Xukunka Dadka Dhimmiga

Ibn Qayyim al-Jawziyya d. 751 AH

Xukunka Dadka Dhimmiga

أحكام أهل الذمة (العلمية)

Baare

يوسف بن أحمد البكري - شاكر بن توفيق العاروري

Daabacaha

رمادى للنشر

Lambarka Daabacaadda

الأولى

Sanadka Daabacaadda

١٤١٨ - ١٩٩٧

Goobta Daabacaadda

الدمام

Noocyada

Fiqiga
[ذكر الجزية] [بَابُ الْجِزْيَةِ] [فصل ممن تؤخذ الْجِزْيَةِ وحكمتها وسببها] [سَبَبُ تَأْلِيفِ الْكِتَابِ بَابُ الْجِزْيَةِ] سُئِلَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ شَمْسُ الدِّينِ زَادَهُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَنْ كَيْفِيَّةِ الْجِزْيَةِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالْبِلَادِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَسَبَبِ وَضْعِهَا وَعَنْ مِقْدَارِ مَا يُؤْخَذُ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ وَمِنَ الْمُتَوَسِّطِينَ وَمِنَ الْفُقَرَاءِ، وَعَنْ حَدِّ الْغَنِيِّ وَالْمُتَوَسِّطِ وَالْفَقِيرِ فِيهَا وَهَلْ يُثَابُ أَوْلِيَاءُ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ - أَمَدَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى إِلْزَامِهِمْ بِهَا عَلَى حَسَبِ حَالِهِمْ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يُؤْخَذُ مِنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ وَالْمُتَوَسِّطِ؟ وَأَجَابَ: أَمَّا سَبَبُ وَضْعِ الْجِزْيَةِ فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التوبة: ٢٩] . [مِمَّنْ تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ] فَأَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمِنَ

1 / 79

الْمَجُوسِ.

1 / 80

وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ﵁ قَدْ تَوَقَّفَ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنَ الْمَجُوسِ حَتَّى شَهِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ. وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ذَكَرَ الْمَجُوسَ فَقَالَ: مَا أَدْرِي كَيْفَ أَصْنَعُ فِي أَمْرِهِمْ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ

1 / 81

رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: " «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» " وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ﴾ [الأنعام: ١٥٦]، فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ حَكَى هَذَا عَنْهُمْ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُكَذِّبْهُمْ فِيهِ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: " أَنَا أَعْلَمُ النَّاسِ بِالْمَجُوسِ كَانَ لَهُمْ عِلْمٌ يُعَلِّمُونَهُ وَكِتَابٌ يَدْرُسُونَهُ، وَإِنَّ مَلِكَهُمْ سَكِرَ فَوَقَعَ عَلَى ابْنَتِهِ أَوْ أُخْتِهِ فَاطَّلَعَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ، فَلَمَّا صَحَا جَاءُوا يُقِيمُونَ عَلَيْهِ الْحَدَّ فَامْتَنَعَ مِنْهُمْ وَدَعَا أَهْلَ مَمْلَكَتِهِ وَقَالَ: تَعْلَمُونَ دِينًا خَيْرًا مِنْ دِينِ آدَمَ وَقَدْ أَنْكَحَ بَنِيهِ بَنَاتِهِ، فَأَنَا عَلَى دِينِ آدَمَ، قَالَ: فَتَابَعَهُ قَوْمٌ وَقَاتَلُوا الَّذِينَ يُخَالِفُونَهُ حَتَّى قَتَلَهُمْ، فَأَصْبَحُوا وَقَدْ أُسْرِيَ بِكِتَابِهِمْ وَرُفِعَ الْعِلْمُ الَّذِي فِي صُدُورِهِمْ فَهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، وَقَدْ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَبُو بَكْرٍ - وَأَرَاهُ قَالَ: وَعُمَرُ - مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ ". فَهَذَا حَدِيثٌ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي " مُسْنَدِهِ " وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ

1 / 83

وَغَيْرُهُمَا وَلَكِنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْحُفَّاظِ ضَعَّفُوا الْحَدِيثَ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: لَا أَحْسَبُ مَا رَوَوْهُ عَنْ عَلِيٍّ فِي هَذَا مَحْفُوظًا. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ " عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّهُ قَالَ لِعَامِلِ كِسْرَى: " أَمَرَنَا نَبِيُّنَا أَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى تَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ أَوْ تُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ ". وَفِي " مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ " وَالتِّرْمِذِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «مَرِضَ أَبُو طَالِبٍ فَجَاءَتْهُ قُرَيْشٌ وَجَاءَهُ النَّبِيُّ ﷺ وَشَكَوْهُ إِلَى أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: يَابْنَ أَخِي مَا تُرِيدُ مِنْ قَوْمِكَ؟ قَالَ: " أُرِيدُ مِنْهُمْ كَلِمَةً تَدِينُ

