضت لقصف جوي. دخلنا أحد هذه المباني وصعدنا سلالم ضيقة، ثم وجدنا أنفسنا في نهاية رواق طويل غير مضاء، وفي الطرف الآخر رأينا فتاة مراهقة تعلق الملابس كي تجف في شرفة أسمنتية صغيرة. ذهبت زيتوني لتتحدث إلى الفتاة التي قادتنا دون أن تتفوه ببنت شفة إلى باب منخفض متهالك. طرقنا الباب فخرجت سيدة سوداء في منتصف العمر قصيرة القوام ولكن قوية البنيان، لها عينان لامعتان قاسيتان تستقران في وجهها الكبير النحيف، وقد أمسكت يدي وقالت شيئا بلغة قبيلة لوو.
فترجمت زيتوني قائلة: «إنها تقول إنها تشعر بالخجل لأن ابن أخيها يراها هنا في مثل هذا المكان البائس.»
دلفنا إلى غرفة صغيرة مساحتها 10 × 12 قدما لكنها تستوعب فراشا وخزانة ذات أدراج وكرسيين وماكينة خياطة. اتخذت أنا مقعدا وزيتوني المقعد الآخر، وعادت الشابة التي أدخلتنا إلى غرفة سارة ومعها كوبان من المياه الغازية الدافئة. جلست سارة على السرير وانحنت للأمام لتتفرس ملامح وجهي. وكانت أوما قد أخبرتني أن سارة تعرف بعض الإنجليزية ولكنها كانت تتحدث بلغة قبيلة لوو معظم الوقت. وحتى دون ترجمة زيتوني استطعت أن استشف أنها غير سعيدة.
شرحت زيتوني قائلة: «إنها تريد أن تعرف لماذا استغرقت كل هذا الوقت كي تأتي لزيارتها.» وتابعت: «إنها تقول إنها أكبر أولاد جدك حسين أونيانجو، وكان يجب أن تأتي لزيارتها أولا.»
قلت وأنا أنظر إلى سارة لكن دون أن أكون واثقا ماذا تفهم: «أخبريها أنني لم أقصد إظهار عدم الاحترام.» وتابعت: «لقد كنت مشغولا للغاية منذ وصولي، وكان من الصعب أن آتي قبل الآن.»
أصبحت نبرة سارة حادة. فقالت زيتوني: «إنها تقول إن من تمكث لديهم يخبرونك بأكاذيب.» «أخبريها أنني لم أسمع شيئا يسيء إليها. وأخبريها أن النزاع حول الميراث الذي تركه أبي جعل أوما لا تشعر بالارتياح لفكرة قدومها معي إلى هنا.»
أصدرت سارة صوتا يعبر عن ازدرائها بعد الترجمة، وبدأت تتحدث من جديد بصوت صاخب تردده الجدران القريبة. وفي النهاية عندما توقفت ظلت زيتوني صامتة. «ماذا قالت يا زيتوني؟»
ظلت عينا زيتوني معلقة على سارة وهي تجيب سؤالي. «تقول إن المحاكمة ليست خطأها. بل خطأ كيزيا، والدة أوما. وتقول إن الأطفال الذين يدعون أنهم أولاد أوباما ليسوا أولاده. وتقول إنهم أخذوا كل شيء وتركوا أهله الحقيقيين يعيشون مثل المتسولين.»
أومأت سارة برأسها وبدأت عيناها تشتعلان غضبا. ثم قالت فجأة بالإنجليزية: «نعم يا باري.» وتابعت: «أنا التي اعتنيت بأبيك وهو صبي صغير. ووالدتي أكومو هي أيضا والدة أبيك. أكومو هي جدتك الحقيقية وليس تلك التي تخاطبها بلقب الجدة. أكومو هي المرأة التي منحت والدك الحياة، ويجب أن تساعدها. وأنا أخت والدك، انظر كيف أعيش. لماذا لا تساعدنا بدلا من مساعدة أولئك الآخرين؟»
قبل أن أتمكن من الرد، بدأت زيتوني وسارة تتناقشان بلغة لوو. وفي النهاية نهضت زيتوني وعدلت من هندامها.
وقالت: «يجب أن نذهب الآن يا باري.»
شرعت في النهوض من على مقعدي، لكن سارة أمسكت يدي بكلتا يديها، وبدأ صوتها يرق.
قالت: «ألن تعطيني شيئا؟ من أجل جدتك؟»
أخرجت محفظتي وشعرت بعيني السيدتين تراقبانني وأنا أعد النقود التي كانت معي، ربما ما يساوي 30 دولارا من الشلنات. ووضعتهم في يد سارة الجافة المشققة، فأسرعت هي بوضعها في صدر قميصها قبل أن تعود وتمسك بيدي مرة أخرى.
وتقول: «ابق هنا يا باري. يجب أن تقابل ...»
ولكن زيتوني قاطعتها قائلة: «يمكنك أن تعود مرة أخرى يا باري.» وتابعت: «هيا بنا.»
وفي الخارج كان هناك ضوء أصفر غائم ينير الطريق، وكانت ملابسي شبه مبتلة على جسدي في ذلك الجو الحار الذي يفتقر إلى الهواء. كانت زيتوني هادئة، والغضب واضح على ملامحها؛ فقد كانت سيدة تعتز بنفسها ولا بد أن ذلك المشهد مع سارة قد أحرجها. ثم إنها، على حسب علمي، كان يمكنها الانتفاع بالثلاثين دولارا ...
سرنا لمدة 10 دقائق قبل أن أسأل زيتوني عما كانت تتجادل هي وسارة بشأنه.
فقالت: «لا شيء يا باري. هذا ما يحدث مع السيدات العجائز اللائي يعشن دون أزواج.» وحاولت أن تبتسم ولكن التوتر منع شفتيها من الانفراج. «أخبريني الحقيقة يا عمتي.»
هزت زيتوني رأسها. وقالت: «أنا لا أعلم أساسا ما الحقيقة. أو على الأقل لا أعلم الحقيقة كاملة. فأعرف أنه حتى عندما كبرنا، كانت سارة دائما أقرب إلى أمها الحقيقية أكومو. أما باراك فقد كان يهتم فقط بوالدتي أنا، التي تخاطبها بلقب الجدة، التي ربتهم بعد أن رحلت أكومو.» «ولماذا رحلت أكومو؟» «لا أدري. يجب أن تسأل الجدة عن هذا.»
أشارت زيتوني كي نعبر الشارع، ثم استأنفت الحديث. قالت: «أتعرف، كان والدك وسارة متشابهين للغاية، مع أنهما لم يكونا متفقين دائما. كانت ذكية مثله. وكانت مستقلة. واعتادت أن تخبرني عندما كنا أطفالا أنها تريد أن تتعلم حتى لا تضطر للاعتماد على أي رجل، ولهذا انتهى بها الحال إلى الزواج من أربعة رجال، ولم يستمر أحد منهم معها. فقد مات الأول أما الثلاثة الآخرون فقد تركتهم لأنهم كانوا كسالى أو حاولوا استغلالها. وأنا معجبة بها من أجل هذا. فمعظم الكينيات يتكيفن مع أي وضع. أنا فعلت هذا وقتا طويلا. لكن سارة أيضا دفعت ثمن استقلال شخصيتها.»
مسحت زيتوني العرق من على جبينها بظهر يدها. واستأنفت: «على أية حال، بعد موت زوج سارة الأول قررت أن والدك يجب أن يتولى الإنفاق عليها هي وطفلها نظرا لأنه هو من حظي بفرصة التعليم. ولهذا تكره كيزيا وأطفالها. فكانت تظن أن كيزيا مجرد فتاة جميلة تريد أن تأخذ كل شيء. ويجب أن تفهم يا باري أنه في عادات قبيلة لوو الذكر يرث كل شيء. وخشيت سارة أنه بمجرد أن يموت جدك فإن كل شيء سيئول إلى باراك وزوجاته، وهي لن تحصل على شيء.»
هززت رأسي. وقلت: «ولكن هذا ليس مبررا للكذب فيما يخص أبناء أبي.» «إنك على حق. ولكن ...» «ولكن ماذا؟»
توقفت زيتوني عن السير. والتفتت إلي. وقالت: «بعد أن رحل أبوك ليعيش مع زوجته الأمريكية روث ... نعم، كان يذهب إلى كيزيا في بعض الأحيان. ويجب أن تفهم أنها طبقا للعادات كانت لا تزال زوجته. وفي أثناء إحدى تلك الزيارات أصبحت كيزيا حاملا في آبو، الأخ الذي لم تقابله. والمشكلة أن كيزيا عاشت مع رجل آخر وقتا قصيرا في ذلك الوقت. لذا عندما أصبحت حاملا مرة أخرى، هذه المرة في برنارد، لم يكن أحد واثقا من يكون ...» توقفت زيتوني وتركت الفكرة تكمل نفسها. «وهل يعرف برنارد هذا ؟» «نعم، إنه يعرفه الآن، ومثل هذه الأشياء لم تشكل فارقا مع أبيك. فكان يقول إنهم جميعا أولاده. فأبعد ذلك الرجل الذي كانت كيزيا تعرفه، وكان يمنح كيزيا النقود لتنفق على الأطفال كلما استطاع. ولكن بمجرد أن توفي لم يكن هناك شيء يثبت أنه قد اعترف بهم بهذه الطريقة.»
انعطفنا عند زاوية إلى طريق أكثر ازدحاما. وأمامنا رأينا معزاة حاملا كانت تصدر صوت ثغاء وهي تبتعد مسرعة عن طريق عربة ماتاتو. وعلى الجانب الآخر من الطريق كانت هناك فتاتان صغيرتان ترتديان زي مدرسة لونه أحمر باهت، ورأساهما المستديران شبه خاليين من الشعر، وتمسك كلتاهما بيد الأخرى وتغنيان وهما تقفزان فوق بالوعة. وأشارت لنا سيدة متقدمة في العمر تغطي رأسها بشال باهت اللون كي نذهب ونرى بضائعها التي تتكون من علبتين تحتويان على فاصوليا مجففة، وكومة منظمة من الطماطم وسمك مجفف يتدلى من سلك يشبه سلسلة من العملات الفضية. نظرت إلى وجه السيدة العجوز الذي يختبئ أسفل الظلال. وتساءلت من تكون هذه السيدة؟ جدتي؟ شخص غريب؟ وماذا عن برنارد، هل يجب أن تختلف مشاعري تجاهه الآن؟ ثم نظرت إلى محطة الحافلة حيث كانت جموع من الشباب تتدفق إلى الشارع، وجميعهم طوال القامة وسود البشرة ونحيفو القوام، وعظامهم بارزة من ثيابهم. وفجأة تخيلت وجه برنارد عليهم جميعا، يتضاعف على مرمى البصر، وعبر القارات. جميعهم رجال جياع مكافحون يائسون وجميعهم إخوتي ... «لعلك ترى الآن ما الذي عاناه والدك!» «ماذا؟» مسحت عيني ورفعت بصري لأجد أن عمتي تحدق في.
وكررت: «نعم يا باري، لقد عانى والدك.» وتابعت: «وأنا أقول لك إن مشكلته أن قلبه كان كبيرا أكثر مما ينبغي. عندما كان حيا كان يعطي أي شخص يطلب منه. وجميعهم كانوا يطلبون. أتعرف لقد كان من أوائل من درسوا في الخارج في المنطقة كلها. والناس هنا في أرض الوطن لم يعرفوا أي شخص استقل طائرة من قبل. لذا فقد توقعوا كل شيء منه. وكانوا يرددون: «باراك، لقد أصبحت رجلا عظيم الشأن الآن يجب أن تمنحني شيئا . يجب أن تساعدني.» ودائما مثل هذه الضغوط من العائلة. ولم يستطع أن يقول لا، فقد كان كريما للغاية. حتى أنا كان عليه أن يعتني بي عندما أصبحت حاملا، بعد أن خابت آماله في. فقد أرادني أن ألتحق بالجامعة. لكنني لم أطعه، وبدأت علاقتي بزوجي. ومع ذلك فعندما أصبح زوجي عنيفا وعلي أن أتركه وأنا لا أملك نقودا ولا عملا، من تظن أنه تولى رعايتي؟ نعم، إنه أبوك. لهذا بصرف النظر عما يقوله عنه الآخرون في بعض الأحيان فسأظل ممتنة له دائما.»
كنا نقترب من الورشة، ورأينا أوما تتحدث إلى الميكانيكي وسمعنا صوت محرك السيارة القديمة يئن. وإلى جوارنا ولد صغير عاري الجسد، ربما في الثالثة من عمره، يتجول خلف صف من براميل الزيت، وقدماه مغطاتان بما يشبه القطران. ومرة أخرى توقفت زيتوني، هذه المرة كما لو أنها مريضة، وبصقت على التراب.
وقالت: «عندما تغير حظ أبيك، نسيه أولئك الذين كان يساعدهم، وضحكوا عليه. حتى أفراد العائلة رفضوا أن يستضيفوه ليمكث في منازلهم. نعم يا باري! رفضوا! وقالوا لباراك إن هذا أمر خطير جدا. وكنت أعلم أن هذا يجرح مشاعره ولكنه لم يكن يلوم أحدا. فوالدك لم يشعر بالضغينة قط تجاه أحد. وفي الحقيقة عندما استرد أبوك اعتباره وعادت حياته تسير على ما يرام مرة أخرى، اكتشفت أنه يساعد أولئك الذين تخلوا عنه. ولم أفهم لماذا يفعل هذا. فكنت أقول له: «باراك يجب أن تعتني بنفسك وأطفالك فقط! هؤلاء الآخرون عاملوك معاملة سيئة. إنهم مجرد كسالى لا يودون العمل بأنفسهم»، وهل تعلم ماذا كان يقول لي؟ كان يقول: «وكيف تعرفين أن هذا الشخص لا يحتاج إلى هذا الشيء البسيط أكثر مني؟»
استدارت عمتي مبعدة وجهها ولوحت لأوما وهي تجبر نفسها على الابتسام. وعندما بدأنا نتقدم مرة أخرى، أضافت: «إنني أخبرك بهذا حتى تعرف الضغط الذي تعرض له والدك في هذا المكان. حتى لا تكون قاسيا في الحكم عليه. ويجب أن تتعلم من حياته. تتعلم أنه إذا كان لديك شيء فإن الجميع سيريدون جزءا منه. لذا عليك أن تضع حدودا. فإذا كان الجميع من عائلتك فلا عائلة لك. وأظن أن والدك لم يفهم هذا قط.» •••
أتذكر حوارا دار في شيكاغو عندما كنت لا أزال أعمل في تنظيم المجتمع. كان الحوار مع سيدة نشأت في عائلة كبيرة من منطقة ريفية في جورجيا. وأخبرتني أنهم كانوا خمسة إخوة وثلاث أخوات، جميعهم يحتشدون تحت سقف واحد. وأخبرتني عن مجهودات أبيها غير المجدية لزراعة قطعة صغيرة من الأرض، وزراعة والدتها للخضراوات، والخنزيرين اللذين كانا يربيانهما في الفناء، والرحلات مع إخوتها للصيد في المياه الموحلة لنهر قريب. وعندما استمعت إليها وهي تتحدث بدأت أدرك أن اثنتين من الأخوات الثلاث توفيتا عند ميلادهما، لكنهما ظلتا في عقل تلك السيدة دائما، أرواح بأسماء وأعمار وشخصيات؛ أختان كانتا معها وهي تسير إلى المدرسة أو تقوم بالأعمال المنزلية، تخففان عنها عندما تبكي وتهدئان من روعها. فلم تكن العائلة عند تلك السيدة أبدا كيانا يضم الأحياء فقط. بل إن الأموات أيضا لديهم حقوق، وأصواتهم تشكل مسار أحلامها.
وهكذا كان الأمر لي في ذلك الوقت، فأذكر أنه بعد أيام قليلة من زيارتي لسارة، صادفت أحد معارف أبي من بنك باركليز في الخارج. وفهمت أن أوما لم تكن تذكر اسمه؛ لذا فقد مددت يدي لأصافحه وقدمت نفسي. فابتسم الرجل وقال: «يا إلهي، لقد أصبحت طويلا للغاية. كيف حال والدتك؟ وأخوك مارك، هل تخرج في الجامعة بعد؟»
في البداية شعرت بالحيرة. فهل كنت أعرف هذا الشخص؟ ثم شرحت له أوما بصوت منخفض أنني أخ غير ذلك الذي يتحدث عنه، وأن اسمي باراك ونشأت في أمريكا وأنني ابن أم أخرى. ديفيد قد توفي. وأصبح الموقف غريبا لجميع الأطراف، فأومأ الرجل برأسه (وقال: «أنا آسف، لم أكن أعلم») ولكن عاد ونظر إلي مرة أخرى كما لو أنه يتأكد أن ما سمعه حقيقي، وحاولت أوما أن تبدو كما لو أن الموقف، مع أنه حزين، من الأمور المأسوية الطبيعية، أما أنا فوقفت على الجانب أتساءل كيف يشعر المرء بعد أن يخطئ الآخرون ويظنوه شبحا.
وبعد ذلك عندما عدنا إلى الشقة سألت أوما متى كانت آخر مرة رأت فيها مارك وروث. فأمالت رأسها على كتفي ونظرت إلى السقف.
وقالت: «في جنازة ديفيد.» وتابعت: «مع أنهما في ذلك الوقت كانا قد توقفا عن التحدث إلينا منذ وقت طويل.» «لماذا؟» «أخبرتك أن طلاق روث من أبي كان شيئا مريرا. وبعد انفصالهما تزوجت من رجل تنزاني وجعلت مارك وديفيد يحملان اسمه. وأرسلتهما إلى مدرسة دولية وتربيا مثل الأجانب، وأخبرتهما أنهما يجب ألا تربطهما أية علاقة بجانبنا من العائلة.»
ثم تنهدت أوما. واستأنفت: «لا أعلم، ربما لأن مارك كان أكبر سنا، أصبح يشارك روث موقفها ولم يكن له أي اتصال بنا بعد ذلك. ولكن لسبب ما، بمجرد أن أصبح ديفيد مراهقا بدأ يثور على روث. وأخبرها أنه أفريقي، وبدأ يطلق على نفسه أوباما. وفي بعض الأحيان كان يتسلل من المدرسة لزيارة أبي وباقي أفراد العائلة، وكانت هذه هي الطريقة التي عرفناه بها. وأصبح الأخ المفضل للجميع. فقد كان لطيفا للغاية ومرحا، وإن كان طائشا في بعض الأحيان.
حاولت روث أن تلحقه بمدرسة داخلية، على أمل أن ذلك سيجعله يستقر. ولكن انتهى الأمر بديفيد هاربا ولم يره أحد لأشهر. وبالصدفة التقى به روي في مباراة رجبي. كان قذر الهيئة نحيف الجسد يتسول النقود من الغرباء. وعندما رأى روي أخذ يضحك ويتفاخر بحياته في الشوارع، يبيع الحشيش مع أصدقائه. وقد أخبره روي أن يعود إلى المنزل لكنه رفض؛ لذا فقد اصطحبه إلى شقته وأرسل لروث يخبرها أن ابنها بأمان وأنه يمكث عنده. وعندما سمعت روث بهذا شعرت بالارتياح لكنها استشاطت غضبا أيضا، وترجت ديفيد أن يعود، وعندما رفض مرة أخرى قبلت ضمنيا الاتفاق مع روي على أمل أن يغير ديفيد رأيه في النهاية.»
ارتشفت أوما من كوب الشاي الخاص بها. واستأنفت: «وفي ذلك الوقت توفي ديفيد. عندما كان يعيش مع روي. وقد فطر موته قلب الجميع، ولا سيما روي. فقد كانا مقربين حقا. لكن روث لم تفهم ذلك قط. فظنت أننا أفسدنا ديفيد. وسرقنا ابنها منها. ولا أظن أنها قد سامحتنا قط على ذلك.»
قررت أن أتوقف عن الكلام عن ديفيد بعد ذلك، ورأيت أن تلك الذكريات كانت أليمة للغاية على أوما. لكن بعد أيام قليلة عدت أنا وأوما إلى المنزل ووجدنا سيارة تنتظرنا خارج المبنى، وسلمها السائق الأسمر البشرة - الذي تبرز تفاحة آدم من عنقه بشدة - خطابا.
سألتها: «ما هذا؟»
فأجابت: «إنها دعوة من روث.» وتابعت: «فقد عاد مارك من أمريكا لقضاء الصيف. وتريد أن تدعونا على الغداء.» «أتريدين الذهاب؟»
هزت أوما رأسها وظهرت نظرة ازدراء على وجهها. وقالت: «إن روث تعرف أنني هنا منذ نحو ستة أشهر. وهي لا تهتم بي. السبب الوحيد في دعوتها لنا أنها تشعر بفضول تجاهك. وتريد أن تقارنك بمارك.»
فقلت بهدوء: «أظن أنه ربما يجب أن أذهب.»
نظرت أوما إلى الدعوة مرة أخرى، ثم أعادتها إلى السائق وقالت له شيئا باللغة السواحيلية. ثم قالت: «سنذهب نحن الاثنين»، ثم دخلنا إلى الشقة.
كانت روث تعيش في ويستلاندز وهي مقاطعة من المنازل الباهظة يفصل بينها مساحة كبيرة من الأعشاب والحواجز التي تتولى حراسة كل منها نقطة حراسة بها حراس يرتدون زيا بنيا موحدا. كانت السماء تمطر ونحن ذاهبون بالسيارة إلى المنزل، وترسل رذاذا رقيقا عبر الأشجار الكبيرة المورقة. وقد ذكرتني تلك البرودة بالشوارع حول بوناهو ومانوا وتنتالوس، وهي الشوارع التي كان يقطن بها بعض زملائي الأثرياء في هاواي. وفكرت وأنا أحدق من نافذة سيارة أوما في مشاعر الحسد التي كنت أشعر بها تجاه أولئك الزملاء كلما دعوني للعب في الأفنية الخلفية الواسعة لمنازلهم أو للسباحة في حمامات السباحة الخاصة بهم. وإلى جانب ذلك الحسد هناك انطباع مختلف: إحساس اليأس الهادئ الذي كانت تحويه تلك المنازل الجميلة الكبيرة. وصوت شقيقة أحدهم تبكي برفق خلف الباب. ومشهد إحدى الأمهات وهي تحتسي خلسة كأسا من الخمر القوي بعد الظهر. والتعبير على وجه الأب وهو يجلس وحده في غرفته، وملامحه المتحفزة وهو يقلب بين مباريات كرة القدم بين الجامعات التي تعرض في التليفزيون. إنه انطباع بالوحدة الذي من المحتمل ألا يكون صحيحا، فربما يكون إسقاطا من داخلي فقط، لكنه في كلتا الحالتين كان يجعلني أشعر برغبة في الهروب، مثلما فعل ديفيد الذي كان المحيط يفصل بيني وبينه، عائدا إلى السوق والشوارع المزدحمة، عائدا إلى الفوضى والضحكات التي تؤدي إليها تلك الفوضى، عائدا إلى نوع الألم الذي يستطيع صبي أن يفهمه.
وصلنا إلى أحد المنازل المتواضعة في المجمع، وأوقفنا السيارة عند منحنى طريق دائري. خرجت سيدة بيضاء، لها فك واسع وشعر بدأ في المشيب، من المنزل لتستقبلنا. وخلفها رجل أسود البشرة في مثل طولي ولون بشرتي، وشعره كثيف يطلقه على النمط الأفريقي، ويضع نظارة لها إطار بارز.
قالت روث: «تفضلا، تفضلا!» تصافحنا نحن الأربعة بجفاء. ودخلنا إلى غرفة معيشة كبيرة حيث كان هناك رجل أسود أصلع مسن يرتدي سترة سفاري ويهدهد صبيا صغيرا على حجره بقذفه لأعلى. قالت روث: «هذا زوجي، وهذا جوي أخو مارك الصغير.»
قلت وأنا أنحني لأصافح الطفل: «مرحبا يا جوي!» كان صبيا جميلا له بشرة بلون العسل وسنتاه الأماميتان مفقودتان. داعبت روث شعره الكبير المعقوص، ثم نظرت إلى زوجها وقالت: «ألستما في طريقكما إلى النادي؟»
نهض الرجل وقال: «نعم، تعال يا جوي.» وتابع: «تعال يا جوي ... كان من اللطيف مقابلتكما.» نهض الصبي بسرعة وحدق في وفي أوما بابتسامة مشرقة فضولية حتى التقطه أبوه وحمله متجها إلى الباب.
قادتنا روث إلى الأريكة وصبت لنا عصير الليمون. وقالت: «حسنا، ها نحن.» وتابعت: «يجب أن أقول إنها كانت مفاجأة حقا أن نعرف أنك هنا يا باري. فأخبرت مارك أننا يجب أن نرى ما أصبح عليه ابن أوباما الآخر. اسمك أوباما، أليس كذلك؟ ولكن والدتك تزوجت مرة أخرى. لا أدري لماذا جعلتك تحتفظ باسمك؟»
ابتسمت كما لو أنني لم أفهم السؤال. وقلت وأنا ألتفت إلى أخي: «مارك، سمعت أنك في بيركلي.»
فصحح لي قائلا: «بل ستانفورد». كان صوته عميقا، ويتحدث بلكنة أمريكية صحيحة. وقال: «أنا في عامي الأخير من دراسة الفيزياء هناك.»
فقالت أوما: «لا بد أنه صعب.»
فهز مارك كتفيه. وقال: «ليس في الواقع.»
فقالت روث: «لا تكن شديد التواضع يا عزيزي. الأشياء التي يدرسها مارك معقدة للغاية وعدد قليل للغاية فقط من الناس يفهمونها حقا.» وربتت على يد مارك ثم التفتت إلي. قالت: «سمعت أنك ستلتحق بجامعة هارفارد يا باري. بالضبط مثل أبيك. لا بد أنك تتمتع بذكائه. ولكن آمل ألا تكون ورثت عنه بقية صفاته. أنت تعلم أن أوباما كان مجنونا إلى حد ما، أليس كذلك؟ واحتساء الكحول جعل الأمور أسوأ. هل قابلته قط؟ أعني أوباما؟» «مرة واحدة. عندما كنت في العاشرة من عمري.» «لقد كنت محظوظا إذن. وعلى الأرجح هذا يفسر السبب وراء نجاحك.»
هكذا مرت الساعات التالية وروث تتبادل رواية قصص عن فشل أبي وقصص عن إنجازات مارك. وكانت الأسئلة توجه إلي، تاركة أوما تتناول بعصبية وصمت اللازانيا التي قدمتها روث. وأردت أن أغادر بمجرد أن تنتهي الوجبة، لكن روث اقترحت أن يرينا مارك ألبوم العائلة وتحضر هي الحلويات.
قال مارك: «أنا واثق أنهما غير مهتمين بهذا الأمر يا أمي.»
فقالت روث: «إنهما مهتمان بالطبع.» ثم أصبح صوتها بعيدا بشكل غريب عندما قالت: «إنه يحتوي على صور لأوباما، منذ صغره ...»
تبعنا مارك إلى خزانة الكتب وجذب ألبوم صور كبيرا. وجلسنا معا على الأريكة نتصفح الصور. شاهدنا صورا لأوما وروي، ببشرتهما السوداء وأجسادهما النحيلة الطويلة وسيقانهما وعيونهما الكبيرة، يحملان الطفلين الصغيرين بحرص بين ذراعيهم. ثم صور لأبي وروث يذاكران على شاطئ في مكان ما. وصور للعائلة بأكملها وهي ترتدي ملابس السهرة لقضاء الأمسية في الخارج بالمدينة. كانت جميعها مشاهد سعيدة ومألوفة بصورة غريبة، كما لو أنني كنت ألمح عالما بديلا وجد وانتهى وأنا غير موجود. أدركت أنها كانت انعكاسات للأوهام التي كانت تستقر في نفسي منذ زمن بعيد، أوهام ظلت أسرارا حتى عن نفسي . وهم أن أبي اصطحبني أنا وأمي معه إلى كينيا. وأمنية أن يكون الأب والأم والإخوة والأخوات جميعا في منزل واحد. وفكرت في نفسي أنني أرى بعيني ما كان من الممكن أن يحدث. وقد جعلني إدراك مدى السوء الذي وصلت إليه الأمور والدليل القاسي على النهج الحقيقي الذي سارت عليه الحياة بالفعل حزينا للغاية، حتى إنني بعد بضع دقائق أبعدت ناظري.
وفي طريق العودة اعتذرت لأوما لأنني وضعتها في مثل هذا المأزق. لكنها تجاهلت المسألة.
وقالت: «كان من الممكن أن تكون الأمور أسوأ.» وتابعت: «ومع ذلك فإنني أشعر بالأسف تجاه مارك. إنه يبدو وحيدا للغاية. أتعرف، ليس من السهل أن تكون طفلا لأبوين من عرقين مختلفين في كينيا.»
نظرت من النافذة، وفكرت في أمي وجدتي وجدي، ومدى شعوري بالامتنان تجاههم من أجل ما كانوا عليه والقصص التي رووها لي. ثم استدرت إلى أوما مرة أخرى وقلت: «إنها لم تتغلب على فراقه بعد، أليس كذلك؟» «من؟» «روث. لم تتغلب على فكرة فراق أبي.»
فكرت أوما لدقيقة. وقالت: «كلا يا باراك. لا أظن هذا. مثل بقيتنا.» •••
في الأسبوع التالي، اتصلت بمارك واقترحت عليه أن نخرج ونتناول الغداء معا. وقد بدا مترددا في البداية لكنه وافق في النهاية على أن يقابلني في مطعم هندي في وسط المدينة. كان أكثر ارتياحا هذه المرة من لقائنا الأول، وألقى بعض الدعابات التي ينتقد فيها نفسه، وأبدى ملاحظاته عن كاليفورنيا والصراع الأكاديمي الداخلي. وسألته ونحن نتناول الطعام ما شعوره عندما عاد لقضاء فترة الصيف.
فقال: «رائع. من اللطيف أن أرى أمي وأبي بالطبع. وجوي أيضا، إنه طفل رائع.» قطع مارك قطعة من السمبوسة ووضعها في فمه. واستأنف: «أما باقي أجزاء كينيا فلا أشعر بارتباط شديد تجاهها. إنه مجرد بلد أفريقي فقير آخر.» «ألم تفكر قط في الاستقرار هنا؟»
شرب مارك من مياهه الغازية. وقال: «لا.» وتابع: «أعني لا يوجد هنا مجال كبير أمام فيزيائي للعمل في بلد لا يملك فيه المواطن العادي هاتفا.»
كان يجب أن أتوقف في الحديث عند هذا الحد، لكن شيئا آخر، ربما الثقة بصوت هذا الأخ، أو الشبه غير الواضح بيننا، مثل النظر إلى مرآة غائمة، جعلني أريد أن أستمر في الحديث. سألته: «ألم يراودك شعور قط أنك تفتقر إلى شيء.»
وضع مارك السكين والشوكة لأول مرة في تلك الأمسية ونظر إلى عيني مباشرة.
قال بصراحة: «أنا أفهم ما ترمي إليه.» وتابع: «إنك تظن أنني بشكل ما أقطع جذوري وأشياء من هذا القبيل.» ومسح فمه ووضع المنديل على الطبق. وقال: «حسنا، معك حق. ففي وقت ما اتخذت قرارا بألا أفكر فيمن هو أبي الحقيقي. لقد كان ميتا في نظري حتى عندما كان لا يزال على قيد الحياة. كنت أعرف أنه رجل سكير ولا يهتم بزوجته وأطفاله. وكان هذا كافيا.» «أثار جنونك.» «لم يثر جنوني. ولكنه جعلني لا أشعر تجاهه بأية مشاعر.» «وهذا لا يقلقك؟ أعني ألا تشعر بشيء؟» «تجاهه، لا. فهناك أشياء أخرى تحركني. منها سيمفونيات بتهوفن وقصائد شكسبير. أعلم أن هذا ليس مما ينبغي أن يهتم به رجل أفريقي. ولكن من المفترض أن يخبرني بما أهتم وبما لا أهتم؟ افهمني جيدا، إنني لا أشعر بالخزي لأني نصف كيني. كل ما في الأمر أنني لا أطرح على نفسي الكثير من الأسئلة عما يعنيه هذا. أسئلة عمن أكون حقا.» ثم هز كتفيه. وقال: «لا أعلم. ربما يجب أن أفعل. وأنا أعترف أنه من الممكن إذا نظرت بحرص أكبر إلى نفسي، فإنني ...»
شعرت لوهلة بتردد مارك، مثل متسلق الجبال الذي انزلقت قدمه. ثم على الفور استعاد رباطة جأشه ولوح للنادل كي يحضر ورقة الحساب.
وقال: «من يدري؟» وتابع: «الشيء المؤكد هو أنني لا أحتاج إلى هذا الضغط. فالحياة قاسية بما يكفي دون كل هذه الأشياء.»
نهضنا لنغادر، وأصررت على دفع الفاتورة. وفي الخارج تبادلنا عناويننا ووعد كلانا أن يراسل الآخر؛ كانت وعودا زائفة جعلت قلبي يتألم. وعندما عدت إلى المنزل أخبرت أوما كيف سار اللقاء. فنظرت بعيدا للحظة ثم انفجرت في ضحكة قصيرة مريرة. «ما المضحك ؟» «كنت أفكر فقط في مدى غرابة الحياة. أتعرف بمجرد أن مات أبي اتصل المحامون بكل من قد يكون له حق في الإرث. وعلى عكس أمي كان لدى روث جميع المستندات اللازمة لإثبات من هو والد مارك. ولهذا فمن بين جميع أولاد أبي، مارك هو الوحيد الذي لا غبار على حقه في الميراث.»
ومرة أخرى ضحكت أوما، فنظرت أنا إلى الصورة المعلقة على الحائط، وهي الصورة نفسها الموجودة في ألبوم روث، صورة لثلاثة إخوة وأخت يبتسمون ابتسامات عذبة أمام عدسة الكاميرا.
الفصل السابع عشر
قرب نهاية أسبوعي الثاني في كينيا ذهبت أنا وأوما في رحلة سفاري.
لم تكن أوما متحمسة للفكرة. فعندما أريتها الكتيب الدعائي أول مرة تجهم وجهها وهزت رأسها. فهي، على غرار معظم الكينيين، تربط بين محميات الحياة البرية وبين الاستعمار. وسألتني: «كم تظن عدد الكينيين الذين يمكنهم تحمل نفقات الذهاب إلى رحلة سفاري؟» وتابعت: «ولماذا تخصص كل هذه المساحة من الأرض للسياح، في حين أنه يمكن استغلالها في الزراعة؟ أولئك الرجال البيض يهتمون بفيل ميت أكثر من اهتمامهم بحياة 100 طفل أسود.»
ولعدة أيام ظللنا نراوغ. فقلت لها إنها تجعل أفكار الآخرين ومواقفهم تمنعها من رؤية بلدها. وهي قالت إنها لا تريد إهدار النقود. وفي النهاية وافقت، ولم يكن ذلك بسبب قدرتي على الإقناع ولكن لأنها كانت تشفق علي.
قالت: «إذا التهمك حيوان ما هناك فإنني لن أسامح نفسي أبدا.»
وعلى ذلك في الساعة السابعة من صباح يوم الثلاثاء شاهدنا سائقا قوي البنية من قبيلة الكيكويو اسمه فرانسيس يحمل حقائبنا على سقف سيارة ميني فان بيضاء. وكان بصحبتنا طاه طويل ونحيل اسمه رافائيل، وإيطالي أسود الشعر اسمه ماورو، وزوجان بريطانيان في بداية الأربعينيات من عمرهما يطلق عليهما السيد ويلكرسون وزوجته.
