فإذا كان الفصل الثالث، فقد استكشف الزوجان أن لهما شيئا من ثروة يجهله هذا الرجل العنيف، ولا يستطيع أن يضارهما فيه، وأن نصيبهما هذا من الثروة في بلد أجنبي بعيد هو رومانيا، فهما يهربان بحبهما وشرفهما وأمنهما من فرنسا ليستقرا في هذا البلد الغريب وقتا ما ينساهما فيه هذا الرجل، ثم إذا أتيحت لهما العودة إلى وطنهما عادا إليه آمنين، وقد فعلا.
فنحن نراهما حين يرفع الستار في فندق من فنادق رومانيا في مدينة صغيرة، ونسمعهما يتحدثان فنعرف من أمرهما ومن أمر أصحابهما عجبا، فأما هما فقد تغير شأنهما بعض الشيء، فالزوج يكاد يشك في زوجته، هو لا يتهمها بشيء، ولكنه يكاد يظن أنها قد أظهرت له من التلطف والتودد ما أطمعه فيها، وأغراه بها، وآية ذلك أنه نظر في كتاب كانت تقرأ فيه فرأى وردة جافة، أليس يمكن أن تكون هذه الوردة قد أخذت من تلك الطاقة التي أرسلت إليها في ذلك اليوم المشهود؟ وهو لا يخفي شكه هذا على زوجه، ولكن زوجه تسأله ألست قد قبلت منه الوسام الذي حمله إليك؟ ويكاد الأمر يفسد بين الزوجين لولا أنهما يتداركان عواطفهما تداركا متصلا.
وأما موريسيا فقد رافقت هذين الزوجين إلى منفاهما، ولعلها أعانتهما بشيء من المال، ورافقهما كذلك المصور، ولكنا نعلم مما نسمع وما نرى أن بين المصور وموريسيا غراما ناشئا، وليس من شك في أن كلا منهما يلهو بهذا الغرام عن حبيبه الذي هجره وقسا عليه، فموريسيا تتسلى بهذا الحب عن زوجها الظالم، والمصور يتسلى بهذا الحب عن جيتان القاسية، ولكن جيتان نفسها ما خطبها؟ وكيف تلقى انصراف عاشقها المصور عنها إلى صديقتها؟ وكيف تلقى اعتداء صديقتها على هذا العاشق الذي كان ينبغي أن يظل لها خالصا؟ هي لا تحبه من غير شك، ولكنها كانت تؤثر ألا يصرف عنها، ولا يلهى عن حبها، على أنها في حقيقة الأمر ترى هذا كله ساخرة منه، فهي مشغولة بشيء تخفيه، وستبديه الحوادث بعد حين، هذا زوجها قد انصرف عنها لبعض شأنه على أن يغيب يوما كاملا أو أكثر من يوم، وقد تركها مع صاحبتها وعاشقها الفنان الذي لا خوف منه، ولكنه لم يكد يمضي لشأنه حتى يدخل على القوم سكرتير ذلك الرجل العنيف بروسكا.
فهو إذن كان يتبع الزوجين، وهو إذن يعلم من أمرهما كل شيء، وهو لا يوجد في هذه المدينة وحده، وإنما يوجد معه سيده أيضا، فالخطر ما زال محدقا بالزوجين لولا أن السكرتير محزون ظاهر مضطرب شديد الاضطراب ينبئ بنبأ خطير، وهو أن سيده قد مات في حادث لسيارته، وأن جثته قد حفظت في بعض الفنادق، فأما موريسيا فتتلقى هذا الخبر في وجوم قليل، وسرور عميق، كأنما حطمت عنها الأغلال، وهي لم تزل زوجا لهذا الرجل، فهي وارثته إذن، وهي تتعجل أن ترى جثته، وأن تفرغ من دفنه، وأن تتولى ثروته، وأما ذات القفاز الأخضر فتظهر سرورا متكلفا، وتضمر حزنا عميقا، فهي كانت تحب هذا الرجل وتغالب هذا الحب بالكتمان، فأما وقد مات فلا بأس عليها من أن تعترف لنفسها بما كانت تخفي.