1 / 84

لَهُمْ بِهَا الْعَرَبُ، وَتُؤَدِّي إِلَيْهِمْ بِهَا الْعَجَمُ الْجِزْيَةَ» ". قَالَ كَلِمَةً وَاحِدَةً؟ قَالَ: " كَلِمَةً وَاحِدَةً لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ". قَالُوا: ﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ [ص: ٥] ﴿مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ﴾ [ص: ٧]، قَالَ: فَنَزَلَ فِيهِمْ: ﴿ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ﴾ [ص: ١]، إِلَى قَوْلِهِ: ﴿اخْتِلَاقٌ﴾ [ص: ٧] . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْأَنْصَارِيِّ: " «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ إِلَى الْبَحْرَيْنِ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمُ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ» ".

1 / 85

وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ " الْأَمْوَالِ " عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: «قَبِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْجِزْيَةَ مِنْ أَهْلِ الْبَحْرَيْنِ وَكَانُوا مَجُوسًا» . وَفِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ﵁: «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى أُكَيْدِرِ دُومَةَ فَأَخَذُوهُ فَأَتَوْا بِهِ فَحَقَنَ لَهُ دَمَهَ، وَصَالَحَهُ عَلَى الْجِزْيَةِ» . وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: أَوَّلُ مَا أُخِذَتِ الْجِزْيَةُ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ وَكَانُوا نَصَارَى. وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنِ [ابْنِ] أَبِي نَجِيحٍ قَالَ: قُلْتُ لِمُجَاهِدٍ: مَا شَأْنُ أَهْلِ الشَّامِ عَلَيْهِمْ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ وَأَهْلُ الْيَمَنِ عَلَيْهِمْ دِينَارٌ؟ قَالَ: جُعِلَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ الْيَسَارِ.

1 / 86

فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ تُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ، بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَخْذِهَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمِنَ الْمَجُوسِ. فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنَ الْعَجَمِ، وَلَا تُؤْخَذُ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنَ الْعَرَبِ وَنَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ. وَاحْتَجَّ أَرْبَابُ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى ذَلِكَ بِحُجَجٍ مِنْهَا قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ: " «وَتُؤَدِّي إِلَيْكُمْ بِهَا الْعَجَمُ الْجِزْيَةَ» "، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ بُرَيْدَةَ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ قَالَ: " اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى إِحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ أَوْ خِلَالٍ، فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ إِلَيْهَا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمُ

1 / 87

الْجِزْيَةَ فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ، وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ فَلَا تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَلَا ذِمَّةَ نَبِيِّهِ، وَلَكِنِ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ، وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ فَإِنَّكُمْ إِنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّهِ، وَذِمَّةَ رَسُولِهِ، وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لَا؟» ". وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْفِقْهِ. مِنْهَا: وَصِيَّةُ الْإِمَامِ لِنُوَّابِهِ، وَأُمَرَائِهِ، وَوُلَاتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَى الرَّعِيَّةِ فَبِهَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ يُحْفَظُ عَلَى الْأَمِيرِ مَنْصِبُهُ، وَتَقَرُّ عَيْنُهُ بِهِ وَيَأْمَنُ فِيهِ مِنَ النَّكَبَاتِ وَالْغِيَرِ، وَمَتَى تَرَكَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ أَوْ أَحَدَهُمَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَسْلُبَهُ اللَّهُ عِزَّهُ، وَيَجْعَلَهُ عِبْرَةً لِلنَّاسِ فَمَا إِنْ سُلِبَتِ النِّعَمُ إِلَّا بِتَرْكِ تَقْوَى اللَّهِ وَالْإِسَاءَةِ إِلَى النَّاسِ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْجَيْشَ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَغُلُّوا مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَلَا يَغْدِرُوا بِالْعَهْدِ، وَلَا يُمَثِّلُوا بِالْكُفَّارِ، وَلَا يَقْتُلُوا مَنْ لَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَدْعُونَ الْكُفَّارَ - قَبْلَ قِتَالِهِمْ - إِلَى الْإِسْلَامِ، وَهَذَا وَاجِبٌ إِنْ كَانَتِ الدَّعْوَةُ لَمْ تَبْلُغْهُمْ، وَمُسْتَحَبٌّ إِنْ بَلَغَتْهُمُ الدَّعْوَةُ، هَذَا إِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ هُمُ الْقَاصِدِينَ لِلْكُفَّارِ، فَأَمَّا إِذَا قَصَدَهُمُ الْكُفَّارُ فِي دِيَارِهِمْ فَلَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ لِأَنَّهُمْ يَدْفَعُونَهُمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَحَرِيمِهِمْ. وَمِنْهَا: إِلْزَامُهُمْ بِالتَّحَوُّلِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ إِذَا كَانُوا مُقِيمِينَ بَيْنَ الْكُفَّارِ، فَإِنْ أَسْلَمُوا كُلُّهُمْ وَصَارَتِ الدَّارُ دَارَ الْإِسْلَامِ لَمْ يُلْزَمُوا بِالتَّحَوُّلِ مِنْهَا بَلْ