انطلقت السيارة في طريقها إلى خارج نيروبي بسرعة معتدلة، وسرعان ما مرت بالريف والتلال الخضراء وطرق من التراب الأحمر، وقطع صغيرة من الأراضي المزروعة محاطة بحقول الذرة الذابلة التي تفصل بينها مسافات كبيرة. ولم يتفوه أحد بكلمة، فساد صمت محير ذكرني بلحظات مماثلة هناك في الولايات المتحدة، الصمت الذي كان في بعض الأحيان يصاحب دخولي إلى حانة أو فندق. وقد جعلني هذا أفكر في أوما ومارك وجدي وجدتي، في هاواي ووالدتي التي لا تزال في إندونيسيا والأشياء التي أخبرتني بها زيتوني. «إذا كان الجميع من عائلتك فلا عائلة لك.»
هل زيتوني على حق؟ لقد جئت إلى كينيا وأنا أظن أنه يمكنني بشكل ما توحيد العوالم الكثيرة التي أعيش بها في عالم واحد منسجم. وبدلا من هذا اتضح أن الانقسامات تزايدت أضعافا مضاعفة، بل تظهر أثناء أبسط الأعمال. وفكرت فيما حدث صباح اليوم السابق، عندما ذهبنا أنا وأوما لحجز التذاكر. كانت شركة السياحة ملكا لآسيويين؛ إذ إن معظم الأعمال الصغيرة في نيروبي يسيطر عليها آسيويون، وعلى الفور توترت أوما.
فهمست وهي ترى شابة هندية تأمر موظفيها السود جيئة وذهابا: «أترى كم هم مغرورون؟ إنهم يطلقون على أنفسهم كينيون لكن لا علاقة لنا بهم. وبمجرد أن يكونوا ثرواتهم يرسلونها على الفور إلى لندن أو بومباي.»
مس موقفها وترا حساسا داخلي. فسألتها: «كيف تلومين الآسيويين لأنهم يرسلون نقودهم خارج البلاد بعد ما حدث في أوغندا؟» وأخبرتها عن أصدقائي المقربين في الولايات المتحدة الهنود منهم والباكستانيين، أصدقاء يساندون قضية السود، أصدقاء أقرضوني نقودا عندما تأزمت حالتي المالية، واستضافوني في منازلهم عندما لم يكن لدي مكان لأمكث فيه. لكن موقف أوما لم يتغير.
قالت: «عزيزي باراك.» وتابعت: «في بعض الأحيان تكون ساذجا للغاية.»
ثم نظرت إلى أوما ونحن في السيارة ووجهها يتجه نحو النافذة. وتساءلت بداخلي: ماذا توقعت أن أحقق بتلك المحاضرة القصيرة؟ فمعادلاتي البسيطة عن تضامن العالم الثالث لم تحظ بالتطبيق في كينيا. فهنا كان الأشخاص من أصول هندية - مثل الصينيين في إندونيسيا والكوريين في الجزء الجنوبي من شيكاغو - مجرد غرباء يعرفون كيف يتاجرون، وينطوون على أنفسهم، وفي ظل آلية عمل النظام الطبقي العنصري فإنهم يكونون أكثر تميزا، ومن ثم أكثر عرضة للاستياء. وهذا ليس بالضرورة خطأ أحد؛ إنها ليست إلا مسألة تاريخ ، حقيقة مأسوية من حقائق الحياة.
وعلى أية حال، لم تقف الانقسامات في كينيا عند هذا الحد. فقد كانت هناك دائما حدود أدق ينبغي رسمها. على سبيل المثال بين قبائل الدولة السوداء التي يبلغ عددها 40 قبيلة. لقد كانوا هم أيضا حقيقة من حقائق الحياة. ولا يلاحظ المرء النزعة القبلية بين أصدقاء أوما من الشباب الكيني الذي يرتاد الجامعات والذي تربى في المدارس على فكرة الدولة والعرق، ومسألة القبيلة هذه لا يفكرون فيها إلا عندما يفكرون في الزواج أو عندما يكبرون ويرون أنها تعوق حياتهم المهنية أو تدفعها للأمام. لكنهم كانوا هم الاستثناء. فمعظم الكينيين كانوا لا يزالون يفكرون بخرائط الهوية القديمة، والانتماءات الأقدم. وحتى جين وزيتوني كانتا في بعض الأحيان تقولان أشياء تفاجئني. فتقولان مثلا: «أبناء قبيلة لوو أذكياء لكنهم كسالى». أو «أبناء قبيلة كيكويو جشعون لكنهم مجدون في العمل». أو «أما أبناء قبيلة كالينجين فيمكنك أن ترى ماذا حل بالبلد منذ أن تولوا الحكم.»
وعندما كنت أسمع عمتي تتحدثان دائما عن هذه الآراء الشائعة أحاول أن أشرح لهما خطأ هذه الاتجاهات. فكنت أقول: «إن مثل هذا التفكير هو الذي يعوقنا عن التقدم، إننا جميعا جزء من قبيلة واحدة. القبيلة السوداء. القبيلة البشرية. انظرا ماذا فعلت النزعة القبلية بأماكن مثل نيجيريا أو ليبريا.»
فكانت جين تقول: «إنهم في غرب أفريقيا مجانين على أية حال. إنك تعلم أنهم كانوا من آكلي لحوم البشر، أليس كذلك؟»
وتقول زيتوني: «إنك تتحدث مثل أبيك بالضبط يا باري. هو أيضا كانت لديه مثل هذه الآراء عن الناس.»
وهو ما يعني أنه هو أيضا كان ساذجا، هو أيضا كان يحب أن يجادل في أمور التاريخ. انظر ماذا حدث له ...
توقفت السيارة فجأة، وأعادتني من أحلام اليقظة التي كنت أستغرق فيها. كنا أمام قطعة أرض زراعية صغيرة، وطلب منا السائق فرانسيس أن نمكث في أماكننا ولا نتحرك. وبعد بضع دقائق خرج من المنزل ومعه فتاة أفريقية صغيرة ربما في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة من عمرها، ترتدي بنطلون جينز وبلوزة كويت بإتقان، وتحمل حقيبة صوفية صغيرة. وقد ساعدها فرانسيس على الدخول إلى مؤخرة السيارة وأشار إليها بالجلوس على المقعد المجاور لأوما.
فسألته أوما وهي تفسح مكانا للفتاة: «هل هذه ابنتك؟»
فقال فرانسيس: «كلا.» وأوضح: «إنها ابنة شقيقتي. وتود أن ترى الحيوانات ودائما ما تلح علي كي أصطحبها معي. وأتمنى ألا يمانع أحدكم هذا؟»
هز الجميع رأسه نفيا وابتسموا للفتاة التي تحملت التفات الأنظار إليها بشجاعة.
سألتها السيدة ويلكرسون البريطانية: «ما اسمك؟»
همست الفتاة: «إليزابيث.»
فقالت أوما: «إليزابيث يمكنك مشاركتي خيمتي.» وتابعت: «فأظن أن أخي يصدر شخيرا وهو نائم.»
عبست في وجهها. وقلت: «لا تصدقيها»، وأخرجت علبة بسكويت. فأخذت إليزابيث قطعة منها وبدأت تأكل حوافها. فأخذت أوما العلبة والتفتت إلى ماورو.
وسألته: «أتريد بعضا منها؟»
فابتسم الإيطالي وأخذ قطعة واحدة قبل أن تمرر أوما البسكويت إلى الآخرين.
سرنا في الطريق إلى أن مررنا بتلال أكثر برودة حيث كان النساء يسرن حفاة القدمين ويحملن مياها وأخشابا للتدفئة والأطفال الصغار يضربون بالسياط الحمير التي تجر عرباتهم المتهالكة. وبالتدريج أصبحت الأراضي الزراعية أقل، وحلت محلها شجيرات وغابات متشابكة، حتى انقطع فجأة وجود الأشجار على يسارنا دون إنذار سابق وأصبح كل ما نراه هو السماء الشاسعة.
أعلن فرانسيس: «هذا هو الأخدود الأفريقي العظيم.»
خرجنا من الشاحنة بسرعة ودون نظام، ووقفنا على حافة الأخدود نتطلع إلى الأفق الغربي. وعلى بعد مئات الأقدام بالأسفل، كانت الأحجار وحشائش السافانا تمتد على سهل منبسط مسطح يمتد على طول النظر قبل أن يلتقي بالسماء، ثم يعيد العين لتنظر عبر السماء الفسيحة. وإلى اليمين جبل وحيد يقف مثل جزيرة في بحر صامت، وخلف الجبل صف من سلاسل التلال تلقي بظلالها. ولم يكن هناك سوى إشارتين واضحتين على وجود الإنسان: طريق ضيق يتجه غربا ومحطة أقمار صناعية يتجه طبق استقبالها الأبيض الضخم إلى السماء.
وعلى بعد بضعة أميال إلى الشمال تركنا الطريق الرئيسي إلى طريق كان فيه الأسفلت مكسرا. وقد شققنا طريقنا عبره ببطء، وفي بعض الأماكن كانت الحفر بعرض الطريق بالكامل، وفي كثير من الأحيان تقترب شاحنات قادمة من الاتجاه المعاكس، مما يجبر فرانسيس على الصعود بالسيارة على السد الترابي المرتفع بجانب الطريق. وفي النهاية وصلنا إلى الطريق الذي رأيناه من أعلى، وبدأت السيارة تسير عبر أرض الوادي. كانت المناظر الطبيعية من حولنا جافة، معظمها حشائش طويلة وأشجار شوكية غير مشذبة، وحصى وقطع من الحجر الصلب الداكن اللون. بدأنا نمر بقطعان صغيرة من الغزلان وظبية وحيدة من ظباء الثيتل تأكل أسفل شجرة، ولمحنا على مسافة بعيدة حمارا وحشيا وزرافة. ولمدة ساعة تقريبا لم نر إنسانا، حتى ظهر أحد الرعاة من قبيلة الماساي على بعد وكان جسده يضاهي العصا التي يحملها في النحافة والاستقامة، يقود قطيعا من الماشية الطويلة القرون عبر مساحة خاوية من الأرض.
لم أقابل الكثير من أفراد قبيلة الماساي في نيروبي، مع أني قرأت عنهم كثيرا. كنت أعلم أن طرقهم الرعوية وضراوتهم في الحرب قد أكسبتهم احتراما يشوبه الحقد من جانب البريطانيين، حتى إنه مع أن المعاهدات قد خرقت فقد اقتصر وجود أفراد قبيلة الماساي على مناطق منفصلة بعينها، وأصبحت القبيلة أسطورية في هزيمتها، مثل قبيلتي شيروكي أو أباتشي؛ حيث تظهر صورة البربري النبيل على البطاقات البريدية والكتب ذات الأغلفة الفنية المجلدة. كنت أعلم أيضا أن هذا الافتتان الغربي بقبيلة الماساي كان يثير حنق باقي الكينيين الذين كانوا يرون سلوكياتهم مثيرة للخجل، والذين كانوا يتوقون للاستيلاء على أرض الماساي. وقد حاولت الحكومة أن تفرض نظام التعليم الإجباري على أطفال الماساي، وأيضا نظام تسجيل ملكية الأراضي بين الكبار في القبيلة. وفسر المسئولون ذلك قائلين إنه عبء الرجل الأسود أن يدفع بإخوته الأسوأ حظا إلى ركب التحضر.
وتساءلت ونحن نتوغل أكثر في وطنهم، كم من الوقت يمكن أن يصمد الماساي. وفي مدينة ناروك، وهي مدينة تجارية صغيرة توقفنا فيها من أجل الغداء وتزويد السيارة بالوقود، أحاط مجموعة من الأطفال يرتدون شورتات كاكي وقمصانا قديمة بشاحنتنا وأخذوا ينادون بالحماس العدواني نفسه الذي يميز نظراءهم في نيروبي على الحلي الرخيصة والوجبات الخفيفة. وبعد ساعتين، عندما وصلنا إلى بوابة من الطوب اللبن التي تقود إلى المحمية، انحنى رجل طويل من قبيلة ماساي يرتدي قبعة وتفوح منه رائحة الجعة عبر نافذة شاحنتنا واقترح أن نأخذ جولة في محمية تقليدية لقبيلة الماساي.
وقال الرجل بابتسامة: «40 شلنا فقط.» وتابع: «والصور لها تكلفة إضافية.»
وبينما كان فرانسيس يقوم ببعض الأعمال في مكتب مدير المحمية خرج بقيتنا وتبعنا رجل قبيلة الماساي إلى مجمع دائري ضخم محاط بأعشاب شوكية. وعلى طول المحيط الخارجي للمجمع كانت هناك أكواخ صغيرة مبنية من الطين وروث الحيوانات، وفي منتصف المجمع كان هناك عدد من الماشية وبعض الأطفال العراة يقفون جنبا إلى جنب في الوحل. ولوحت لنا مجموعة من النساء لننظر إلى أوانيهن المصنوعة من القرع والمغطاة بالخرز، وواحدة منهن وهي أم شابة جميلة تحمل طفلا على ظهرها، أرتني ربع دولار أمريكي أكرهها شخص ما على قبوله ثمنا لبضاعتها. ووافقت على استبداله بما يكافئه من الشلن الكيني، ومقابل ذلك دعتني إلى كوخها. كان مكانا ضيقا حالك الظلمة وله سقف يرتفع لمسافة خمسة أقدام. وأخبرتني أن عائلتها تطهو وتنام وتحتفظ بالعجول الحديثة الولادة فيه. وكان الدخان يعمي العينين، وبعد دقيقة كان علي الانصراف وأنا أقاوم رغبة جارفة في أن أهش الذباب الذي كون دائرتين متواصلتين حول عيني الطفل المنتفختين.
كان فرانسيس في انتظارنا عندما عدنا إلى الشاحنة. وخرجنا من البوابة نسير في الطريق إلى أعلى منحدر صغير قاحل. وهناك على الجانب الآخر من المنحدر رأيت أجمل بقعة في حياتي؛ تمتد إلى ما لا نهاية، والسهول المسطحة تتموج إلى تلال رقيقة قاتمة اللون ولينة كظهر الأسد، متجعدة بمساحات كبيرة من الغابات وتنتشر عليها أشجار شوكية. وعلى يسارنا قطيع ضخم من الحمر الوحشية، تتشابه للغاية في خطوطها بصورة تثير الضحك وهي تلتهم الحشائش ذات اللون القمحي، وإلى يميننا قافلة من الغزلان تقفز إلى الحشائش. وفي الوسط آلاف من ظباء الثيتل برءوسها الحزينة وأكتافها المحدبة التي بدت ثقيلة للغاية على أن تحملها أرجلها النحيفة. بدأ فرانسيس يقود السيارة ببطء شديد وهو يمر بالقطيع، وافترقت الحيوانات أمام السيارة لتفسح لها مكانا ثم تعود لتجتمع من خلفنا مرة أخرى وكأنها سرب من السمك، وحوافرها تضرب الأرض مثلما تضرب الأمواج الشاطئ.
نظرت إلى أوما. فوجدت أنها تطوق إليزابيث بذراعها وترتسم على وجه كلتيهما ابتسامة صامتة.
أقمنا مخيما فوق ضفاف مجرى مائي موحل متعرج أسفل شجرة تين كبيرة مليئة بطيور الزرزور الزرقاء الكثيرة الضجيج. كان الوقت قد تأخر، ولكن بعد أن أقمنا الخيام وجمعنا الخشب، كان لدينا بعض الوقت لأن نقود السيارة ونذهب إلى ينبوع ماء قريب حيث تتجمع الظباء والغزلان للشرب. وعندما عدنا كانت النيران قد اشتعلت، وعندما جلسنا نأكل اليخني الذي أعده رافائيل بدأ فرانسيس يخبرنا عن نفسه قليلا، وقال إن لديه زوجة وستة أطفال ويعيشون في منزل داخل مزرعة في كيكويولاند. ويرعون أرضا مساحتها فدان مزروعة بالقهوة والذرة، وفي أيام العطلة يقوم بنفسه بأعمال العزق والغرس الشاقة. وقال إنه يستمتع بعمله في شركة السياحة لكنه لا يحب أن يبتعد عن عائلته. وقال: «إذا استطعت فقد أفضل الزراعة طوال الوقت، لكن الاتحاد يجعل هذا مستحيلا.»
سألته: «أي اتحاد؟» «اتحاد القهوة الكيني. إنهم لصوص. يتحكمون في المحاصيل المسموح لنا بزراعتها ومتى نزرعها. ولا أستطيع بيع القهوة إلا لهم، وهم يبيعونها في الخارج. ويخبروننا أن الأسعار تنهار، لكني أعلم أنهم يحصلون على 100 ضعف ما يدفعونه لي. فإلى أين يذهب الباقي؟» هز فرانسيس رأسه في اشمئزاز. وقال: «إنه لأمر بشع أن تسرق الحكومة شعبها.»
قالت أوما: «إنك تتحدث بحرية شديدة.»
هز فرانسيس كتفيه. وقال: «ربما إذا تحدث المزيد من الناس فقد تتغير الأمور. انظروا إلى الطريق الذي سرنا فيه هذا الصباح في الطريق إلى الوادي. أتعرفون، من المفترض أنه أصلح العام الماضي فقط. لكنهم استخدموا حصى رخوا؛ لذا جرفته المياه عند أول هطول للأمطار. والنقود التي وفروها من هذا ذهبت على الأرجح لبناء منزل أحد الرجال المهمين.»
نظر فرانسيس إلى النار وهو يمشط شاربه بأصابعه. وقال بعد وهلة: «أظن أن هذا ليس خطأ الحكومة وحدها.» وتابع: «فحتى عندما يجري تنفيذ المشروعات كما ينبغي، نحن الكينيين لا نحب أن ندفع الضرائب . فنحن لا نثق بفكرة أن ندفع نقودنا لأحد. والرجل الفقير لديه ما يبرر هذا الشك. لكن الرجال الكبار الذين يملكون الشاحنات التي تستخدم هذه الطرق فإنهم يرفضون أيضا دفع ضرائبهم. إنهم يفضلون أن تتحطم معداتهم طوال الوقت بدلا من التضحية بأرباحهم. هكذا نحب أن نفكر في الأمور. إننا نعتبرها مشكلة شخص آخر.»
ألقيت عصا في النار. وقلت لفرانسيس: «هذه الآراء لا تختلف كثيرا عن الآراء في أمريكا.»
فقال: «إنك على حق على الأرجح.» وتابع: «لكن دولة غنية كأمريكا ربما تستطيع تحمل نفقات الغباء.»
وفي تلك اللحظة اقترب اثنان من قبيلة الماساي من النار. فرحب بهما فرانسيس وعندما جلسا على أحد المقاعد، قال إنهما سيتوليان حمايتنا في أثناء الليل. كانا رجلين هادئين وسيمين، يزيد انعكاس النار من وضوح عظام وجنتيهما البارزة، وأطرافهما النحيلة تبرز من رداءيهما القبلي ذي اللون الأحمر القاني، ورماحهما مثبتة في الأرض أمامهما، وتلقي بظلال طويلة باتجاه الأشجار. قال أحدهما إن اسمه ويلسون وهو يتحدث اللغة السواحيلية، وأخبرنا أنه يعيش في محمية على بعد أميال قليلة شرقا. وبدأ رفيقه الصامت يخترق الظلام بضوء مشعله، وسألتهما أوما هل تعرض المعسكر لهجوم من الحيوانات من قبل، فابتسم ويلسون ابتسامة عريضة.
وقال: «لا شيء خطير.» وتابع: «لكن إذا احتجت الذهاب إلى الحمام ليلا فيجب أن تنادي أحدنا ليذهب معك.»
بدأ فرانسيس يسأل الرجلين عن حركة الحيوانات المختلفة، وابتعدت أنا عن النار لأشاهد النجوم، فقد مرت سنوات منذ أن رأيتها بهذا الشكل بعيدا عن أضواء المدينة، كانت النجوم كثيفة ودائرية ومتوهجة كقطع من المجوهرات. ولاحظت وجود رقعة صغيرة من الضباب في السماء الصافية فابتعدت أكثر عن النار ظنا أن هذا قد يكون دخانا، ثم قررت في النهاية أنها سحابة. وكنت أتعجب لماذا لم تتحرك السحابة عندما سمعت صوت أقدام من خلفي، ثم صوت السيد ويلكرسون.
قال وهو ينظر إلى السماء: «أعتقد أن هذه مجرة درب التبانة.» «حقا.»
رفع يده وبدأ يرسم لي بها خطوطا لمجموعة النجوم، وأوصل خطوطا بين ألمع أربعة نجوم في كوكبة الصليب الجنوبي. كان رجلا نحيلا هادئ الصوت يضع نظارة دائرية وله شعر أشقر ناعم. في البداية ظننت أنه قضى حياته بالكامل في أماكن مغلقة وأنه محاسب أو أستاذ جامعي. لكني لاحظت بمرور اليوم أنه يمتلك جميع أنواع المعرفة العملية، الأشياء التي لم أتمكن من معرفتها قط لكني تمنيت أن أعرفها. فكان يستطيع الحديث مع فرانسيس بالتفصيل عن محركات السيارات من طراز لاند روفر، وأنهى نصب خيمته قبل أن أضع أنا أول عمود لي، وبدا أنه يعرف أسماء جميع أنواع الطيور والأشجار التي رأيناها.
ولم يفاجئني هذا بعد ذلك عندما أخبرني أنه قضى طفولته في كينيا في مزرعة لأوراق الشاي في وايت هايلاندز. وكان من الواضح أنه لا يود الحديث عن الماضي، كل ما قاله هو أن عائلته باعت الأرض بعد حصول كينيا على الاستقلال وعادت إلى إنجلترا لتستقر في ضاحية هادئة في لندن. وقد التحق بكلية الطب ثم تدرب مع هيئة الصحة الوطنية في ليفربول، وهناك قابل زوجته التي تعمل طبيبة نفسية. وبعد بضع سنوات أقنعها بأن تعود معه إلى أفريقيا، لكنهما قررا ألا يستقرا في كينيا حيث إن هناك فائضا في عدد الأطباء مقارنة بباقي القارة، وبدلا من ذلك استقرا في مالاوي حيث عملا معا بتعاقد مع الحكومة للسنوات الخمس السابقة.
قال لي: «أنا أشرف على ثمانية أطباء يتولون الرعاية الطبية في منطقة تعداد سكانها نصف مليون.» وتابع: «ولم تتوفر لنا قط التجهيزات اللازمة، فنصف مشتريات الحكومة على الأقل ينتهي بها الحال في السوق السوداء. لذا لا يمكننا سوى التركيز على الأساسيات، وهو ما تحتاجه أفريقيا بالفعل. فالناس تموت بسبب جميع أنواع الأمراض التي يمكن الوقاية منها: الدوسنتاريا والجدري. والآن الإيدز؛ فقد وصل معدل الإصابة في بعض القرى إلى خمسين بالمائة من سكانها. إنه أمر يدفع إلى الجنون.»
كانت القصص التي يرويها قاسية، لكنه عندما واصل إخباري بالمهام التي يقوم بها في حياته: حفر الآبار، وتدريب عمال فرق الوصول إلى المحتاجين لتطعيم الأطفال، وتوزيع الواقي الذكري، لم يبد ساخرا ولا متعاطفا. فسألته ما سبب عودته إلى أفريقيا في ظنه، فأجاب هو دون توقف وكأنه سمع السؤال مرات عديدة. «أظن أنها وطني. الناس، الأرض ...» ثم خلع نظارته ومسحها بمنديل وقال: «أعرف أن هذا مضحك. فبمجرد أن تعيش هنا لبعض الوقت تبدو لك الحياة في إنجلترا مقيدة بصورة فظيعة. فالبريطانيون لديهم الكثير، لكنهم يستمتعون بالأشياء بصورة أقل. وشعرت أنني غريب بينهم.»
ثم ارتدى نظارته مرة أخرى وهز كتفيه. قال: «بالطبع أنا أعلم أنه على المدى البعيد لا بد أن يحل أحد محلي. وهذا جزء من عملي، أن أجعل من نفسي غير ضروري. والأطباء في مالاوي الذين أعمل معهم ممتازون حقا، فهم أكفاء. ومتفانون أيضا. فقط لو تمكنا من بناء مستشفى تدريبي به بعض المرافق المناسبة فسيمكننا أن نضاعف عددهم إلى ثلاثة أضعاف في وقت قصير للغاية. ثم ...» «ثم ماذا؟»
اتجه إلى المعسكر وشعرت أن صوته بدأ يرتجف. وقال: «ربما لا يمكنني أبدا أن أدعو هذا المكان وطني.» وتابع: «إنها ذنوب الآباء. وقد تعلمت أن أقبل هذا.» وتوقف لحظة ثم نظر إلي.
وقال قبل أن يبدأ السير عائدا إلى خيمته: «ومع ذلك فإنني أحب هذا المكان.» •••
حل وقت بزوغ الفجر. باتجاه الشرق بدأت السماء تنير فوق أشجار مظلمة متشابكة؛ فتحول إلى اللون الأزرق الداكن ثم البرتقالي ثم الأبيض الذي يميل إلى الصفرة. وفقدت السحب صبغتها الأرجوانية ببطء ثم تبددت تاركة وراءها نجمة وحيدة. وعندما خرجنا من المعسكر رأينا قافلة من الزرافات وأعناقها الطويلة تميل في اتجاه واحد، وتبدو سوداء أمام قرص الشمس الأحمر الذي يصعد ليتبوأ مكانه في السماء، مثل علامات غريبة قبالة سماء قديمة.
استمر الأمر هكذا باقي اليوم، كما لو أنني أرى، بعد أن عدت طفلا مرة أخرى، العالم في كتاب تنبثق منه صور مجسمة، أو قصة خيالية، أو لوحة رسمها روسو. ورأيت هناك قطيعا من الأسود يتثاءب على الأعشاب . ورأيت جاموسا في المستنقعات تبدو قرونها مثل الشعر المستعار الرخيص، والطيور التي تتغذى على القرادة تبحث عن طعامها في ظهورها المغطاة بالوحل. وفرس النهر في المجاري المائية الضحلة وعيناه الصغيرتان شبه المغمضة وفتحتا أنفه مثل المرمر وهو يظهر على سطح الماء. والأفيال تحرك أذنيها الكبيرتين كأوراق النباتات على شكل مروحة.
والأهم من هذا الهدوء، الهدوء الذي كان يناسب العناصر. وفي الشفق صادفنا في مكان ليس ببعيد عن معسكرنا قطيعا من الضباع يتغذى على جثمان ظبية ثيتل. وفي ذلك الضوء البرتقالي الخافت بدت وكأنها كلاب شيطانية، أعينها مثل كتل من الفحم الأسود وذقونها يسيل منها الدماء. وإلى جوارها صف من النسور ينتظر وعلى وجهه نظرات صبورة وصارمة ويقفز مبتعدا مثل شخص أحدب كلما اقترب منه أحد الضباع. كان مشهدا بدائيا، مكثنا هناك وقتا طويلا نشاهد الحياة وهي تتغذى على نفسها، ولا يقطع الصمت سوى صوت طقطقة العظام أو اندفاع الرياح أو صوت أجنحة النسور وهي تجاهد لترتفع في الهواء حتى تصل أخيرا إلى الطبقات العليا من الهواء، فتعود تلك الأجنحة الطويلة الجميلة لتصبح عديمة الحركة وساكنة مثل ما حولها. وفكرت في نفسي: هكذا يكون الخلق. السكون نفسه وسحق العظام نفسه. وهناك في الغسق، فوق ذلك التل، تخيلت الإنسان الأول وهو يتقدم وهو عاري الجسد خشن البشرة يمسك قطعة من الحجر الصوان في يده الخرقاء، ولم تكن قد ظهرت بعد الكلمات المعبرة عن الخوف والترقب والرهبة التي يشعر بها تجاه السماء، والمعرفة الخاطفة لحقيقة أنه مخلوق فان. آه لو استطعنا تذكر تلك الخطوة المشتركة الأولى، تلك الكلمة المشتركة الأولى، ذلك الوقت قبل إنشاء مدينة بابل.
وفي المساء بعد تناول العشاء تحدثنا من جديد مع حارسينا من قبيلة الماساي. فأخبرنا ويلسون أنه هو وصديقه أصبحا منذ وقت قريب من «الموران»، أي أعضاء في طائفة العزاب من المحاربين الشباب الذين تدور حولهم أساطير قبيلة الماساي. وقد قتل كل منهما أسدا كي يثبت رجولته، وشاركا في العديد من غارات سرقة الماشية. لكن في ذلك الوقت لم يعد هناك حروب، وأصبح القيام بغارات سرقة الماشية أمرا صعبا؛ ففي العام السابق قتل صديق آخر برصاص صاحب مزرعة من قبيلة الكيكويو. فقرر ويلسون أن كونه عضوا في المارون ليس إلا مضيعة للوقت. فذهب إلى نيروبي بحثا عن عمل، لكن نظرا لأنه لم يتلق تعليما متميزا فقد انتهى به الحال إلى العمل حارس أمن في أحد البنوك. وقد كان الملل يدفعه إلى الجنون، وفي النهاية عاد إلى الوادي ليتزوج ويربي ماشيته. وحديثا قتل أسد أحد ماشيته، فاصطاد هو وأربعة آخرون الأسد وأخذوه إلى المحمية، مع أن هذا كان غير قانوني.
فسألته: «كيف تقتل أسدا؟»
فقال ويلسون: «يحيط به خمسة رجال ويلقون برماحهم.» وتابع: «وسيختار الأسد واحدا ليقفز عليه. فيحتمي ذلك الرجل بكامل جسده أسفل درعه حتى يقضي الأربعة الآخرون عليه.»
فقلت بغباء: «يبدو أمرا محفوفا بالمخاطر.»
فهز ويلسون كتفيه. وقال: «عادة لا يصابون إلا بخدوش. لكن في بعض الأحيان لا يعود سوى أربعة.»
لم يبد الرجل وكأنه يتفاخر، بل كان أشبه بميكانيكي يحاول أن يشرح مشكلة يصعب عليه إصلاحها. وربما كان عدم الاكتراث هذا هو ما دفع أوما لأن تسأله أين، في معتقدات الماساي يذهب الإنسان بعد الموت. في البداية لم يبد أن ويلسون فهم السؤال، لكنه في النهاية ابتسم وبدأ يهز رأسه.
فقال وهو يضحك تقريبا: «هذا ليس من ضمن معتقدات الماساي؛ أعني فكرة الحياة بعد الموت. فبعد أن تموت تصبح لا شيء. تعود إلى الأرض. وهذا كل شيء.»
فسأل مورو: «ما رأيك يا فرانسيس؟»
لبعض الوقت كان فرانسيس يقرأ في إنجيل صغير مجلد بغلاف أحمر اللون. فرفع رأسه وابتسم ثم قال: «هذان الشخصان من قبيلة الماساي شجاعان.»
فسألت أوما فرانسيس: «هل نشأت مسيحيا؟»
أومأ فرانسيس برأسه. وقال: «نعم، اعتنق والداي المسيحية قبل مولدي.»
تحدث ماورو وهو يحدق في النيران. قال: «أما أنا فقد تركت الكنيسة. فبها الكثير من القواعد. ألا تظن يا فرانسيس أن المسيحية تكون في بعض الأحيان غير مناسبة؟ أما في أفريقيا فقد غير التبشيريون كل شيء، أليس كذلك؟ وأحضروا ... ماذا تطلقون عليه؟»
قلت: «الاستعمار.» «نعم الاستعمار. ديدن الرجل الأبيض، أليس كذلك؟»
وضع فرانسيس الإنجيل على حجره. وقال: «مثل هذه الأمور كانت تزعجني عندما كنت صغيرا. فالمبشرون بشر وكانوا يخطئون مثل البشر. والآن بعد أن كبرت أفهم أني أيضا قد أفشل. لكن هذا ليس فشل الرب. وأذكر أيضا أن بعض التبشيريين قد أطعموا الناس في الجفاف. وعلم بعضهم الأطفال القراءة. وفي هذا أظن أنهم كانوا يعملون عمل الرب. كل ما يمكننا أن نطمح إليه هو أن نعيش مثل الرب، مع أننا سنفشل دائما في هذا.»
ذهب ماورو إلى خيمته وعاد فرانسيس إلى إنجيله. وإلى جانبه بدأت أوما تقرأ قصة مع إليزابيث. وجلس الدكتور ويلسون وهو يضم ركبتيه معا ويعدل من بنطلونه في حين كانت زوجته تحدق في النار إلى جواره. ونظرت إلى رجلي الماساي والصمت والترقب على وجهيهما، وتساءلت ترى ما انطباعهما عنا؟ ورأيت أنه من المحتمل أنهما يجدوننا مصدرا للتسلية. وكنت أعلم أن شجاعتهما وصلابتهما تجعلانني أشك في روحي المزعجة. ومع ذلك، عندما نظرت حول النار، ظننت أني أرى شجاعة لا تقل إثارة للإعجاب في فرانسيس وفي أوما وفي السيد ويلكرسون وزوجته أيضا. وفكرت أنه ربما كانت تلك الشجاعة هي التي تحتاجها أفريقيا بشدة. رجال ونساء صادقون ومهذبون لديهم طموحات يمكن تحقيقها، والعزم على تحقيق هذه الطموحات.
بدأت النيران تخبو، وواحد تلو الآخر، سلك كل من الآخرين طريقه إلى خيمته، حتى لم يتبق إلا أنا وفرانسيس ورجلا الماساي. وعندما نهضت بدأ فرانسيس ينشد ترنيمة بصوت منخفض بلغة كيكويو بلحن تعرفت عليه. استمعت إليه لبعض الوقت تائها في أفكاري. وعندما سرت عائدا إلى خيمتي شعرت أنني أفهم أغنية فرانسيس الحزينة، وأتخيل أنها تصعد إلى الأعلى عبر ظلام الليل الواضح، مباشرة إلى الله. •••
اليوم الذي عدنا فيه من مارا علمت أنا وأوما أن روي قد وصل قبل أسبوع من الموعد المتوقع لوصوله. فقد ظهر فجأة في كارياكور ومعه حقيبة سفر في يده، ويقول إنه لم يشعر بالارتياح وهو ينتظر في واشنطن العاصمة، وتمكن بوسيلة ما من القدوم مبكرا. وقد شعرت العائلة بإثارة شديدة لوصوله وأجلت إقامة الحفل الكبير حتى أعود أنا وأوما. وقد قال برنارد، الذي أعلمنا بالخبر، إنه كان من المتوقع وصولنا في وقت سابق، وكان متوترا في حديثه كما لو أن كل دقيقة بعيدا عن أخينا الأكبر ما هي إلا توان في أداء الواجب. ولكن أوما، التي كانت لا تزال تتألم نتيجة النوم في الخيام اليومين السابقين، أصرت على أن تحظى بوقت للاغتسال أولا.
وقالت لبرنارد: «لا تقلق.» وتابعت: «إن روي يحب أن يجعل كل شيء يبدو دراميا.»
عندما وصلنا كانت شقة جين في هرج ومرج. في المطبخ كانت النساء ينظفن الكرنب ونبات اليام، ويقطعن الدجاج ويقلبن «أوجالي» أو عصيدة الذرة الشامية. وفي غرفة المعيشة كان الأطفال إما يعدون المائدة أو يقدمون المياه الغازية للكبار. وفي وسط كل هذا الصخب كان روي يجلس وهو يمد رجليه أمامه، ويلقي بذراعيه على ظهر الأريكة ويومئ برأسه في استحسان. وقد لوح لنا وعانقنا. وبعد ذلك تراجعت أوما التي لم تر روي منذ أن انتقل إلى الولايات المتحدة كي تنظر إليه بتمعن.
وقالت: «لقد أصبحت بدينا للغاية!»
