وتقبل صلاح الصمت الطويل، متصورا أنه لم يستطع أن يحسن البيان عما يجيش بصدره. وأخيرا تكلم ياسين: صلاح، اسمع، إنك غير مسئول عن أبيك. - ولكنه مسئول عني. - ولكنك غير مسئول عنه. - ولكن الناس تنسبني إليه، وأنا ابنه فعلا. - هذا يجعله مسئولا عن الإنفاق عليك، ولكن حين تخرج إلى الحياة ستكون وحدك في مواجهتها؛ فهي لن تعرف إلا أنت. وإني أراك تحسن إعداد نفسك لمواجهتها، وحينئذ لن يقول الناس من أبوه، وإنما سيعاملونك مع موقفك منهم، ومع موقفك من الحياة، ومن البشر ومن الإنسانية. وحينئذ يصبح أبوك أيضا وهو غير مسئول عنك. إنه لم يقصر في شأنك. - وهل المسئولية مال فقط يا عمي ياسين أفندي؟ - إنه اطمأن أنك معي، وأني أحسن القيام بشأنك، وأنا لحسن حظه أو لحسن حظك مدرس أيضا، والتعامل مع الناشئين هو صناعتي وليست صناعته. - اسمع يا عمي ياسين أفندي، إنك أجبت أحسن إجابة وإني أشكرك، ولقد قلت أكثر مما توقعت أن أسمعه منك. لن أفتح هذا الموضوع معك مرة أخرى.
ودق جرس المدرسة، وذهب المدرس إلى مكان المدرس والتلميذ إلى مكان التلميذ.
توفيت نبوية، واتصل خليل بأخيه، وأخبره. ••• - سأقيم المأتم، وأنتظركم. - لا تقم المأتم. - ماذا؟! كيف؟! - لقد طلبت أن يكون العزاء فيها أمام بيتي. - أمرها، أجيء فورا. - بل انتظر. - ماذا؟! - لقد طلبت أيضا أن تدفن إلى جانب أبي، فأعد مكانها وتعال لتتقبل العزاء. •••
حدث انفصال سوريا. وصدرت القوانين في مصر بمصادرة شركات وأموال. وهكذا فقد خليل أغلب أمواله؛ فقد كان يضع كل ربحه من الطب في الأسهم شأن أغلب الأطباء. وكان رأيهم أنهم ليسوا فلاحين، وأن عملهم في العيادات وفي المستشفيات لن يسمح لهم أن يباشروا أرضهم حتى ولو كانوا من هواة الزراعة، فإذا أرادوا أن يبنوا عمارات فهم قد رأوا ما حل بأصحاب العمارات من أهوال، فلم يكن أمامهم إلا الأسهم تعطيهم عائدا دون أن تتطلب منهم مباشرة، ودون أن تعرضهم لما يتعرض له أصحاب الأملاك كافة، أرضا كانت هذه الأملاك أو كانت عمارات.
وهكذا لم يبق للدكتور خليل إلا أوشال، وضاع عليه جهد السنين الطويلة التي عاناها، والتي كان يأمل أن يجد فيها موئلا حين يفكر ابنه وهدان في الدراسة بالخارج، أو حين يأتي اليوم وتتزوج ابنته نبوية.
سبحانك يا رب! أهذه هي العدالة الاجتماعية؟ أخي الذي جمع ماله بهذه الوسائل لا يمسه شيء وأنا الذي جمعت مالي بما يرضيك أصاب بهذه المصيبة؟! ولكنه سرعان ما نفض عن نفسه هذا الخاطر. إن الله عادل والذي أنزل بي هذا الخراب بشر من البشر. ولا يجوز لي أن أنفس على أخي أنه لم يمس، ولكنها هواجس نفسي وليس لي فيها حيلة. الأمر لله من قبل ومن بعد.
أما فاطمة وعابدة فقد أصابتهما القوانين في دخلهما، ولم تصبهما في رأس المال؛ فقد كان بطبيعته أقل من الحد الأدنى الذي أعفاه القانون.
ولكن المصيبة الحقيقية هي تلك التي نزلت بعد أيام بقدرية زوجة سباعي الذي أصبح عضوا بمجلس الأمة؛ فقد صدر قرار بمصادرة أموال أبناء المرحوم عز الدين الخولي وابنته. ونزل القرار بسباعي فاجعة قاصفة. وراح يطرق الأبواب بكل الوسائل التي يستطيعها ولكن هيهات! لا سبيل.
ليس عجيبا أن يكون سباعي وحده هو الذي أحس بهول الكارثة؛ فقدرية لم تكن تدري عن الأرض شيئا، وهي تعيش في حمى زوجها وتعلم أن شيئا لن ينقصها، وما كانت مطالبها تزيد عما تحتاجه حياة طيبة ليس فيها هوان وليس فيها أي بذخ. أما المشاعر التي كان من المفروض أن تشترك فيها مع زوجها فهي لم تكن موجودة بينهما في أي شيء حتى تجمع بينهما في هذه الكارثة. وبلطف من الله كانت قدرية تحس أن غنى ابنها صلاح لن يكون بمال أبيه، وإنما بعلمه الذي ظل متفوقا فيه دائما. وهو في هذا العام مقبل على امتحان الثانوية العامة، وهي تريد أن يكون الصفاء مخيما على البيت حتى لا تتأثر نفس صلاح بأي عامل خارجي.
أما صلاح فلم يكن يعرف عن أرض أبيه شيئا، وإنما هو مشغول بالعلم وبالقراءة وبالشباب وبصداقات في المدرسة. يريد أن ينسى ما وسعه الجهد ما رأى من خوف الطبالين والزمارين والهاتفين لأبيه وأصحاب الخطب التي كانوا يلقونها في مدحه، وقد وجد بغيته بالإقبال بالحياة على الحياة. وألقى نفسه في دفاعها يتعلمها منها، ومما يكتب الكتاب، ومما يؤلف الفنانون في الموسيقى والرسم. ومن التاريخ الذي كان يعتبره السيرة الذاتية للحياة، كتبها عنها أبناء لها، منهم الصادق ومنهم المتحمس الذي يميل به تحمسه عن الصدق إلى الهوى. وكان يحلو له أن يرى تصارع هؤلاء المتحمسين، ويرى كلا منهم وهو واقف على طرف قصي من أطراف الحقيقة. وعرف صلاح التيارات الدينية والتيارات الملحدة.
Bog aan la aqoon