كلا، لقد عذرت صاحبي حين أثاره ما قرأ في مقال الأستاذ الدكتور عوض فأبغض العلم ونفر منه وكره العلماء، وضاق بهم، وأسرع إلى الشعر فغرق فيه إلى أذنيه، ثم خرج منه بهيلانته هذه التي رويت حديثها في أول هذا الفصل.
العجب لهؤلاء العلماء! يكبر العلم في نفوسهم فيفسد عليهم كل شيء، وإذا هم يزينون الباطل ثم يعرضونه على أنه الحق، وإذا هم يفتنون بما زينوا، ويفنون فيما اخترعوا، ويخدعون أنفسهم عن أنفسهم. يحدثنا اليونان جميعا أثناء العصور الطويلة والقرون المترامية وفي الآثار الأدبية والفنية الخالدة التي لا تكاد تحصى، بأن حرب طروادة إنما أثارها جمال هيلانة، فنأبى إلا أن يكون اليونان كاذبين مخدوعين مضللين، بفتح اللام وبكسرها، وإلا أن يكون مصدر الحرب حاجة الاستعمار إلى مضايق البحار. يجب أن يكون اليونان ساسة مهرة كالإنجليز، لماذا؟ لأن طروادة تقوم غير بعيد من مضيق الدردنيل، ويجمع الرومان على مثل ما أجمع عليه اليونان من قبلهم، وتجمع أوروبا المتحضرة أثناء القرون الوسطى على مثل ما أجمع عليه اليونان والرومان، ويجمع الأدباء والشعراء وأصحاب الفن في أوروبا الحديثة، وفيهم شكسبير وغوت، على مثل ما أجمع عليه الذين من قبلهم، يتفق هؤلاء جميعا على أن اليونان غضبوا لجمال هيلانة فأثاروا ما أثاروا من هذه الحرب، واحتملوا ما احتملوا من المحن، وخاضوا ما خاضوا من المكاره، وأنشئوا ما أنشئوا من الآثار الخالدة في الأدب والفن، ثم يأتي عالم من أصحاب الجغرافيا فيلقي نظرة سريعة على الخريطة، ويرى أطلال طروادة قريبة من الدردنيل فيهدم في أقصر لحظة وبأيسر حركة من عقله ويده هذا البناء الإنساني الشامخ الذي أقامته الأمم والأجيال، واشتركت فيه عبقريات الأدب والفن تمجيدا لجمال هيلانة، وتخليدا لحسنها الذي كان يسحر النفوس.
هذا كثير وأكثر منه أن العقل لا يستطيع أن يخلص من هذا الرق الذي يفرضه عليه العلماء، فهو مضطر إلى أن يرفض وحي الأدب والفن ويذعن لنتائج هذا البحث العلمي الجاف.
الآن، والآن فحسب، فهمت لماذا يتردد صديقنا عوض في ترجمة فوست الثاني بعد أن ترجم فوست الأول، فقد كان غوت يؤمن بهيلانة وبخلودها، وهو قد زوجها من فوست، ولم يكن يرى رأي الجغرافيين أن حرب طروادة كانت للاستعمار، فكيف بصديقنا الجغرافي أن يترجم هذا الأثر الأدبي الخالد الذي ينقض علمه نقضا ويرفضه رفضا؟ آمنت بأن صاحبي لم يكن مخطئا ولا غاليا حين طلب إلي أن أشرب بكأس الشعر لأتعرف هيلانة، فإن هذه الكأس الأخرى التي يسقينا بها العلماء مرة المذاق، قصيرة المدى، ضيقة الأمد، لا تفتح للنفوس أملا، وإنما تقيم أمامها أسوارا شاهقة من اليأس والقنوط، وأين كأس الشعر التي تجلو لنا بهجة الجمال الخالد من كأس العلم التي تفرض علينا سماجة المال الوضيع؟!
ما أعظم الفرق بين هاتين الكأسين! وما أشد حاجتنا حين يلح علينا العلماء بكأسهم المرة إلى أن نسلي عن أنفسنا بهذه الكأس الحلوة الخالدة التي يديرها علينا الشعراء!
اللهم اشهد أني أنكر العقل، وأجحد العلم، وأرفض أن تكون حرب طروادة قد ثارت لشيء غير جمال هيلانة الخالدة!
فبراير 1936
صريع الحب والبغض
ضاق بالحياة فخرج منها، أو ضاقت به الحياة فنفته من جوها نفيا، وكان الذي بغض إليه الحياة وزهده فيها وأخرجه منها مخرجا عنيفا حبه للناس ورفقه بهم وعطفه عليهم، وكان الذي حبب إليه الموت وزينه في قلبه ودفعه إليه دفعا شديدا بغض الناس له، وحقدهم عليه، وإسرافهم في إيذاء نفسه، وإهانتهم إياه في ضميره وكرامته وشرفه الوطني.
نهض بواجبه شابا فجاهد ذائدا عن وطنه، متحملا في ذلك ما يحتمله المحاربون من ألوان البأس وفنون الشقاء، ثم أسره العدو فكلفه ضروبا من الجهد، وثبت هو لما كلفه العدو أبيا كريما ذائدا عن وطنه في سجن الإسار كما كان يذود عنه في ميادين الحرب، ثم رد الناس إلى السلم واستقرت بهم علاقات الإلف والمودة، واستأنف المحاربون القدماء حياة العمل اليومي، كل ميسر لما خلق له، وكان هذا الرجل قد خلق للنضال السياسي فأقبل عليه وجد فيه وظفر بكثير من التوفيق، وإذا هو نائب اشتراكي، ثم وزير اشتراكي، وإذا هو ينهض بأعباء الحكم ويحتمل أثقال الإدارة في وزارة الداخلية الفرنسية، وإذا هو يصل الليل بالنهار عاملا في ديوانه، وعاملا في بيته، وعاملا في حزبه، وعاملا في مجلس البرلمان، وعاملا في مجلس الوزراء، ووسيطا بين العمل ورأس المال، ومتنقلا بخطبه في مدن فرنسا وقراها لا يستريح ولا يحب الراحة، ولا يطمئن ولا يميل إلى الاطمئنان، قد امتلأ قلبه بحب المستضعفين وامتلأت نفسه بمذهبه السياسي؛ فأنفق ما يملك وما لا يملك من القوة والجهد في تقوية الضعفاء حتى ينتصف لهم من الأقوياء، وفي الذود عن مذهبه السياسي الاشتراكي حتى يحقق من أغراضه أقصى ما يستطيع تحقيقه في غير ثورة ولا عنف ولا تغيير أساسي للنظام الديمقراطي المستقر.
Bog aan la aqoon