Fikrado iyo Rag: Taariikhda Fikirka Reer Galbeedka

Mahmud Mahmud d. 1450 AH
68

Fikrado iyo Rag: Taariikhda Fikirka Reer Galbeedka

أفكار ورجال: قصة الفكر الغربي

Noocyada

وإنا لنلمس في أوغسطين الأسقف المسيحي هذا الصراع الشاذ، أو هذا التوتر بين الجسد والروح، وهو صفة مسيحية، ولكن الجسد لم يعد يجذب أوغسطين إلى الانغماس في الشهوات، وقد باتت الدنيا عالما يستطيع الأسقف - بل وينبغي له - أن يتناوله، وأن يعاون في تنظيمه، ويعاون في إنقاذه من شرور الفوضى، وقد كان لدى أوغسطين - كما كان لدى بولس - شفاء للنفوس لا يكل، وكان رجلا عمليا ينهمك في تفصيلات الأمور الجارية التي لا حصر لها. ويجب أن نلاحظ أن الدنيا في التفكير الصوفي المحض كمكان لا بد من تطهيره هي أقرب إلى غواية الشيطان بسورة أدق وأخطر منها إلى أن تكون مكانا يتمرغ فيه المرء. ومع ذلك فإنا إذا نظرنا من خارج هذا التفكير الصوفي، وجدنا أوغسطين نوعا من المتصوفين، وهو نوع صادق تماما. ولم تكن طريقته في التطهير عملية، تؤدي إلى التقدم فيما يبدو، وإنما كان يرى أن واجبه الأبدي المستحيل هو التطهير الروحاني الكامل. كان أوغسطين لا يهبط إلى مدينة الأرض إلا لكي يجعلها مدينة الله، ومن الواضح أن هذه النظرة إلى العالم الآخر لم تتسلط عليه وهو يؤدي واجباته اليومية، وإلا لما بقي أسقفا لهيبو، ولكنها - برغم ذلك - أساس لمذهبه، وهي التي تضعه في المكانة التي يتميز بها في التفكير المسيحي.

ونستطيع أن نذكر هنا ثلاثة أمور عن هذا العمل الضخم: أولها، أن عمل أوغسطين كله عمل مركب موسوعي؛ فقد مس كل ما يتعلق بالمذاهب تقريبا، واستطرد في التفصيل الشديد في الأمور الهامة. ونظرته من أكثر الوجوه تتوسط التجربة المسيحية اللاتينية بدرجة تجعلها صالحة لأن تكون أساسا للأرثوذكسية في العصور الوسطى؛ فلقد كان أوغسطين فيما يتعلق بالتثليث، وبالتقديس - وبخاصة فيما يتعلق بمعالجة المأساة المسيحية، مأساة الخطيئة والخلاص، بطرق شتى - مصدرا وأساسا يدعو إلى الإعجاب والتقدير.

والأمر الثاني، هو أن مؤلف أوغسطين العظيم «مدينة الله» قد وضع وجهة النظر المسيحية، أو علم الكون في المسيحية، في صيغة كانت تجتذب دائما أهل الغرب بشدة، وهي صيغة تعبر عن فلسفة للتاريخ؛ ذلك أن أوغسطين لم يجعل المسيحية مجرد دراما، وإنما تقدما عبر الزمن. وقد كتب «مدينة الله» من ناحية؛ لأنه أراد أن يرد على التهمة الوثنية الشائعة بأن ضعف الإمبراطورية الرومانية الآخذ في الظهور الشديد إنما يرجع إلى عقيدة المسيحية بوجود عالم آخر ، بل ربما يرجع إلى مجرد ما في المسيحية من سوء. ولم يجد أوغسطين مشقة في إثبات أن كثيرا من المدن والإمبراطوريات قد انحل وسقط قبل وحي المسيحية بزمن طويل؛ فإن من طبيعة المدن في هذه الدنيا أن تزول، وليست هناك مدينة أبدية إلا «مدينة الله». ولم تظهر هذه المدينة بعد على الأرض، بالرغم من أنا قد وعدنا بها في هذه الدنيا، ولكن الله قد كشف لنا عن وجودها، وهيأ لنا جميعا عن طريق ابنه يسوع فرصة المواطنة فيها. غير أن مدينة الأرض الأخرى سوف تعيش، والمدينتان في حرب أهلية أبدية حتى تنفصلا أخيرا وإلى الأبد في يوم الحساب. ولا ينقسم بعد ذلك المواطنون فيهما بإمكان التحول من مدينة إلى أخرى؛ فمن يرضى عنهم الله يباركون إلى الأبد، ومن يغضب عليهم يعذبون إلى الأبد.

