بخل الدهر عليها بالحسب
والغنى والجاه والبيت الكريم
هذه القصيدة القصصية كانت آية زمانها، بل الزاوية الأولى في تطور الشعر الحديث، وكان صاحبها الملاط مثل الشعراء الأعلى، ولأجلها لقبوه الشاعر العصري لخروجه على القديم وافتتانهم بجديده الرائع. وكان شبلي يمر في أروقة الحكمة كأنه أحد أعمدتها في شموخه، وليس بين الأستاذ الجليل والسماء أكثر من شبر.
كانت السنة الأولى ثقيلة علي، وما قولك بمن ينتقل من مدرسة تكتنفها غابة في برية إلى معهد يشرف على بيروت وما فيها. بيد أنني ألفت محيطي بعد عناء ولابسته بعد ضيق شديد بالزي الفرنجي. لم تعد تدهشني قصور بيت سرسق وبسترس وتويني، ولا مقبرة الأشرفية وتماثيلها النافخة في الأبواق مشيرة إلى فوق. ولا البنايات الضخمة، ولا النسر اللازق بجبين بيت تابت، ولا البواخر والبوارج والأساطيل. لم أعد أستغرب شيئا حتى الصدور العارية ولا الجمال المعروض على الناس في الطرقات. ولا القطط والكلاب المضطجعة في أحضان السيدات المترفات، في عجلاتهن ذات النوافذ البلورية.
صرت جبلا لا يهزني ريح بعدما كنت أخف من الريشة، فأمسيت أمر بهذه الغرائب مر النسر في الجو، لا أسأل عن شيء؛ لأنني عرفت كل شيء فاسترحت وأرحت أعز أصحابي المرحوم الدكتور مسعد كرم من سؤالاتي الكثيرة.
بعدما كنت أحسب الدرزي غولا يأكل الأولاد أصبح أكثر أصحابي دروزا. فهذا الشيخ سليم حمادة من غريفة القصير القامة يمشي بيني وبين مارون نطين الدرعوني فتخالنا صورة العائلة المقدسة تمشي على أرض مدرسة الحكمة، وسليم يصرخ في ذلك الملعب: ما حال درزي بين مارونيين.
بعدما كنت أفزع من الدرزي مثل مار ساسين صرت والأمير رفيق أرسلان على مركع واحد في بيعة الله تجمعنا وليمة القداس كل صباح، عدا ما هنالك من (هوردفر) زياحات وصلوات وزيارة قربان بعد الغداء. كان سعادة المير كالزئبق الرجراج لا يستقر ولا يستكين، وكثيرا ما كان نصيبي النقط السوداء والقصاص وينجو هو؛ لأني وعر والأمير أليق مني وأكيس يعرف كيف يداري جناحه . وقد كان يسبق النصارى إلى جائزة التعليم المسيحي.
وبالاختصار لم يحتضر العام المدرسي حتى صارت الدجاجة الغريبة ديكا ينقر ويناقر، يهجو وتهجى ذقنه السوداء الكثة الكالحة، كما يذكر كل الرفاق أخص منهم الصديقين الأديبين القاضي مراد أبي نادر والتاجر إلياس غانم.
فما أعظم أجرك يا والدي، وأجزل إحسانك. أنت الذي أرحتني منها.
كنت أهجو بلا رحمة ولا شفقة. الخوارنة والعوام، التلاميذ والأساتذة. أكتب هنا وهناك في الروضة والنصير والمنار والحقيقة والمشرق ولم أعف المقتطف من هجوم. الخلاصة كنت معمل نثر وشعر. كنت لو قال لي واحد: كيف حال الجناب، أجبته نظما: بخير نحن يا شيخ الشباب. كنت غرا أحمق أحسب كل ما يكتب أدبا فأخرجت كتبا لعنة الله عليها، وقصائد أتمنى لأكثرها ما نزل على سدوم وعمورة، وليس الحق علي فهذا جو مدرسة الحكمة، موئل لغة الضاد، ومحيط الأدب والشعر فكأنها البصرة والكوفة معا.
Bog aan la aqoon