1 / 88

يُقِيمُونَ فِي دِيَارِهِمْ، وَكَانَتْ دَارُ الْهِجْرَةِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ هِيَ دَارَ الْإِسْلَامِ، فَلَمَّا أَسْلَمَ أَهْلُ الْأَمْصَارِ صَارَتِ الْبِلَادُ الَّتِي أَسْلَمَ أَهْلُهَا بِلَادَ الْإِسْلَامِ فَلَا يَلْزَمُهُمُ الِانْتِقَالُ مِنْهَا. وَمِنْهَا: أَنَّ الْأَعْرَابَ لَيْسَ لَهُمْ شَيْءٌ فِي الْفَيْءِ وَلَا فِي الْغَنَائِمِ مَا لَمْ يُقَاتِلُوا، فَإِذَا قَاتَلُوا اسْتَحَقُّوا مِنَ الْغَنِيمَةِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ وَأَمَّا الْأَعْرَابُ الَّذِينَ لَا يُقَاتِلُونَ الْكُفَّارَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ لَهُمْ شَيْءٌ فِي الْفَيْءِ وَلَا فِي الْغَنِيمَةِ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ كَافِرٍ هَذَا ظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ وَلَمْ يَسْتَثْنِ مِنْهُ كَافِرًا مِنْ كَافِرٍ. وَلَا يُقَالُ: هَذَا مَخْصُوصٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ خَاصَّةً، فَإِنَّ اللَّفْظَ يَأْبَى اخْتِصَاصَهُمْ بِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَيْضًا فَسَرَايَا رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَجُيُوشُهُ أَكْثَرُ مَا كَانَتْ تُقَاتِلُ عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ مِنَ الْعَرَبِ. وَلَا يُقَالُ: إِنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِهَا بِأَهْلِ الْكِتَابِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ، وَالنَّبِيُّ ﷺ أُمِرَ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ، فَيُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالْقُرْآنِ وَمِنْ عُمُومِ الْكُفَّارِ بِالسُّنَّةِ، وَقَدْ أَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنَ الْمَجُوسِ وَهُمْ عُبَّادُ النَّارِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، وَلَا يَصِحُّ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ، وَلَوْ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ عِنْدَ الصَّحَابَةِ ﵃ لَمْ يَتَوَقَّفْ عُمَرُ ﵁ فِي أَمْرِهِمْ وَلَمْ