فضحك روي وقال: «بدين؟» وتابع: «الرجل يحتاج إلى شهية بمثل حجمه.» ثم التفت باتجاه المطبخ. وقال: «وهو ما يذكرني ... أين زجاجة الجعة الأخرى؟»
وبمجرد أن خرجت الكلمات من بين شفتيه ظهرت كيزيا ومعها زجاجة جعة في يدها وابتسمت بسعادة. وقالت بالإنجليزية: «باري، هذا هو الابن الأكبر. كبير العائلة.»
ظهرت سيدة أخرى لم أرها من قبل، ممتلئة الجسم وضخمة الصدر تطلي شفتيها بلون أحمر زاه، وسارت إلى جانب روي، وطوقته بذراعها. فخفتت ابتسامة كيزيا وانسحبت عائدة إلى المطبخ.
قالت تلك السيدة لروي: «هل معك سجائر يا حبيبي؟» «نعم، انتظري ...» ثم تحسس روي جيب قميصه برفق بحثا عنها. وقال: «هل قابلت أخي باراك؟ باراك هذه آمي. وأنت تتذكرين أوما.» وجد روي السجائر وأشعل واحدة لآمي. أخذت آمي نفسا عميقا وانحنت إلى الأمام باتجاه أوما، وهي تطلق دوائر من دخان السجائر وتقول: «بالطبع أتذكر أوما. كيف حالك؟ تبدين رائعة. ويعجبني ما فعلته بشعرك. حقا إنه يبدو ... طبيعيا للغاية.»
التقطت آمي زجاجة روي في حين اتجه هو إلى مائدة العشاء. وجذب لنفسه طبقا وانحنى ليشم الإناء الذي ينبعث منه البخار. ثم صاح متعجبا: «خبز شباتي!» وهو يضع ثلاثة أرغفة من الخبز في طبقه. ثم صاح بمجرد أن رأى أوراق الكرنب: «سوكوما ويكي!» قبل أن يغرف بالملعقة مقدارا كبيرا في طبقه. وعاد وصاح مرة أخرى: «أوجالي!» وهو يقطع قطعتين كبيرتين من كعكة الذرة. قلد برنارد والأطفال روي في كل ما يفعل، وهم يكررون كلماته بنبرة أكثر ترددا. وحول المائدة كانت وجوه عماتي وكيزيا تشرق بالرضا. وكان ذلك هو أسعد مشهد رأيتهم فيه منذ وصولي.
وبعد العشاء، في حين كانت آمي تساعد عماتي في غسل الأطباق، جلس روي بيني أنا وأوما وأعلن أنه قد عاد وفي ذهنه مشروعات كبيرة. وقال إنه سيؤسس شركة استيراد وتصدير، ويبيع التحف الفنية في الولايات المتحدة. وقال: «الطبول. والمنسوجات. والمنحوتات الخشبية، هذه الأشياء ثمينة للغاية هناك. فتباع في المهرجانات والمعارض الفنية ومحال التحف. وقد اشتريت بعض العينات بالفعل لآخذها معي.»
قالت أوما: «هذه فكرة رائعة.» وتابعت: «أرني ماذا اشتريت.»
طلب روي من برنارد أن يحضر له عدة حقائب بلاستيكية وردية اللون من إحدى غرفتي النوم. وبداخل الحقائب كان هناك العديد من المنحوتات الخشبية، تلك التحف البارعة التي تنتج بكميات كبيرة وتنفد بسرعة؛ إذ يقبل عليها السياح بشدة في وسط المدينة. قلبت أوما التحف في يدها وارتسمت على وجهها أمارات الارتياب.
وسألت: «كم دفعت ثمنا لهذه الأشياء؟» «فقط 400 شلن لكل منها.» «هذا كثير للغاية يا أخي! أظن أنك خدعت. لماذا تركته يدفع كل هذا يا برنارد؟»
هز برنارد كتفيه. وبدا أن تعليقها جرح مشاعر روي قليلا.
ثم قال وهو يعيد التحف مرة أخرى إلى غلافها: «قلت لك إنها مجرد عينات.» وتابع: «استثمار، حتى أعرف ماذا يريد السوق. فلا يمكنك كسب نقود إلا إذا أنفقت أولا، أليس كذلك يا باراك؟» «هكذا يقولون.»
وسرعان ما عادت حماسة روي. وقال: «أترى؟ بمجرد أن أعرف متطلبات السوق سأرسل الطلبات إلى زيتوني. وستكبر تجارتنا رويدا رويدا. ثم عندما يكون لدينا نظام ثابت يمكن لبرنارد وآبو العمل في الشركة. أليس كذلك يا برنارد؟ يمكنك أن تعمل معي.»
أومأ برنارد برأسه إيماءة غير واضحة. فنظرت أوما إلى أخيها الصغير نظرة متفحصة، ثم عادت إلى روي. وقالت: «ما المشروع الكبير الآخر؟»
ابتسم روي. وقال: «آمي.» «آمي؟» «آمي. سأتزوجها.» «ماذا؟ كم مضى من الوقت منذ آخر مرة رأيتها؟» «عامان. ثلاثة أعوام. ما الذي يهم في هذا؟» «إنك لم تحظ بما يكفي من الوقت لتفكر في هذه المسألة.» «إنها امرأة أفريقية. هذا هو ما أعرفه! وهي ستفهمني. إنها ليست مثل تلك النساء الأوروبيات اللائي يجادلن أزواجهن دائما.» أومأ روي مؤكدا، ثم قفز من على مقعده كما لو أن خيطا غير مرئي يسحبه، واتجه إلى المطبخ. ثم رفع زجاجة الجعة باتجاه السقف وهو يمسك آمي بإحدى ذراعيه. «اسمعوا جميعا! بما أننا جميعا هنا فيجب أن نشرب نخبا! نخب كل من ليسوا معنا! ونخب نهاية سعيدة!» ثم بتعمد جاد بدأ يسكب الجعة على الأرض. فتناثر نصفها على الأقل على حذاء أوما.
صاحت أوما وهي تقفز إلى الخلف: «اللعنة!» وتابعت: «ماذا تفعل؟»
فقال روي بسعادة: «يجب أن يشرب الأجداد.» وتابع: «هذه هي الطريقة الأفريقية.»
جذبت أوما منديلا لتمسح الجعة من على ساقيها. وقالت: «هذا في الخارج يا روي! وليس في منزل أحد! في بعض الأحيان تكون شديد الإهمال! من سينظف هذا الآن؟ أنت؟»
كان روي على وشك أن يجيبها عندما ظهرت جين مسرعة ومعها قطعة قماش قديمة في يدها. وقالت وهي تمسح الأرض: «لا تقلق، لا تقلق.» وتابعت: «إننا سعداء لأن لدينا هذا المنزل.»
وكان من المقرر أن نخرج جميعا لنرقص بعد العشاء في ملهى مجاور. وعندما نزلت أنا وأوما قبل الآخرين سمعتها تتمتم ببعض الكلمات في الظلام.
ثم قالت لي: «تبا لكم يا أبناء أوباما !» وتابعت: «تفلتون بأي شيء تفعلونه! هل لاحظت كيف يعاملونه؟ ففي نظرهم، لا يمكنه أن يخطئ. مثل تلك المسألة مع آمي. إنها مجرد فكرة انبثقت في ذهنه لأنه يشعر بالوحدة. أنا لا أحمل أية ضغائن تجاه آمي، ولكنها تباريه في عدم تحمل المسئولية. وعندما يكونا معا تزداد الأمور سوءا. ووالدتي وجين وزيتوني، جميعهن يعلمن هذا. ولكن هل سيخبرنه شيئا؟ كلا. خوفا من أن يغضبوه، حتى إذا كان ذلك لمصلحته.»
فتحت أوما باب السيارة ونظرت وراءها على باقي أفراد العائلة. كانوا قد ظهروا لتوهم من خلف ظلال المبنى السكني، وجسد روي يرتفع فوقهم جميعا مثل شجرة، وذراعاه مفرودتان مثل أغصان الشجر فوق كتفي عمتيه. وقد خففت رؤيته من الحدة على وجه أوما قليلا.
وقالت وهي تدير محرك السيارة: «نعم، أظن أن هذا ليس خطأه.» وتابعت: «أترى كيف يكون معهم. لقد كان الطابع الأسري يميزه عني طيلة حياته. فهم لا يشعرون أنه سيصدر أي آراء عنهم وهم برفقته.» •••
اتضح أن الملهى، جاردن سكوير، مكان منخفض السقف خافت الإضاءة. وكان بالفعل مكتظا عندما وصلنا، ورائحة الهواء تفوح بالسجائر. وجميع الزبائن تقريبا من السود؛ حشد من الموظفين الكبار السن والسكرتارية وموظفي الحكومة تجمعوا بعد انتهاء العمل حول مناضد متأرجحة من الفورميكا. ضممنا معا منضدتين خاويتين بعيدا عن المسرح الصغير وأخذ النادل طلباتنا. وجلست أوما إلى جوار آمي، ودار بينهما هذا الحوار: «آمي. أخبرني روي أنكما تفكران في الزواج.» «نعم، أليس هذا رائعا! إنه ممتع للغاية! وعندما يستقر يقول إنني يمكنني الذهاب والعيش معه في أمريكا.» «ألا تقلقين من ابتعادكما عن بعض؟ أقصد ...» «نساء أخريات؟» ثم ضحكت وغمزت لروي. قالت: «أصدقك القول إنني لا أهتم.» وألقت بذراعها الممتلئة حول كتف روي. وقالت: «ما دام يحسن معاملتي فيمكنه فعل ما يريد. أليس كذلك يا حبيبي؟»
احتفظ روي بنظرة جامدة على وجهه كما لو أن الحوار لا يهمه. وكان يبدو عليه هو وآمي تأثير احتساء الكثير من الجعة، ورأيت جين تختلس نظرة قلق إلى كيزيا. فقررت أن أغير الموضوع وسألت زيتوني هل جاءت لملهى جاردن سكوير من قبل.
فقالت زيتوني وهي ترفع حاجبيها على سؤالي غير المناسب: «دعني أخبرك شيئا يا باري، إذا وجد مكان فيه رقص فأنا قد ذهبت إلى ذلك المكان. وسيخبرك الناس هنا أنني بطلة الرقص. ما رأيك يا أوما؟» «زيتوني هي الأفضل.»
أمالت زيتوني رأسها بفخر. قالت: «أرأيت؟ حقا يا باري عمتك يمكنها الرقص! أتريد أن تعرف من كان أفضل شريك لي في الرقص؟ إنه أبوك! ذلك الرجل كان يحب الرقص فعلا. وقد اشتركنا معا في الكثير من المسابقات عندما كنا شبابا. في الحقيقة سأخبرك قصة عن رقصه. كان ذلك عندما جاء إلى المنزل في أليجو ذات مرة لزيارة جدك. وقد وعد في ذلك المساء أن يقوم ببعض الأعمال لأبي، لا أذكر ماذا كانت بالضبط، ولكن بدلا من تنفيذ عمله، خرج ليقابل كيزيا ويصطحبها ليرقصا. أتذكرين يا كيزيا؟ كان ذلك قبل أن يتزوجا. وأردت أن أذهب معهما، لكن باراك قال إنني صغيرة للغاية على ذلك.
على أية حال عادا إلى المنزل في وقت متأخر في تلك الليلة، وكان باراك قد أسرف في احتساء الجعة. وحاول أن يدخل كيزيا خلسة إلى كوخه لكن أبي كان لا يزال مستيقظا وسمع أصوات أقدامهما في المجمع. ومع أن جدك كان كبير السن فقد كانت حاسة السمع لديه قوية جدا. لذا فقد صاح على الفور مناديا باراك أن يأتي. وعندما دخل باراك لم يتفوه أبي بكلمة. كان فقط ينظر إلى باراك ويتنفس بأصوات عالية مثل ثور غاضب. همف، همف! كل هذا وأنا أختلس النظر إليهما عبر نافذة منزل أبي؛ لأني كنت واثقة أن أبي سيضرب باراك وكنت لا أزال غاضبة من باراك لأنه لم يدعني أذهب إلى قاعة الرقص.
لم أصدق عيني فيما حدث بعد ذلك. فبدلا من أن يعتذر باراك عن عودته إلى المنزل في ساعة متأخرة اتجه إلى الفونوغراف الخاص بأبي وشغل أسطوانة! ثم استدار وصاح مناديا على كيزيا التي كانت تختبئ في الخارج. وصاح: «أيتها المرأة ! تعالي إلى هنا!» وعلى الفور دخلت كيزيا إلى المنزل وهي ترتعد خوفا حتى إنها لم تستطع الرفض، فأخذها باراك بين ذراعيه وبدأ يرقص ويرقص معها في منزل أبي، كما لو أنه يرقص في قاعة رقص في قصر.»
هزت زيتوني رأسها وضحكت. وقالت: «حسنا ... لم يعامل أحد جدك بهذه الطريقة قط، ولا حتى باراك. وكنت واثقة بأن باراك سيتلقى ضربا مبرحا على فعلته هذه. ومر وقت طويل دون أن ينبس جدك ببنت شفة، فقط جلس يشاهد ابنه. ثم صاح جدك مثل الفيل بصوت أعلى من صوت باراك. قال: «أيتها المرأة! تعالي إلى هنا.» وعلى الفور هرعت أمي، التي تخاطبونها الآن بلقب الجدة، من الكوخ الخاص بها حيث كانت تصلح الملابس. وسألت لماذا يصيح الجميع، فنهض جدك ومد يده. فهزت أمي رأسها واتهمت جدك بأنه يحاول السخرية منها لكن أبي أصر، وسرعان ما أصبح الأربعة يرقصون في الكوخ، والجدية جلية على وجه الرجلين، وكلا السيدتين تنظر إلى الأخرى كما لو أنهما واثقتان بأن زوجيهما قد أصابهما مس من الجنون.»
ضحكنا جميعا على القصة وطلب روي جعة مرة أخرى لنا جميعا. وبدأت أطرح على زيتوني مزيدا من الأسئلة عن جدنا، لكن في تلك اللحظة، صعدت الفرقة على المسرح. كانت تبدو رثة الهيئة في البداية، لكن بمجرد أن بدأت العزف تغير حال المكان تماما. وعلى الفور بدأ الناس يتدفقون على ساحة الرقص يرقصون على أنغام موسيقى السوكوس الأفريقية. وجذبت زيتوني يدي وروي أخذ يد أوما، وآمي أخذت يد برنارد، وعلى الفور كنا جميعا نرقص والأذرع والأوراك والأرداف تتمايل برفق حتى تصببنا عرقا، الجميع يرقص؛ طوال القامة شديدو السواد من قبيلة لوو، والسمر من كيكويو، وأفراد من قبائل كامبا وميرو وكالينجين، الجميع يبتسم ويصيح ويستمتع بوقته. وألقى روي ذراعيه على رأسه ليقوم بحركة بطيئة غير عادية حول أوما التي كانت تضحك على حماقة أخيها، وفي تلك اللحظة رأيت في وجه أخي النظرة نفسها التي رأيتها قبل سنوات طويلة في شقة جدي وجدتي في هاواي عندما كان أبي يعلمني الرقص، نفس نظرة الحرية الواضحة المطلقة.
وبعد ثلاث أو أربع رقصات تركت أنا وروي شركاءنا في الرقص وحملنا الجعة إلى الفناء المفتوح في الخلف. كان الهواء البارد يداعب أنفي وشعرت أنني ثمل نوعا ما.
وقلت: «إنه لشيء رائع أن أكون هنا.»
قال روي: «نعم، مثلما يقول الشعراء.» ضحك روي وهو يرتشف من كوب الجعة الخاص به. «كلا، حقا أنا أعني هذا. من الرائع أن أكون معك ومع أوما ومع الجميع. كما لو أننا ...»
وقبل أن أنتهي سمعنا صوت زجاجة تتحطم على الأرض من خلفنا. فاستدرت ورأيت رجلين على الجانب الآخر من الفناء يدفعان رجلا ثالثا أصغر حجما على الأرض. وبدا أن الرجل الذي وقع على الأرض يغطي جرحا في رأسه بإحدى يديه، ويحاول بالذراع الأخرى أن يحمي نفسه من هراوة تتحرك يمنة ويسرة. تقدمت خطوة للأمام، لكن روي جذبني إلى الخلف.
وهمس قائلا: «لا تتدخل فيما لا يخصك يا أخي.» «لكن ...» «قد يكونان من الشرطة. وأنا أقول لك يا باراك أنت لا تعرف كيف يكون قضاء ليلة في سجن نيروبي.»
في ذلك الوقت كان الرجل الذي على الأرض يلتف حول نفسه وجسده يتكور محاولا حماية نفسه من الضربات التي تنهال عليه عشوائيا. ثم فجأة - مثل حيوان أسير وجد ثغرة ينفذ منها - قفز الرجل فجأة واقفا على قدميه وقفز على إحدى الطاولات ليتسلق السياج الخشبي. بدا مهاجماه كأنهما يفكران في مطاردته، لكن من الواضح أنهما قررا أن الأمر لا يستحق. ولاحظ أحدهما وجودي أنا وروي لكنه لم يقل شيئا، وعادا معا إلى الداخل مرة أخرى، وفجأة شعرت أنني في كامل وعيي ومتزن تماما.
قلت: «كان هذا بشعا.» «حسنا ... إنك لا تعرف ماذا فعل الرجل الآخر أولا.»
حككت مؤخرة عنقي. وسألت: «متى دخلت إلى السجن؟»
ابتلع روي جرعة كبيرة من الجعة وترك جسده يسقط على أحد المقاعد المعدنية. وقال: «الليلة التي توفي فيها ديفيد.»
جلست إلى جواره وأخبرني بالقصة. قال إنهما قد خرجا لاحتساء الشراب والبحث عن صحبة. واستقلا دراجة روي البخارية إلى ملهى قريب، وهناك قابل روي فتاة. أعجب بها كثيرا وبدآ يتحدثان. واشترى لها جعة ، لكن قبل أن يمر وقت طويل جاء رجل آخر واعترض طريق روي. وقال إنه زوجها وجذبها من ذراعها. قاومته الفتاة ووقعت على الأرض فطلب روي من الرجل أن يتركها وشأنها. فتشاجرا. وجاءت الشرطة ولم يكن مع روي أوراق هويته؛ لذا اصطحبوه إلى قسم الشرطة. وألقوا به في زنزانة وتركوه عدة ساعات حتى تمكن ديفيد في النهاية من الدخول إليه ورؤيته.
قال له ديفيد: «أعطني مفاتيح الدراجة البخارية وسأذهب لإحضار الأوراق التي تحتاج إليها.»
فقال له روي: «كلا. عد إلى المنزل فقط.» «لا يمكنك البقاء هنا طوال الليل يا أخي. أعطني المفاتيح ...»
توقف روي عن الحديث. وجلسنا نحدق في الظلال وهي متضخمة الحجم وباهتة عبر السياج الشبكي.
ثم قلت في النهاية: «لقد كان حادثا يا روي.» وتابعت: «إنه لم يكن خطأك. يجب أن تنسى هذا الأمر.»
وقبل أن أقول أي شيء آخر سمعت آمي تصيح من خلفنا وصوتها يعلو فوق الموسيقى قليلا.
قالت: «أنتما الاثنان! إننا نبحث عنكما في كل مكان!»
أشرت لها أن تبتعد لكن روي اندفع ناهضا من على مقعده مما جعله يسقط على الأرض.
قال وهو يحيط خصرها بذراعه: «تعالي يا امرأة.» وتابع: «هيا لنذهب ونرقص.»
الفصل الثامن عشر
في الخامسة والنصف مساء بدأ القطار يشق طريقه مغادرا محطة نيروبي القديمة للقطارات متجها غربا إلى كيزيمو. كانت جين قد قررت البقاء في المنزل، لكن باقي العائلة كان على متن القطار: كيزيا وزيتوني وأوما في مقصورة واحدة، وأنا وروي وبرنارد في المقصورة التالية. وبينما انشغل الجميع بوضع أمتعتهم هززت أنا زجاج النافذة فاتحا إياها ونظرت إلى الخارج إلى منحنى خطوط السكك الحديدية من خلفنا، وهو خط السكة الحديدية الذي ساعد على بدء تاريخ كينيا مع الاستعمار.
كان خط السكة الحديدية أكبر عمل هندسي في تاريخ الإمبراطورية البريطانية في وقت بنائه، فطوله يصل إلى 600 ميل ويمتد من مومباسا في المحيط الهندي إلى السواحل الشرقية لبحيرة فيكتوريا. وقد استغرق تنفيذ المشروع خمس سنوات، وحصد حياة عدة مئات من العمال الذين أحضرتهم الحكومة من الهند. وعندما انتهى إنشاؤه أدرك البريطانيون أنه لا يوجد مسافرون يمكنهم تغطية نفقات غرورهم. ومن ثم تبع ذلك دفع المستوطنين البيض إلى قلب القارة غير المعروفة عن طريق تنفيذ عدة إجراءات مثل تجميع الأراضي التي يمكن أن تستخدم في المساعدة على إغراء الوافدين الجدد، وزراعة المحاصيل النقدية مثل القهوة والشاي، وضرورة وجود جهاز إداري يمتد على طول خط السكة الحديدية. هذا إلى جانب البعثات التبشيرية والكنائس للتخلص من المخاوف التي تولدها الأرض المجهولة.
بدا ذلك تاريخا عتيقا. ومع ذلك كنت أعلم أن عام 1895م، العام الذي بدأ فيه تنفيذ المشروع، هو أيضا العام الذي ولد فيه جدي. وقد كنا في تلك اللحظة نسافر إلى أرض هذا الرجل نفسه: حسين أونيانجو. وقد جعل هذا التفكير تاريخ القطار يعود حيا إلى ذهني، وحاولت تخيل ما شعر به ذلك الضابط البريطاني على متن أول رحلة يقوم بها القطار، وهو يجلس في مقصورته التي يضيئها مصباح يعمل بالكيروسين، وينظر إلى أميال من الشجيرات التي تتراجع إلى الوراء مع سير القطار. هل تملكه إحساس بالنصر وثقة أن منارة الحضارة الغربية قد اخترقت الظلام الأفريقي أخيرا؟ أم شعر بنذير سوء؛ إدراك مفاجئ أن المشروع بأكمله لم يكن إلا عملا أحمق، وأن هذه الأرض وشعبها سيصمدان أكثر من الأحلام الاستعمارية؟ وحاولت تخيل الإنسان الأفريقي على الجانب الآخر من النافذة الزجاجية وهو يشاهد هذا الثعبان المتلوي من المعدن الذي ينبعث منه دخان أسود يمر على قريته للمرة الأولى. ترى هل كان ينظر إلى القطار بحسد ويتخيل نفسه يجلس في يوم من الأيام في العربة نفسها التي يجلس فيها الرجل الإنجليزي، ويجد أعباء حياته قد خفت بعض الشيء؟ أم أنه قد ارتجف ورؤى الدمار والحرب تداهمه؟
لكن مخيلتي خذلتني، وعدت إلى المشهد الحالي، لم تعد هناك شجيرات وإنما أسطح بيوت وادي ماثار تمتد إلى سفوح الجبال وراءها. وعندما مررنا بإحدى الأسواق المكشوفة في الهواء الطلق، رأيت صفا من الصبية الصغار يلوحون للقطار. فلوحت لهم، وسمعت صوت كيزيا تقول شيئا بلغة لوو من خلفي. فجذب برنارد قميصي فجأة.
وقال: «إنها تقول إنك يجب أن تبقي رأسك بالداخل. فهؤلاء الصبية سيقذفونك بالحجارة.»
جاء أحد العاملين بالقطار ليأخذ طلباتنا الخاصة بفرش النوم، ويخبرنا أن الطعام بدأ يقدم؛ لذا ذهبنا جميعا إلى عربة الطعام وجلسنا على طاولة. كانت العربة صورة للأناقة الذاوية: الألواح الخشبية الأصلية لا تزال كما هي لكنها باهتة، وأدوات المائدة الفضية حقيقية لكنها غير ملائمة تماما. والطعام رائع والجعة باردة، وبنهاية الوجبة غمرني شعور بالرضا.
قلت: «كم يستغرق الوصول إلى هوم سكوير؟» وأخذت أمسح آخر قطعة صلصة في طبقي.
فقالت أوما: «طوال الليل إلى كيزيمو.» وتابعت: «ثم نستقل حافلة أو عربة ماتاتو من هناك، ربما لمدة خمس ساعات أخرى.»
ثم قال روي موجها حديثه إلي وهو يشعل سيجارة: «بالمناسبة، إنها ليست هوم سكوير. إنها هوم سكويرد.» «ماذا يعني هذا؟»
ففسرت أوما: «إنه شيء اعتاد الأطفال في نيروبي قوله.» وتابعت: «فهناك المنزل المعتاد في نيروبي. ثم هناك منزلك في القرية حيث جذور أهلك. ومنشأ أجدادك. وحتى كبار الوزراء ورجال الأعمال يفكرون بهذه الطريقة. فربما يكون لدى أحدهم قصر في نيروبي، ويبني كوخا صغيرا على أرضه في القرية. وقد لا يذهب إلى هناك سوى مرة أو مرتين في العام. لكن إذا سألته من أين هو، فسيخبرك أن هذا الكوخ هو وطنه الحقيقي. لذا عندما كنا في المدرسة ونريد أن نخبر أحدا أننا سنذهب إلى أليجو، فهي في نظرنا المنزل مضاعف ضعفين (مربع). وذاك هو المعنى نفسه الذي يوحي به اسم هوم سكويرد.»
ارتشف روي من الجعة. ثم قال: «أما أنت يا باراك فيمكنك أن تطلق عليه المنزل المضاعف ثلاثة أضعاف؛ أي هوم كيوبد.»
ابتسمت أوما واتكأت للخلف على مقعدها واستمعت إلى إيقاع صوت القطار وهو يسير على قضبانه. وقالت: «هذا القطار يعيد إلى الذهن الكثير من الذكريات. أتذكر يا روي كم كنا نتطلع للذهاب إلى الوطن؟ إنه جميل للغاية يا باراك! ليس مثل نيروبي. والجدة إنها لطيفة للغاية! ستحبها يا باراك . فلديها حس دعابة رائع.»
فقال روي: «يجب أن تتمتع بحس دعابة بعد أن عاشت مع المرعب لكل هذا الوقت.» «من المرعب؟»
فقالت أوما: «هذا هو الاسم الذي اعتدنا أن نطلقه على جدنا. ذلك لأنه كان وضيعا للغاية.»
هز روي رأسه وضحك. وقال: «واو، لقد كان ذلك الرجل وضيعا حقا! فكان يدعوك لتجلس على المائدة لتناول العشاء ويقدم لك الطعام على أطباق من الخزف الصيني مثل رجل إنجليزي. لكن إذا تفوهت بأي لفظة غير مناسبة، أو استخدمت الشوكة على نحو غير مناسب، طخ! يضربك بعصاه. وفي بعض الأحيان عندما يضربك لا تعرف حتى يحل اليوم التالي لماذا ضربك.»
أشاحت لهم زيتوني بيدها معبرة عن عدم رضاها عن حديثهما. وقالت: «إنكم لم تعرفوه أيها الأطفال إلا عندما كان كبيرا في السن وضعيفا. عندما كان أصغر سنا كنت أنا ابنته المفضلة. كان يدللني. ولكن مع ذلك إذا أخطأت كنت أختبئ منه طوال اليوم، وكنت أشعر بخوف شديد! أتعلمون كان صارما للغاية حتى مع ضيوفه. فإذا زاره أحد يذبح له الكثير من الدجاج تكريما له. لكن إذا خالفوا إحدى العادات مثل أن يغسلوا أيديهم قبل شخص أكبر سنا فلم يكن يتردد في ضربهم، حتى الكبار منهم.»
فقلت: «لا يبدو أنه كان محبوبا للغاية.»
هزت زيتوني رأسها. وقالت: «في الواقع، كان يحظى باحترام الجميع لأنه كان مزارعا ماهرا. وكان المجمع الخاص به في أليجو من أكبر المجمعات في المنطقة. وكان شديد المهارة في الزراعة، وبإمكانه زراعة أي شيء. وقد تعلم هذه التقنيات من البريطانيين عندما عمل لديهم طاهيا.» «لم أكن أعلم أنه كان طاهيا.» «كانت لديه أرضه الزراعية، لكنه عمل طاهيا للبيض وقتا طويلا في نيروبي. وعمل لدى أناس مهمين. وفي أثناء الحرب العالمية عمل خادما لدى أحد قادة الجيش البريطاني.»
طلب روي جعة مرة أخرى. وقال: «ربما هذا ما جعله وضيعا بهذا الشكل.»
فقالت زيتوني : «لا أدري.» أظن أن أبي كان دائما بهذا الشكل. كان شديد الصرامة. لكنه عادل. سأخبركم قصة أذكرها، وقعت أحداثها عندما كنت طفلة صغيرة: في أحد الأيام جاء رجل إلى طرف المجمع الخاص بنا ومعه معزاة يربطها بحبل. وأراد أن يمر من داخل أرضنا لأنه يعيش على الجانب الآخر من القرية، ولم يشأ أن يستخدم الطريق الذي يدور حولها. لذا قال جدكم لهذا الرجل: «عندما تكون وحدك يمكنك دائما المرور من أرضي. لكن اليوم لا يمكنك المرور لأن معزاتك ستأكل زرعي»، ولكن الرجل لم يستمع إلى حديثه، وأخذ يجادل جدكم وقتا طويلا، قائلا إنه سيكون شديد الحرص وإن معزاته لن تمس شيئا من الزرع. وظل ذلك الرجل يتحدث كثيرا، حتى إن جدكم في النهاية نادى علي وقال: «اذهبي وأحضري أليجو». كان يطلق اسم أليجو على البانجا الخاصة به.» «المنجل.» «نعم، المنجل. كان لديه منجلان يحتفظ بهما حادان للغاية. كان يحكهما على حجر طوال اليوم. وكان يطلق على أحدهما أليجو. وكان يطلق على الآخر كوجيلو. لذا ركضت عائدة إلى كوخه، وأحضرت له الذي يطلق عليه أليجو. وقال جدكم للرجل: «انظر. لقد أخبرتك بالفعل أنه لا يمكنك المرور، لكنك عنيد للغاية ولا تريد الاستماع إلي. لذا سأعقد معك صفقة؛ يمكنك أن تمر مع معزاتك. لكن إذا تأذت ورقة عشب واحدة، بل لو نصف ورقة من زرعي، فسأذبح المعزاة.»
ورغم صغر سني في ذلك الوقت عرفت أن ذلك الرجل شديد الغباء لأنه قبل عرض والدي. وبدأنا نسير؛ الرجل ومعزاته في المقدمة، ثم أنا وأبي نتبعه عن قرب. سرنا ربما 20 خطوة عندما مدت المعزاة رقبتها وبدأت تقضم ورقة. فجأة، قطع والدي رقبة المعزاة! أصيب صاحب المعزاة بصدمة وبدأ يصرخ. أخذ يقول: «معزاتي! معزاتي! ماذا فعلت يا حسين أونيانجو؟» وكل ما فعله جدكم هو أنه مسح المنجل وقال: «إذا قلت إنني سأفعل شيئا، يجب أن أفعله وإلا كيف سيعلم الناس أن كلمتي صادقة؟» وبعد ذلك حاول صاحب المعزاة أن يقاضي جدكم، أمام مجلس كبار القبيلة. وقد شعروا جميعا بالشفقة على الرجل لأن موت المعزاة لم يكن بالشيء الهين. لكن عندما سمعوا قصته صرفوه. فقد علموا أن جدكم على حق لأن الرجل تلقى ما يكفي من تحذيرات.»
هزت أوما رأسها. ثم نظرت إلي: «هل تتخيل يا باراك؟» وتابعت: «أقسم أنني في بعض الأحيان أظن أنه هو أصل مشكلات العائلة. فهو الشخص الوحيد الذي كان أبي يهتم برأيه. وهو الشخص الوحيد الذي كان يخشاه.»
في ذلك الوقت كانت عربة الطعام قد خلت من الركاب، وكان النادل يتحرك جيئة وذهابا بنفاد صبر، فقررنا أن نعود إلى الداخل. كانت الأسرة المثبتة في جدران عربتنا في القطار ضيقة، لكن الملاءات لطيفة وجذابة، وقد ظللت مستيقظا أستمع إلى الإيقاع المرتجف للقطار وإلى أصوات أنفاس إخوتي المنتظمة وأفكر في تلك القصص عن جدنا. لقد قالت أوما إنه أصل المشكلات. وقد بدا هذا صحيحا بصورة ما. وفكرت لو أنني استطعت أن أجمع أجزاء قصته معا، فقد يتضح أي شيء آخر.
وفي النهاية غرقت في سبات عميق، وحلمت أنني أسير في طريق في قرية. والأطفال - الذين كانوا لا يرتدون إلا خيوطا من الخرز - يلعبون أمام الأكواخ المستديرة، ولوح لي العديد من الرجال الكبار السن وأنا أمر. لكن عندما تقدمت أكثر بدأت ألاحظ أن الناس ينظرون خلفي بخوف، ويهرعون بالدخول إلى أكواخهم وأنا أمر. ثم ما لبثت أن سمعت صوت نمر وبدأت أركض إلى داخل الغابة وأطأ بقدمي الجذور والأشجار المقطوعة جذوعها والنباتات المتسلقة حتى لم أعد قادرا على الركض، وسقطت على ركبتي في وسط أرض مشرقة خاوية من الأشجار. استدرت وأنا ألهث محاولا التقاط أنفاسي فرأيت أن النهار تحول إلى ليل، ورأيت جسدا عملاقا يلوح في الأفق يناهز في طوله الأشجار ولا يرتدي إلا إزارا وقناعا مخيفا. وكانت عيناه الخاليتان من الحياة تخترقانني، وسمعت صوتا مدويا يقول إن الوقت قد حان، وبدأ جسدي بالكامل ينتفض بعنف مع الصوت، كما لو أنني أتمزق ...
انتفضت من نومي وأنا أتصبب عرقا، وارتطم رأسي في مصباح الحائط الذي يبرز فوق الفراش. وفي الظلام، بدأ قلبي يستعيد توازنه رويدا رويدا، لكني لم أستطع العودة للنوم مرة أخرى. •••
وصلنا إلى كيزيمو مع شروق الشمس وقطعنا مسافة نصف ميل سيرا على الأقدام إلى محطة الحافلات. كانت مزدحمة بالحافلات وعربات الماتاتو التي كانت تطلق نفيرها وتراوغ لاحتلال مكان في المحطة المتربة الموجودة في الهواء الطلق، وقد كتب عليها بالطلاء أسماء مثل «لص الحب» و«طفل الأدغال». وجدنا حافلة مزرية الهيئة إطاراتها متشققة ومتآكلة تتجه نحونا. دخلت أوما إلى الحافلة أولا ثم خرجت مرة أخرى متجهمة.
وقالت: «لا توجد مقاعد.»
فقال روي وسلسلة من الأيدي ترفع حقائبنا إلى سطح الحافلة: «لا تقلقي، هذه أفريقيا يا أوما ... وليست أوروبا.» والتفت وابتسم للشاب الذي كان يجمع الأجرة. وقال: «يمكنك أن تعثر لنا على بعض المقاعد أليس كذلك يا أخي؟»
أومأ الرجل برأسه. وقال: «لا توجد مشكلة. هذه الحافلة درجة أولى.»
وبعد ساعة كانت أوما تجلس على حجري، ومعها سلة من نبات اليام وعلى حجرها طفلة شخص آخر.
قلت وأنا أمسح خيطا من اللعاب من على يدي: «إنني أتساءل كيف تبدو حافلات الدرجة الثالثة إذن.»
دفعت أوما مرفق أحد الأشخاص الغرباء بعيدا عن وجهها. وقالت: «لن تمزح هكذا عندما نصل لأول حفرة في الطريق.»
