إن الإذاعة الأثيرية أقوى من الإذاعة الصحفية، لأسباب متعددة.
من هذه الأسباب أنها أسرع انتقالا بين جوانب الكرة الأرضية، فهي لا تنتظر البريد ولا تتوقف على السفر بالسفن أو الطيارات.
ومن هذه الأسباب أنها تصل إلى من يعرف الكتابة ومن لا يعرفها، فلا حاجة بالسامع إلى أكثر من إدارة المفتاح إلى الصوت في اللغة التي يفهمها، وقد تصل إليه الأخبار والأحاديث بعدة لغات.
ومن هذه الأسباب أن جهاز الإذاعة يوضع في البيوت والحجرات حيث تعجز الرقابة الحكومية عن الوصول إلى مستمعيه، فلا يتأتى منع الأخبار التي تتسرب من خارج البلاد، ولو كانت الحكومة القائمة تقاومها وتحجر على جمهرة المستمعين أن تصغي إليها.
ومن المفهوم أن الحجر على الإذاعة الأثيرية ليس بالأمر المستحيل، ولكنه - إذا أمكن - فهو ممكن بصعوبة شديدة بالغة في الشدة، ممكن حين تلجأ الحكومات المستبدة إلى إطلاق الجواسيس والعيون في كل بيت وفي كل مسكن. وممكن حين تعمد الحكومات المستبدة إلى تسخير الابن في التجسس على أبيه وأمه، وتسخير الزميل في التجسس على زميله. ومتى اضطرت الحكومة المستبدة إلى ذلك فهي في مأزق وعر لا تقوى حكومة من حكومات هذا الزمن على الثبات فيه، مأزق يكلفها الكثير من المال، ويكلفها الكثير من الأعوان والأتباع، ويكلفها الكثير من أساليب الخداع والإقناع، ويرهقها كما يرهق رعاياها بالجهد المضني والنفقة الثقيلة، والحجر على الحركات الاجتماعية والفردية، وليس الحكم على هذه الأوضاع الشاذة مما يطيقه الحاكم أو المحكوم فترة طويلة من الزمن، فلا مناص له من التعثر والإعياء ثم الزوال القريب.
ومن أساليب الحجر على الإذاعة التي تتبع في البلاد الشيوعية أن تفرض على الشعب أجهزة مقصورة على نقل الإذاعات المحلية دون غيرها، وهنا يسوء الظن بجميع الأخبار المذاعة حتى يتساوى الصدق والكذب عند سامعيها، وهي حالة مريبة لا تحمد مغبتها طويلا إذا أمكن أن يحمدها الشعب بعض حين.
من هذا العرض التاريخي السريع يبدو لنا أن كل خطوة في سبيل النشر والإذاعة تقترن بخطوة مثلها في سبيل الحرية، ومعرفة الحقوق الإنسانية، وأن الخطوة هنا على قدر الخطوة هناك، وأننا قد خطونا في عصر الإذاعة الأثيرية أوسع هذه الخطى وأصعبها على المراقبة والتقييد، فإن لم يكن الحجر عليها مستحيلا فهو من أشق الممكنات وأعسرها على المستبدين، ولن يصبر الحاكم المستبد طويلا على هذه المشقة حتى تسومه ما لا طاقة به من ضروب الحيرة وعوامل العجز والإخفاق.
ولو كان عمل النشر والإذاعة مقصورا على هذا لكان عملا قوي الأثر في تعميم الحرية ومقاومة السلطة المستبدة، ولكنه في الواقع يخدم الحرية في نطاق أوسع من هذا النطاق: يخدمها لأنه يعود الناس أن يسمعوا الرأي ونقيضه ويقابلوا بين الخبر وما يخالفه أو يدحضه وينفيه، وإنما تضيق صدور الناس إذا تعودت أن تسمع من جانب واحد وتتجه إلى وجهة واحدة. فإذا تعودت السماع من جوانب شتى فقد تعودت السماحة في الرأي والصبر على المخالفة وراضت النفس على حرية الموافقة والمعارضة، فعاشت في جو من الطلاقة يتسع لمختلف الآراء.
إن في عصرنا هذا كثيرا من نذر الشر والبلاء، فإذا أردنا أن نقابلها ببشائر الخير ففي طليعتها أننا نعيش في عصر النشر والإذاعة، وهو مقدمة لا غنى عنها لعصر الحرية والسماحة. فقلما يدوم الاستبداد حيث تتفتح الأسماع، وتتفتح معها الأبصار والأفكار.
الشيوعية والإسلام
Bog aan la aqoon