1 / 89

يَقُلِ النَّبِيُّ ﷺ: " «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» " بَلْ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَهْلَ الْكِتَابِ فِي الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَذَكَرَ الْأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ أَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْكُتُبَ وَالشَّرَائِعَ الْعِظَامَ وَلَمْ يَذْكُرْ لِلْمَجُوسِ - مَعَ أَنَّهَا أُمَّةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ أَعْظَمِ الْأُمَمِ شَوْكَةً وَعَدَدًا وَبَأْسًا - كِتَابًا وَلَا نَبِيًّا، وَلَا أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ بَلِ الْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِذَا أُخِذَتْ مِنْ عُبَّادِ النِّيرَانِ فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عُبَّادِ الْأَوْثَانِ؟ فَإِنْ قِيلَ: فَالنَّبِيُّ ﷺ لَمْ يَأْخُذْهَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ عُبَّادِ الْأَوْثَانِ مَعَ كَثْرَةِ قِتَالِهِ لَهُمْ. قِيلَ: أَجَلْ وَذَلِكَ لِأَنَّ آيَةَ الْجِزْيَةِ إِنَّمَا نَزَلَتْ عَامَ " تَبُوكَ " فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَتْ جَزِيرَةُ الْعَرَبِ وَلَمْ يَبْقَ بِهَا أَحَدٌ مِنْ عُبَّادِ الْأَوْثَانِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْجِزْيَةِ أَخَذَهَا النَّبِيُّ ﷺ مِمَّنْ بَقِيَ عَلَى كُفْرِهِ مِنَ النَّصَارَى وَالْمَجُوسِ وَلِهَذَا لَمْ يَأْخُذْهَا مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَلَا مِنْ يَهُودِ خَيْبَرَ لِأَنَّهُ صَالَحَهُمْ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الْجِزْيَةِ.

1 / 90

[ادِّعَاءُ يَهُودِ خَيْبَرَ إِسْقَاطَ الْجِزْيَةِ عَنْهُمْ وَرَدُّ ذَلِكَ] وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ هِيَ الَّتِي أَوْقَعَتْ عِنْدَ الْيَهُودِ أَنَّ أَهْلَ خَيْبَرَ لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُمْ مَخْصُوصُونَ بِذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ الْيَهُودِ، ثُمَّ أَكَّدُوا أَمْرَهَا بِأَنْ زَوَّرُوا كِتَابًا فِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَسْقَطَ عَنْهُمُ الْكُلَفَ وَالسُّخَرَ وَالْجِزْيَةَ وَوَضَعُوا فِيهِ شَهَادَةَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَغَيْرِهِمَا، وَهَذَا الْكِتَابُ كَذِبٌ مُخْتَلَقٌ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ عَشَرَةِ أَوْجُهٍ: مِنْهَا: أَنَّ أَحَدًا مِنْ عُلَمَاءِ النَّقْلِ وَالسِّيَرِ وَالْمَغَازِي لَمْ يَذْكُرْ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ أَلْبَتَّةَ مَعَ عِنَايَتِهِمْ بِضَبْطِ مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ بِكَثِيرٍ. الثَّانِي: أَنَّ الْجِزْيَةَ إِنَّمَا نَزَلَتْ بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ فَحِينَ صَالَحَ أَهْلَ خَيْبَرَ لَمْ تَكُنِ الْجِزْيَةُ نَزَلَتْ حَتَّى يَضَعَهَا عَنْهُمْ. الثَّالِثُ: أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ لَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ بَعْدُ فَإِنَّهُ إِنَّمَا أَسْلَمَ عَامَ الْفَتْحِ بَعْدَ خَيْبَرَ. الرَّابِعُ: أَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ تُوُفِّيَ عَامَ الْخَنْدَقِ قَبْلَ فَتْحِ خَيْبَرَ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ كُلَفٌ وَلَا سُخَرٌ حَتَّى تُوضَعَ عَنْهُمْ. السَّادِسُ: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِأَهْلِ خَيْبَرَ مِنَ الْحُرْمَةِ وَرِعَايَةِ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ مَا يَقْتَضِي وَضْعَ الْجِزْيَةِ عَنْهُمْ، وَقَدْ كَانُوا مِنْ أَشَدِّ الْكُفَّارِ عَدَاوَةً لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَأَصْحَابِهِ فَأَيُّ خَيْرٍ حَصَلَ بِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ حَتَّى تُوضَعَ عَنْهُمُ الْجِزْيَةُ دُونَ سَائِرِ الْكُفَّارِ؟

1 / 91

السَّابِعُ: أَنَّ الْكِتَابَ الَّذِي أَظْهَرُوهُ ادَّعَوْا أَنَّهُ بِخَطِّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ﵁، وَهَذَا كَذِبٌ قَطْعًا وَعَدَاوَةُ عَلِيٍّ ﵁ لِلْيَهُودِ مَعْرُوفَةٌ، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَ " مَرْحَبًا " الْيَهُودِيَّ وَأَثْخَنَ فِي الْيَهُودِ يَوْمَ خَيْبَرَ حَتَّى كَانَ الْفَتْحُ عَلَى يَدَيْهِ.