ولكن لحسن الحظ كان الطريق معبدا تعبيدا جيدا، وكانت المشاهد الطبيعية على جانبيه غالبا شجيرات جافة وتلال منخفضة، وسرعان ما حلت الأكواخ الطينية ذات الأسطح المخروطية الشكل المبنية بالقش محل المباني المبنية من كتل أسمنتية التي كانت تظهر من حين لآخر. نزلنا من الحافلة في ندوري وقضينا الساعتين التاليتين نشرب المياه الغازية الدافئة ونشاهد الكلاب الضالة تنقض بعضها على بعض في التراب، حتى ظهرت عربة ماتاتو أخيرا لتنقلنا عبر الطريق الترابي نحو الشمال. وعندما كنا في طريقنا إلى أعلى المنحدر الصخري لوح لنا أطفال حفاة الأقدام لكنهم لم يبتسموا، وكان هناك قطيع من الماعز يجري أمامنا ليشرب من مجرى مائي ضيق. ثم أصبح الطريق أوسع، وتوقفنا فجأة في أرض خالية من الأشجار. وهناك كان شابان يستظلان تحت ظل شجرة، وبمجرد أن رأونا ارتسمت الابتسامات على وجوههم. فقفز روي من الماتاتو ليضم الرجلين بين ذراعيه.
وقال روي بسعادة: «باراك هذان عمانا. هذا يوسف» قالها وهو يشير إلى رجل قوي البنية بعض الشيء ذي شارب. ثم استأنف حديثه وهو يشير إلى رجل آخر أكبر حجما حليق الوجه: «وهذا سيد أصغر إخوة أبي.»
قال سيد وهو يبتسم لي: «لقد سمعنا الكثير من الأشياء الرائعة عنك.» وتابع: «مرحبا يا باري. مرحبا بك. تفضل ودعني أحمل حقائبك.»
تبعنا يوسف وسيد عبر طريق متعامد على الطريق الرئيسي، حتى عبرنا حاجزا من السياجات المرتفعة ودخلنا إلى مجمع كبير. وفي وسط المجمع منزل منخفض مستطيل الشكل له سطح من الحديد المضلع وحوائط أسمنتية انهارت من أحد الجوانب، تاركة الأساس المبني من الطمي مكشوفا. والنباتات المتسلقة المعروفة باسم «الجهنمية» الحمراء والقرنفلية والصفراء بأزهارها، تمتد على طول جانب واحد في اتجاه خزان مياه أسمنتي كبير، وعلى الجانب الآخر من الأرض الترابية كوخ صغير مستدير تصطف به آنية خزفية حيث تنقر منها بضع دجاجات في أنغام متعاقبة. ورأيت كوخين آخرين في الفناء العشبي الواسع الذي يمتد خلف المنزل. وأسفل شجرة مانجو طويلة نظرت إلينا بقرتان نحيلتان حمراوان نظرة سريعة قبل أن تعودا وتنهمكا في تناول طعامهما.
إنها هوم سكويرد. «آه أوباما!» هكذا صاحت سيدة ضخمة الجسد تضع شالا على رأسها تخرج بخطى سريعة من المنزل الرئيسي وتجفف يديها في جانب جونلتها. كان وجهها يشبه وجه سيد، هادئا وبارز العظام ولها عينان متألقتان ضاحكتان. وقد احتضنت أوما وروي بقوة كما لو أنها ستطرحهما أرضا، ثم استدارت إلي وأمسكت يدي وصافحتني مصافحة حارة.
وقالت وهي تحاول محاكاة الكلمة الإنجليزية: «مرحبا».
فقلت أنا: «مرحبا» في لغة لوو.
فضحكت وقالت شيئا لأوما.
قالت أوما: «إنها تقول إنها حلمت بهذا اليوم الذي ستقابل فيه حفيدها. وتقول إنك أدخلت عليها سعادة كبيرة. وتقول إنك عدت أخيرا إلى وطنك.»
أومأت الجدة وجذبتني في عناق قبل أن تقودنا إلى داخل المنزل. كان بالمنزل نوافذ صغيرة تسمح بدخول قليل من ضوء النهار، وليس به من الأثاث سوى بضعة مقاعد خشبية ومنضدة قهوة ، وأريكة متهالكة. وعلى الجدران بعض إبداعات وذكريات العائلة: شهادة الدبلومة التي حصل عليها أبي من جامعة هارفارد، وصور له ولعمي عمر الذي هاجر إلى أمريكا منذ 25 عاما ولم يعد قط. وإلى جانبهما صورتان أقدم بدأ لونهما يتحول للون الأصفر: الأولى لشابة طويلة تشع من عينيها مشاعر غضب مكبوتة وعلى حجرها طفل ممتلئ الجسد وتقف إلى جوارها فتاة صغيرة، أما الصورة الثانية فلرجل أكبر سنا يجلس على مقعد له ظهر عال، ويرتدي قميصا ورداء قطنيا يلتف حول الوسط (كانجا) ويضع إحدى رجليه فوق الأخرى مثل رجل إنجليزي، وعلى حجره ما يشبه هراوة من نوع ما ورأسها الكبير مغلف بجلد حيوان. وقد منحت عظام وجنتيه البارزة وعيناه الضيقتان وجهه لمحة شرقية. وجاءت أوما لتقف إلى جواري.
وقالت: «هذا الرجل هو جدنا. والسيدة التي في الصورة هي جدتنا الأخرى أكومو. والفتاة هي سارة. أما ذلك الطفل ... فهو أبونا.»
أمعنت النظر في الصور بعض الوقت، حتى لاحظت صورة أخيرة على الحائط. صورة لسيدة بيضاء لها شعر أسود كثيف وعينان حالمتان مثل تلك الصور التي كانت تزين إعلانات كوكا كولا القديمة. وسألت ماذا تفعل هذه الصورة على الجدار، التفتت أوما إلى الجدة التي أجابت بلغة لوو.
فترجمت أوما قائلة: «إنها تقول إنها صورة لإحدى زوجات جدك. وقد أخبر الناس أنه تزوجها في بورما عندما كان في الحرب.»
ضحك روي. وقال: «إنها لا تشبه نساء بورما، أليس كذلك يا باراك؟»
هززت رأسي نفيا. فقد كانت تشبه أمي.
جلسنا في غرفة المعيشة وأعدت لنا الجدة بعض الشاي. وقالت إن الأمور تسير على ما يرام، مع أنها قد منحت قطعا من الأرض إلى الأقارب لأنها هي ويوسف لا يستطيعان تولي العمل بها بأنفسهما. وتعوض الدخل الذي كانت ستكسبه من الأرض عن طريق بيع وجبات الغداء للأطفال في المدرسة المجاورة، وتحضر البضائع من كيزيمو إلى السوق المحلية كلما توفر لديها أموال فائضة. أما مشكلاتها الحقيقية فتتعلق بسقف المنزل، وأشارت إلى بعض خيوط أشعة الشمس التي تمر من السقف إلى الأرضية، إلى جانب حقيقة أنها لم تسمع أية أخبار عن ابنها عمر منذ ما يزيد عن عام. وسألتني هل رأيته، وأجبتها بالنفي. فغمغمت قائلة شيئا بسخط بلغة لوو، ثم بدأت تجمع الأكواب.
همست أوما: «تقول عندما تراه أخبره أنها لا تريد منه شيئا، سوى أن يأتي ويزور والدته.»
نظرت إلى الجدة ولأول مرة منذ وصولنا كان كبر سنها واضحا على ملامحها.
وبعد أن أفرغنا أمتعتنا أشار روي إلي كي أتبعه إلى الفناء الخلفي. وعلى حافة حقل ذرة مجاور وأسفل شجرة مانجو رأيت بناءين مستطيلين طويلين من الأسمنت بارزين من الأرض مثل تابوتين خرجا من القبر. وهناك لافتة على أحد القبرين منقوش عليها: حسين أونيانجو أوباما (ولد عام 1895م ومات عام 1979م). وكان الآخر مغطى ببلاط أصفر كالذي يستخدم في الحمامات به فراغ مجرد على شاهد الضريح حيث من المفترض أن توجد اللوحة، انحنى روي وأبعد صفا من النمل كان يسير على طول القبر.
وقال: «ست سنوات.» وتابع: «ست سنوات ولا يزال لا يوجد شيء يقول من دفن هنا. سأخبرك شيئا يا باراك، عندما أموت تأكد أن اسمي مكتوب على القبر.» وهز رأسه ببطء قبل أن يعود إلى المنزل. •••
كيف لي أن أصف مشاعر ذلك اليوم؟ يمكنني تذكر كل لحظة في ذهني صورة تقريبا؛ أتذكر انضمامي أنا وأوما إلى الجدة في سوق بعد الظهيرة، في المكان نفسه الذي أنزلتنا فيه عربة الماتاتو، فيما عدا أنه أصبح مكتظا بنساء يجلسن على حصائر، وسيقانهم الناعمة سمراء اللون ممتدة أمامهن من أسفل الجونلات الواسعة؛ وصوت ضحكاتهن وهن يشاهدنني أساعد الجدة في قطع سيقان الكرنب الأخضر الذي أحضرته من كيزيمو، والمذاق الحلو كالعسل لعود القصب الذي وضعته إحدى النساء في يدي. وأتذكر حفيف أوراق الذرة، والتركيز على وجه عمي، ورائحة عرقنا ونحن نصلح ثقبا في السياج الذي يحد الجانب الغربي من المنزل. وأتذكر كيف جاء بعد الظهيرة صبي اسمه جودفري إلى المجمع، وهو صبي قالت أوما إنه يمكث مع الجدة لأن أسرته تعيش في قرية ليست بها مدرسة، وأتذكر خطوات جودفري المضطربة وهو يطارد ديكا أسود كبيرا عبر أشجار الموز والببايا، وتقطيب ما بين حاجبيه الصغيرين والطائر يضرب بجناحيه ليفلت من يديه، والنظرة في عينيه عندما جذبت جدتي الديك من الخلف بإحدى يديها وجزت رقبته بالسكين فجأة، وهي نظرة تذكرتها وكأنها نظرتي أنا.
ولم يكن ما شعرت به في تلك اللحظات مجرد سعادة. لكنه إحساس بأن كل ما أفعله، كل لمسة ونفس وكلمة تحمل الثقل الكامل لحياتي، وأن دائرة بدأت تنغلق، حتى إنني ربما يمكنني أخيرا التعرف على نفسي وأدرك أنني موجود هنا، الآن بالذات في مكان واحد. لم أشعر بتغير هذه الحالة إلا مرة واحدة بعد ظهر يوم ما عندما سبقتنا أوما في طريق عودتنا من السوق كي تحضر كاميراتها وتركتني أنا والجدة وحدنا في منتصف الطريق. وبعد صمت طويل نظرت الجدة إلي. وابتسمت قائلة: «مرحبا» باللغة الإنجليزية الركيكة. فأجبت تحيتها بلغة لوو. وهكذا نفدت الكلمات التي من الممكن أن نتبادلها، فحدقنا بأسف إلى التراب حتى عادت أوما في النهاية. ثم التفتت الجدة إلى أوما وقالت في نبرة استطعت أن أفهمها إنه آلمها كثيرا ألا تستطيع التحدث إلى حفيدها.
فقلت: «أخبريها أنني أود تعلم لغة لوو، لكن من الصعب أن أجد وقتا في الولايات المتحدة.» وتابعت: «أخبريها كم أنا مشغول.»
قالت أوما: «إنها تفهم هذا» وتابعت: «لكنها تقول أيضا إنه لا يمكن أن يكون المرء مشغولا لدرجة ألا يعرف أهله.»
نظرت إلى الجدة، فأومأت إلي، وأدركت حينها أن السعادة التي كنت أشعر بها ستزول في وقت ما، وأن ذلك أيضا جزء من الدائرة: حقيقة أن حياتي لم تكن أبدا مرتبة أو ثابتة، وأنه حتى بعد هذه الرحلة ستظل الاختيارات الصعبة مطروحة دائما.
أسدل الليل ستائره سريعا، وكانت الرياح تهب برقة في الظلام. ذهبت أنا وبرنارد وروي إلى خزان المياه واغتسلنا في الهواء الطلق، وأجسادنا التي يغطيها الصابون تلمع تحت ضوء القمر الذي يوشك أن يكون بدرا. وعندما عدنا إلى المنزل كان الطعام بانتظارنا، فأكلنا بشهية مفتوحة دون أن نتفوه بكلمة. وبعد العشاء، غادر روي وهو يتمتم أنه يريد زيارة بعض الأشخاص. وذهب يوسف إلى كوخه وأحضر جهاز ترانزستور قديما قال إنه كان ملكا لجدنا في يوم من الأيام. وأخذ يحرك المؤشر حتى التقط موجة بصوت مشوش لإذاعة البي بي سي، إلا أن صوت الإذاعة كان يجيء ويذهب وكانت كأنها هذيان لأناس من عالم آخر. وبعد دقيقة سمعنا صوت عويل غريب منخفض النبرة على مسافة بعيدة.
قالت أوما: «لا بد أن عدائي الليل في الخارج الليلة.» «من هم عداءو الليل؟»
قالت: «إنهم مثل مشعوذين.» وتابعت: «رجال أشباح. عندما كنا صغارا كانت هاتان»، مشيرة إلى الجدة وزيتوني «تخبراننا قصصا عنهم كي نحسن السلوك. وقالتا لنا إنه في ضوء النهار يكون عداءو الليل مثل عوام الناس. قد تمر بهم في السوق، أو حتى تدعوهم إلى منزلك لتناول الطعام، ولا تعرف حقيقتهم أبدا. ولكن ليلا يأخذون شكل نمور ويتحدثون إلى جميع الحيوانات. وأقوى عدائي الليل يمكنهم أن يتركوا أجسادهم ويطيروا إلى أماكن بعيدة. أو يسحرونك بنظرة سريعة واحدة من عيونهم. وإذا سألت جيراننا، فسيخبرونك أنه لا يزال هناك الكثير من عدائي الليل هنا.» «أوما، إنك تتحدثين كما لو أن هذا الأمر غير حقيقي.»
وعلى الضوء المتقطع للمصباح الذي يعمل بالكيروسين لم أستطع أن أحدد ما إذا كانت زيتوني تمزح. وقالت: «دعني أخبرك أمرا يا باري. عندما كنت صغيرة سبب عداءو الليل الكثير من المشكلات للناس. فكانوا يسرقون المعز. وفي بعض الأحيان يأخذون حتى الماشية. جدك كان الشخص الوحيد الذي لا يخاف منهم. أذكر أنه في يوم من الأيام سمع معزه تمأمئ في الحظيرة، وعندما ذهب ليطمئن عليها رأى ما بدا مثل نمر ضخم يقف على رجليه الخلفيتين مثل رجل. وكان بين فكيه معزاة صغيرة، وعندما رأى جدك، صرخ بلغة لوو قبل أن يهرب إلى الغابة، فطارده جدك لمسافة بعيدة في التلال، لكن عندما كان على وشك أن يطعنه بمنجله طار عداء الليل ليستقر فوق الأشجار. ولحسن الحظ سقطت المعزاة عندما قفز، ولم تصب إلا بكسر في رجلها. أعاد جدك المعزاة إلى المجمع وأراني كيف أصنع جبيرة، وقد اعتنيت بتلك المعزاة بنفسي حتى استعادت صحتها.»
عدنا إلى هدوئنا مرة أخرى، وأصبح ضوء المصباح خافتا وبدأ الناس يأوون إلى فرشهم. وأحضرت الجدة أغطية وسريرا متنقلا لشخصين حتى ننام عليه أنا وبرنارد، واستلقينا على السرير الضيق قبل أن نطفئ المصباح. كان جسدي يؤلمني من الإرهاق، وكنت أسمع غمغمة الجدة هي وأوما تتحدثان داخل غرفة نوم الجدة، وتساءلت إلى أين ذهب روي، وفكرت في البلاط الأصفر على قبر أبي.
وهنا همس برنارد: «باري.» وتابع: «ألا تزال مستيقظا؟» «نعم.» «هل صدقت ما قالته زيتوني؟ أقصد عن عدائي الليل؟» «لا أعلم.» «أما أنا فلا أظن أن هناك ما يسمى بعدائي الليل. إنهم على الأرجح لصوص يستغلون هذه القصص ليخيفوا الناس.» «قد تكون على حق.»
ثم خيم علينا صمت طويل. «باري؟» «ماذا؟» «ما الذي جعلك تعود إلى الوطن؟» «لا أدري يا برنارد. شيء ما أخبرني أنه قد حان الوقت.»
استدار برنارد على جانبه دون أن يجيب. وبعد دقيقة سمعت صوت شخيره الخافت إلى جواري، ففتحت عيني في الظلام منتظرا عودة روي. •••
في الصباح اقترح سيد ويوسف أن أذهب أنا وأوما في جولة في المنطقة. وعندما تبعناهما عبر الفناء الخلفي ثم طريق ترابي عبر حقول الذرة والدخن استدار يوسف إلي وقال: «لا بد أن هذا يبدو شيئا بدائيا لك مقارنة بالمزارع في أمريكا.»
فأخبرته أنني لا أعرف الكثير عن الزراعة لكن، على حد علمي، الأرض تبدو خصبة.
قال يوسف وهو يومئ: «نعم، الأرض جيدة.» وتابع: «المشكلة هنا أن الناس غير متعلمين. ولا يفهمون الكثير عن التطور. لا يعلمون شيئا عن التقنيات الزراعية المناسبة وأشياء من هذا القبيل. وأنا أحاول أن أشرح لهم معلومات عن تطوير رأس المال والري، لكنهم يرفضون الاستماع إلي. فأبناء قبيلة لوو عنيدون في هذا الشأن.»
لاحظت أن سيد عبس في وجه أخيه لكنه لم يقل شيئا. وبعد بضع دقائق وصلنا إلى مجرى مائي صغير موحل. وحينها صاح سيد محذرا، فظهرت شابتان على الضفة المقابلة تغطيان جسديهما برداءيهما وشعرهما لا يزال يلمع من حمام الصباح. وابتسمتا بخجل واختفتا وراء بقعة من أعشاب المستنقعات محاطة بالماء.
وأشار سيد إلى السياجات التي تمتد على طول المياه. وقال: «هنا تنتهي ممتلكاتنا من الأرض.» وتابع: «في الماضي، عندما كان أبي على قيد الحياة، كانت الحقول أكبر. لكن كما قالت أمي، تركنا جزءا من الأرض الآن.»
قرر يوسف أن يعود عند هذه النقطة، لكن سيد قادني أنا وأوما على طول المجرى المائي لبعض الوقت، ثم عبر المزيد من الحقول من أمام مجمع سكني. وأمام بعض الأكواخ رأينا نساء يفرزن حبوب الدخن المفروشة على قطع مربعة من القماش، فتوقفنا لنتحدث إلى واحدة منهن، وهي سيدة في منتصف العمر ترتدي ثوبا أحمر باهتا وحذاء خفيفا أحمر اللون بدون رباط. تركت السيدة عملها جانبا لتصافحنا، وأخبرتنا أنها تتذكر أبانا فقد كانا يرعيان الماعز معا في طفولتهما. وعندما سألتها أوما كيف حال الحياة هزت رأسها ببطء.
وقالت بصوت يخلو من المشاعر: «لقد تغيرت الحياة.» وتابعت: «فالشباب يرحلون إلى المدينة. لا يبقى هنا سوى الأطفال والعجائز من الرجال والنساء. ورحلت معهم الثروة كلها.» وفي أثناء حديثها جاء رجل عجوز يركب دراجة متهالكة إلى جانبنا ثم رجل طويل نحيل تنبعث من أنفاسه رائحة الكحول. وعلى الفور التقطوا نبرة حديث المرأة عن صعوبة الحياة في أليجو والأطفال الذين تركوهم ورحلوا. وسألونا هل بإمكاننا أن نمنحهم شيئا ليساعدهم على الحياة بعض الوقت، فمنحت أوما كلا منهما بضعة شلنات قبل أن نستأذن وننصرف عائدين إلى المنزل.
ثم قالت أوما بعد أن أصبحنا بعيدا عن أسماعهم: «ماذا حدث هنا يا سيد؟ إنهم لم يكونوا يتسولون النقود بهذا الشكل قط.»
انحنى سيد وأبعد بعض الأغصان الساقطة من بين صفوف الذرة. وقال: «إنك على حق.» وتابع: «أعتقد أنهم تعلموا هذا السلوك من سكان المدينة. فالناس يعودون من نيروبي أو كيزيمو ويقولون لهم: «إنكم فقراء.» ومن ثم أصبح لدينا هذه الفكرة عن الفقر . لم تكن هذه الفكرة موجودة هنا من قبل. انظر إلى والدتي، إنها لا تطلب شيئا أبدا، فدائما لديها ما تفعله. ولا شيء مما تفعله يجلب لها الكثير من النقود، لكنها نقود على أية حال. وهذا يجعلها تشعر بالفخر. أي شخص يمكنه أن يفعل هذا، لكن الكثيرين هنا يفضلون الاستسلام.»
قالت أوما: «وماذا عن يوسف؟» وتابعت: «ألا يمكنه فعل المزيد؟»
هز سيد رأسه. وقال: «أخي يتحدث بأسلوب الكتب، لكن يؤسفني أنه لا يحب أن يكون قدوة.»
استدارت أوما إلي. وقالت: «أتعلم كان أداء يوسف حسنا للغاية لبعض الوقت. كان أداؤه حسنا في المدرسة أليس كذلك يا سيد؟ وتلقى العديد من فرص العمل الممتازة. لكنني لا أعلم ماذا حدث له. ترك الدراسة. والآن يمكث هنا مع الجدة يقوم ببعض الأعمال البسيطة لها. كما لو أنه يخاف من محاولة النجاح.»
فأومأ سيد. وقال: «أظن أن التعليم لا يفيدنا كثيرا إذا لم يكن ممزوجا بالعرق.»
فكرت فيما قاله سيد ونحن نتابع السير. ربما يكون على حق، وقد تكون فكرة الفقر جلبت إلى هذا المكان؛ مقياس جديد للفقر والحاجة انتقل كالحصبة على يدي أو يد أوما أو من خلال راديو يوسف القديم. وعندما نقول إن الفقر مجرد فكرة لا يعني أنه ليس موجودا؛ فالأشخاص الذين قابلناهم للتو لا يمكنهم إنكار حقيقة أن بعض الناس لديهم حمامات بداخل المنازل أو يأكلون اللحم كل يوم، أكثر مما يمكن لأطفال ألتجيلد إنكار وجود العربات السريعة أو المنازل المترفة التي تعرضها أجهزة التليفزيون.
ولكن ربما يمكنهم مقاومة فكرة عجزهم. وفي ذلك الوقت كان سيد يخبرنا عن حياته: عن إحباطه لأنه لم يلتحق قط بالجامعة مثل إخوته الأكبر منه سنا بسبب نقص النقود؛ وعمله في «فيلق الشباب الوطني» وتكليفه بالعمل في مشروعات التنمية في أرجاء البلد، وهي مهمة محدودة عمرها ثلاثة أعوام على وشك الانتهاء. وقد قضى إجازتيه السابقتين يطرق أبواب الشركات المختلفة في نيروبي لكن دون نتائج إيجابية حتى ذلك الوقت. ولكن ظروفه لم تفت في عضده وهو واثق أن المثابرة ستسبب النجاح في النهاية.
قال سيد ونحن نقترب من منزل الجدة: «الحصول على عمل هذه الأيام، حتى كموظف بسيط، يتطلب أن تكون من ذوي المعارف، أو أن ترشو شخصا برشوة كبيرة. ولهذا أود أن أؤسس عملي الخاص. سيكون شيئا صغيرا نعم. لكنه سيكون ملكي. وأظن أن هذا كان خطأ والدكما. فمع عبقريته لم يكن لديه شيء يملكه قط.» ثم فكر لدقيقة. وقال: «بالطبع، لا فائدة من إهدار الوقت في الندم على أخطاء الماضي، ألست على حق؟ مثل ذلك النزاع على ميراث والدك. منذ البداية أخبرت أخواتي أن ينسين هذا الأمر. لا بد أن نستمر في حياتنا. ومع ذلك فإنهن لا يستمعن إلي. وفي الوقت نفسه إلى أين يذهب المال الذي يتنازعن عليه؟ إلى المحامين. أعتقد أن المحامين يستفيدون بشدة من هذه القضية. ثمة مثل يحضرني هنا. يقول: عندما تتقاتل جرادتان، يكون الغراب دائما هو المستفيد.»
فسألته: «هل هذا مثل تتداوله قبيلة لوو؟» فابتسم سيد ابتسامة خجلى.
وقال: «لدينا تعبيرات مماثلة هنا في لوو، لكن يجب أن أعترف أن هذا التعبير بالذات قرأته في كتاب من تأليف شينوا أشيبي، الكاتب النيجيري. فأنا أحب كتبه كثيرا. فإنه يقول الحقيقة عن أزمة أفريقيا. الأزمة النيجيرية أو الكينية، كلها واحد. فإننا نشترك في أشياء أكثر من تلك التي تفرقنا.» •••
عندما عدنا كانت الجدة وروي يجلسان خارج المنزل ويتحدثان إلى رجل يرتدي حلة ثقيلة. اتضح أن ذلك الرجل هو ناظر المدرسة المجاورة، وقد جاء لينقل لهم أخبار المدينة ويستمتع بتناول يخني الدجاج المتبقي من الليلة السابقة. ولاحظت أن روي قد حزم حقيبته فسألته إلى أين سيذهب.
فقال: «إلى كندو باي.» وتابع: «الناظر يتجه إلى هناك؛ لذا فسأذهب معه أنا وأمي وبرنارد ونعيد آبو إلى هنا. أنت أيضا يجب أن تأتي معنا لتلقي التحية على العائلة هناك.»
قررت أوما أن تبقى مع الجدة ، لكنني أنا وسيد ذهبنا لنأخذ بعض الملابس ثم تكدسنا في سيارة الناظر العتيقة. واتضح أن الرحلة إلى كندو تستغرق عدة ساعات بالسفر عبر الطريق الرئيسي، وإلى الغرب كانت بحيرة فيكتوريا تظهر من حين لآخر ومياهها الفضية الساكنة تقل لتتحول إلى مستنقعات خضراء مسطحة. وفي وقت متأخر من بعد الظهيرة كنا نسير في الشارع الرئيسي في مدينة كندو باي، وهو شارع واسع مليء بالغبار تصطف على جانبيه محال مدهونة باللون الأصفر. بعد أن شكرنا الناظر ركبنا عربة ماتاتو، سارت بنا عبر متاهة من الشوارع الجانبية، حتى اختفت جميع العلامات التي تدل على المدنية وعادت البيئة المحيطة بنا مرة أخرى إلى مراع مفتوحة وحقول ذرة. وعند مفترق أحد الطرق أشارت لنا كيزيا كي ننزل، وبدأنا نسير عبر واد ضيق عميق لونه يميل إلى الرمادي، في أسفله يتدفق نهر كبير بني بلون الشيكولاتة. وعلى ضفة النهر رأينا نساء يضعن ملابس مبتلة على صخور مكشوفة، وعلى سطح منبسط فوقها قطيع من الماعز يأكل في مساحة من الحشائش الصفراء، والعلامات السوداء والبيضاء والكستنائية على أجسادها مثل نبات حزاز الصخر في الأرض. انعطفنا في ممر أضيق ووصلنا إلى مدخل مجمع محاط بسياج. توقفت كيزيا وأشارت إلى ما بدا مثل كومة عشوائية من الصخور والعصي وقالت شيئا لروي بلغة لوو.
فقال روي: «هذا قبر أوباما.» وتابع: «جدنا الأكبر. وجميع الأرض الموجودة هنا يطلق عليها «أرض أوباما»، ونحن «أبناء أوباما». وقد نشأ أبو جدنا الأكبر في أليجو، لكنه انتقل إلى هنا في شبابه. وهنا استقر أوباما، وولد جميع أبنائه.» «لماذا إذن عاد جدنا إلى أليجو؟»
التفت روي إلى كيزيا التي هزت رأسها. فقال روي: «عليك أن تسأل الجدة هذا السؤال.» وتابع: أمي تظن أنه ربما لم يتفق مع إخوته. في الحقيقة لا يزال أحد إخوته يعيش هنا. إنه عجوز الآن، وربما يمكننا زيارته.»
وصلنا إلى منزل خشبي صغير حيث كانت سيدة طويلة جميلة تكنس الباحة. ومن خلفها كان رجل عاري الصدر يجلس في مدخل المبنى. غطت المرأة عينيها من الضوء بساعدها ولوحت لنا، وببطء استدار الشاب باتجاهنا. فذهب روي ليصافح المرأة التي كان اسمها سالينا ونهض الشاب لتحيتنا.
قال آبو: «أخيرا جئتم لزيارتي؟» وهو يحتضن كلا منا. ومد يده ليرتدي قميصه. وتابع: «سمعت أنكم قادمون مع باري منذ وقت طويل.»
قال روي: «نعم، إنك تعرف كيف تسير الأمور.» وتابع: «فنحن نستغرق بعض الوقت للتنظيم.» «أنا سعيد أنكم أتيتم. فأنا بحاجة للعودة إلى نيروبي.» «إنك لا تحب الحياة هنا، أليس كذلك؟» «إنها مملة للغاية يا رجل، لن تصدق. لا يوجد تليفزيون. كما لا توجد نواد. وهؤلاء الناس في القرية أظن أنهم بطيئون. لولا قدوم بيلي لفقدت صوابي.» «هل بيلي هنا؟» «نعم، إنه هنا في مكان ما ...» ولوح آبو بيده بصورة غامضة، ثم استدار إلي وابتسم. قال: «حسنا، يا باري. ماذا أحضرت لي معك من أمريكا؟»
مددت يدي داخل الحقيبة وأخرجت أحد أجهزة الكاسيت المحمولة التي أحضرتها له ولبرنارد. فقلبه في يده وعلى وجهه نظرة إحباط غير مستترة.
وقال: «إنه ليس سوني، أهذا صحيح؟» ثم استعاد سيطرته على نفسه سريعا وضربني برفق على ظهري. وقال: «هذا رائع يا باري. شكرا لك! شكرا لك.»
أومأت له محاولا ألا أشعر بالغضب. كان يقف إلى جوار برنارد وكان التشابه بينهما مذهلا: الطول نفسه، والنحافة نفسها، والملامح الهادئة المتناسقة نفسها. ليس إلا أن يحلق آبو شاربه حتى يصبحا توءما. فيما عدا شيء واحد ... ما هو؟ نعم، إنها النظرة في عيني آبو. ذاك هو السبب. ليس فقط الاحمرار الواضح الناتج عن تناول المخدرات، بل شيء أعمق، شيء ذكرني بالشباب في شيكاغو. نظرة انتباه وربما حذر، نظرة شخص أدرك في وقت مبكر من حياته أنه ظلم.
تبعنا سالينا إلى داخل المنزل، وأحضرت لنا صينية عليها مياه غازية وبسكويت. وعندما وضعت الصينية دخل من الباب شاب ضخم قوي البنية له شارب ويتسم بالقدر نفسه من جمال سالينا وطول روي، وبمجرد أن دخل صاح.
قال: «روي! ماذا تفعل هنا؟»
نهض روي وتعانقا. وأجاب: «أنت تعرفني. أبحث دائما عن الطعام. يجب أن أطرح عليك السؤال نفسه؟» «أنا أزور والدتي. فإذا لم آت إلى هنا كثيرا تبدأ في الشكوى.» وقبل سالينا على وجنتها وأمسك يدي يصافحني بقوة. قال: «أرى أنك أحضرت معك قريبي الأمريكي! سمعت عنك كثيرا يا باري، ولا أصدق أنك هنا الآن.» ثم التفت إلى سالينا. قال: «هل قدمت الطعام لباري؟» «حالا يا بيلي. حالا.» ثم أخذت يد كيزيا والتفتت إلى روي. وقالت: «أترى ما يجب أن تتحمله الأمهات؟ كيف حال جدتك؟» «كما هي.»
أومأت برأسها وهي تمعن التفكير. قالت: «هذا ليس سيئا.»
خرجت من الغرفة هي وكيزيا وسقط بيلي على الأريكة إلى جانب روي.
وقال: «ألا تزال مجنونا أيها السيد؟ انظر إلى حالك الآن! إنك بدين مثل الثور الفائز في مسابقة! لا بد أنك تمتع نفسك في الولايات المتحدة.»
قال روي: «الوضع على ما يرام.» وتابع: «كيف حال مومباسا؟ سمعت أنك تعمل في مكتب البريد.»
هز بيلي كتفيه. وقال: «الراتب معقول، والعمل ثابت ولا يحتاج إلى مجهود ذهني كبير.» ثم التفت إلي. وقال: «دعني أخبرك شيئا يا باري، أخوك هذا كان طائشا! في الحقيقة كنا جميعا طائشين فيما مضى. قضينا معظم الوقت نصطاد الحيوانات التي لا يصطادها أحد عادة، أليس كذلك يا روي؟» ثم ضرب روي على فخذه، وضحك. قال: «أخبرني، ماذا عن النساء الأمريكيات؟»
ضحك روي، لكن بدا أن دخول سالينا وكيزيا بالطعام أراحه. قال بيلي وهو يضع طبقه على المنضدة المنخفضة أمامه: «أتعلم يا باري، كان أبوك في مثل عمر أبي. وكانا مقربين للغاية. وعندما نشأت أنا وروي كنا أيضا في العمر نفسه؛ لذا فقد أصبحنا بطبيعة الحال مقربين للغاية. ودعني أخبرك شيئا، كان أبوك رجلا عظيما. وكانت علاقتي به أقوى من علاقتي بأبي. فإذا تعرضت لمشكلة كنت أذهب إلى عمي باراك أولا. وأنت يا روي كنت تلجأ لأبي على ما أعتقد.»
قال روي بهدوء: «كان الرجال في عائلتنا رائعين مع أبناء الغير.» واستدرك: «ولكن مع أبنائهم أرادوا ألا يبدوا ضعفاء.»
أومأ بيلي ولعق أصابعه . وقال: «أتعلم يا روي، أظن أن ما تقوله حقيقي. أما أنا فلا أريد ارتكاب الأخطاء نفسها. لا أريد إساءة معاملة عائلتي .» وبيده النظيفة أخرج بيلي محفظته من جيبه وأراني صورة لزوجته وطفليه الصغيرين. وقال: «أقسم لك أيها السيد، الزواج يستحوذ على المرء! يجب أن تراني الآن يا روي. لقد أصبحت هادئا للغاية. رجل أسري. بالطبع هناك حدود لما يجب أن يتحمله الرجل. وزوجتي تعرف ألا تعارضني كثيرا، ما رأيك يا سيد؟»
أدركت أن سيدا لم يتحدث كثيرا منذ أن وصلنا. وكان قد غسل يديه قبل أن يلتفت إلى بيلي.
قال: «أنا لم أتزوج بعد؛ لذا ربما لا ينبغي أن أتحدث عن هذا الأمر. لكني أعترف أنني فكرت في هذه الأمور لبعض الوقت. وقد توصلت إلى أهم مشكلات أفريقيا، أتدرون ما هي؟» ثم توقف ليدير عينيه في الغرفة. واستأنف: «العلاقة بين الرجل والمرأة. فنحن الرجال نحاول أن نصبح أقوياء، لكن قوتنا عادة ما توضع في غير محلها. مثل مسألة أن يكون للرجل أكثر من امرأة. لقد كان لدى آبائنا زوجات كثيرة؛ لذا فنحن أيضا يجب أن يكون لدينا الكثير من النساء. لكننا لا نتوقف وننظر إلى العواقب. ماذا يحدث لهؤلاء النساء؟ الغيرة تملأ قلوبهن. والأطفال لا يصبحون مقربين من آبائهم. إنها ...»