وقد ذهبت موريسيا ومعها المصور إلى حيث الجثة، وهم السكرتير أن يذهب ليهيئ نقل الجثة إلى المدينة أو إلى فرنسا، ولكنه قبل أن ينصرف ألقى إلى هذه المرأة الواجمة سوارا كان سيده قد اشتراه ليهديه إليها، ولا تكاد المرأة تخلو إلى نفسها حتى تنظر إلى هذا السوار وحتى تضعه في ذراعها محزونة آسفة، ولكن ماذا تسمع؟ إن الباب يطرق طرقا خفيفا، وإنها تنزع السوار مسرعة، وإن الباب يفتح، وإن شخصا يمثل أمامها، فإذا نظرت إليه رأت عاشقها العنيف بروسكا قائما بين يديها.
فقد كانت قصة موته مدبرة إذن ليصرف عنها الناس، وليخلو إليها، أو قل ليختطفها، فهو مصمم على ذلك، وهو واثق بأنها لن تمتنع عليه؛ لأنه يعلم أنها تحبه، وهي تستطيع أن تنكر هذا الحب، وأن تلح في هذا الإنكار، فلن يزيده إنكارها إلا ثقة بأنها تحبه وتهيم به.
وقد استحال هذا الرجل العنيف الغليظ القاسي السوقي إلى رجل مترف، رفيق رقيق شاعر حقا، فهو في هذه المرة محب لا بحسه وشهواته، بل بقلبه وعقله وعواطفه، وهو يتحدث إلى هذه المرأة أحاديث حب ترق حتى كأنها النسيم، وتعنف حتى كأنها النار المحرقة، ثم انظر إليه يغيب لحظة ويعود ومعه الصورة التي سرقت من المصور، والتي كان يريد أن يشتريها فلم يستطع، هو الذي سرقها متواطئا مع الشرطة، أو قل سرقها الشرطة له، وأي شيء أيسر من ذلك؟ إن له الأمر والنهي في باريس، ثم انظر إليه يغيب لحظة ويعود ومعه حقيبة لا يكاد يظهر ما فيها أو بعض ما فيها حتى يسحر هذه المرأة، فيها ما شاءت وما لم تشأ من الحلي، وفيها ما شاءت وما لم تشأ من الثياب، أليس قد رشا خادمها في باريس وعرف منها ذوق سيدتها وقدها، فهو يشتري لها من الحلي ويصطنع لها من الثياب ما يلائم ذوقها وقدها معا؟ والمرأة تسمع وترى وتفكر، فيسحر عقلها سحرا ويظهر حبها واضحا جليا صريحا، وهي متهيئة لتذهب معه، وقد طلب إليها أن تتخذ ثوبا بعينه وقبعة بعينها لهذا الرحيل، ففعلت، وهو يطلب إليها آخر الأمر أن تكتب كلمة لزوجها تنبئه بهذا الرحيل، فتطيع، وتكتب ويقرأ هو بعض ما تكتب، فيجن جنونه ويذهب لبه، أليس يقرأ أنها تحبه؟ وقد أتمت كتابها وتركته على المائدة ونهضت لتمضي معه ولكنها مفتونة به، مستسلمة له، وهو هائم بها، وهو يريد أن تمنحه القبلة الأولى، وهي بين ذراعيه، وهو هائم أو مجنون، لا يكاد يصدق سعادته، ولكن ماذا؟ إنها تسقط إلى الأرض! إنه ينظر! إنه يصيح ويستغيث! إن سكرتيره يدخل فإذا ذات القفاز الأخضر قد قتلت نفسها، وإذا هي قد تركت لزوجها هذه الكلمات: «أموت لأني أحب بروسكا .»
والمرأة تحمل إلى سريرها، وهذا الرجل القوي العنيف قد استلقى على كرسي منهزما لأول مرة هزيمة لا سبيل إلى تلافيها ولا إلى إصلاحها، هزمته امرأة لأنها استعانت عليه بالموت.
سن جولييت
أما القصة التي سنتحدث عنها اليوم فيسيرة حقا، توشك لسذاجتها أن تكون حديثا من أحاديث العامة في أسمارهم، أو خبرا من هذه الأخبار التي تنشرها الصحف عن سذاجة الشباب واندفاعهم بين حين وحين.
Bog aan la aqoon