1 / 92

الثَّامِنُ: أَنَّ هَذَا لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ الْيَهُودِ وَهُمُ الْقَوْمُ الْبُهُتُ، أَكْذَبُ الْخُلْقِ عَلَى اللَّهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ، فَكَيْفَ يُصَدَّقُونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِيمَا يُخَالِفُ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى؟ ! التَّاسِعُ: أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَأَظْهَرُوهُ فِي أَيَّامِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَفِي أَيَّامِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَفِي أَيَّامِ الْمَنْصُورِ وَالرَّشِيدِ، وَكَانَ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ يَسْتَثْنُونَهُمْ مِمَّنْ تُوضَعُ عَنْهُمُ الْجِزْيَةُ أَوْ لَذَكَرَ ذَلِكَ فَقِيهٌ وَاحِدٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى الْأُمَّةِ أَنْ تُجْمِعَ عَلَى مُخَالَفَةِ سُنَّةِ نَبِيِّهَا، وَكَيْفَ يَكُونُ بِأَيْدِي أَعْدَاءِ اللَّهِ كِتَابٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَلَا يَحْتَجُّونَ بِهِ كُلَّ وَقْتٍ عَلَى مَنْ يَأْخُذُ الْجِزْيَةَ مِنْهُمْ، وَلَا يَذْكُرُهُ عَالِمٌ وَاحِدٌ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ؟ وَإِنِ اغْتَرَّ بِهِ بَعْضُ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِالسِّيرَةِ وَالْمَنْقُولِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، شَنَّعَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ وَبَيَّنُوا خَطَأَهُ وَحَذَّرُوا مِنْ سَقْطَتِهِ. الْعَاشِرُ: أَنَّ أَئِمَّةَ الْحَدِيثِ وَالنَّقْلِ يَشْهَدُونَ بِبُطْلَانِ هَذَا الْكِتَابِ،

1 / 93

وَأَنَّهُ زُورٌ مُفْتَعَلٌ وَكَذِبٌ مُخْتَلَقٌ، وَلَمَّا أَظْهَرَهُ الْيَهُودُ بَعْدَ الْأَرْبَعِ مِائَةٍ عَلَى عَهْدِ الْحَافِظِ أَبِي بَكْرٍ الْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ أَرْسَلَ إِلَيْهِ الْوَزِيرُ ابْنُ الْمُسْلِمَةِ فَأَوْقَفَهُ عَلَيْهِ فَقَالَ الْحَافِظُ: هَذَا الْكِتَابُ زُورٌ فَقَالَ لَهُ الْوَزِيرُ: مِنْ أَيْنَ هَذَا؟ فَقَالَ: فِيهِ شَهَادَةُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَسَعْدٌ مَاتَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ قَبْلَ خَيْبَرَ، وَمُعَاوِيَةُ أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَخَيْبَرُ كَانَتْ سَنَةَ سَبْعٍ. فَأَعْجَبَ ذَلِكَ الْوَزِيرَ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يَأْخُذِ الْجِزْيَةَ مِنْ أَحَدٍ مِنْ

1 / 94

مُشْرِكِي الْعَرَبِ لِأَنَّ آيَةَ الْجِزْيَةِ نَزَلَتْ بَعْدَ عَامِ تَبُوكَ، وَكَانَتْ عُبَّادُ الْأَصْنَامِ مِنَ الْعَرَبِ كُلُّهُمْ قَدْ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ ﷺ مِمَّنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الْيَهُودِ وَمِنَ النَّصَارَى وَمِنَ الْمَجُوسِ. قَالَ الْمُخَصِّصُونَ بِالْجِزْيَةِ لِأَهْلِ الْكِتَابِ: الْمُرَادُ مِنْ إِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ إِعْدَامُ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ مِنَ الْأَرْضِ وَأَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ﴾ [البقرة: ١٩٣]، وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ﴾ [الأنفال: ٣٩]، وَمُقْتَضَى هَذَا أَلَّا يُقَرَّ كَافِرٌ عَلَى كُفْرِهِ، وَلَكِنْ جَاءَ النَّصُّ بِإِقْرَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِذَا أَعْطَوُا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ، فَاقْتَصَرْنَا بِهَا عَلَيْهِمْ وَأَخَذْنَا فِي عُمُومِ الْكُفَّارِ بِالنُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى قِتَالِهِمْ إِلَى أَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ. قَالُوا: وَلَا يَصِحُّ إِلْحَاقُ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ ; لِأَنَّ كُفْرَ الْمُشْرِكِينَ أَغْلَظُ مِنْ كُفْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَإِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ مَعَهُمْ مِنَ التَّوْحِيدِ وَبَعْضِ آثَارِ الْأَنْبِيَاءِ مَا لَيْسَ مَعَ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ، وَيُؤْمِنُونَ بِالْمَعَادِ وَالْجَزَاءِ وَالنُّبُوَّاتِ بِخِلَافِ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ. وَعَبَدَةُ الْأَصْنَامِ حَرْبٌ لِجَمِيعِ الرُّسُلِ وَأُمَمِهِمْ مِنْ عَهْدِ نُوحٍ إِلَى خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ ; وَلِهَذَا أَثَّرَ هَذَا التَّفَاوُتُ الَّذِي بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي حِلِّ الذَّبَائِحِ وَجَوَازِ الْمُنَاكَحَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ دُونَ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ، وَلَا يَنْتَقِضُ هَذَا بِالْمَجُوسِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَمَرَ أَنْ يُسَنَّ بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ إِنَّمَا تُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَأَنَّهَا إِنَّمَا