ثم تدارك سيد نفسه فجأة وابتسم. وقال: «بالطبع أنا ليس لدي حتى زوجة واحدة؛ لذا ينبغي ألا أستمر في الحديث. فحيثما لا يمتلك المرء الخبرة فمن الحكمة أن يصمت.»
فسألته: «هل هذا من أقوال أشيبي أيضا؟»
ضحك سيد وأمسك يدي. قال: «كلا يا باري. هذا قولي أنا.»
عندما انتهينا من تناول العشاء كان الظلام قد خيم، وبعد أن شكرنا سالينا وكيزيا على الطعام تبعنا بيلي إلى الخارج إلى ممر ضيق. وسرنا أسفل ضوء القمر الذي كان بدرا، ووصلنا سريعا إلى منزل أصغر حيث ظلال الفراشات ترفرف قبالة نافذة صفراء. طرق بيلي الباب، ففتح رجل قصير القامة على طول جبهته آثار جرح، وعلى شفتيه ابتسامة لكن عينيه تدوران في محجريهما مثل عيني رجل على وشك أن يضرب. ومن خلفه كان يجلس رجل آخر طويل وشديد النحافة يرتدي ملابس بيضاء وله لحية صغيرة خفيفة وشارب جعله يشبه النساك الهنود. ومعا بدأ الرجلان يصافحانا بحماس، ويتحدثان إلي بلغة إنجليزية غير صحيحة. «أنا ابن أخيك!» هذا ما قاله الرجل الأبيض الشعر وهو يشير إلى نفسه.
ضحك القصير وقال: «شعره أبيض ويدعوك عماه! هه! أتحب لغته الإنجليزية؟ تفضل.»
قادانا إلى منضدة خشبية عليها زجاجة لا تحمل علامة اسم مليئة بسائل شفاف وثلاثة أكواب. رفع الأبيض الشعر الزجاجة وسكب بحرص مقدار كأسين تقريبا في كل كوب. وقال بيلي وهو يرفع كوبه: «هذا أفضل من الويسكي يا باري.» وتابع: «إنه يجعل الرجل فحلا.» وألقى بالشراب في حلقه وتبعته في ذلك أنا وروي. ثم شعرت بصدري ينفجر ويمطر الشظايا في معدتي. أعادوا ملء الأكواب لكن سيدا أخذ واحدا؛ لذا رفع الرجل القصير الكوب الآخر أمام عيني ورأيت وجهه مشوها عبر الكوب.
قال: «أتريد المزيد؟»
قلت وأنا أكتم السعال: «ليس الآن!» وتابعت: «شكرا لك.»
قال الأبيض الشعر: «ربما تكون أحضرت لي شيئا؟» وتابع: «ربما قميصا؟ أو حذاء؟» «أنا آسف ... تركت كل شيء في أليجو.»
ظل الرجل القصير يبتسم كما لو أنه لم يفهم، وعرض علي الشراب مرة أخرى. هذه المرة دفع بيلي يد الرجل بعيدا.
وصاح: «اتركه!» وتابع: «يمكننا أن نشرب المزيد فيما بعد. يجب أولا أن نرى جدنا.»
قادنا الرجلان إلى غرفة خلفية صغيرة. وهناك أمام مصباح يعمل بالكيروسين جلس بلا حراك أكبر رجل سنا رأيته في حياتي. شعره أبيض كالثلج، وبشرته مثل الورق المصنوع من جلد الماعز. كان بلا حراك وعيناه مغلقتان وذراعاه النحيفتان تتكآن على ذراعي مقعده. ظننت أنه نائم، لكن عندما تقدم بيلي استدار رأس الرجل العجوز باتجاهنا، ورأيت صورة مطابقة للوجه الذي رأيته أمس في أليجو في الصورة الباهتة على حائط منزل الجدة.
شرح له بيلي من الحضور، فأومأ الرجل وبدأ يتحدث في صوت منخفض مرتجف بدا أنه يأتي من غرفة تحت الأرض.
وترجم روي: «يقول إنه سعيد أنك أتيت.» وتابع: «إنه أخو جدك. ويتمنى أن تكون بخير.»
قلت إنني سعيد برؤيته، فأومأ الرجل العجوز مرة أخرى. «يقول إن الكثير من الشباب قد ضاعوا في ... بلاد الرجل الأبيض. ويقول إن ابنه في أمريكا ولم يعد إلى الوطن منذ سنوات طويلة. ويقول إن هؤلاء الرجال مثل الأشباح. عندما يموتون لن يحزن عليهم أحد. ولن يوجد أجداد ليرحبوا بهم. ولهذا ... يقول إنه من الأفضل أنك عدت.»
رفع الرجل العجوز يده فصافحته برفق. وعندما نهضنا لنغادر قال الرجل العجوز شيئا آخر، فأومأ روي برأسه قبل أن يغلق الباب خلفنا.
قال روي: «يقول لك إذا سمعت أخبارا عن ابنه يجب أن تخبره أن يعود إلى وطنه.»
ربما يكون هذا من تأثير الكحول القوي أو حقيقة أن الناس حولي كانوا يتحدثون بلغة لم أكن أفهمها. ولكن عندما أحاول أن أتذكر باقي تلك الأمسية، يكون الأمر كما لو أني أسير في حلم. والقمر منخفض في السماء، وصور روي والآخرين تندمج مع ظلال الذرة. ودخلنا منزلا صغيرا آخر ووجدنا المزيد من الرجال، ربما ستة أو 10 رجال، فقد كان العدد يتغير باستمرار بمرور الوقت. وفي منتصف منضدة خشبية خشنة ثلاث زجاجات إضافية، وبدأ الرجال يسكبون الكحول القوي في الأكواب بأسلوب رسمي في البداية، ثم أسرع بإهمال أكثر، وتنتقل الزجاجات الباهتة التي لا تحمل اسما من يد ليد. وتوقفت عن احتساء الكحول بعد كوبين لكن أحدا لم يلاحظ ذلك. الوجوه العجوز والشابة جميعها تتوهج مثل نبات القرع المضيء في ضوء المصباح المتغير وهم يضحكون ويصيحون، ويسقطون في أركان مظلمة، أو يشيرون بعصبية من أجل الحصول على سجائر أو مشروب آخر، والغضب أو السعادة يصلان إلى ذروتهما، ثم يختفيان بالسرعة نفسها، والكلمات بلغة لوو أو السواحيلية أو الإنجليزية تتطاير معا في دوامات لا يمكن تمييزها، وأصوات تداهن من أجل الحصول على نقود أو قمصان أو زجاجة الخمر، وأصوات تضحك وتبكي، والأيادي الممتدة، والأصوات الغاضبة المرتجفة لشبابي الفاتر، لهارلم والجزء الجنوبي؛ وأصوات أبي.
لست واثقا كم من الوقت مكثنا. لكني أعلم أنه عند نقطة معينة جاء سيد وهز ذراعي.
وقال: «باري، إننا ذاهبون.» وتابع: «برنارد لا يشعر أنه بخير.»
فأخبرته أنني سأذهب معهما، لكن عندما نهضت انحنى آبو باتجاهي وأمسك بكتفي.
وقال: «باري! إلى أين أنت ذاهب؟» «لأنام يا آبو.» «يجب أن تبقى معنا هنا! معي! ومع روي!»
نظرت لأجد روي نائما على الأريكة. وتقابلت عينانا، فأومأت باتجاه الباب. وفي تلك اللحظة غرقت الغرفة في الصمت، كما لو أني أشاهد مشهدا في التليفزيون واختفى الصوت. ورأيت الأبيض الشعر يملأ كوب روي، ففكرت في جذب روي وإخراجه من الغرفة. لكن انزلقت عينا روي مبتعدة عن عيني، وضحك واجترع الشراب بالكامل بتهليل وابتهاج، تهليل كنت لا أزال أسمعه حتى بعد أن غادرت أنا وسيد وبرنارد وبدأنا نشق طريقنا إلى منزل سالينا.
قال برنارد بوهن ونحن نسير عبر الحقل: «هؤلاء الناس ثملون للغاية.»
أومأ سيد والتفت إلي. وقال: «أخشى أن روي يشبه كثيرا أخي الأكبر. أتعرف كان أبوك محبوبا للغاية في هذه المناطق. كما كان معروفا في أليجو. وكان كلما عاد إلى الوطن اشترى للجميع الشراب وظل بالخارج حتى وقت متأخر. والناس هنا قدروا هذا. وكانوا يقولون له: «أنت رجل عظيم الشأن، لكنك لم تنسنا.» وأظن أن تلك الكلمات كانت تسعده. أتذكر ذات مرة أنه اصطحبني معه إلى مدينة كيزيمو في سيارته المرسيدس. وفي الطريق شاهدنا ماتاتو يقل ركابا، فقال لي: «سيد، سنكون سائقي ماتاتو هذا المساء!» وفي محطة الماتاتو التالية التقط الركاب المتبقين، وأخبرني أن أجمع الأجرة المعتادة منهم. وأظن أننا كدسنا ثمانية أشخاص في سيارته. وقد اصطحبهم ليس إلى كيزيمو فقط، بل إلى منازلهم أو أينما أرادوا الذهاب. وكلما خرج أحدهم من السيارة أعاد إليه نقوده كاملة. لم يفهم الناس لماذا فعل هذا، وأنا أيضا لم أفهم في ذلك الوقت. وبعد أن انتهينا ذهبنا إلى الحانة، وأخبر جميع أصدقائه بما فعلناه. وقد ضحك كثيرا تلك الليلة.»
توقف سيد وهو يختار كلماته بحرص.
ثم استأنف: «هذا ما كان يجعل أخي رجلا جيدا، مثل هذه الأشياء. لكني أظن أيضا أنه بمجرد أن يصبح المرء شيئا لا يمكنه التظاهر أنه شيء آخر. كيف يمكنه أن يكون سائق ماتاتو أو يظل خارج المنزل طوال الليل يحتسي الخمر، وهو يضع الخطة الاقتصادية لكينيا؟ فالمرء يخدم شعبه بالقيام بما يناسبه هو، أليس كذلك؟ وليس بفعل ما يظن الآخرون أنه يجب أن يفعله. ولكن أظن أن أخي، مع أنه كان يفخر باستقلال شخصيته، كان يخشى بعض الأشياء. يخشى ما قد يقوله الناس عنه إذا ما غادر الحانة في وقت مبكر. يخشى أنه ربما لم يعد ينتمي إلى أولئك الذين نشأ معهم.»
فقال برنارد: «لا أريد أن أكون بهذا الشكل.»
نظر سيد إلى ابن أخيه ببعض الندم. وقال: «أنا لم أقصد الحديث بهذه الحرية يا برنارد. لا بد أن تحترم من هم أكبر منك سنا. إنهم هم من مهدوا الطريق أمامك حتى تكون حياتك أسهل. لكن إذا ما رأيتهم يقعون في شرك ما فما الذي يجب أن تتعلمه؟»
فقال برنارد: «أتجنب الوقوع في ذلك الشرك.» «إنك على حق. ابتعد عن ذلك الطريق، واصنع طريقك الخاص.»
وضع سيد ذراعه حول كتفي الشاب الصغير. وعندما اقتربنا من منزل سالينا نظرت خلفي. ولا أزال أرى الضوء الخافت لمنزل الرجل العجوز، وأشعر بعينيه الكفيفتين تخترقان الظلام.
الفصل التاسع عشر
استيقظ روي وآبو مصابين بصداع شديد وظلا يوما آخر مع كيزيا في مدينة كندو. وقررت أن أقوم برحلة العودة إلى هوم سكويرد - وأنا في حالة صحية أفضل منهما شيئا ما - بصحبة سيد وبيرنارد بالحافلة، لكنه كان قرارا، سرعان ما ندمت عليه. اضطررنا إلى الوقوف في الحافلة طوال الطريق، بالإضافة إلى أننا اضطررنا أيضا إلى أن نخفض رءوسنا لأن سقف الحافلة منخفض. والأسوأ من ذلك أنني نزلت من الحافلة وأنا أعاني الإسهال. وكانت معدتي تنقلب رأسا على عقب فجأة مع كل مطب في الطريق، وتؤلمني رأسي ألما عنيفا مع كل انعطافة هوجاء. ولذا فإنني، عندما رأتني الجدة وأوما وقت وصولنا ، مشيت سريعا بحذر ولوحت إليهما بشكل مقتضب قبل أن أنطلق بأقصى سرعة عبر الفناء الخلفي للمنزل، مرورا ببقرة شاردة، إلى المرحاض الخارجي.
وبعد 20 دقيقة عدت، أخذت أفتح عيني وأغمضهما لا إراديا كسجين يخرج من زنزانته ويقابله ضوء الشمس القوي. كانت السيدات جالسات فوق حصير من القش يستظللن بظل شجرة مانجو؛ الجدة تضفر شعر أوما، وتضفر زيتوني شعر ابنة الجيران.
قالت أوما محاولة ألا تبتسم: «هل قضيت وقتا طيبا؟»
قلت لها: «رائع.» وجلست بجانبهن وشاهدت ما يفعلن إلى أن خرجت سيدة عجوز نحيفة من المنزل وجلست بجانب الجدة. كانت سيدة في بداية السبعينيات من عمرها، لكنها ترتدي سترة قرنفلية اللون مبهجة، وثنت ساقيها إلى جانبها كأنها تلميذة خجولة. دققت هذه السيدة النظر إلي وتحدثت مع أوما بلغة قبيلة لوو. «إنها تقول إنك لا تبدو في حالة صحية طيبة.»
ابتسمت لي السيدة العجوز وبات من الواضح فقدانها سنتين سفليتين من صف أسنانها الأمامي.
استطردت أوما قائلة: «هذه أخت جدنا، واسمها دورسيلا.» وأضافت: «إنها أصغر أولاد جدنا الأكبر أوباما. إنها تعيش في قرية أخرى لكنها عندما سمعت ... أوه! إنك لمحظوظ يا باراك لعدم تضفير شعرك واضطرارك إلى حله. ماذا كنت أقول؟ نعم تذكرت ... تقول دورسيلا إنها عندما سمعت أننا حضرنا قطعت كل هذه المسافة لترانا. وهي تحمل تحية كل أهل قريتها لنا.»
صافحت دورسيلا وذكرت لها أنني قابلت أخاها الأكبر في كندو باي. فأومأت برأسها وتحدثت مرة أخرى.
ترجمت لي أوما ما قالته وأخبرتني: «إنها تقول إن أخاها عجوز جدا.» وتابعت: «وإنه عندما كان أصغر سنا كان يشبه جدنا. وإنها في بعض الأحيان لم يكن باستطاعتها حتى التمييز بينهما.»
أومأت لها وأخرجت قداحتي. وبمجرد أن خرج اللهب منها صاحت الجدة عمة أبينا وتحدثت سريعا مع أوما. «إنها تريد أن تعرف من أين ينبعث اللهب.»
أعطيت القداحة لدورسيلا وأوضحت لها كيفية عملها وهي لا تزال تتحدث. وشرحت لي أوما قائلة: «إنها تقول إن الأشياء تتغير سريعا وإن هذا يربكها كثيرا. وتقول إنها عندما رأت التليفزيون لأول مرة اعتقدت أن الناس الموجودين داخله بوسعهم رؤيتها كما تراهم. وجعلها هذا تعتقد أنهم غير مهذبين لأنها عندما تتحدث إليهم لا يردون عليها إطلاقا.»
ضحكت دورسيلا ضحكة خافتة بدعابة واتجهت زيتوني إلى كوخ إعداد الطعام. وبعد دقائق خرجت زيتوني بكوب في يدها. سألتها عن سيد وبيرنارد.
قالت وهي تعطيني الكوب: «إنهما نائمان.» وتابعت: «اشرب هذا.»
شممت المشروب الأخضر المتصاعد منه البخار. كانت تفوح منه رائحة عفنة. «ما هذا؟» «إنه مشروب مستخلص من نبات ينمو هنا. ثق بي ... سيمنع الإسهال في لمح البصر.»
ارتشفت رشفة في البداية بتردد. وكان مذاق المشروب سيئا مثل شكله، لكن زيتوني ظلت تراقبني إلى أن تجرعت آخر قطرة. وقالت: «إن هذا المشروب من وصفات جدك.» وتابعت: «لقد أخبرتك من قبل أنه كان يعالج الناس بالأعشاب.»
أخذت نفسا من سيجارتي واستدرت تجاه أوما. وقلت لها: «اطلبي من الجدة أن تخبرني مزيدا من الأشياء عنه.» وتابعت: «أقصد عن جدنا. إن روي يقول إنه نشأ بالفعل في كندو وبعدها انتقل إلى أليجو بمفرده.»
أومأت الجدة ردا على ترجمة أوما لمطلبي. وقلت لها: «هل تعرف لماذا غادر كندو؟»
هزت الجدة كتفيها. وقالت أوما: «إنها تقول إن أهله في الأصل ينتمون لهذا المكان.»
طلبت من الجدة أن تسرد القصة من بدايتها. كيف جاء جدنا الأكبر أوباما ليعيش في كندو؟ وماذا كان يعمل جدنا؟ ولماذا هجرته جدتي؟ وعندما بدأت تجيب عن أسئلتي شعرت بأن الرياح هدأت ثم خبت كلية بعد ذلك. وعندئذ عبرت مجموعة من السحب البعيدة فوق التلال. وأسفل الظل الظليل لشجرة المانجو - كانت الأيادي تضفر الشعور المتجعدة السوداء في صفوف متساوية - سمعت كل أصواتنا تنسجم معا؛ ثلاثة أجيال تتردد أصواتهم بانسيابية بعضهم مع بعض كتيارات نهر يجري ببطء، وكانت أسئلتي شبيهة بالصخور المعترضة لتيارات المياه، والأحداث التي تخللت الذكريات تفصل هذه التيارات بعضها عن بعض لكن الأصوات دائما تعود إلى مجراها الوحيد لتسرد قصة واحدة ...
في البدء كان ميويرو. ولا يعرف من كان قبله. أنجب ميويرو سيجوما، وأنجب سيجوما أويني، وأنجب أويني كيسودهي، وأنجب كيسودهي أوجيلو، وأنجب أوجيلو أوتوندي، وأنجب أوتوندي أوبونجو، وأنجب أوبونجو أوكوث، وأنجب أوكوث أوبيو. أما عن السيدات اللاتي أنجبن كل هؤلاء، فإن أسماءهن صارت في طي النسيان، وكان هذا معهودا في أهلنا.
عاش أوكوث في أليجو. لكن قبل ذلك كانت العائلات تقطع مسافات بعيدة من الجهة المعروفة الآن بأوغندا إلى أليجو، ومثلنا مثل قبيلة الماساي كنا نهاجر بحثا عن الماء والمراعي لرعي قطعان الماشية. استقر الناس في أليجو وبدءوا يزرعون المحاصيل. واستقر آخرون من قبيلة لوو بجانب البحيرة وتعلموا صيد السمك. وفي الحقيقة كانت هناك قبائل أخرى تتحدث بلغات البانتو تعيش بالفعل في أليجو عندما انتقلت قبيلة لوو إلى المكان، ومن ثم نشأت حروب هائلة بين القبائل. وكان جدنا الأكبر أويني مشهورا بأنه محارب عظيم وقائد لشعبه. لذا ساعد في هزيمة جيوش المجموعات العرقية المتحدثة بلغات البانتو إلا أنه سمح لهم باستمرار العيش في أليجو والزواج من قبيلة لوو، بالإضافة إلى أنهم علمونا أشياء كثيرة عن الزراعة وما يتعلق بالأرض الجديدة التي وطئتها أقدامنا.
بمجرد أن بدأ الناس يستقرون ويزرعون الأرض اكتظت أليجو بالسكان. ولم يكن أوبيو - ابن أوكوث - أكبر أبنائه، وربما يكون هذا هو سبب قراره الانتقال إلى مدينة كندو باي. وعندما انتقل إلى هناك لم يكن يملك أرضا، لكن في تقاليدنا كان بوسع أي شخص وضع يده على أية أراض غير مستخدمة؛ فالأراضي التي لم يكن يستخدمها أحد تعود ملكيتها إلى القبيلة؛ لذا لم تكن هناك أية مشكلة فيما فعله أوبيو. فعمل في مجمعات سكنية يملكها الغير ووضع يده على الأرض ليقيم عليها مزرعته. إلا أنه مات قبل أن تقبل عليه الدنيا، مات في ريعان شبابه تاركا زوجتين وعددا من الأطفال. تزوج أخو أوبيو إحدى زوجتيه طبقا للأعراف المتبعة عندئذ فأصبحت زوجة أخيه زوجته وأطفالها أطفاله. لكن الزوجة الأخرى ماتت أيضا وأصبح ابنها الأكبر - أوباما - يتيما وهو لا يزال صبيا. عاش أوباما أيضا مع عمه لكن الحالة المادية للعائلة كانت متعسرة لذا فعندما كبر أوباما بدأ يعمل عند الآخرين كما فعل أبوه من قبله.
كانت العائلة التي عمل لديها ثرية وتملك ماشية كثيرة . ومع ذلك فإنهم أعجبوا بأوباما لأنه كان مقداما ومزارعا ماهرا للغاية. وعندما تقدم إليهم للزواج من أكبر بناتهم وافقوا وقدم الأعمام في هذه العائلة المهر المطلوب. وعندما ماتت وافقوا على أن يتزوج أوباما الابنة الأصغر منها واسمها «نياوكي». فأصبح لأوباما في النهاية أربع زوجات أنجبن له أبناء كثيرين. امتلك أوباما قطعة من الأرض وأصبح ناجحا وثريا وأصبح يملك مجمعا سكنيا فسيحا والكثير من الماشية والمعز. وبفضل كياسته وتحمله المسئولية أصبح شيخا في القبيلة في مدينة كندو يطلب منه الكثيرون النصيحة.
أما جدك أونيانجو فإنه كان الخامس في ترتيب الأبناء الذين أنجبتهم نياوكي. وكانت دورسيلا التي تجلس معنا الآن أصغر أبناء آخر زوجات أوباما.
كان ذلك قبل أن يأتي البيض. وكان لكل عائلة المجمع السكني الخاص بها، لكن العائلات جميعها كانت تعيش طبقا لقوانين شيوخ القبائل. الرجال يملكون أكواخا خاصة بهم وهم جميعا مسئولون عن تنظيف أراضيهم وحرثها، بالإضافة إلى حماية الماشية من الحيوانات البرية وغارات القبائل الأخرى. أما الزوجات فلكل منهن الأرض الزراعية الخاصة بها التي تحرثها هي وبناتها فقط. تطهو الزوجة الطعام لزوجها وتحضر المياه من مصادرها وتحافظ على الأكواخ ونظافتها باستمرار. ويتحكم شيوخ القبائل في المزروعات والمحاصيل كلها. وينظمون العائلات في التناوب على عملهم فتساعد كل عائلة الأخرى في فعل هذه الأشياء، بالإضافة إلى أنهم يوزعون الأطعمة على الأرامل أو المبتلين في الأوقات العصيبة، ويوفرون الماشية لمن لا يملكها لتقديمها مهرا حتى يستطيعوا الزواج، وحل كل المشكلات. كانت كلمة هؤلاء الشيوخ قانونا يتبع بحزم، ومن يعص أوامرهم يغادر المكان ويبدأ من جديد في قرية أخرى.
لم يكن الأبناء يذهبون إلى المدرسة لكنهم كانوا يتعلمون بجانب آبائهم. وتصاحب الفتيات أمهاتهن ويتعلمن طحن الذرة البيضاء لعمل العصيدة، وزراعة الخضراوات، واستخدام الطين لبناء الأكواخ. أما عن الصبية فيتعلمون من آبائهم رعي الماشية واستخدام منجل البانجا والرمي بالرمح. وعندما تموت إحدى الأمهات تهتم أية أم أخرى بطفلها وترعاه وترضعه تماما كأحد أبنائها. وليلا تأكل الفتيات مع الأم ويتبع الأولاد الأب إلى كوخه ويستمعون إلى القصص المختلفة ويتعلمون تقاليد أهلهم. وفي بعض الأحيان يحضر عازف القيثار فيتجمع أهل القرية بأكملها للاستماع إلى أغانيه. كان ينشد إنجازات الماضي ويحكي عن المحاربين العظماء وشيوخ القبائل الحكماء. هذا بالإضافة إلى الإشادة بالمزارعين الماهرين أو السيدات الجميلات وتوبيخ الكسالى أو قساة القلوب. وتكشف هذه الأغاني عن إسهامات الجميع في القرية - الصالح منهم والطالح - وبهذه الطريقة ظلت تقاليد الأسلاف باقية في نفوس كل من سمعها. وعندما يرحل الأطفال والسيدات من هذه التجمعات يجلس الرجال في القرية معا لتقرير شئون القرية.
كان جدك أونيانجو غريب الأطوار منذ صباه. ويعرف عنه أنه لا يطيق البقاء في مكان واحد. فيهيم على وجهه وحيدا لأيام كثيرة، وعندما يعود لم يكن يذكر أين كان. وفي جميع الأحوال كان شخصا شديد الجدية فلا يضحك إطلاقا أو يلعب مع الأطفال الآخرين، ولم يمزح قط. لكنه في الواقع كان دائم الفضول محاولا معرفة أمور الآخرين، وهذا هو سبب تعلمه المداواة بالأعشاب. وفي هذا الصدد، ينبغي لك أن تعرف أن المداوي بالأعشاب يختلف عن «الشامان» الذي كان يطلق عليه البيض «الطبيب الساحر». فالشامان يلقي التعاويذ ويتحدث مع العالم الروحي. والمداوي بالأعشاب يعرف النباتات المتنوعة التي تشفي المرضى من أمراض معينة أو من الجروح، علاوة على كيفية صنع خليط معين يشفي الجروح. كان جدك في صباه يجلس في كوخ المداوي بالأعشاب في قريته يشاهده ويستمع إليه بحذر ويلعب مع الأطفال أقرانه، وبهذه الطريقة اكتسب المعرفة.
عندما كان جدك لا يزال صبيا بدأنا نسمع أن البيض حضروا إلى مدينة كيزيمو. وكان يقال إن هؤلاء البيض بشرتهم ناعمة كبشرة الأطفال، وإنهم حضروا على ظهر سفينة محدثة ضجة شديدة كالرعد بسرعة بالغة وبها أعمدة تعلوها النيران. وقبل أن يحدث ذلك لم يكن أي شخص في قريتنا رأى أيا من البيض ما عدا التجار العرب الذين كانوا بين الفينة والأخرى يأتون لبيع السكر والقماش. لكن حدوث هذا كان نادرا لأن أهلنا لم يستخدموا الكثير من السكر، ولم نكن نرتدي إلا جلود الماعز نستر بها عوراتنا. عندما سمع شيوخ القبائل هذه القصص تباحثوا معا في الأمر ونصحوا أهلها بأن يظلوا بعيدا عن كيزيمو إلى أن يعرف البيض وتفهم شخصياتهم.
على الرغم من هذا التحذير فإن أونيانجو كان فضوليا وقرر أنه لا بد أن يرى هؤلاء البيض بنفسه. فاختفى يوما ما ولم يعرف أحد إلى أين ذهب. بعد ذلك بأشهر كثيرة، بينما أبناء أوباما الآخرون يعملون في الأرض عاد أونيانجو إلى القرية وهو يرتدي قميصا وبنطلونا مثل البيض، وحذاء يغطي قدميه. فزع الأطفال لرؤيته ولم يستطع إخوته تفسير هذا التغيير. لذا استدعوا أوباما الذي خرج من كوخه، وتجمعت العائلة وحملق الجميع في مظهر أونيانجو الغريب.
سأله أوباما: «ماذا حدث لك؟» وتابع: «ولماذا ترتدي هذه الملابس الغريبة؟» لم ينبس أونيانجو ببنت شفة، فقرر أوباما أن أونيانجو ارتدى هذا البنطلون لإخفاء أنه أجريت له عملية ختان وهو الأمر الذي يتناقض مع تقاليد قبيلة لوو. وظن أن قميص أونيانجو يغطي إصابته بطفح جلدي أو التهابات. بعد ذلك استدار أوباما إلى أبنائه الآخرين وقال لهم: «لا تقتربوا من أخيكم، إنه نجس.» وعاد إلى كوخه وضحك الآخرون على أونيانجو وتجنبوه، وهذا هو سبب عودة أونيانجو إلى كيزيمو وبقائه منفصلا عن أبيه لبقية حياته.
لم يدرك أحد أن البيض عقدوا العزم على البقاء في المدينة. وظننا أنهم لم يجيئوا إلا من أجل تداول بضائعهم. وسرعان ما أعجب الناس ببعض عاداتهم، مثل احتساء الشاي. وقد اكتشفنا أننا عند احتسائه نحتاج بالطبع إلى السكر وغلايات الشاي والأكواب. وكنا نحصل على كل هذه الأشياء مقابل جلود الحيوانات واللحوم والخضراوات. بعد ذلك تعلمنا التعامل باستخدام عملات البيض. لكن مثل هذه الأشياء لم تكن تؤثر علينا تأثيرا كبيرا لأن البيض - مثلهم مثل العرب - ظل عددهم قليلا واعتقدنا أنهم في النهاية سيعودون إلى بلادهم. غير أن بعض البيض استقروا في كيزيمو، وجعلوا لأنفسهم رسالة آمنوا بها. وتحدثوا عن رب وصفوه بأنه قدير، وتجاهلوا معظم الناس واعتبروا كلامهم هراء، حتى عندما ظهر البيض وفي أيديهم البنادق، لم يقاوم أحد لأن حياتنا لم تكن قد تأثرت بعد بالموت باستخدام هذه الأسلحة. وظن كثير منا أن البنادق مجرد أداة تقليب رائعة للأوجالي.
بدأت الأحوال تتغير بأول حروب شنها البيض. واستجلب عدد أكبر من البنادق وقدم رجل أبيض أطلق على نفسه «حاكم المقاطعة» وأطلقنا نحن عليه «بوانا أوجالو» الذي يعني «الطاغية». فرض هذا الرجل ضريبة على الأكواخ لا بد من دفعها لتدخل المبالغ في حيازة البيض. وهذا هو ما أجبر رجالا كثيرين على العمل بالأجرة، إلى جانب أنه طبق نظام التجنيد الإلزامي غير المشروط على الكثير من رجالنا للانضمام إلى جيشه من أجل حمل المؤن وبناء طريق يسمح بمرور السيارات. وقد استطاع هذا الرجل أن يجعل أفراد قبيلة لوو الذين ارتدوا ملابس شبيهة بملابس البيض يلتفون حوله كنواب عنه وجامعي ضرائب. وعندئذ علمنا أنه أصبح لدينا زعماء، مع أن هؤلاء الرجال لم يكونوا منتمين إلى مجلس شيوخ القبيلة. لقد قاومنا كل هذه الأشياء وبدأ رجال كثيرون يحاربون البيض. لكن من يفعل ذلك يئول مصيره في النهاية إلى الضرب أو القتل. أما الذين لم يتمكنوا من دفع الضرائب فكان جزاؤهم حرق أكواخهم أمام أعينهم. فهربت بعض العائلات إلى مكان أبعد في الريف لبناء قرى جديدة. لكن معظم الناس ظلوا في كيزيمو وتعلموا كيفية التعايش مع هذا الوضع الجديد مع أننا أدركنا جميعا أنه كان من الغباء تجاهل قدوم البيض.
في غضون ذلك عمل جدك لدى أحد الرجال البيض. ولم يستطع التحدث بالإنجليزية أو السواحيلية إلا قليل لأن الرجال لم يفضلوا إرسال أبنائهم إلى مدارس البيض لتلقي التعليم وفضلوا بدلا من ذلك إبقاءهم معهم ليعملوا في الأرض. لكن أونيانجو تعلم القراءة والكتابة وفهم النظام الذي يتبعه البيض نظام السجلات الورقية وتسجيل ملكية الأراضي. وهذا هو ما جعله ذا قيمة للرجل الأبيض الذي عمل لديه، وخلال الحرب عين مسئولا عن فنيي إصلاح الطرق. وفي نهاية الأمر أرسل إلى تنجانيقا حيث ظل سنوات كثيرة. وعندما عاد امتلك أرضا في كندو لكنها كانت بعيدة عن المجمع السكني لوالده، وكان نادرا ما يتحدث مع إخوته. وفي الواقع لم يبن أونيانجو كوخا مناسبا لنفسه بل عاش في خيمة ولم يكن الناس قد رأوا شيئا كهذا من قبل، فاعتقدوا أنه مجنون. وبعد أن أعلن ملكيته للأرض سافر إلى نيروبي حيث بدأ العمل في منزل أحد البيض.
في غضون ذلك لم تستطع سوى قلة من الأفارقة ركوب القطار؛ لذا رحل أونيانجو إلى نيروبي مشيا على الأقدام طوال الطريق. واستغرقت هذه الرحلة أكثر من أسبوعين. وفيما بعد حكى لنا مغامراته فيها. فكثيرا ما طارد النمور باستخدام منجل البانجا. وفي ذات مرة هرب من جاموس غاضب يطارده وتسلق إحدى الأشجار واضطر إلى النوم فوقها يومين. وفي مرة أخرى وجد طبلة في أحد الممرات في الغابة وعندما فتحها خرج منها ثعبان مر من بين قدميه ومضى في طريقه بين الشجيرات. إلا أنه لم يصب بأذى، وفي نهاية المطاف وصل إلى نيروبي لبدء العمل في منزل رجل أبيض.
لم يكن أونيانجو الوحيد الذي رحل إلى المدينة. ذلك لأن أفارقة كثيرين بدءوا يعملون بالأجرة بعد الحرب خاصة هؤلاء الذين جندوا تجنيدا إلزاميا أو عاشوا بالقرب من المدن أو آمنوا برسالة البيض. أجبر أفراد كثيرون في أثناء الحرب وبعدها مباشرة على الرحيل لأنه تمخض عن الحرب بعد انتهائها المجاعات وانتشار الأمراض واستيطان أعداد كبيرة من البيض الذين سمح لهم بمصادرة أفضل الأراضي على الإطلاق.
لاحظ أفراد قبيلة كيكويو هذه التغيرات أكثر من غيرهم لأنهم يعيشون في الأراضي الجبلية حول نيروبي حيث استوطن البيض بكثافة عالية. لكن قبيلة لوو تأثرت أيضا بحكم البيض. وألزم الجميع بتسجيل أسمائهم في الإدارة الاستعمارية، وزادت الضرائب المفروضة على الأكواخ بمعدل ثابت. وهذا هو ما دفع عددا أكبر من الرجال إلى العمل مقابل الحصول على أجرة في مزارع البيض الكبيرة. وفي قريتنا أصبحت عائلات أكثر ترتدي ملابس البيض ووافق عدد أكبر من الآباء على إرسال أبنائهم إلى إحدى مدارس الإرساليات المسيحية. وبالطبع لم يستطع أحد فعل الأشياء التي كان البيض يفعلونها . حتى من التحقوا بالمدرسة عجزوا عن ذلك. واقتصر امتلاك أراض بعينها على البيض الذين احتكروا العمل في أنشطة تجارية خاصة. أما عن المشروعات الأخرى فعمل بها الهندوس والعرب طبقا لأحكام القانون.
حاول البعض الاعتراض على هذه السياسات وتقديم الالتماسات والقيام بالمظاهرات. لكن عددهم كان قليلا ومعظم الناس كافحوا من أجل البقاء على قيد الحياة. أما الأفارقة الذين لم يعملوا بالأجرة فقد ظلوا في قراهم محاولين الحفاظ على التقاليد والعادات القديمة. لكن ردود الفعل اختلفت في القرى أيضا. وأصبحت الأراضي مكتظة بالناس، وفي ظل النظم الجديدة لملكية الأراضي لم يعد هناك أية فرصة لامتلاك الأبناء الأراضي الخاصة بهم، لأن كل شيء في حيازة شخص آخر. هذا في حين قل احترام التقاليد ورأى الشباب أن الشيوخ لا يتمتعون بأية سلطة حقيقية. والجعة التي كانت تصنع من قبل باستخدام عسل النحل والتي كان الرجال يشربونها بكميات قليلة أصبحت تأتيهم الآن في زجاجات وأدمنها الكثيرون. كما بدأ الكثير منا يجرب حياة البيض وقررنا على إثر ذلك أن حياتنا عديمة القيمة مقارنة بحياتهم.
