Sheekooyinka Mazini
أحاديث المازني
Noocyada
كان هذا منذ أكثر من ثلاثين عاما، وكنت يومئذ مدرسا للترجمة في المدرسة السعيدية الثانوية، وأقبل الامتحان العام - للبكالوريا والكفاءة - وعقدت له لجان شتى عينت، كغيري، مراقبا أو ملاحظا في إحداها وكان أخي طالبا، وعليه أن يؤدي الامتحان في إحدى هذه اللجان.
واتفق أن دعيت أسرتنا كلها إلى عرس قريب لنا، بيته مجاور لبيت صهري، فذهبنا مغتبطين جذلين، ولكني كنت في قرارة نفسي مشفقا من سهر الليل، وكيف يؤدي أخي امتحانه وهو لم ينم؟ وكيف أقوى أنا على المراقبة والكرى مرنق في عيني؟ غير أني لم أر لي حيلة، فتركت الأمر للمقادير.
وألفيت في بيت قريبنا هذا نفرا من الإخوان، فانتحيت بهم ناحية من الحديقة، وجلسنا بين الخضرة والماء، نسمر ونضحك، والعريس وأبوه يلحان علينا أن نخرج فنكون مع الجمع الحاشد لنسمع غناء الشيخ يوسف المنيلاوي - بلبل زمانه، ونحن نأب كل الإباء ان نتزحزح عن مكاننا لجماله، ونطلب أن يقدم إلينا الطعام، حيث كنا بلا كلفة.
وجاء - قبل الطعام - رجل من أهل طنطا لا أعرفه، يرتدي جبة وقفطنا وطربوشا مثل طرابيشنا نحن «الأفندية»، وعليه لفة مزركشة، فحيا وقعد، وكان له معرفة ببضع الإخوان، فصفق أحدهم ودعا بالقهوة - قهوة البن - فلما أقبل الخادم بإبريقها في يد، والفناجين في يد، وصب من ذاك في هذه وناولنا، مال أحد الإخوان على الرجل الطنطاوي وسأله: «معك خلطة؟»
ولم أكن أعرف ما «الخلطة» يومئذ، فسألت عنها، فقيل لي: إنها عنبر ومسك.. ولا أدري ماذا أيضا، قطرات منها تطيب بها القهوة، فقلت: هاتوا إذن من هذا المسك والعنبر، فأخرج الرجل زجاجة صغيرة، ومددنا أيدينا بالفناجين، فجعل يصب قطرات لكل واحد منا، فنشكره.
وكنا جلوسا على الحشايا والوسائد فوق سجادة على الخضرة ن فحسوت حسوة من فنجانتي، فكرهت طعمها على لساني، فقد كانت كلها زيتا ثقيلا - أو هكذا خيل إلي - فأرقت ما بقي في الفنجانة على الخضرة، وصحت بالرجل الطنطاوي: «ما هذا يا شيخ السوء؟ متى كان العنبر والمسك شرا من زيت الخروع؟»
ومضمضت فمي بالماء، وجيء بالطعام، فأقبلنا عليه كأن لنا عاما ما طعمنا فيه شيئا، وأكلنا ما لا يحسب الحاسب، وما كنت أنهض عن المائدة حتى شعرت بكظة مزعجة، فذهبت أتمشى بين الشجر، ولكني أحسست بدوار، فعدت إلى مكاني وملت بشق على الأرض، فإذا بها تدور كرأسي، وترقص أيضا، وتعلو بي وتهبط، ففزعت، وانتفضت قائما، وقد أيقنت أني لا محالة ميت ما لم أفرغ ما في جوفي، وعبثا حاولت أن أفعل ذلك. على فرط اجتهادي، فجزعت، ولم يبق عندي شك في أن الذي صبه لنا الرجل الطنطاوي على القهوة من هذه «الخلطة»، ليس إلا نوعا من المخدرات «كالمنزول»، فآليت لأخنقنه قبل أن أموت! وهمت به، وأنا كالمجنون، فحالوا بيني وبينه، وصرفوه، بالتي هي أحسن، أو بالتي هي أخشن - لا أدري - فما أخذته عيني بعد ذلك!
وجاءوني بليمون زعموا أن عصيره يفسد فعل هذه «الخلطة» فلم انتظر حتى يعصروه، وخطفته من أيديهم، وجعلت آكله بجلده، ثم قصدت إلى باب الحديقة وأشرفت على حشد المدعوين وتخت الشيخ يوسف، وقلت أتسلى بالنظر والسماع، ولكن كنت لا أري شيئا واضحا، وكان «قوس» الكمان يبدو لي كأنه يرسم في الجو دوائر ومربعات ومستطيلات، وكان صوت الشيخ يوسف كالطبل في أذني، فعدت أدراجي وانطرحت على الأرض، وكنت أغيب عن وعيي ثم أفيق، والقوم حولي كأنهم أصنام، لا ينطقون ولا يتحركون. فأدركت أنهم مثلي أو شر مني حالا، سوى أنهم أقوى أجساما أو أقدر على الاحتمال، أو لعلهم اعتادوا هذه «الخلطة» فهم لا يتأثرون بها كما تأثرت!
ودعوت أحدهم - وكان أهل بيته مدعوين في العرس فالبيت فارغ - أن يذهب بي إلى داره، وأن يعبث في طلب طبيب، فهز رأسه وبقي حيث هو، وعاودني الإغماء لحظة، فلما أفقت ورأيت أني باق حيث كنت، تبينت أن لا أمل في معونة من هؤلاء القوم، أشرت إلى خادم لمحته خارجا وطلبت أن يجيئني «بخلطة» أخرى: سكر وخل.. فاستغرب ولكنه جاءني بما أمرت، فأذبت السكر في الماء، وخلطته بالخل، وشربت وقمت أعدو إلى ركن في الحديقة، فكان الفرج. فقد اضطربت نفسي ورمت ما فيها يتبع بعضه بعضا، حتى خفت أن لا ينقطع.
ونمت بعدها ساعات، فلما كان الفجر. قمت إلى بيت صهري لأغتسل وأتهيأ للخروج إلى لجنة الامتحان، لأضمن ألا يتخلف أخي عن امتحانه، وخلعت ثيابي لأستريح قليلا.
Bog aan la aqoon