1 / 95

وُضِعَتْ لِأَجْلِهِمْ خَاصَّةً وَإِلَّا لَوْ كَانَتِ الْجِزْيَةُ تَعُمُّ جَمِيعَ الْكُفَّارِ لَمْ يَكُنْ أَهْلُ الْكِتَابِ أَوْلَى بِهَا مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلَقَالَ: لَهُمْ حُكْمُ أَمْثَالِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ يُقَاتَلُونَ حَتَّى يُسْلِمُوا أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ. وَأَمَّا تَحْرِيمُ ذَبَائِحِهِمْ وَمُنَاكَحَتِهِمْ فَاتِّفَاقٌ مِنَ الصَّحَابَةِ ﵃، وَلِهَذَا أَنْكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ عَلَى أَبِي ثَوْرٍ طَرْدَهُ الْقِيَاسَ وَإِفْتَاءَهُ بِحِلِّ ذَبَائِحِهِمْ وَجَوَازِ مُنَاكَحَتِهِمْ وَدَعَا عَلَيْهِ أَحْمَدُ حَيْثُ أَقْدَمَ عَلَى مُخَالَفَةِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَالصَّحَابَةُ كَانُوا أَفْقَهَ وَأَعْلَمَ وَأَسَدَّ قِيَاسًا وَرَأْيًا فَإِنَّهُمْ أَخَذُوا فِي الدِّمَاءِ بِحَقْنِهَا مُوَافَقَةً لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَفِعْلِهِ، حَيْثُ أَخَذَهَا مِنْهُمْ وَأَخَذُوا فِي الْأَبْضَاعِ وَالذَّبَائِحِ بِتَحْرِيمِهَا احْتِيَاطًا وَإِبْقَاءً لَهَا عَلَى الْأَصْلِ، وَإِلْحَاقًا لَهُمْ بِعُبَّادِ الْأَوْثَانِ إِذْ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ عُبَّادِ الْأَوْثَانِ وَعُبَّادِ النِّيرَانِ، فَالْأَصْلُ فِي الدِّمَاءِ حَقْنُهَا وَفِي الْأَبْضَاعِ وَالذَّبَائِحِ تَحْرِيمُهَا فَأَبْقَوْا كُلَّ شَيْءٍ عَلَى أَصْلِهِ، وَهَذَا غَايَةُ الْفِقْهِ وَأَسَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ النَّظَرِ. [الْحِكْمَةُ مِنْ إِبْقَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ بَيْنَ أَظْهُرِنَا] قَالُوا: وَلِلَّهِ تَعَالَى حِكَمٌ فِي إِبْقَاءِ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ بَيْنَ أَظْهُرِنَا فَإِنَّهُمْ مَعَ كُفْرِهِمْ شَاهِدُونَ بِأَصْلِ النُّبُوَّاتِ وَالتَّوْحِيدِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَفِي كُتُبِهِمْ مِنَ الْبِشَارَاتِ بِالنَّبِيِّ ﷺ وَذِكْرِ نُعُوتِهِ وَصِفَاتِهِ وَصِفَاتِ أُمَّتِهِ مَا هُوَ مِنْ آيَاتِ نُبُوَّتِهِ وَبَرَاهِينِ رِسَالَتِهِ، وَمَا يَشْهَدُ بِصِدْقِ الْأَوَّلِ وَالْآخِرِ. وَهَذِهِ الْحِكْمَةُ تَخْتَصُّ بِأَهْلِ الْكِتَابِ دُونَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فَبَقَاؤُهُمْ مِنْ