حقق جدك النجاح بهذه المعايير. وفي عمله في نيروبي تعلم من وظيفته كيفية إعداد طعام البيض وترتيب منازلهم. ولهذا السبب فضله أصحاب الأعمال فعمل في ممتلكات بعض أكثر البيض نفوذا لدرجة أنه عمل لدى لورد ديلامير. كان من أكبر ملاك الأراضي في كينيا. ادخر أونيانجو أجرته التي كان يتقاضاها من عمله واشترى بها أرضا وماشية في كندو. وعلى هذه الأرض بنى كوخا لنفسه في النهاية. لكن الأسلوب الذي حافظ به على كوخه اختلف عن أساليب الناس الآخرين. فكان نظيفا للغاية وأصر على أن ينظف الناس أقدامهم أو يخلعوا أحذيتهم قبل الدخول. وكان يأكل وجباته كافة جالسا على كرسي وطاولة بالشوكة والسكين أسفل ناموسية. ولا يلمس الطعام ما لم يغسل بإتقان ويغطى بمجرد طهوه. وكان يستحم باستمرار ويغسل ملابسه كل ليلة. وإلى أن أدركته المنية استمر على هذا النحو، نظيفا جدا ومهتما بالصحة، علاوة على أنه كان يغضب إذا ما وضع أحد أي شيء في غير مكانه أو نظف شيئا بغير إتقان.
علاوة على كل هذا، كان حازما جدا فيما يتعلق بممتلكاته. إذا طلبت منه شيئا لم يكن يبخل إطلاقا بإعطائك إياه - مثل طعامه وأمواله حتى ملابسه. لكن إن لمست شيئا يخصه دون الاستئذان يغضب غضبا عارما. حتى بعدئذ بعد أن ولد أبناؤه كان يخبرهم دائما بألا يقتربوا من ممتلكات الغير.
اعتقد أهل كندو أن عاداته غريبة. كانوا يزورونه لأنه كان كريما في تقديمه الطعام الذي لا ينقطع أبدا عن المنزل. كانوا فيما بينهم يستهزئون به لأنه لم يكن متزوجا ولم يكن لديه أطفال. وربما يكون أونيانجو قد سمع هذا الحديث لأنه سرعان ما أدرك أنه ينبغي أن يتزوج. لكن مشكلته تمثلت في عدم وجود امرأة باستطاعتها القيام بالواجبات المنزلية بالطريقة التي يتوقعها. ومع أنه دفع مهر فتيات كثيرات فإنه كان يضربهن بقسوة كلما رآهن كسالى أو كسرن طبقا. وكان من المعتاد أن يضرب الرجال في قبيلة لوو زوجاتهم إذا ما تصرفن بطريقة لا تليق، لكن أفراد القبيلة اعتبروا سلوك أونيانجو قاسيا، وفي النهاية فرت السيدات اللائي اتخذهن لنفسه إلى آبائهن. وبهذه الطريقة أضاع جدك ماشية كثيرة لأن كبرياءه منعه من المطالبة باستعادة المهر الذي دفعه.
في نهاية الأمر عثر أونيانجو على زوجة استطاعت العيش معه. كان اسمها «حليمة». لكن أحدا لا يعرف كيف كان شعورها تجاه جدك مع أنها كانت هادئة ومهذبة، والأهم من ذلك أنها استطاعت تحقيق المعايير العالية لإدارة المنزل التي وضعها جدك. بنى جدك لها كوخا في كندو حيث قضت معظم أوقاتها. وبين الفينة والأخرى يأتي بها إلى نيروبي لتظل في المنزل حيث يعمل. وبعد مرور سنوات اكتشف أن حليمة لا تستطيع الإنجاب. وهذا سبب كاف للطلاق فيما بين أفراد قبيلة لوو؛ يرسل الرجل زوجته العاقر إلى منزل أصهاره ويطالب باستعادة المهر. مع هذا فإن جدك فضل عدم الاستغناء عن حليمة وعاملها معاملة حسنة.
ومع ذلك شعرت حليمة بالوحدة لأن جدك يعمل طوال الوقت وليس لديه وقت للجلوس مع الأصدقاء أو الاستمتاع بحياته. ولا يحتسي الخمر مع الآخرين ولا يدخن. ومصدر سعادته الوحيد الذهاب إلى قاعات الرقص في نيروبي مرة شهريا لأنه يحب الرقص. ذلك مع أنه لم يكن راقصا ماهرا؛ وكان عنيفا ويصطدم بالآخرين ويدوس على أقدامهم. لكن أحدا لم يقل شيئا بسبب ذلك فهم يعرفون أونيانجو وحدة طباعه. وفي إحدى الليالي شكا رجل ثمل من أسلوب أونيانجو المفتقر إلى الذوق. وتحدث بأسلوب فظ وقال لجدك: «لقد كبرت في السن يا أونيانجو. ولديك ماشية كثيرة وزوجة وليس لديك أطفال. اصدقني القول: ألست رجلا؟»
سمع الناس هذه المحادثة وبدءوا يضحكون وضرب أونيانجو هذا الرجل ضربا مبرحا. لكن كلمات الرجل الثمل لا بد أنها أثرت في نفس جدك لأنه في الشهر نفسه شرع في البحث عن زوجة أخرى. فعاد إلى كندو وسأل عن كل السيدات في القرية. وفي النهاية عقد العزم على الزواج من شابة اسمها «آكومو» أعجب الجميع بها لجمالها. لكن أباها قدم وعدا بالزواج لرجل آخر أعطاه ستة رءوس من الماشية مهرا لها ووعد بأن يعطيه ستة أخرى فيما بعد. ولأن أونيانجو يعرف والد الفتاة فإنه أقنعه بأن يعيد المواشي الستة له وأعطاه 15 في الحال. وفي اليوم التالي أمسك أصدقاء جدك بآكومو وهي تدخل الغابة وأخذوها إلى كوخ أونيانجو.»
جاء الصبي جودفري بطست صغير وغسلنا أيدينا لتناول الغداء. ووقفت أوما لتفرد قامتها وكان نصف شعرها لم يحل بعد لكنني رأيت على وجهها نظرة انزعاج. قالت شيئا لدورسيلا والجدة ورد عليها الاثنتان ردا طويلا.
قالت لي أوما وهي تغرف اللحم بالملعقة في طبقها: «كنت أسألهما هل ضاجع جدنا زوجته آكومو بالعنف.» «ماذا قالتا؟» «إنهما تقولان إن هذا العنف كان من تقاليد قبيلة لوو. وطبقا لهذه التقاليد فإن السيدة بمجرد أن يدفع الرجل المهر لا بد ألا تظهر أنها تواقة جدا له. لذا فإنها تتظاهر بأنها لا تريده، من ثم فإن أصدقاء الرجل لا بد من أن يمسكوا بها ويعيدوها إلى كوخه. وبعد هذه المراسم فقط يتممون إجراءات الزواج الصحيحة .» أخذت أوما قضمة صغيرة من طعامها. وأضافت: «لقد قلت لهما إنه في هذه الحالة قد لا يكون ما تفعله بعض السيدات تظاهرا.»
غمست زيتوني الأوجالي في اليخني. وقالت: «ليس الأمر على هذه الدرجة من السوء يا أوما. ولا تهرب الفتاة إلا إذا أساء الزوج التصرف معها.» «ولكن كيف سيكون الحال إذا اختار الأب زوجا آخر لها؟ أخبريني ماذا يحدث إذا رفضت امرأة الزواج من رجل اختاره أبوها؟»
هزت زيتوني كتفيها. وقالت: «إنها تجلب العار لها ولعائلتها.»
استدارت أوما للجدة وقالت: «أترين؟» وأيا كان ما قالته الجدة ردا عليها، فإنه جعل أوما تضرب على ذراع الجدة على سبيل المزاح. «سألتها هل كان الرجل يجبر الفتاة على أن تضاجعه ليلة الإمساك بها وأخبرتني أنه لم يكن أحد يعرف ما يحدث في كوخ الرجل. لكنها سألتني كيف يمكن أن يعرف الرجل مدى رغبته في احتساء طبق الشوربة كله إذا لم يتذوق بعضا منه في البداية.»
سألت الجدة عن عمرها عندما تزوجت جدنا. وفي الواقع أسعدها هذا السؤال كثيرا حيث إنها كررته إلى دورسيلا التي قهقهت على إثره وضربت الجدة بمرح على ساقها.
قالت أوما: «لقد أخبرت دورسيلا أنك أردت معرفة متى عاشرها أونيانجو.»
غمزت لي الجدة بعينها ثم أخبرتنا أن عمرها كان 16 عاما عندما تزوجت وقالت إن جدنا كان صديقا لأبيها. بعدئذ سألتها هل ضايقها هذا الأمر لكنها هزت رأسها بالنفي. «إنها تقول كان من الشائع الزواج من رجل عجوز.» وتابعت: «تقول أيضا إن الزواج وقتئذ كان أمرا يخص أناسا بخلاف الزوجين. ذلك لأنه يجمع العائلات معا ويؤثر على القرية بأكملها. هذا بالإضافة إلى أن الزوجة لم تكن تشكو أو تفكر في الحب. وإن لم تتعلم المرأة أن تحب زوجها فإنها تتعلم طاعته.»
أخذت الجدة وأوما تتحدثان كثيرا بعد ذلك، وقالت الجدة شيئا أثار ضحكات الآخرين. أضحك الآخرين جميعا ما عدا أوما التي نهضت من مكانها وبدأت ترص الأطباق فوق بعضها.
وقالت بغضب: «استسلمت.» «ماذا قالت الجدة؟» «سألتها عن سبب تحمل السيدات هنا عناء الزواج المخطط له مسبقا. وكيف يصبرن على أخذ الرجال لكل القرارات. وتعرضهن للضرب. وهل تعرف ماذا قالت؟ قالت إنه في أحوال كثيرة تحتاج السيدات إلى الضرب لأنهن دون ذلك لن يفعلن كل ما هو مطلوب منهن. أترى ما يحدث لنا؟ إننا نشكو لكننا لا نزال نشجع الرجال على معاملتنا أسوأ معاملة. انظر إلى جودفري هناك. أتعتقد أنه لن يتأثر عندما يسمع هذه الأشياء من الجدة ودورسيلا؟»
لم تستطع الجدة فهم المعنى المقصود لكلمات أوما، لكن لا بد أنها لاحظت الأسلوب الذي تحدثت به لأن صوتها أصبح جادا على حين غرة.
وقالت بلغة لوو: «إن كثيرا مما تقولينه صحيح يا أوما.» وتابعت: «إن نساءنا حملن عبئا ثقيلا بالفعل. وكما يقال: على قدر أهل العزم تأتي العزائم. فالمرء لا يعلم سوى ما يعلمه. وربما لو كنت شابة الآن لم أكن لأقبل مثل هذه الأشياء. وربما لن أهتم إلا بمشاعري ووقوعي في الحب. لكن هذه الأمور مختلفة عن العالم الذي تربيت فيه. لم أعرف فيه سوى ما رأيته بعيني. وما لم أره لم يحزنني على الإطلاق.»
اتكأت للخلف على الحصير وفكرت فيما قالته الجدة. وظننت أنه انطوى على حكمة معينة؛ لقد تحدثت عن زمان ومكان مختلفين. كما أنني فهمت إحباط أوما وأدركت - وأنا أستمع إلى قصة شباب جدنا - أنني أيضا تعرضت للخيانة. كانت الصورة التي في مخيلتي عن أونيانجو - والتي لا تزال غامضة - أنه رجل استبدادي وربما قاس. لكنني تخيلته أيضا رجلا مستقلا متعاطفا مع أهله ومعارضا للبيض. لقد أدركت عندئذ أنه لا يوجد أساس فعلي لهذه الصورة؛ لم يكن لدي سوى الخطاب الذي أرسله إلى أبي يقول له فيه إنه لا يريد أن يتزوج ابنه من سيدة بيضاء. واعتنق الإسلام الذي ارتبط في ذهني بأمة الإسلام في الولايات. إن ما قالته الجدة شوش الصورة التي في مخيلتي تماما وأدى إلى التأكيد على بعض الصفات غير الحميدة عنه في ذهني. مثل خادم البيض. والمتواطئ. والإمعة.
حاولت شرح بعض هذه الأمور إلى الجدة وسألتها هل كان جدنا قد عبر عما يشعر به تجاه البيض. وحينئذ خرج سيد وبيرنارد من المنزل بأعين نعسانة ووجهتهما زيتوني إلى الأطباق التي خصصتها لهما. ولم تعد الجدة إلى سرد قصتها إلا بعد أن جلسا لتناول الطعام وعادت أوما وابنة الجيران إلى مكانهما أمام السيدتين لتكملة تصفيف شعرهما. «لم أستطع دائما فهم ما كان يفكر فيه جدك. وكان أمرا من الصعوبة بمكان لأنه لم يكن يحب أن يعرفه الناس عن قرب. حتى إن تكلم معك نظر إلى اتجاه آخر خوفا من أن تعرف فيم يفكر. وبالطبع انطبق الأمر نفسه على شعوره تجاه البيض. ففي أحد الأيام يقول شيئا وفي اليوم التالي يبدو وكأنه قال شيئا آخر. لكنني أعرف أنه كان يحترم البيض لسلطتهم وآلاتهم وأسلحتهم وطريقة تنظيم حياتهم. وكان يقول إن البيض دائما يطورون من أنفسهم لكن الأفارقة متشككون دائما من أي شيء جديد. وفي بعض الأحيان يقول: «إن الأفارقة أغبياء ولا بد من ضربهم حتى يفعلوا أي شيء.»
ومع ذلك فلا أظن أنه اعتقد أن البيض ولدوا أسمى وأرفع مقاما من الأفارقة. وفي الواقع، إنه لم يحترم الكثير من أساليب البيض أو عاداتهم. بل اعتقد أن كثيرا من الأشياء التي فعلوها حمقاء أو غير عادلة. لم يكن يسمح للرجل الأبيض أن يضربه. ولهذا ترك عمله كثيرا. فعندما يجد أن الرجل الأبيض الذي يعمل لديه بذيء يسبه ويلعنه، يترك العمل عنده ويبحث عن وظيفة أخرى. وفي إحدى المرات حاول أحد أصحاب الأعمال ضربه بالعصا لكن جدك انتزع منه العصا وضربه بها. وألقي القبض عليه لهذا السبب، لكنه عندما أوضح ما فعله أطلقت السلطات سراحه بغرامة وحذرته من أن يفعل فعلته هذه مرة أخرى.
إن ما كان جدك يحترمه هو القوة. كما كان يحترم النظام. وهذا سبب تمسكه الشديد بتقاليد قبيلة لوو مع أنه تعلم الكثير من سلوكيات البيض . هذا إلى جانب احترام شيوخ القبيلة. واحترام السلطة. واحترام النظام والأعراف في كل شئونه. وهذا أيضا هو سبب رفضه اعتناق الدين المسيحي على ما أعتقد. هذا مع أنه لوقت وجيز دان بالمسيحية وغير اسمه إلى جونسون. فإنه لم يستطع فهم أفكار مثل الرحمة بالأعداء أو أن المسيح باستطاعته محو خطايا الناس. وكان هذا لجدك عاطفة حمقاء وشيئا من شأنه تفريج الهم عن السيدات. لذا فإنه دان بالإسلام لأنه اعتقد أن تعاليمه متوافقة بصورة أكبر مع معتقداته.
في الواقع إن قسوة جدك هي التي سببت الكثير من المشكلات بينه وبين آكومو. وعندما عشت معه أنجبت آكومو له طفلين. أولهما سارة. وبعد ثلاث سنوات أنجبت أباك باراك. إنني لم أعرف آكومو معرفة وثيقة لأنها عاشت هي وطفلاها مع حليمة في المجمع السكني لجدك في كندو في حين بقيت أنا معه في نيروبي لمساعدته في عمله هناك. لكن كلما ذهبت مع جدك إلى كندو رأيت آكومو تعيسة. فروحها كانت متمردة ورأيها في أونيانجو أنه كثير المطالب. وهو أيضا يشكو منها دوما أنها لم تستطع الحفاظ على نظافة البيت وترتيبه. وهو حازم معها فيما يتعلق بتربية طفليها. يطلب منها أن تضعهما في السريرين الخاصين بهما وتلبسهما ثيابا رائعة أحضرها معه من نيروبي. وأيا كان الشيء الذي يلمسه الرضيعان لا بد أن يكون أنظف من أي وقت مضى. وفي الواقع حاولت حليمة مساعدة آكومو ورعاية الطفلين كما لو أنهما طفلاها، لكن هذا الأمر لم يكن ذا جدوى. كانت آكومو أكبر مني بسنوات قليلة والضغط عليها شديدا، وربما كانت أوما على حق ... ربما كانت لا تزال تحب الرجل الذي كان من المفترض أن تتزوجه قبل أن ينتزعها منه أونيانجو.
أيا كان السبب فإنها حاولت لأكثر من مرة هجر أونيانجو. مرة بعد ولادة سارة ومرة أخرى بعد ولادة باراك. وبرغم كبريائه فإن أونيانجو ذهب إليها يسألها العودة للحياة معه في المرتين لأنه كان يعتقد أن الطفلين في حاجة إلى أمهما. وفي كلتا المرتين ساندته عائلة آكومو، ومن ثم لم يكن أمامها أي خيار آخر إلا العودة إليه. وفي نهاية الأمر تعلمت فعل كل ما كان متوقعا منها. لكنها بينها وبين نفسها كانت تشعر دائما بالمرارة.
أصبحت الحياة أفضل لها عندما نشبت الحرب العالمية الثانية. كان جدك قد غادر البلاد ليعمل طاهيا للقبطان البريطاني، وانتقلت لأعيش مع آكومو وحليمة وأساعدهما في تربية الأبناء وزرع المحاصيل. لم نر أونيانجو لبعض الوقت. ذلك لأنه سافر إلى بلاد كثيرة مع أفواج الجنود البريطانية؛ إلى بورما وسيلان وجزيرة العرب وإلى أماكن ما في أوروبا. وبعد أن عاد بعد ثلاث سنوات أحضر معه فونوغراف وصورة امرأة زعم أنه تزوجها في بورما. تلك الصورة التي تراها معلقة على جدار المنزل التقطت له آنذاك.
عندئذ كان أونيانجو يبلغ من العمر 50 عاما تقريبا. وزاد بشدة تفكيره في ترك العمل لدى الرجل الأبيض والعودة إلى زراعة الأرض. لكنه رأى أن الأرض المحيطة بكندو مزدحمة وجرداء؛ لذا فكر في أليجو، الأرض التي تركها جده. وذات يوم جاء إلى زوجاته وأخبرنا أن علينا إعداد أنفسنا للرحيل إلى أليجو. وفي حقيقة الأمر كنت امرأة شابة ولدي القدرة على التكيف سريعا لكن حليمة وآكومو تلقتا هذا الخبر بصدمة. ذلك لأن عائلتيهما عاشتا في كندو ولأنهما اعتادتا العيش هناك، وخافت حليمة بصفة خاصة من شعورها بالوحدة في هذا المكان الجديد لأنها كانت في عمر أونيانجو ولم يكن لديها أبناء؛ لذا رفضت الذهاب معنا. أما آكومو فإنها رفضت الرحيل في البداية لكن عائلتها أقنعتها مرة أخرى بأنها لا بد من أن تتبع زوجها وتعتني بأطفالها.
عندما وصلنا إلى أليجو كانت معظم الأراضي الزراعية التي تراها الآن بورا والمعيشة صعبة علينا جميعا. لكن جدك درس أساليب الزراعة الحديثة عندما كان في نيروبي، ومن ثم طبق أفكاره على هذه الأرض. فكان باستطاعته زراعة أي محصول، وفي أقل من عام زرع ما يكفي من المحاصيل لبيعها في السوق. ومهد الأرض وحولها إلى هذه الحديقة الواسعة ونظف الحقول حيث نمت المحاصيل وأصبحت وافرة الثمار. وزرع أشجار المانجو والموز والباوباو التي تراها الآن من حولك.
علاوة على كل ذلك، فإنه باع معظم ماشيته لأنه قال إن رعيها جعل تربة الأرض فقيرة وتسبب في تدميرها. وبالأموال التي باع بها الماشية بنى أكواخا كبيرة لآكومو ولي ولنفسه. وكان قد أحضر معه من إنجلترا جهاز راديو لاسلكيا وضعه على أحد الأرفف وكان يشغل نوعا غريبا من الموسيقى على الفونوغراف الخاص به في ساعة متأخرة من الليل. وعندما أنجبت طفلي الأولين عمر وزيتوني، اشترى لهما سريرين وملابس وناموسيتين، تماما مثلما فعل مع باراك وسارة. وفي كوخ إعداد الطعام بنى فرنا يخبز فيه الخبز والكعك وكان مذاقهما مثل الذي يباع في المتاجر.
لم ير جيرانه في أليجو مثل هذه الأشياء قط. وفي بادئ الأمر ارتابوا فيه، واعتقدوا أنه أحمق خاصة عندما باع ماشيته. لكنهم سرعان ما أصبحوا يحترمون كرمه وما علمهم إياه عن الزراعة والأعشاب الطبية. بالإضافة إلى أنهم تفهموا طباعه لأنهم اكتشفوا أن باستطاعته حمايتهم من السحر. وفي هذه الأيام كان الناس يلجئون إلى الشامانات في أحوال كثيرة، بل يخافونهم خوفا عظيما. وكان يقال إن باستطاعتهم إعطاءك مشروبا إذا أعطيته لأية امرأة ترغبها وشربت منه فإنها ستقع في هواك، ومشروبات أخرى تميت أعداءك. لكن لأن جدك سافر إلى أماكن كثيرة وقرأ الكتب لم يؤمن بصحة هذه الأشياء. واعتقد أنهم محتالون يسرقون أموال الناس.
حتى الآن في الوقت الراهن، يمكن أن يخبرك الكثيرون في أليجو عن اليوم الذي جاء فيه أحد الشامانات من مقاطعة أخرى لقتل أحد جيراننا الذي تودد لإحدى الفتيات في الجوار واتفقت العائلتان على أن يزوجوهما. لكن رغب آخر في الزواج منها؛ لذا ففي غمرة شعوره بالغيرة دفع مالا لشامان لقتل غريمه. عندما سمع جارنا هذه الخطة خاف خوفا عظيما وجاء إلى أونيانجو طالبا منه النصيحة. فاستمع جدك إلى قصة الرجل ثم أخذ منجل البانجا الخاص به وسوطه المصنوع من جلد فرس النهر، وخرج لانتظار الشامان في عرض الطريق.
بعد قليل رأى أونيانجو الشامان يقترب حاملا في يده حقيبة صغيرة مليئة بالمشروبات السحرية. وعندما أصبحت المسافة بينهما قصيرة وقف جدك في وسط الطريق وقال: «عد إلى حيث جئت.» لم يعرف الشامان من كان أونيانجو وتظاهر بأنه يتقدم بخطواته، لكن أونيانجو اعترض طريقه وقال: «إذا كنت قويا كما تزعم فلا بد أن تصعقني بالبرق الآن. وإذا لم تكن كذلك فالأفضل لك أن تفر من هنا؛ لأنك إن لم تترك هذه القرية الآن سأضطر إلى ضربك.» الشامان تصرف كما لو كان سيمر عبر الطريق، لكن قبل أن يمشي خطوة أخرى ضربه أونيانجو وطرحه أرضا وأخذ حقيبته وعاد بها إلى المجمع السكني الذي يقطنه.
حسنا، كان هذا أمرا غاية في الخطورة خاصة عندما رفض جدك إرجاع المشروبات السحرية الخاصة بالشامان. وفي اليوم التالي اجتمع مجلس الشيوخ تحت ظل شجرة لحل النزاع، وكانوا قد أخبروا كلا من أونيانجو والشامان بأن يحضرا ويوضحا حقائق وملابسات الموقف. وفي البداية وقف الشامان وأخبر الشيوخ أنه إن لم يعد أونيانجو الحقيبة فورا فإن اللعنة ستحل على القرية بأكملها. وبعدها وقف أونيانجو وكرر ما قاله من قبل. قال: «إن كان لهذا الرجل سحر قوي دعوه يحل علي اللعنة الآن فأخر صريعا.» ابتعد الشيوخ عن أونيانجو خوفا من أن تخطئ الأرواح الهدف. لكنهم سرعان ما أدركوا أنه لم يحدث شيء؛ لذا عاد أونيانجو إلى الرجل الذي استأجر الشامان وقال له: «فلتذهب لتبحث عن امرأة جديدة واترك هذه السيدة تتزوج الرجل الذي اتفق على الزواج بها.» وقال أونيانجو للشامان: «اذهب إلى حيث جئت، لن يقتل أحد في هذا المكان.»
وافق شيوخ القبيلة على كل ما قيل. لكنهم أصروا على ضرورة أن يعيد أونيانجو حقيبة الشامان لأنهم لم يريدوا المخاطرة. ووافق أونيانجو أيضا، ووقت انفضاض الاجتماع دعا الشامان إلى كوخه. وطلب مني ذبح دجاجة ليأكل الشامان، وأعطاه أموالا حتى لا تكون رحلته إلى أليجو بلا فائدة. لكن قبل أن يسمح جدك برحيل الشامان جعل الرجل يريه محتويات حقيبته ويشرح خصائص كل مشروب حتى يعرف كل الخدع التي ينفذها الشامان.
حتى إن استخدم أونيانجو أحد هذه المشروبات مع آكومو فلا أظن أنه كان بإمكانه إسعادها. وبصرف النظر عن كثرة ضربه لها فقد كانت تجادله بغضب. وكانت متكبرة وتحتقرني، وفي أحيان كثيرة ترفض تقديم المساعدة في الأعمال المنزلية اليومية. أنجبت طفلة ثالثة - اسمها أوما مثل أوما الجالسة معنا الآن - وبينما كانت ترضع هذه الطفلة الجديدة خططت سرا للهروب. وفي إحدى الليالي وسارة في الثانية عشرة من عمرها وباراك في التاسعة، نفذت خطتها. فأيقظت سارة وقالت إنها ستهرب إلى كندو. وأخبرتها بأنها رحلة شاقة للغاية على الأطفال لأن يقوموا بها ليلا لكنها قالت لها إنهما - هي وأخوها - ينبغي لهما اتباعها سريعا عندما يكبران. ثم اختفت بابنتها الرضيعة في الظلام.
عندما اكتشف أونيانجو ما حدث استشاط غضبا. وفي البداية فكر في أن يترك آكومو وشأنها، لكن عندما رأى أن باراك وسارة لا يزالان صغيرين وأنني شابة - ولدي طفلان - ذهب مرة أخرى إلى عائلة آكومو في كندو، وطلب من أهلها عودتها. لكن العائلة رفضت هذه المرة. وفي الواقع، كانوا قد قبلوا بالفعل مهر زواج آكومو من رجل آخر وكانت آكومو وزوجها الجديد قد رحلا بالفعل للعيش في تانجانيكا. لم يكن هناك شيء يستطيع أونيانجو فعله؛ لذا عاد إلى أليجو. وقال لنفسه: «إن الأمر لا يهم»، وأخبرني بأنني الآن أم أولاده كافة.
لم نكن نعرف - أنا وهو - زيارة آكومو الأخيرة لسارة. لكن سارة تذكرت تعليمات والدتها ومرت أسابيع قبل أن توقظ باراك في منتصف الليل تماما كما فعلت معها أمها. وطلبت منه أن يصمت، وساعدته في ارتداء ملابسه، وبدآ معا رحلتهما إلى كندو مشيا على الأقدام. ولا أزال مندهشة إلى الآن من أنهما بقيا على قيد الحياة. غابا عنا أسبوعين تقريبا مشيا خلالهما أميالا كثيرة يوميا؛ يختبئان من المارين بجوارهما في الطريق، وينامان في الحقول ويستجديان الطعام. لكنهما تاها بالقرب من كندو، وفي آخر المطاف رأتهما سيدة وأشفقت عليهما؛ فقد كانا متضورين جوعا وقميئي الهيئة؛ لذا استضافتهما في منزلها وأطعمتهما وسألتهما عن اسميهما، وعندما عرفت ماهيتهما أرسلت طلبا لجدك. وعندما ذهب لإحضارهما ورأى حالتهما المتدهورة بكى وكانت تلك هي المرة الوحيدة التي رآه أحد وهو يبكي.
لم يحاول الطفلان الهرب إطلاقا مرة أخرى. لكنني لا أعتقد أنهما نسيا هذه الرحلة. وبعدئذ تعاملت سارة مع أونيانجو بتحفظ شديد وظل قلبها معلقا بآكومو لأنها كانت أكبر من أخيها، وربما رأت كيف عامل أمها. وأظن أيضا أنها كانت مستاءة مني لأخذي مكان والدتها. أما باراك فكان له رد فعل مختلف. فلم يستطع أن يسامح أمه على التخلي عنه، وكان يتصرف وكأن آكومو لم تكن موجودة. بل أخبر الجميع أنني والدته، ومع أنه كان يرسل أموالا إلى آكومو عندما كبر وأصبح رجلا فإنه حتى نهاية حياته تعامل معها بفتور دائما.
الشيء الغريب أن سارة كانت تشبه أبيها إلى حد بعيد من حيث الشخصية. الحزم والمثابرة وسهولة الشعور بالغضب. وكان باراك طائشا وعنيدا مثل آكومو. لكن دون شك لا يرى الشخص عيوبه.
وبالطبع كان أونيانجو شديد الحزم مع أطفاله تماما كما قد تتوقع. جعلهم يعملون بجد واجتهاد، ولم يسمح لهم باللعب خارج المجمع السكني؛ لأنه قال إن الأطفال الآخرين وقحون وسيئو التربية. وكلما ابتعد أونيانجو عن المجمع تجاهلت هذه التعليمات لأن الأطفال لا بد أن يلعبوا مع أقرانهم تماما كما لا بد من تناول الطعام والنوم. لكنني لم أخبر جدك قط بما فعلته، وكنت أضطر إلى تنظيف الأطفال قبل أن يحضر جدك إلى المنزل.
لم يكن هذا الأمر سهلا خاصة مع باراك. ذلك لأنه كثير الشغب! في وجود أونيانجو يبدو حسن التربية ومطيعا، ولا يرد بوقاحة عندما يطلب منه والده أن يفعل شيئا. لكن من وراء ظهره يفعل كل ما يحلو له. وعندما يكون أونيانجو في الخارج في العمل يخلع باراك ملابسه الأنيقة وينصرف إلى الأولاد الآخرين لمشاجرتهم أو السباحة في النهر أو لسرقة الفاكهة من أشجار الجيران أو ركوب أبقارهم. كان الجيران يخافون من الذهاب مباشرة إلى أونيانجو فيأتون إلي ويشكون من كل هذه الأشياء. لكنني لم أكن أغضب من باراك، بل دوما أخفي تصرفاته الحمقاء عن أونيانجو؛ لأنني أحببته كما لو أنه ابني.
أعجب جدك أيضا كثيرا بباراك - مع أنه لم يحب إظهار ذلك - لأنه كان ولدا ماهرا جدا. وفي صغره علمه أونيانجو حروف الهجاء والأرقام، ولم يستغرق الأمر وقتا طويلا إلى أن تفوق الابن على أبيه في هذه الأشياء. وفي الواقع أسعد هذا الشيء قلب أونيانجو؛ لأن المعرفة كانت مصدر سلطة البيض من وجهة نظره؛ لذا فإنه أراد التأكد من أن ابنه متعلم كأي رجل أبيض. كان أقل اهتماما بتعليم سارة مع أنها سريعة التعلم مثل باراك. معظم الرجال كانوا يعتقدون أن تعليم بناتهم مضيعة للأموال. وعندما أنهت سارة تعليمها في المدرسة الابتدائية جاءت إلى أونيانجو مستجدية منه مصاريف المدرسة للالتحاق بالمدرسة الثانوية. لكنه قال لها: «ما الذي يدفعني إلى إنفاق أموال على مصاريف التحاقك بالمدرسة وأنت ستتزوجين وتعيشين في منزل رجل آخر؟ الأفضل أن تساعدي أمك وتتعلمي كيف تصبحين زوجة مثالية.»
خلق هذا خلافا أكبر بين سارة وأخيها الأصغر خاصة لأنها علمت أن باراك لم يكن جادا دائما في دراسته. وكل شيء أراده حصل عليه بسهولة بالغة. في البداية التحق بإحدى مدارس الإرساليات المجاورة، لكنه عاد بعد يومه الأول فيها وأخبر والده أنه لم يستطع الدراسة هناك لأن من يدرس له في الفصل امرأة، وأنه يعلم كل شيء تعلمه إياه. لقد تعلم باراك هذا الاتجاه الفكري من والده؛ لذا فإن أونيانجو لم يستطع قول أي شيء. وكانت أقرب مدرسة تبعد بمسافة ستة أميال؛ ولذا فإنني كنت أصطحبه إليها كل صباح. وكان المدرس فيها رجلا، لكن باراك اكتشف أن هذا لم يحل المشكلات التي كان يعانيها. فهو دوما يعرف الإجابات، وفي بعض الأحيان يصحح أخطاء المدرس أمام الفصل بأكمله. وكان المدرس يوبخ باراك على غطرسته، لكن باراك كان يرفض التوقف عما يفعله. وتسبب هذا في تعرض باراك كثيرا للضرب بالعصا على يد مدير المدرسة. لكنه تعلم درسا منه لأنه في العام التالي عندما انتقل إلى فصل آخر به مدرسة لاحظت أنه لم يشك.
مع ذلك كان لا يزال يشعر بالملل من المدرسة، وعندما أصبح أكبر سنا كان يتوقف عن الذهاب إليها لمدة أسابيع في كل مرة. وقبل الامتحانات بأيام قليلة يبحث عن زميل له في الفصل ويبدأ في استذكار دروسه. وفي خلال بضعة أيام يستطيع تعليم نفسه كل شيء. وعندما تظهر النتيجة يكون الأول دائما على أقرانه. وفي المرات القليلة التي لم يكن الأول فيها كان يعود إلي والدموع قد ملأت عينيه لأنه اعتاد أن يكون الأفضل دائما، لكن هذا لم يحدث سوى مرة واحدة أو مرتين؛ كان عادة ما يعود إلى المنزل ضاحكا مفتخرا بمهارته.
لم يفتخر باراك بنجاحه بصورة يمكن أن تجرح شعور الآخرين؛ فإنه كان دائما دمث الأخلاق في تعامله مع زملائه، ويساعدهم عندما يطلبون المساعدة. كما أن افتخاره بنجاحاته شبيه بافتخار طفل اكتشف أن بإمكانه الجري سريعا أو الصيد بمهارة. لذا فإنه لم يدرك أن الآخرين ربما يستاءون من تلقائيته. حتى إنه عندما أصبح رجلا لم يفهم هذه الأشياء. وعندما يرى زملاءه في المدرسة - الذين أصبحوا رجال دين أو رجال أعمال - في إحدى الحانات أو المطاعم يقول لهم أمام الجميع إن أفكارهم سخيفة. وكان يقول لأحدهم مثلا: «إنني أتذكر أنني علمتك ذات مرة أشياء في علم الحساب، إذن كيف يمكن أن تكون مهما الآن؟» بعد ذلك يضحك ويدعو هؤلاء الرجال إلى الجعة لأنه معجب بهم. لكن هؤلاء الرجال يتذكرون أيام المدرسة ويكتشفون أن ما قاله باراك صحيح، ومع أنهم لم يظهروا ذلك فإن كلماته تجعلهم يشعرون بالغضب.
عندما أصبح والدك في مرحلة المراهقة كانت الأحوال تتغير سريعا في كينيا. حيث حارب الكثير من الأفارقة في الحرب العالمية الثانية. وحملوا الأسلحة وفعلوا ما جعلهم مشهورين بالمحاربين العظماء في بورما وفلسطين. ورأوا البيض وهم يحاربون البيض من أمثالهم، وماتوا بجانبهم وقتلوا الكثير منهم بأنفسهم. بالإضافة إلى أنهم اكتشفوا أن الأفريقي بوسعه العمل على آلات البيض، وقابلوا السود من أمريكا الذين قادوا الطائرات وأجروا العمليات الجراحية. وعندما عادوا إلى كينيا تحمسوا لمشاركة هذه المعرفة الجديدة مع الجميع، ولم يعودوا راضين عن سيطرة البيض عليهم.
بدأ الناس عندئذ يتحدثون عن الاستقلال . وعقدت الاجتماعات ونظمت المظاهرات وقدمت الالتماسات إلى الإدارة لعرض شكواهم من مصادرة الأراضي وسلطة الرؤساء الذين يطبقون نظم العمل الخالية من العمولات لإتمام المشروعات الحكومية. حتى إن الأفارقة الذين تعلموا في المدارس الداخلية تمردوا على كنائسهم واتهموا البيض بتشويه المسيحية للحط من قدر أي شيء أفريقي. وكما كان الوضع سابقا فإن معظم هذه الأنشطة تمركزت في أرض كيكويو لأن هذه القبيلة حملت عبء البيض أكثر من أي مكان آخر. لكن قبيلة لوو أيضا كانت مضطهدة ومصدرا أساسيا للعمل بالإكراه. لذا فإن الرجال في منطقتنا بدءوا يشاركون في مظاهرات كيكويو وقبض على كثير منهم من جراء ذلك. وفي وقت لاحق، عندما أعلنت بريطانيا حالة الطوارئ، لم ير الكثيرون مرة أخرى منذ ذلك الحين.
وأبوك مثل أقرانه تأثر بالمفاوضات الأولى المتعلقة بالاستقلال، وكان يعود أدراجه من المدرسة إلى المنزل ويتحدث عن الاجتماعات التي رآها. أما جدك فإنه أيد الكثير من مطالب الأحزاب الأولى مثل الاتحاد الوطني الأفريقي الكيني (كانو)، لكنه ظل متشككا من أن حركة الاستقلال ستؤدي إلى أي شيء؛ لأنه اعتقد أن الأفارقة لن يفوزوا إطلاقا على جيوش البيض. وكان يقول لباراك: «كيف يمكن للأفريقي هزيمة البيض وهو لا يستطيع صناعة الدراجة التي يركبها؟» وكان يقول إن الأفارقة لا يستطيعون تحقيق الفوز على البيض لأن السود يريدون العمل فقط مع عائلاتهم أو عشيرتهم في حين يعمل البيض معا لزيادة سلطتهم. وقال أونيانجو: «إن الرجل الأبيض بمفرده مثله مثل النملة.» وتابع: «ومن السهولة بمكان تحطيمه. لكن لأنه كالنملة فإنه وأقرانه يعملون معا ويتعاونون. ومن وجهة نظره فإن أمته وعمله أكثر أهمية من نفسه. وهو يتبع قادته، ولا يناقش الأوامر الموجهة إليه. على النقيض من ذلك فإن السود لا يسيرون على هذه الوتيرة. حتى إن أكثر السود حماقة يعتقدون أنهم يفهمون أكثر من الحكماء. وهذا هو سبب خسارة السود دائما.»
ومع موقف جدك هذا فإنه اعتقل ذات مرة. وأصل الحادث أن رجلا أفريقيا يعمل لدى حاكم المقاطعة شعر بالغيرة من جدك بسبب أراضيه . وفي إحدى المرات وبخ جدك هذا الرجل لأنه كان يجمع ضرائب زائدة عن المفترض تحصيلها ويستولي على هذه الأموال لنفسه. خلال فترة الطوارئ وضع هذا الرجل اسم أونيانجو في قائمة مؤيدي الاتحاد الوطني الأفريقي الكيني وأخبر الرجل الأبيض أن أونيانجو من المخربين. ولذا فإن عساكر الرجل الأبيض ألقوا القبض على أونيانجو واحتجز في معسكر اعتقال. وفي النهاية استدعي إلى جلسة استماع وأثبتت براءته. لكنه ظل في المعسكر لما يزيد عن ستة أشهر، وعندما عاد إلى أليجو كان نحيفا للغاية وقذر الهيئة. وكان يجد صعوبة في المشي ورأسه مليء بالقمل. وبالطبع أدى هذا إلى شعوره بالخجل الشديد، فرفض دخول منزله أو إخبارنا بما حدث. وإنما ناداني لتسخين بعض الماء له وإحضار موس حلاقة. فحلق شعره وساعدته في الاستحمام لوقت طويل حيث تجلس الآن. ومنذ ذلك اليوم أدركت أنه عجوز.
لم يكن باراك موجودا وقتئذ ولم يعلم شيئا عن اعتقال والده إلا فيما بعد. ذلك لأنه كان قد قدم في اختبارات المقاطعة وقبل في مدرسة ماسينو الداخلية التي تبعد بما يقرب من 50 ميلا جنوبا بالقرب من خط الاستواء. لا بد أن هذا الحدث كان شرفا عظيما لباراك؛ لأن القليل من الأفارقة فقط كان يسمح لهم بالحصول على تعليم ثانوي، والطلاب الأكثر مهارة فقط هم الذين كانوا يلتحقون بالماسينو، لكن تمرد أبيك وعدم التزامه بالقواعد سببا مشكلات كثيرة مع المدرسة. فكان يتسلل إلى غرف الفتيات ويتحدث معهن بكلام معسول ويتعهد لهن بتحقيق كل ما حلمن به. ويغير هو وأصدقاؤه على المزارع المجاورة لأخذ الدجاج ونبات اليام لأنهم لا يحبون طعام المدرسة. وفي الواقع تغاضى المدرسون في المدرسة عن مثل هذه الأفعال غير اللائقة لأنهم كانوا على دراية بمدى ذكائه. لكن في نهاية الأمر تمادى باراك في فعل هذه الأشياء الدالة على سوء السلوك فطرد من المدرسة.
غضب أونيانجو غضبا عارما عندما عرف بالأمر، ولذا ضرب باراك بالعصا إلى أن أدمى ظهره. لكن باراك رفض الهروب أو الصراخ أو حتى شرح موقفه لأبيه. وفي النهاية قال أونيانجو لباراك: «إن لم تستطع التصرف بأسلوب لائق في بيتي فإنني لا أريدك هنا!» وفي الأسبوع التالي أخبر أونيانجو باراك بأنه رتب له السفر إلى الساحل حيث سيعمل موظف أعمال كتابية. وقال له: «إنك هناك ستعلم قيمة التعليم.» وتابع: «سأرى بنفسي كيف ستستمتع بوقتك وأنت تكسب قوت يومك.»
لم يكن لدى باراك أي خيار سوى طاعة والده. لذا فإنه ذهب إلى مومباسا وحصل على الوظيفة في مكتب تاجر عربي. لكن بعد فترة وجيزة تشاجر مع الرجل العربي وترك العمل دون أن يأخذ أجره. لكنه وجد وظيفة أخرى فعمل موظف أعمال كتابية مرة أخرى لكن بأجر أقل بكثير. وكان لديه من الكبرياء ما منعه من أن يطلب مساعدة أبيه أو يعترف بأنه أخطأ. ومع ذلك فقد علم أونيانجو بالأمر، وعندما عاد باراك للمنزل في زيارة صاح فيه والده قائلا له إنه لن يصبح ذا قيمة. حاول باراك أن يخبر أونيانجو أن الوظيفة الجديدة تقدم له أجرا أعلى بكثير من الوظيفة التي وفرها له، وقال إنه يحصل منها شهريا على 150 شلنا. لذا قال أونيانجو له: «دعني أطلع على سجل الأجور الخاص بك إن كنت بالفعل ثريا.» وعندما لم ينبس باراك ببنت شفة علم أونيانجو أن ابنه كذب عليه. لذا فإنه ذهب إلى كوخه وأخبر باراك أن يبتعد عن المكان لأنه ألحق العار بأبيه.
انتقل باراك إلى نيروبي وعمل موظف أعمال كتابية في السكة الحديدية، لكنه شعر بالملل وألهاه اهتمامه بسياسات البلد عن العمل. ووقتئذ بدأت قبيلة الكيكويو حربها في الغابات. وانتشرت في كل مكان الاحتشادات الجماهيرية المطالبة بإطلاق سراح كينياتا من المعتقل. فبدأ باراك يحضر الاجتماعات السياسية بعد العمل وأصبح على علاقة ببعض أفراد القيادة في الكانو. وفي أحد الاجتماعات حضرت الشرطة وألقي القبض على باراك لخرق قواعد الاجتماع. وبالتالي سجن وأرسل إلى والده رسالة طالبا منه المال لدفع الكفالة، لكن أونيانجو رفض إعطاء باراك المال الذي طلبه، وقال لي إن ابنه في حاجة لأن يتعلم هذا الدرس على نحو ملائم.
لأن باراك لم يكن قائدا في الكانو أطلق سراحه بعد أيام. لكنه لم يشعر بأي قدر من السعادة لإطلاق سراحه لأنه بدأ يدرك أن ما قاله والده ربما يكون صحيحا؛ أنه لن يصبح ذا قيمة. كان باراك عندئذ في العشرين من عمره، لكن ماذا حقق بالفعل؟ لقد طرد من وظيفته في السكة الحديدية. وتشاجر مع والده ولم يعد يتحدث معه إلى جانب أنه ليس لديه مال أو احتمالات نجاح. لكنه تزوج ولديه طفل. قابل باراك كيزيا وهو في الثامنة عشرة من عمره. وكانت تعيش في كندو مع عائلتها وقتئذ. ولأنه تيم بجمالها قرر الزواج منها بعد علاقة لم تدم طويلا. وحتى يستطيع الزواج منها أدرك أن والده لا بد أن يساعده لدفع المهر، فطلب مني أن أتوسط له عند أبيه وأتحدث نيابة عنه. في بداية الأمر رفض أونيانجو هذه الزيجة وكذلك سارة التي عادت إلى أليجو بعد أن مات زوجها الأول. وقالت لجدك إن كيزيا تريد أن تحصل على ثروة العائلة فقط. لكنني قلت لأونيانجو إنه من غير اللائق لباراك أن يستجدي المهر من أقارب آخرين والجميع يعرفون أنه ابن رجل ذي سعة من المال. بذلك أدرك أونيانجو أن لدي حقا فيما أقوله ورق لحاله ووافق. وبعد عام واحد من زواج باراك وكيزيا ولد روي. وبعد عامين أنجبا أوما.
اضطر باراك إلى العمل في أية وظيفة وجدها حتى يستطيع توفير ما يساعد عائلته على المعيشة، وفي آخر المطاف أقنع رجلا عربيا آخر - اسمه سليمان - بتعيينه عاملا لديه. لكن باراك ظل يشعر بالحزن الشديد وأصبح قاب قوسين أو أدنى من اليأس. فالكثير ممن في عمره والذين عرفهم من مدرسة ماسينو - والذين لم يكونوا نابغين مثله - ينتقلون بالفعل من كينيا للالتحاق بجامعة ماكاريري في أوغندا. وبعضهم ذهبوا إلى لندن للدراسة. ومن ثم فهم يتوقعون العمل في وظائف مهمة عند عودتهم إلى كينيا بعد تحريرها. أما باراك فإنه رأى أنه لم ينته الأمر به إلا موظف أعمال كتابية لديهم لبقية حياته.
بعدئذ لعب الحظ لعبته في صورة سيدتين أمريكيتين. كانتا تدرسان في نيروبي وأعتقد أنهما كانتا على صلة بإحدى المنظمات الدينية، وفي ذات يوم حضرتا إلى المكتب الذي يعمل فيه باراك. وبدأ يتحدث معهما إلى أن أصبح الثلاثة أصدقاء. فأخذتا تعيرانه كتبا ليقرأها وتدعوانه إلى منزلهما، وعندما أدركتا أنه على درجة كبيرة من الذكاء قالتا له إن عليه الالتحاق بالجامعة. شرح باراك لهما أنه لا يملك مالا ولم يحصل على شهادة من المدرسة الثانوية، لكنهما قالتا له إنهما سترتبان له كل شيء فيدرس عن طريق المراسلة ويحصل على الشهادة التي يحتاجها. وأضافتا أنهما ستحاولان مساعدته في الالتحاق بأية جامعة في أمريكا إن أثبت نجاحه.
تحمس باراك للغاية وأرسل على الفور طلب التحاق بالدراسة عن طريق المراسلة. ولأول مرة في حياته عمل بجد. وكل ليلة وحتى أثناء تناوله غداءه كان يذاكر في كتبه ويحل واجباته المدرسية. وبعد بضعة أشهر امتحن في مقر السفارة الأمريكية. استغرق الأمر شهورا طويلة قبل أن تظهر النتيجة، وخلال هذه الفترة كان باراك غاية في العصبية ونادرا ما يأكل. الأمر الذي أدى به إلى النحافة البالغة لدرجة أننا اعتقدنا أنه سيموت. وذات يوم تسلم الخطاب. ولم أكن هناك لرؤيته وهو يفتحه، لكنه كان لا يزال يصيح من الفرحة بأعلى صوته عندما قال لي هذه الأخبار. وضحكت معه لأن الموقف مماثل لما كان يحدث منذ سنوات كثيرة عندما يأتي إلى المنزل متفاخرا بدرجاته العالية.
كان باراك لا يزال مفتقرا إلى المال، ولم تكن أية جامعة قد وافقت بالفعل على قبوله. وعندما رأى أونيانجو أن ابنه أصبح أكثر شعورا بالمسئولية لان تجاهه، لكنه لم يستطع توفير المال الكافي لدفع مصروفات الجامعة والانتقال خارج البلاد. كان الكثيرون في القرية على استعداد لمد يد المساعدة، لكن العديد منهم كانوا خائفين من ألا يروا باراك مرة أخرى إن رحل بأموالهم. لذا فإن باراك راسل الجامعات في أمريكا مرارا وتكرارا. وأخيرا ردت عليه جامعة في هاواي بأن الجامعة ستقدم له منحة دراسية. لم يعرف أحد وقتئذ أين يقع هذا المكان، لكن باراك لم يبال. وأخذ ابنه وزوجته الحامل وتركهما عندي ورحل في أقل من شهر.
لا أستطيع أن أقول لكم ما حدث في أمريكا. لكنني أعرف أنه بعد أقل من عامين تلقينا خطابا من باراك يقول لنا فيه إنه قابل فتاة أمريكية اسمها آن وإنه يريد الزواج منها. والآن يا باري لقد سمعت أن جدك عارض هذه الزيجة. هذا صحيح، لكن هذه المعارضة لم تكن للأسباب التي قلتها. إن أونيانجو كما رأيت لم يعتقد أن والدك يتصرف بمسئولية. لذا فإنه رد على خطاب باراك وقال له: «كيف تتزوج من هذه السيدة البيضاء ولديك مسئوليات أخرى هنا؟ هل ستعود معك هذه السيدة وتعيش هنا كسيدة من قبيلة لوو؟ وهل ستقبل بوجود زوجة وطفلين؟ إنني لم أسمع قط عن بيض يتفهمون هذه الأشياء؛ فنساؤهم تعميهن الغيرة وهن اعتدن التدليل. لكن إن كنت مخطئا فيما قلته فاجعل والد الفتاة يحضر هنا إلى كوخي لنناقش الأمر بصورة ملائمة. ذلك لأن مناقشة هذه الأمور من شأن الكبار وليس الصغار.» بالإضافة إلى أنه كتب أيضا خطابا إلى جدك ستانلي وذكر له في الخطاب الكثير من هذه الأشياء نفسها أيضا.
استمر أبوك - كما تعلم - في إتمام الزواج ولم يخبر أونيانجو بما حدث إلا بعد ولادتك. إننا جميعا سعداء بهذه الزيجة لأننا لولاها لم نكن لنراك هنا معنا الآن. لكن جدك غضب غضبا عارما عندئذ وهدد بأن يجعل السلطات تلغي تأشيرة سفر باراك. ولأنه عاش مع البيض بالفعل، ربما كان على دراية بعادات البيض أكثر من باراك. ومن ثم عندما عاد باراك في نهاية المطاف إلى كينيا اكتشفنا أنك وأمك بقيتما حيث أنتما، تماما كما حذر أونيانجو.
بعد أن عاد باراك بوقت وجيز وصلت إلى كيزيمو سيدة بيضاء تبحث عنه. وفي البداية اعتقدنا أن هذه السيدة لا بد أنها أمك آن. لكن باراك أوضح لنا أنها سيدة أخرى تدعى روث. وقال إنه قابلها في هارفارد وإنها تبعته إلى كينيا دون معرفته بالأمر. لم يصدق جدك هذه القصة واعتقد مرة أخرى أن باراك خرج عن طاعته. لكنني لم أكن متأكدة لأن باراك بدا مترددا في الزواج من روث في البداية. ولست متأكدة من السبب الذي حمله في النهاية على الاقتناع بالزواج منها. ربما شعر أن روث كانت مناسبة أكثر لحياته الجديدة. وربما يكون قد سمع إشاعات عن أن كيزيا فعلت ما يحلو لها في أثناء غيابه مع أنني أخبرته أن هذه الشائعات ليست صحيحة. وربما يكون قد أعجب بروث أكثر مما أحب أن يظهر.
أيا كان السبب، فأنا أعرف أنه بمجرد أن قرر باراك الزواج من روث فإنها لم تستطع تقبل كيزيا زوجة أخرى. وبهذا ذهب الطفلان ليعيشا مع والدهما وزوجته الجديدة في نيروبي. وعندما أحضر باراك أوما وروي لزيارتنا رفضت روث مصاحبة زوجها ولم تسمح له بأن يحضر ديفيد أو مارك. لم يناقش أونيانجو هذا الأمر مباشرة مع باراك. لكنه قال لأصدقائه بطريقة ما لجعل باراك يسمعه: «إن ابني رجل مهم، لكنه عندما يرجع إلى بلده لا بد أن تعد له والدته وليس زوجته الطعام.»
هناك من أخبرك بالطبع بما حدث لوالدك في نيروبي. لقد كنا نراه نادرا ولم يكن يظل في المعتاد إلا وقتا وجيزا، وكلما جاء أحضر لنا هدايا غالية الثمن وأموالا وذهل الناس جميعا بسيارته الكبيرة وملابسه الأنيقة. لكن جدك استمر في التحدث معه بقسوة كما لو كان صبيا. وفي هذه الأثناء كان أونيانجو طاعنا في السن. كان يمشي بالتوكؤ على عصا وأعمى تقريبا، بالإضافة إلى أنه لم يكن يستحم إلا بمساعدتي، وهو الأمر الذي سبب له في اعتقادي الشعور بالخجل. لكن شيخوخته لم تخفف من حدة طباعه.
عندما فقد باراك سلطته فيما بعد حاول إخفاء مشكلاته عن أبيه. فاستمر في إحضار الهدايا التي لم يعد قادرا على دفع ثمنها مع أننا لاحظنا أنه يأتي في سيارة أجرة وليس في سيارته الخاصة. ولم يكن يثق بأحد سواي لإخباره عن تعاسته وشعوره بالإحباط. وأخبرته بأنه عنيد إلى حد بعيد في تعامله مع الحكومة. وتحدث معي عن مبادئه، فقلت له إن هذه المبادئ تؤثر سلبا على أطفاله. لكنه قال إنني لا أفهم الموقف مثلما قال لي والده. لذا توقفت عن إسداء النصيحة وأصبحت أستمع فقط.
أعتقد أن هذا هو أقصى ما كان باراك يحتاجه؛ أي شخص يستمع إليه. حتى بعد أن تحسنت الأحوال من جديد وبنى هذا المنزل لنا، ظل حزينا. وفيما يخص أطفاله فإنه كان يعاملهم بالطريقة نفسها التي عامله أونيانجو بها. وكان يعلم أنه يبعدهم عنه لكنه لم يكن بوسعه فعل شيء. كان باراك لا يزال محبا للتفاخر والضحك وشرب الخمر مع الآخرين. لكن ضحكاته لم تكن من قلبه. إنني أتذكر آخر مرة زار أونيانجو قبل أن تدركه المنية. جلس الاثنان على كرسيين، أحدهما في وجه الآخر، يأكلان الطعام دون كلمة واحدة. وبعد ذلك بأشهر عندما مات أونيانجو ولحق بأسلافه عاد باراك إلى الوطن لتنفيذ الإجراءات. كان قليل الكلام وقتئذ وكان نحيفا للغاية ولم أره يبكي إلا بعد أن أنعم النظر إلى مقتنيات أبيه.
وقفت الجدة ونظفت ثوبها من العشب. في هذه الأثناء خيم على الفناء الصمت الذي لم يقطعه سوى شدو طائر قلق. وقالت: «إن السماء ستمطر»، فجمعنا الحصائر والأكواب وحملناها جميعا إلى داخل المنزل.
بمجرد أن دخلنا سألت الجدة هل كانت تحتفظ بأي شيء من مقتنيات أبينا أو جدنا. دخلت غرفة نومها وأنعمت النظر إلى محتويات حقيبة قديمة من الجلد. ثم خرجت بعد دقائق ومعها كتاب أحمر اللون في حجم جواز السفر إلى جانب بعض الأوراق المختلفة الألوان المثبتة معا والمتآكلة من إحدى الزوايا.
وقالت لأوما: «إنني آسفة، لم أستطع العثور إلا على هذا.» وتابعت: «لقد وصلت الفئران إلى الأوراق قبل أن تتسنى لي الفرصة لوضعها في المكان المناسب.»
جلست أنا وأوما ووضعنا الكتاب والأوراق على المنضدة المنخفضة أمامنا. كان تجليد الكتاب الأحمر مفكك الأجزاء مع أن الغلاف لا يزال مقروءا ومكتوبا عليه «السجل الشخصي للخادم المنزلي» وبخط أصغر «أصدر بموجب قانون تسجيل الخدم المنزلي، 1928، مستعمرة ومحمية كينيا .» وفي الصفحة الأولى وجدنا طابعا بقيمة شلنين أعلى بصمتي إبهام أونيانجو اليمنى واليسرى. وكانت دوائر البصمتين لا تزال واضحة مثل طبعات المرجان المتروكة على الصخر. وكان مربع الصورة - الذي اشتمل عليها فيما سبق - فارغا.
ذكر في الجملة الافتتاحية للكتاب: «الهدف من هذا القانون هو منح كل شخص يعمل في الخدمة المنزلية سجلا لهذه الوظيفة، وحماية مصالحه/مصالحها إلى جانب حماية أصحاب العمل من توظيف أشخاص أثبتوا أنهم غير مناسبين لهذا العمل.»
عرفت كلمة خادم بأنه كل: «طاه، خادم منزلي، نادل، كبير خدم، مرضعة، خادم خصوصي، مساعد ساقي خمر، خادم لفتح أبواب السيارات والوقوف على الموائد، أو سائق، أو عامل لغسل الملابس وكيها.» أما عن القواعد التي تفرض حمل هذه السجلات فإنها تتمثل في أن الخدم المضبوطين وهم يعملون دون حمل هذه الكتب، أو يهملون فيها بطريقة أو بأخرى «يصبحون مسئولين قانونيا عن دفع غرامة لا تزيد عن 100 شلن أو السجن لمدة لا تزيد عن ستة أشهر أو كلتا العقوبتين.» ومن ثم فإن البيانات التفصيلية للخادم المسجل المشار إليه آنفا ملئت بخط اليد بأسلوب متأنق كتبه أحد الموظفين بتأن:
الاسم: حسين الثاني أونيانجو.
رقم قانون التسجيل القومي:
Rwl A NBI 0976717 .
العرق أو القبيلة: لوو.
محل الإقامة في حالة عدم العمل: كيزيمو.
الجنس: ذكر.
العمر: 35 عاما.
الطول وبنية الجسم: 6 أقدام، متوسط البنية.
البشرة: داكنة.
الأنف: أفطس.
الفم: كبير.
الشعر: مجعد.
الأسنان: ست أسنان مفقودة.
آثار جروح، أو علامات قبلية مميزة، أو مميزات أخرى: لا يوجد.
بالقرب من نهاية الكتاب وجدنا بيانات التوظيف موقعة ومصدقا عليها من قبل أصحاب عمل مختلفين. قال القبطان سي هارفورد وهو عضو في دار الحكومة في نيروبي إن أونيانجو «نفذ ما كلف به بصفته خادما شخصيا بجد واجتهاد.» بالإضافة إلى أن السيد إيه جي ديكسون ذكر أن طهوه ممتاز وقال إنه «يستطيع القراءة والكتابة باللغة الإنجليزية وطهو كافة أنواع الأطعمة ... وبصرف النظر عن الأشياء الأخرى فإن المعجنات التي يصنعها ممتازة.» لكنه لم يعد في حاجة إلى خدمات أونيانجو؛ إذ «لم أعد أخرج في رحلات سفاري.» أما دكتور إتش شيري فقال إن أونيانجو «طاه بارع لكن هذه الوظيفة لا يراها أونيانجو مهمة بالقدر الكافي.» مع أن السيد آرثر دبليو إتش كول الموظف بشركة «إيست أفركا سيرفاي جروب» قال إن أونيانجو بعد العمل «لمدة أسبوع في الوظيفة وجد أنه غير كفء، ولا يستحق بكل تأكيد أن يتقاضى أجرا قدره 60 شلنا شهريا.»
انتقلنا بعد ذلك إلى تصفح مجموعة الخطابات. كان قد كتبها أبونا وكانت مرسلة إلى جامعات مختلفة في الولايات المتحدة. وكان أكثر من 30 خطابا منها موجها إلى رؤساء جامعة مورجان، ومعهد سانتا باربرا، وجامعة ولاية سان فرانسيسكو.
بدأ أحد الخطابات بعبارة «سيدي كالون رئيس الكلية». ثم كان نصه كالتالي: «لقد سمعت عن كليتكم من السيدة هيلين روبرتس من مدينة بالو ألتو بكاليفورنيا والتي تقطن الآن هنا في نيروبي، ولمعرفتها بقدر رغبتي في استكمال دراساتي في الولايات المتحدة الأمريكية نصحتني السيدة روبرتس بأن أرسل طلب التحاقي بكليتكم الجديرة بالاحترام. وبناء عليه فإنني سأسعد كثيرا إذا ما تكرمتم وأرسلتم لي استمارة طلب الالتحاق والمعلومات الخاصة بإمكانية الحصول على منح دراسية طبقا لمعرفتكم.» ألحقت بخطابات كثيرة تزكيات من الآنسة إليزابيث مووني، وهي مدرسة من ولاية ميريلاند. كان مكتوبا فيها: «من غير الممكن استخراج شهادات مدرسية للسيد أوباما لأنه تخرج في المدرسة منذ سنوات.» لكنها عبرت عن ثقتها بمواهب والدنا وكتبت أنها لاحظته وهو «يستخدم الجبر والهندسة.» وأضافت أن كينيا في حاجة ماسة إلى مدرسين بارعين متفانين في العمل وأنه «يجب إعطاء السيد أوباما الفرصة ربما لمدة عام واحد طبقا لرغبته في خدمة بلده.»
فكرت بيني وبين نفسي أن هذا هو ما عليه الحال. هذا هو إرثي. رتبت الخطابات أحدها فوق الآخر بطريقة منظمة ووضعتها أسفل كتاب تسجيل الوظائف. ثم خرجت إلى الفناء الخلفي ووقفت أمام القبرين، وعندئذ شعرت بأن كل ما حولي - حقول الذرة وشجرة المانجو والسماء - يقترب مني ويحيط بي إلى أن أصبحت بمفردي مع سلسلة صور ذهنية ونبضت قصص الجدة بالحياة.
رأيت جدي واقفا أمام كوخ أبيه، رأيته صبيا نحيفا متجهم الوجه ويبدو مضحكا ببنطلونه الكبير وقميصه الخالي من الأزرار. وشاهدت أباه وهو يدير ظهره إليه وسمعت إخوته وهم يضحكون. وشعرت بالسخونة المتصاعدة من جبينه وتوتر عضلات أطرافه ونبضات قلبه القوية المفاجئة. وعندما استدار وبدأ يشق طريق الرجوع على الأرض الحمراء أدركت أن مسار حياته الآن قد تغير بصورة كاملة على نحو لا يمكن إرجاعه.
سيضطر جدي إلى أن يغير من نفسه تماما في هذا المكان القاحل المنعزل. وبقوة الإرادة سيخلق حياة من فتات عالم مجهول وذكريات عالم بات مهجورا. ومع ذلك فإنني أعرف أنه، وهو جالس بمفرده في كوخه النظيف؛ أب ابيضت عيناه، لا يزال يسمع أباه وإخوته يضحكون من وراء ظهره. ويسمع صوت القبطان البريطاني المتقطع، وهو يوضح للمرة الثالثة والأخيرة النسبة الصحيحة للتونيك إلى سائل الجن الكحولي. فتتوتر أعصاب رقبته وغضبه يحتدم ويمسك بعصاه لتحطيم شيء، أي شيء. إلى أن تخر قواه في النهاية بإدراكه أنه برغم القوة التي يمتلكها وقوة الإرادة فإن ضحكه وتوبيخه لن يئولا إلى زوال بعد مماته. يضعف الجسد ولا يقوى على النهوض من على مقعده ويعلم الجد أنه لن يعيش أطول من قدره الساخر وينتظر الموت وحيدا.
تلاشت هذه الصورة وحلت محلها صورة صبي في التاسعة من عمره ... هو أبي. جوعان، متعب، متشبث بيد أخته، يبحث عن الأم التي فقدها. يتضور جوعا ويقتله التعب إلى أن ينقطع الحبل الرفيع الذي يربطه بأمه ويرسل صورتها لتحلق بعيدا في الفراغ. وبعدها يبكي ويحرر يده من قبضة يد أخته. ويريد العودة إلى الوطن، يصرخ للعودة إلى منزل أبيه. وهناك سيجد أما جديدة. وينغمس في الألعاب ويكتشف قوة عقله.
لكنه لن ينسى اليأس الذي شعر به ذاك اليوم وبعد 12 عاما سيرفع عينيه عن الملفات وهو جالس خلف مكتبه الضيق لينظر إلى السماء المتقلبة ويشعر بالخوف نفسه يعود إليه. وسيضطر أيضا إلى تغيير نفسه. ورئيسه خارج المكتب ينحي الملفات جانبا ويخرج قائمة عناوين من خزانة الملفات القديمة. ويجذب الآلة الكاتبة تجاهه ويبدأ الكتابة - حرفا تلو الآخر - ويكتب على الأظرف ثم يغلقها بإحكام، مثل الرسائل داخل الزجاجات ويلقيها في محيط واسع وربما تسمح له بالهرب من جزيرة الخزي الذي ألحقه بأبيه.
كم شعر أنه محظوظ عندما رست سفينته وبدأت تؤتي ثمار رحلتها! لا بد أنه عرف عندما تسلم الخطاب من هاواي أنه اختير رغم أي شيء؛ وأنه حلت عليه بركة اسمه الذي يعني بركة الرب. وبحصوله على الشهادة وارتدائه رابطة العنق وزواجه من امرأة أمريكية وامتلاكه سيارة وتحدثه بكلمات منتقاة ومعرفته الحساب وحمله محفظة جيب ومعرفته نسبة التونيك إلى الجن وتعامله بكياسة وثقته بنفسه والحرص على كمال كل شيء وتلقائيته وتركه عشوائية ماضيه وإهماله ... ترى ما الذي سيقف في طريقه؟
لقد نجح إلى حد ما بطريقة لم يأمل فيها والده إطلاقا. وبعدئذ، بعد أن سافر كما بدا إلى أماكن بعيدة اكتشف أنه لم يستطع الهرب في النهاية! اكتشف أنه ظل حبيسا في جزيرة أبيه بكل ما تشتمل عليه من جراح غضب وشك وهزيمة وأن هذه الأحاسيس لا تزال موجودة تحت السطح، لا تزال عنيفة ومتوهجة وحية، وأمه بعيدة عنه ...
ارتميت على الأرض ومسحت بيدي على بلاط القبر الأصفر الناعم. وبكيت: أبتاه! ليس هناك ما يدعوك إلى الخزي من حيرتك. مثلما لا يوجد ما يدعو أباك من قبلك إلى الخزي من حيرته. ليس هناك خزي في شعوره بالخوف أو شعور أبيه من قبله. وإنما في الصمت المتمخض عن الخوف. الصمت الذي خاننا. الصمت الذي لولا وجوده لكان جدك سيقول لأبيك إنه لن يستطيع إطلاقا الهرب من نفسه أو تغيير نفسه بمفرده. وكان سيعلمك أبوك هذه الدروس نفسها. وكنت ستعلم أباك أن هذا العالم الجديد الذي جذبكم جميعا اشتمل على أشياء تجاوزت السكك الحديدية والحمامات الداخلية في المنازل وقنوات الري والفونوغراف؛ تلك الوسائل غير النابضة بالحياة التي أصبحت جزءا من الأساليب القديمة. ربما كنت ستخبره أن هذه الوسائل اشتملت على قوة خطيرة وأنها تطلبت أسلوبا مختلفا لرؤية العالم. ربما كنت ستخبره أن هذه القوة كان من الممكن استيعابها جنبا إلى جنب مع إيمان خلفته الصعاب؛ إيمان لم يكن جديدا، لم يكن أسود أو أبيض أو مسيحيا أو مسلما، بل إيمان نبض في قلب أول قرية أفريقية وأول مستعمرة في كانساس، كان إيمانا في أناس آخرين.
قتل الصمت إيمانك. ونظرا لنقص الإيمان لديك تشبثت بالاثنين كثيرا وقليلا جدا بماضيك. تشبثت كثيرا بصرامته وشكوكه وقسوته الذكورية. وتشبث قليلا جدا بالضحكة في صوت الجدة والابتهاج بالصحبة وقت رعي الماعز، وهمهمة السوق، والقصص حول حلقات النار. الولاء الذي يمكن أن يعوض عن عدم وجود الطائرات أو البنادق. كلمات التشجيع. الاحتواء والحب الصادق القوي. ومع امتلاك جميع مواهبك - سرعة البديهة ومهارات التركيز والجاذبية - فإنك لم تستطع إطلاقا صنع نفسك بالتخلي عن هذه الأشياء ...
جلست وقتا طويلا بين القبرين وبكيت. وعندما انهمرت دموعي في النهاية انتابني شعور قوي بالسكينة والطمأنينة على حين غرة. وشعرت بأن الدائرة أخيرا أغلقت. وأدركت حينئذ أن ماهيتي واهتماماتي لم تعد مجرد أشياء لها علاقة بالذكاء أو المسئولية ولم تعد مجرد كلمات. ورأيت أن حياتي في أمريكا - بين السود وبين البيض، وشعوري بأنني جرى التخلي عني وأنا صبي، والإحباط والأمل اللذين شعرت بهما في شيكاغو - مرتبطة بكل ما فيها بهذه الأرض الصغيرة السحيقة، ووجدتها مرتبطة بأكثر من مصادفة رسمي بهذا الاسم أو لون بشرتي. وكان الألم الذي شعرت به ألم أبي. ومشكلاتي مشكلات إخوتي. وكفاحهم حق مولدي.
بدأت السماء تمطر مطرا خفيفا ونزلت قطراتها على أوراق الشجر. وعندما أوشكت على إشعال سيجارة شعرت بيد على ذراعي. واستدرت لأجد بيرنارد جالسا القرفصاء بجواري محاولا أن تشملنا معا مظلة قديمة منثنية.