1 / 96

أَقْوَى الْحُجَجِ عَلَى مُنْكِرِ النُّبُوَّاتِ وَالْمَعَادِ وَالتَّوْحِيدِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِمُنْكِرِي ذَلِكَ: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ٤٣]، ذَكَرَ هَذَا عَقِبَ قَوْلِهِ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ٤٣]، يَعْنِي: سَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ أَرْسَلْنَا قَبْلَ مُحَمَّدٍ رِجَالًا يُوحَى إِلَيْهِمْ أَمْ كَانَ مُحَمَّدٌ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ رَسُولٌ حَتَّى يَكُونَ إِرْسَالُهُ أَمْرًا مُنْكَرًا لَمْ يَطْرُقِ الْعَالَمَ رَسُولٌ قَبْلَهُ؟ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾ [الزخرف: ٤٥]، وَالْمُرَادُ بِسُؤَالِهِمْ سُؤَالُ أُمَمِهِمْ عَمَّا جَاءُوهُمْ بِهِ هَلْ فِيهِ أَنَّ اللَّهَ شَرَعَ لَهُمْ أَنْ يُعْبَدَ مِنْ دُونِهِ إِلَهٌ غَيْرُهُ؟ قَالَ الْفَرَّاءُ: الْمُرَادُ سُؤَالُ أَهْلِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فَيُخْبِرُونَهُ عَنْ كُتُبِهِمْ وَأَنْبِيَائِهِمْ.

1 / 97

وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: التَّقْدِيرُ وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلَنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: التَّقْدِيرُ وَسَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ. وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، فَالْمُرَادُ التَّقْرِيرُ لِمُشْرِكِي قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ أَنْكَرَ النُّبُوَّاتِ وَالتَّوْحِيدَ، وَأَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ رَسُولًا أَوْ أَنْزَلَ كِتَابًا أَوْ حَرَّمَ عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ. فَشَهَادَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ بِهَذَا حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ وَهِيَ مِنْ أَعْلَامِ صِحَّةِ رِسَالَتِهِ ﷺ إِذْ كَانَ قَدْ جَاءَ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ إِخْوَانُهُ الَّذِينَ تَقَدَّمُوهُ مِنْ رُسُلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَلَمْ يَكُنْ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَلَا جَاءَ بِضِدِّ مَا جَاءُوا بِهِ، بَلْ أَخْبَرَ بِمِثْلِ مَا أَخْبَرُوا بِهِ مِنْ غَيْرِ شَاهِدٍ وَلَا اقْتِرَانٍ فِي الزَّمَانِ وَهَذِهِ مِنْ أَعْظَمِ آيَاتِ صِدْقِهِ.

1 / 98

[شُبْهَةٌ وَجَوَابُهَا] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ [يونس: ٩٤]، وَقَدْ أَشْكَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ وَأَوْرَدَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِيهَا إِيرَادًا وَقَالُوا: كَانَ فِي شَكٍّ فَأُمِرَ أَنْ يَسْأَلَنَا وَلَيْسَ فِيهَا بِحَمْدِ اللَّهِ إِشْكَالٌ، وَإِنَّمَا أُتِيَ أَشْبَاهُ الْأَنْعَامِ مِنْ سُوءِ قَصْدِهِمْ وَقِلَّةِ فَهْمِهِمْ وَإِلَّا فَالْآيَةُ مِنْ أَعْلَامِ نُبُوَّتِهِ ﷺ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ الشَّكِّ وَلَا السُّؤَالُ أَصْلًا، فَإِنَّ الشَّرْطَ لَا يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ الْمَشْرُوطِ بَلْ وَلَا عَلَى إِمْكَانِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء: ٢٢]، وَقَوْلِهِ: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا﴾ [الإسراء: ٤٢]، وَقَوْلِهِ: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ﴾ [الزخرف: ٨١]، وَقَوْلِهِ: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر: ٦٥]، وَنَظَائِرِهِ، فَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَمْ يَشُكَّ وَلَمْ يَسْأَلْ. وَفِي تَفْسِيرِ سَعِيدٍ «عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

1 / 99