قال لي: «طلبوا مني أن أطمئن عليك.»
ابتسمت. وقلت: «أنا بخير.»
أومأ برأسه وحدق بعينين شبه مغمضتين في السحب. ثم استدار لي وقال: «أعطني سيجارة وسأجلس وأدخن معك.»
نظرت إلى وجهه الداكن الناعم وأعدت السيجارة إلى علبتها. وقلت له: «أريد الإقلاع عن التدخين.» وتابعت: «هيا، دعنا نتمشى.»
نهضنا واتجهنا نحو مدخل المجمع السكني. وكان جودفري واقفا بجوار كوخ إعداد الطعام متكئا بإحدى ساقيه على الجدار الطيني. بدا مثل طائر الغرنوق. فنظر إلينا وابتسم بتحفظ.
قال بيرنارد وهو يلوح للصبي: «تعال!» وتابع: «فلتسر معنا.» وهكذا مشى ثلاثتنا على الطريق الممتد غير المعبد محاولين لمس أوراق الشجر المزروعة بطول الطريق ونحن نشاهد الأمطار تغرق أودية كثيرة.
الخاتمة
بقيت في كينيا أسبوعين آخرين. وعدنا جميعا إلى نيروبي حيث المزيد من حفلات العشاء والمحادثات والقصص. أقامت الجدة في شقة أوما، وكنت أنام كل ليلة وأنا أسمع همس أصواتهما. وذات يوم تجمعنا عند استديو للتصوير الفوتوغرافي لأخذ صورة عائلية، ومن ثم ارتدت السيدات جميعهن عباءات أفريقية منسابة براقة ألوانها خضراء وصفراء وزرقاء، أما الرجال فكانوا طوال القامة حالقي وجوههم ومرتدين ملابس مكوية على نحو متقن، وعلق المصور - الذي كان هندي الجنسية رفيع القوام ذا حاجبين كثيفين - على روعة الصورة التي التقطها لنا.
عاد روي إلى واشنطن العاصمة بالطائرة بعد ذلك بوقت وجيز، وعادت الجدة إلى هوم سكويرد. وعلى حين غرة خيم الهدوء على الأيام وتملكتني أنا وأوما حالة من الكآبة كما لو كنا قد استيقظنا من حلم. وربما كان الشعور بأننا أيضا سنعود قريبا إلى حياتنا الأخرى - حيث العزلة والانفراد بالذات من جديد - هو الذي جعلنا نقرر ذات يوم زيارة جورج؛ آخر أبناء أبينا.
لقد اتضح أنه أمر محرج رتب له بعجلة ودون علم الأم؛ ركبنا السيارة مع زيتوني ووصلنا إلى مدرسة صغيرة نظيفة من طابق واحد حيث يلعب مجموعة من أطفال المدرسة في ملعب واسع مغطى بالعشب. وبعد محادثة قصيرة مع المدرس المشرف وقت الراحة بين الحصص جاءت زيتوني بأحد الأطفال إلينا؛ كان وسيما مستدير الرأس تعلو وجهه نظرة احتراس. انحنت زيتوني لأسفل وأشارت نحوي ونحو أوما.
وتحدثت إلى الولد: «هذه أختك التي اعتدت اللعب معها على ركبتيها. وهذا أخوك الذي قطع مسافة شاسعة من أمريكا ليراك.»
صافحنا الولد بشجاعة ، لكنه ظل ينظر بين الفينة والأخرى إلى الألعاب التي ما لبث أن تركها. وعندئذ أدركت أننا أخطأنا. وسرعان ما خرجت مديرة المدرسة من مكتبها لتقول لنا إن لم يكن لدينا إذن من الأم فلا بد من أن نغادر. بدأت زيتوني تجادل هذه السيدة لكن أوما قالت: «لا يا عمتي، إنها على حق. يجب أن نذهب.» ونحن جالسون في السيارة شاهدنا جورج وهو يعود إلى أصدقائه، وكان من المستحيل تمييزه سريعا عن الأطفال الآخرين المستديري الرءوس البارزي عظام الركبة الذين يجرون على العشب وراء كرة قدم قديمة. وعلى حين غرة وجدت نفسي بعدئذ أتذكر لقائي الأول بأبي والشعور بالخوف وعدم الراحة الذي تمخض عن وجوده، الأمر الذي أجبرني لأول مرة على التفكير مليا في غموض حياتي الخاصة. وشعرت بالراحة لحقيقة أن جورج أيضا يوما ما عندما يكون أكبر سنا ربما يريد معرفة ماهية أبيه وإخوته وأخواته، وأنه إذا لجأ إلي يوما فسيجدني دون شك لأخبره القصة التي أعرفها.
في هذا المساء سألت أوما هل تعرف أيا من الكتب الجيدة التي تتحدث عن قبيلة لوو، واقترحت علي أن نزور مدرسة تاريخ قديمة كانت تدرس لها، وهي سيدة طويلة ممشوقة القوام اسمها دكتورة «رقية أوديرو» كانت صديقة أبي. عندما وصلنا إلى منزلها كانت الدكتورة أوديرو على وشك الجلوس لتناول عشائها؛ لذا أصرت على أن نشاركها العشاء. وأثناء تناولنا سمك البلطي والأوجالي أصرت المدرسة على أن أناديها برقية، ثم استفسرت مني عن انطباعاتي عن البلد. وسألتني: هل شعرت بالإحباط؟ قلت لها إنني لم يراودني هذا الشعور مع أنني سأغادر ولدي أسئلة بعدد ما لدي من إجابات.
قالت رقية وهي تضبط نظارتها فوق قصبة أنفها: «هذا حسن، وهذا هو أسلوبنا نحن المؤرخين لكسب قوتنا. إننا طوال اليوم نحاول إثارة أسئلة جديدة. وهذه مسألة في الواقع باعثة على الملل الشديد. هذا بالإضافة إلى أنها تتطلب شخصا ذا طبيعة بوسعها احتمال مضايقة الغير. تعلم أن الشباب الأمريكيين السود يميلون إلى التفكير في أفريقيا من منطلق رومانسي. لكنني وأباك عندما كنا شبابا فعلنا العكس تماما، حيث توقعنا إيجاد كل الإجابات في أمريكا. في حي هارلم. وفي شيكاغو. ولدى الكاتبين لانجستون هيوز وجيمس بولدوين. من كل هذا استقطبنا الإلهام. ومن عائلة كيندي ... وكانت لهذه العائلة شعبية عريضة. كانت فرصة الدراسة في أمريكا غاية في الأهمية. كانت وقتا مفعما بالأمل. وبالطبع عندما عدنا أدركنا أن تعلمينا لم يفدنا دائما على نحو ملائم. وكذلك من أرسلونا إلى أمريكا. لقد كان لدينا كل هذا التاريخ الفوضوي لنتعامل معه.»
سألت رقية عن سبب اعتقادها أن الأمريكيين السود عرضة للشعور بالإحباط عند زيارتهم لأفريقيا. فهزت رأسها وابتسمت. ثم قالت: «لأنهم يأتون إلى هنا باحثين عن الأصل. وهذا سبب مؤكد للشعور بالإحباط. انظر إلى هذه الوجبة التي نتناولها. إن كثيرين سيخبرونك أن أفراد قبيلة لوو من آكلي السمك. لكن هذا ليس صحيحا لجميع أفراد القبيلة. بل ينطبق هذا فحسب على من يعيشون بجانب البحيرة. وحتى هؤلاء لا يصح هذا الأمر معهم دائما. ذلك لأنهم قبل أن يستقروا حول البحيرة كانوا رعاة غنم مثل أفراد قبيلة ماساي. والآن، إن تصرفت أنت وأختك بأسلوب لائق وتناولتما قدرا مناسبا من هذا الطعام فإنني سأقدم لكما الشاي. والكينيون - كما تلاحظ - فخورون إلى حد بعيد بجودة الشاي المصنوع لديهم. لكننا بالطبع اكتسبنا هذه العادة من الإنجليز لأن أسلافنا لم يشربوا هذا المشروب. هذا إلى جانب التوابل التي نستخدمها لطهي هذا السمك. فهي تأتينا أساسا من الهند أو إندونيسيا. وحتى في هذه الوجبة البسيطة ستجد أنها من الصعوبة بمكان أن تكون أصلية ... مع أن الوجبة دون أدنى شك أفريقية.»
لفت رقية كرة من الأوجالي في يدها وغمستها في اليخني الخاص بها. وقالت: «يمكنك بالكاد إلقاء اللوم على الأمريكيين السود بكل تأكيد لاحتياجهم ماضيا لم يمسسه سوء بعد كل الوحشية التي عانوها - ولا يزالون يعانونها - طبقا لما أقرؤه في الصحف. ولكن ليس هم فقط من يرغبون ذلك. فالأوروبيون يريدون الشيء نفسه. وكذلك الألمان والإنجليز ... إنهم جميعا يزعمون أن أثينا وروما بلادهم مع أن أسلافهم في الواقع دمروا الثقافة الكلاسيكية. لكن هذا حدث منذ وقت طويل؛ لذا فإن مهمتهم أسهل. في مدارسهم نادرا ما تقرأ عن شقاء الفلاحين الأوروبيين على معظم صفحات التاريخ. كم هو مخز رؤية كيف عامل الأوروبيون ذويهم معاملة أقل من معاملة الملونين في ظل فساد الثورة الصناعية واستغلالها والحروب القبلية غير المبررة! لذا فإن هذه الفكرة عن عصر ذهبي لأفريقيا تبدو طبيعية فقط قبل أن يأتي البيض.»
قالت أوما: «ما الحل إذن؟»
قالت رقية وهي تبتسم: «عادة ما تكون الحقيقة هي الحل الأفضل.» وتابعت: «في بعض الأحيان أفكر أن أسوأ شيء فعله الاستعمار هو ضبابية رؤيتنا لماضينا. فبدون البيض ربما كنا سنصبح قادرين على استخدام تاريخنا استخداما أفضل. وربما كنا سنعيد النظر في كثير من ممارساتنا القديمة ونقرر أنها تستحق الإبقاء عليها. وفي ممارسات أخرى سنقرر ضرورة الإقلاع عنها. ولسوء الحظ جعلنا البيض نتصرف بعدم ثقة بالمرة. وانتهى بنا الأمر ونحن متشبثون بجميع الأشياء التي ظلت موجودة بعد نفاد فوائدها. مثل تعدد الزوجات. والملكية الجماعية للأراضي. هذه الأشياء كانت ملائمة في وقتها إلا أنها الآن أصبحت وسائل للممارسات الفاسدة. من قبل الرجال. ومن قبل الحكومات. ومع ذلك فإننا إذا قلنا ذلك نكون مصابين بعدوى الأيديولوجيا الغربية.»
قالت أوما: «إذن كيف يمكننا تغيير هذا الوضع؟»
هزت رقية كتفيها. وقالت: «إنني أترك الإجابة عن مثل هذه الأسئلة لصناع السياسة. فأنا لست إلا مؤرخة. لكنني أظن أننا ليس بوسعنا التظاهر بأن نقيض موقفنا ليس له وجود. وكل ما نستطيع فعله هو الاختيار. فمثلا لا يزال ختان الإناث من العادات المهمة السائدة في قبيلة كيكويو. وكذلك في قبيلة ماساي. ويحدث ذلك في الوقت الذي نشعر فيه في أيامنا هذه أن هذا الأمر همجي. ربما يمكننا الترتيب لإجراء هذه العمليات كافة في المستشفيات وتقليل معدل الوفاة. وربما يمكننا تقليل النزيف لأدنى حد. لكن لا يمكنك إجراء عملية الختان بشكل لا يؤثر كثيرا على أنوثة الفتاة. ذلك لأن هذا الأمر من شأنه ألا يرضي أحدا . إذن لا بد من الاختيار. والأمر نفسه ينطبق على مبدأ سيادة القانون وفكرة التحقيق المستقل؛ فهذه الأشياء ربما تتعارض مع مشاعر الولاء للقبيلة. لا يمكن أن تكون هناك سيادة قانون وبعدئذ تعفي أفرادا معينين في عشيرتك. ولكن ماذا عساك أن تفعل؟ الاختيار مجددا. وإذا أسأت الاختيار فستتعلم إذن من أخطائك. وتصل إلى الاختيار الصحيح.»
لعقت أصابعي وغسلت يدي. وقلت: «لكن ألم يتبق شيء أفريقي خالص؟»
قالت رقية: «لا أظن ذلك، أليس كذلك؟» وتابعت: «ويبدو بكل تأكيد أن هناك شيئا مختلفا بخصوص هذا المكان. إلا أنني لا أعلم ما هو. ربما يكون للأفارقة وجهة نظر فريدة عن الوقت نظرا لسفرهم إلى أماكن بعيدة بسرعة شديدة. أو ربما يكون هذا الشيء هو أننا تعرضنا للمعاناة أكثر من أي شعب آخر. وربما يكون الأرض نفسها. لا أعرف. ربما أكون أنا الرومانسية. كما أنني أعرف أنني لا أستطيع أن أظل بعيدة عن هنا لوقت طويل. إن الناس لا يزالون يتحدثون بعضهم مع بعض هنا. لكنني عندما أذهب إلى الولايات المتحدة فإنها تبدو موحشة إلى حد بعيد ...»
على حين غرة انطفأت جميع الأنوار في المنزل. وتنهدت رقية وقالت إن انقطاع التيار الكهربي أصبح أكثر شيوعا، فأعطيتها قداحتي لإشعال الشموع التي كانت محتفظة بها أعلى رف الموقد. تذكرت وأنا جالس في الظلام القصص التي سردتها لنا زيتوني وقلت إن عدائي الليل لا بد أنهم بالخارج. وأشعلت رقية الشموع وكشفت أضواؤها عن وجهها الضاحك.
وقالت: «إذن إنك تعرف من هم عداءو الليل! نعم إنهم يكونون أقوياء جدا في الظلام. وقد اعتاد الناس وجود الكثير منهم في منطقتنا في أرض الوطن. وقيل إنهم يمشون مع فرس النهر ليلا. وأتذكر ذات مرة ...»
مثلما انطفأت الأنوار على نحو مفاجئ، أضيئت المصابيح فجأة أيضا ولكن للحظة واحدة. ولذا أطفأت رقية الشموع وهزت رأسها. وقالت: «وا حسرتاه! يعود التيار الكهربائي وتضاء المصابيح في المدينة عاجلا أو آجلا. إن لدي ابنة تستهزئ بعدائي الليل. ولغتها الأولى ليست لغة قبيلة لوو. أو حتى لغة السواحيلية. إنما لغتها الإنجليزية. وعندما أستمع إليها تتحدث مع صديقاتها يبدو لي حديثهن مبهما. ذلك لأنهن يستعن في الحديث بكلمات من جميع اللغات؛ الإنجليزية والسواحيلية والألمانية ولغة لوو. وفي بعض الأحيان يفيض بي الكيل بسبب هذا الأمر. وأقول لهن: تعلمن التحدث بصورة صحيحة بلغة واحدة.» وبعدئذ ضحكت بينها وبين نفسها. واستطردت قائلة: «لكنني بدأت أتقبل الأمر ما دام لا يوجد شيء يمكن فعله حياله. إنهن يعشن في عالم مضطرب. وأعتقد أن هذا لا يسبب لي أية مشكلة. ففي نهاية الأمر إنني لا أهتم بأن تكون لدي ابنة أفريقية حتى النخاع بقدر اهتمامي بأن تكون لها شخصيتها المستقلة.»
تأخر الوقت وشكرنا رقية على استضافتها لنا ومضينا لحال سبيلنا. لكن كلماتها ظلت معي وسلطت الضوء على ذكرياتي وتساؤلاتي الدائمة. وفي إجازة نهاية الأسبوع الأخيرة لزيارتي أخذت أنا وأوما القطار إلى الساحل، وأقمنا في فندق قديم بالقرب من الشاطئ في مومباسا وكان من الفنادق التي يفضلها أبي. كان الفندق نظيفا ومتواضعا وفي شهر أغسطس كان يكتظ في الأغلب بالسائحين الألمان والبحارة الأمريكيين وقت السماح لهم بمغادرة سفنهم والذهاب حيث يريدون لمدة محدودة. وفي هذه الفترة لم تكن لنا أنشطة كثيرة إلا أننا كنا نقرأ ونسبح ونمشي على الشاطئ ونحن نشاهد سرطانات البحر الشاحبة اللون وهي تنطلق مسرعة كالأشباح إلى جحورها الرملية. وفي اليوم التالي زرنا مدينة مومباسا القديمة وصعدنا على السلالم البالية لقلعة المسيح التي بناها البرتغاليون لأول مرة من أجل تعزيز السيطرة على الطرق التجارية بطول المحيط الهندي، والتي اجتاحتها فيما بعد الأساطيل العمانية السريعة ثم أصبحت بعدها رأس جسر للبريطانيين عند انتقالهم إلى الجزء الداخلي من البلاد بحثا عن العاج والذهب، إلا أنها الآن ليست سوى إطار حجري فارغ مقشرة جدرانه الضخمة مثل ورق اللصق المقطع إلى مستطيلات برتقالية اللون باهتة وخضراء ووردية، ومشيرة مدافعه غير المستخدمة إلى بحر هادئ رمى فيه صياد وحيد شبكته.
في طريق العودة إلى نيروبي قررت أنا وأوما أن نبذر بعض الأموال في شراء تذكرتين لركوب حافلة تحجز مقاعدها. إلا أن الشعور بالرفاهية لم يستمر طويلا حيث ضغط على ركبتي راكب أراد أن يسترد قيمة أمواله التي دفعها من خلال المقاعد المتحركة الظهر، بالإضافة إلى الأمطار الثقيلة المفاجئة التي تدفقت من الشقوق الموجودة في سقف الأتوبيس والتي حاولنا - دون جدوى - أن نسدها باستخدام المناديل الورقية.
في نهاية الأمر توقف هطول الأمطار ووجدنا أرضا تمر على أنظارنا؛ قاحلة ويسكنها الحصى والشجيرات وشجرة الباوباب التي كانت فروعها العارية الممعنة النظر إلى السماء مزينة بالأعشاش الدائرية للطائر النساج. تذكرت أنني قرأت في أحد الكتب أن شجرة الباوباب يمكن أن تظل سنوات دون إزهار، وأنها تعيش على هطول الأمطار الشحيحة، وعند رؤيتي الأشجار في هذا المكان في الضوء الغائم بعد الظهر عرفت سبب إيمان الناس بأنهم يملكون قوة من نوع خاص؛ أنهم يكنون بداخلهم أرواح أسلافهم الخيرة والشريرة وأن الجنس البشري ظهر لأول مرة أسفل هذه الشجرة. لم يكن الأمر متعلقا بمجرد غرابة شكلها أو هيئتها العتيقة المواجهة للسماء. قالت أوما: «تبدو هذه الأشجار وكأن لكل منها القدرة على سرد قصة»، وكان ذلك صحيحا فكل شجرة بدت وكأن لها شخصيتها المستقلة، ليست خيرة أو قاسية، إلا أنها باقية وبها أسرار لم أستطع إطلاقا سبر أغوار أعماقها وحكمة لم أتمكن مطلقا من استيعابها. على أن هذه الأشجار جعلتني أشعر بالانزعاج والراحة معا؛ هذه الأشجار التي بدت وكأنها ستجتث نفسها من فوق الأرض وتمشي بعيدا ببساطة لولا حقيقة أن أي مكان على وجه البسيطة لا يختلف كثيرا عن أي مكان آخر؛ حقيقة أن اللحظة الواحدة تحمل بين جنباتها كل ما حدث فيما مضى. •••
مرت ست سنوات منذ الرحلة الأولى إلى كينيا وتغيرت أحوال كثيرة في العالم.
كانت هذه الفترة هادئة نسبيا فيما يتعلق بي؛ فقد اشتملت على أوقات اكتشاف أقل من أوقات تقوية النفس وفعل الأشياء التي نخبر أنفسنا أننا لا بد من أن نفعلها في النهاية لنطور أنفسنا. التحقت بكلية الحقوق بجامعة هارفارد وقضيت أغلب سنوات الدراسة الثلاث في مكتبات سيئة الإنارة، متمعنا في دراسة القضايا والقوانين. وأحيانا يمكن أن تبعث دراسة القانون على الشعور بالإحباط باعتبارها عملية تطبيق قوانين ضيقة النطاق وإجراءات يصعب فهمها على حقائق لا تقدم المساعدة للآخرين؛ فهي نوع من التسوية الرفيعة المستوى تنظم شئون ذوي السلطة وتسعى دائما إلى تقديم تفسيرات إلى غير ذوي السلطة متعلقة بالحكمة النهائية لحالتهم وعدالتها.
لكن القانون ليس ذلك فقط. إنه ذاكرة وتسجيل لمحادثات جدالية بين أمة وضميرها استمرت فترات طويلة.
أتذكر الكلمات الواردة في وثيقة إعلان الاستقلال: «إننا نؤمن بأن هذه الحقائق بديهية.» أسمع فيها أصوات دوجلاس وروزفلت وجيفرسون ولينكولن وأشعر بكفاح مارتن لوثر كينج ومالكولم إكس والمعارضين المغمورين المطالبين بوضع هذه الكلمات حيز التنفيذ. وأسمع أصوات العائلات اليابانية التي اعتقلت خلف أسلاك شائكة، وأصوات شباب اليهود الروس الذين كانوا يقصون القماش لتصنيع الموديلات في المصانع الاستغلالية في لور إيست سايد، وأصوات المزارعين أثناء العواصف الترابية - التي ضربت الولايات المتحدة في ثلاثينيات القرن العشرين - الذين حملوا شاحناتهم بأشلاء حياتهم المدمرة. أسمع أصوات الناس في ألتجيلد جاردنز وأصوات من وقفوا خارج حدود البلد؛ هؤلاء المتعبون الجوعى من عبروا نهر ريو جراند. أسمع كل هذه الأصوات المناشدة بالاعتراف بها، ولجميعهم مطالب واحدة شكلت حياتي وهي المطالب نفسها التي أجدني أحيانا في ساعة متأخرة من الليل أطالب بها أبي. ما ماهية مجتمعنا؟ وكيف يمكن أن يتوافق مع حريتنا؟ وإلى أي مدى ستصل مسئولياتنا؟ وكيف يمكننا تحويل السلطة المجردة إلى عدالة، والعاطفة المجردة إلى حب؟ إن الإجابات التي وجدتها في كتب القانون لم تكن لترضيني على الدوام، وفي كل قضية تمييز عنصري بين البيض والسود، في التعليم أجد مجموعة من القضايا يلقى فيها الضمير حتفه على يد النفعية أو الطمع. ومع ذلك فإنني أجد نفسي في المحادثة نفسها - في اتحاد الأصوات - مشجعا بتواضع على إيماني بأن ما يجمعنا معا ربما يلقى القبول في النهاية ما دامت المطالب لا تزال تنشد.
كان هذا الإيمان - المختلف اختلافا شاسعا عن البراءة - من الصعوبة بمكان الإبقاء عليه أحيانا . وعند عودتي إلى شيكاغو وجدت دلالات الفساد متزايدة في الجانب الجنوبي بأكمله، حيث ازدادت الأحياء سوءا وازداد توتر الأطفال وصعوبة التحكم فيهم وانتقلت عائلات أكثر من الطبقة المتوسطة إلى الضواحي واكتظت السجون بالشباب الغاضب، وانعدمت آمال وتوقعات إخوتي. وكان من النادر جدا سماعي الناس يتساءلون عما فعلناه لنجعل قلوب أطفال كثيرين قاسية لهذا الحد، أو عما يمكننا فعله بيد واحدة لتقويم الوازع الأخلاقي أو القيم التي لا بد من أن نتخذها أساسا في حياتنا. إنما رأيت أننا نفعل ما كنا نفعله باستمرار؛ التظاهر بأن هؤلاء الأطفال ليسوا أطفالنا.
حاولت أن أسهم إسهاما بسيطا في عكس هذا التيار. وفي ممارستي القانونية تعاملت بصفة غالبة مع الكنائس والاتحادات المجتمعية والرجال والسيدات الذين تمكنوا من بناء محلات بقالة وعيادات دون إحداث أية مشكلات في قلب المدينة إلى جانب تجمعات سكنية للفقراء. ومن وقت لآخر كنت أتعامل مع إحدى قضايا التمييز العنصري لوكلاء كانوا يأتون إلى مكتب المحاماة الخاص بي بقصص نفضل أن نخبر أنفسنا بأنها لم تعد موجودة. وكان معظم هؤلاء العملاء يحرجون إلى حد ما بسبب ما حدث لهم، مثل رفض زملائهم في العمل من البيض الإدلاء بشهادتهم لمصلحتهم لأنهم لا يريدون أن يعرف عنهم أنهم من مختلقي المشكلات. ومع ذلك فإنه في مرحلة ما يجد كل من المدعي والشاهد أن القواعد في خطر الإخلال بها، وأنه مع كل ما حدث فإن هذه الكلمات التي نحتت في المستندات منذ 200 عام لا بد أن يكون لها معنى في النهاية. ومن ثم فإن البيض والسود يطالبون بالمجتمع الذي نطلق عليه أمريكا. هم يختارون تاريخنا الأفضل. •••
أعتقد أنني خلال السنوات القليلة الماضية تعلمت أن أكون أكثر صبرا مع نفسي ومع الآخرين. وإن صح هذا فإن ذلك أحد التطورات الإيجابية الكثيرة في شخصيتي التي أعزوها إلى زوجتي ميشيل. إنها إحدى بنات الجانب الجنوبي تربت في منزل مبني من طابق واحد قضيت فيه أوقاتا كثيرة في عامي الأول في شيكاغو. في الواقع لا تستطيع ميشيل دائما معرفة كيف يمكن فهم شخصيتي وكانت قلقة، مثلها مثل جدي وأبي، من أن أكون حالما في دنيا الخيال. إنها تذكرني في الحقيقة - بطبيعتها العملية الباهرة واتجاهاتها المشابهة لاتجاهات الجزء الأوسط الغربي من الولايات المتحدة - بجدتي إلى حد بعيد، وأتذكر أن جدي في أول مرة أخذت ميشيل إلى هاواي وكزني بمرفقه في ضلوعي وقال إنها «جذابة» للغاية. مع أن جدتي وصفت عروسي المرتقبة بأنها «فتاة بالغة الحساسية»، وهي الصفة التي فهمتها ميشيل على أنها أفضل صيغة مدح من جدتي لها.
بعد خطبتنا أخذت ميشيل إلى كينيا لمقابلة النصف الآخر من عائلتي وأعجب بها أفراد العائلة هناك أيضا. ويرجع ذلك جزئيا إلى أنها سرعان ما تعلمت عددا من كلمات لغة قبيلة لوو فاق ما تعلمته. لقد قضينا وقتا طيبا في أليجو ونحن نساعد أوما في مشروع الفيلم الذي كانت تعده ونستمع إلى المزيد من القصص التي ترويها لنا الجدة، ونقابل أقاربنا الذين لم أستطع مقابلتهم في زيارتي الأولى. وبعيدا عن الريف بدت الحياة في كينيا وقتئذ أصعب. ساءت الأحوال الاقتصادية جنبا إلى جنب مع ارتفاع معدلات الفساد وجرائم الشوارع المصاحبة لسوء أحوال الاقتصاد. وظلت قضية إرث أبي معلقة دون حل وكانت سارة وكيزيا لا تزالان على خلاف، ولم يكن بيرنارد وآبو وسيد قد وجدوا عملا ثابتا بعد مع أنهم ظلوا مفعمين بالأمل، وكانوا يتحدثون عن تعلم قيادة السيارات وربما الاشتراك جميعا في شراء سيارة ماتاتو مستعملة. حاولنا مرة أخرى زيارة جورج - أخينا الأصغر - لكن محاولاتنا باءت بالفشل. وأصيب بيلي ابن عمنا القوي البنية الودود الذي قابلته لأول مرة في كندو باي بمرض الإيدز. ولذا كان هزيلا وضعيفا عندما رأيته وكان يمكن أن ينام فجأة في غمرة الحديث معه. ومع ذلك بدا هادئا وسعيدا لرؤيتي وطلب مني أن أرسل له صورة التقطت لي وله قبل الإصابة بالمرض. إلا أنه مات وهو نائم قبل أن أرسل الصورة له.
في العام نفسه كانت هناك حالات وفاة أخرى. مات والد ميشيل - وكان رجلا صالحا ومهذبا تماما مثلما عرفته - قبل أن يزوج ابنته. ومات جدي بعد ذلك بأشهر بعد صراع طويل الأمد مع سرطان البروستاتا. ولأنه كان محاربا قديما في الحرب العالمية الثانية كان من حقه أن يدفن في مقابر بانشباول ناشونال سيميتري فوق هضبة تطل على هونولولو. وكانت مراسم الدفن بسيطة ولم يكن موجودا فيها سوى القليل من رفقائه الذين كانوا يلعبون معه الجولف والبريدج وأطلقت ثلاثة أعيرة نارية تبجيلا له ونفخ في البوق.
مع كل هذه الأحزان قررت أنا وميشيل أن نبدأ تنفيذ إجراءات الزواج وكان الراعي جيرميه إيه رايت الابن هو من أقام قداس الزفاف في حرم كنيسة المسيح المتحدة للثالوث في شارع 95. بدا الجميع سعيدا وقت الحفل وأعجبت عماتي الجديدات بالكيك وأعجب أعمامي الجدد بأنفسهم وهم مرتدون حلل السهرة التي استأجروها. كان جوني من بين الحضور وأخذ يضحك مع جيف وسكوت - صديقي القديمين من هاواي - وحسن رفيق الحجرة أيام الجامعة. وكانت أنجيلا وشيرلي ومنى في الحفل أيضا ومدحن أمي لتربيتها لي. (وردت عليهن أمي وهي تضحك قائلة: «إنكن لا تعرفن أهم ما في هذه القصة.») رأيت مايا وهي تمنع تقرب بعض الرجال إليها الذين اعتقدوا أنهم متحدثون بارعون إلا أنهم كانوا في الواقع أكبر منها بكثير، وكان ينبغي أن يكون لديهم من الإدراك ما يجعلهم يتجنبون فعل ذلك، لكنني عندما بدأت أتذمر طلبت مني ميشيل أن أهدأ وأخبرتني أن أختي الصغيرة باستطاعتها التعامل مع الأمر بمفردها. وبالطبع كانت على حق، حيث إنني نظرت إلى أختي الصغيرة ورأيت فيها امرأة ناضجة جميلة ذكية تبدو كأنها كونتيسة لاتينية ببشرتها ذات اللون الأسمر الفاتح وشعرها الأسود الطويل وردائها الأسود كإشبينة للعروس. وقفت أوما بجانبها وبدت جميلة مثلها مع أن عينيها كانتا منتفختين قليلا، وما أدهشني أنها الوحيدة التي بكت خلال القداس. وعندما بدأت الفرقة الموسيقية العزف أخذت أختاي تبحثان عن ابني عم ميشيل البالغين من العمر خمس وست سنوات واللذين كانا يحملان خاتمي الزواج بطريقة مثيرة للإعجاب. وبينما أشاهد هذين الولدين وهما يتقدمان أختي إلى صالة الرقص اعتقدت أنهما يشبهان أميرين أفريقيين بقبعتيهما الصغيرتين المنقوشتين وحزامي الخصر المتماشيين مع القبعتين ورابطتي العنق (البابيون).
كان روي هو أكثر الأشخاص الذين فخرت بهم في الحفل. وفي الواقع إننا نناديه الآن باسم آبونجو، وهذا هو اسمه بلغة قبيلة لوو، ومنذ عامين قرر التمسك بأصله الأفريقي. واعتنق الإسلام وتوقف عن تناول لحم الخنزير وأقلع عن التبغ والكحوليات. إلا أنه لا يزال يعمل في مكتب المحاسبة لكنه يفكر في العودة إلى كينيا بمجرد أن تتوفر لديه الأموال الكافية. في الواقع عندما تقابلنا في هوم سكويرد كان مشغولا ببناء كوخ لنفسه ولأمه بعيدا عن المجمع السكني الخاص بجدنا طبقا لتقاليد قبيلة لوو. وبعدئذ أخبرني أنه أحرز نجاحا في نشاطه التجاري الخاص بالاستيراد، وأنه يأمل في أن يؤتي ثماره قريبا بصورة تكفي لتوظيف بيرنارد وآبو بدوام كلي. وعندما ذهبنا معا لنقف على قبر أبينا لاحظت أنه وضعت أخيرا لوحة باسم والدنا فوق الشاهد الأسمنتي العاري.
إن نظام الحياة الجديد الذي اتبعه آبونجو جعله نحيفا ونافذ البصيرة، وفي الحفل بدا جديرا بالاحترام في زيه الأفريقي الأسود المزين بحلية بيضاء وقبعته المتماشية مع الزي لدرجة أن بعض الضيوف اعتقدوا خطأ أنه والدي. ودون شك كان الأخ الأكبر يومئذ وأخذ يتحدث معي في غمرة شعوري بالقلق قبل الزواج ويخبرني بطول أناة خمس أو ست مرات أن خاتم الزواج لا يزال معه عندما كنت أسأله، بالإضافة إلى أنه دفعني إلى خارج الباب بعد أن قال لي إنني إذا ما قضيت وقتا أطول من ذلك أمام المرآة فلن يهم مظهري لأننا سنكون دون شك متأخرين.
لم تحدث كل هذه التغيرات لروي دون أن يشعر بتوتر. كثيرا ما كان يعلن عن حاجة أي رجل أسود لأن يحرر نفسه من التأثيرات المدمرة للثقافة الأوروبية عليه ويوبخ أوما على ما أطلق عليه «أساليبها الأوروبية في الحياة». ذلك لأن الكلمات التي كان ينطقها لم تكن كلماته بصفة كاملة، وفي تحوله من حالة لأخرى كان يبدو أحيانا متكلفا ومتحيزا لآرائه. إلا أن سحر ضحكته بقي وكان يمكن أن نختلف معا لكن دون أية ضغينة. كما أن تغير عقيدته منحه منطقا قويا يستند إليه وكبرياء بمكانته في العالم. ومن هذا المنطلق رأيته يبني ثقته؛ فبدأ يخاطر بالانتقال إلى كينيا ويطالب بأشياء أصعب منالا ويطرح القواعد والشعارات جانبا ويقرر الأفضل له. إلا أنه لم يستطع مساعدة نفسه في فعل ذلك لطيبة قلبه وخفة ظله ونبله مع الناس وتسامحه لدرجة جعلت من الصعب عليه إيجاد حلول بسيطة للغز كونه رجلا أسود.
قرب انتهاء حفل الزفاف رأيته يبتسم ابتسامة عريضة أمام كاميرا الفيديو وقد مد ذراعيه الطويلتين فوق كتفي أمي وجدتي اللتين لم تكد رأساهما تبلغان صدره. وقال لي وأنا متجه إليهم: «انظر يا أخي، يبدو أن لي أمين جديدتين الآن.» ربتت جدتي على ظهره. وقالت: «وأصبح لدينا ابن جديد»، مع أنها عندما حاولت قول «آبونجو» فإن لهجة كانساس التي تتحدثها جعلتها تنطق الاسم بصورة غير سليمة تماما. وعندئذ بدأت أمي تبكي مرة أخرى ورفع آبونجو كأس عصير الفاكهة الخاصة به.
وقال: «نخب من هم ليسوا معنا.»
وقلت: «نخب نهاية سعيدة.»
سكبنا ما في كأسينا ببطء على الأرضية المكسوة ببلاط على هيئة مربعات. وفي هذه اللحظة على الأقل شعرت بأنني أكثر الرجال حظا على وجه البسيطة.
Bog aan la aqoon