والأمر الثالث - كما يبدو لرجل من الخارج على الأقل - هو أن هناك عند أوغسطين جانبا يدعو دائما إلى الهرطقة، وهي هرطقة من يعتقد الكمال، وهذا الجانب من عمل أوغسطين يظهر بوضوح فيما قد يكون أقوى مبادئه الدينية، وهو مبدأ القدرية، أو الحتمية. وقد اكتسب هذا المبدأ حدة عندما اصطرع مع بلاجيوس، وهو راهب بريطاني كان يدافع عن حرية الإرادة بدرجة يجعل الدفاع نوعا من أنواع الهرطقة. والمشكلة في أساسها من أقدم المشكلات التي واجهت التفكير الإنساني، وهي مشكلة حرية الفرد في الاختيار إزاء نوع من أنواع الحتمية. وقد كانت المسيحية دائما تجد مشقة في اعترافها بأن الكائنات البشرية تستطيع أن تختار اختيارا حرا (أي تمتلك حرية الإرادة)، وذلك على الأقل لأن مثل هذه الحرية تنم عن الإقلال من السلطان المطلق الذي تعزوه المسيحية إلى الله. كيف يتسنى لدودة كالإنسان أن تريد شيئا لم يرده الله؟ إن الله هو كل شيء حرفيا ، بما في ذلك أفكاري وأفكارك، ورغباتي ورغباتك. وهو الذي خلق مدينة الله ومدينة الأرض، وله الحكم فيهما، فإذا أصبح بعضنا في الواقع مواطنين في مدينة الله، فليس مرد ذلك إلى أننا نملك القوة لكي نتجنس بجنسية هذه المدينة - إذا جاز هذا التعبير، وإنما مرده إلى أن الله منذ البداية قد أراد لنا أن نكون مواطنين، ولأنه وهبنا نعمة لا تقاوم. وهذه الهبة، هبة النعمة - وهي هبة ليس بوسع إنسان أن يكسبها، أو حتى أن يستحقها بمعنى ما - هبة حرة من الله للمختارين من عباده، وهي تمكنهم من الخلاص؛ أي من التخلص من عواقب الخطيئة الأولى. ويستطيع الرجل العادي أن يتعطش إلى النعمة، وأن يدعو الله أن يهبها إياه، ولكن الأمر في ذلك لله، بحكمته المطلقة التي أبرمت من قبل كل أمر في كل زمان.

كل هذا منطق طيب (ما دمت تفترض وجود إله على كل شيء قدير)، وهو كذلك منطق طيب للعواطف؛ لأن الخضوع التام لمثل هذا الإله عند من تهزهم العواطف إن هو إلا محو الذات، أو السلام. وقد استنفد الناس عقولهم في وضع الاستعارات التي يعبرون بها عن هذا الشعور. وقد سبق لي أن استخدمت إحداها، عندما شبهت الإنسان بالدودة. إلا أن هناك - مع ذلك - بعض المشكلات التي تعترضنا في هذه المبادئ الحتمية، وبخاصة من وجهة نظر أولئك الذين يجاهدون في سبيل الإبقاء على سير الأمور في هذه الدنيا. وليس أوضح هذه المشكلات هو أكثرها شيوعا بأية حالة من الحالات، وإن تكن هي المشكلة التي كانت تبعث القلق دائما في نفوس الأرثوذكس المعقولين، وتلك المشكلة هي هذه: إذا كان الله قد قدر كل شيء من قبل فلماذا لم يقدر للإنسان رغبته في شرب الخمر، وفي السرقة، وفي الزنا؟ وإذا لم يكن الإنسان حر الإرادة فكيف يتحمل أية مسئولية خلقية؟ إن الله هو المسئول عن كل شهوات الإنسان، فكيف يستطيع أن يقاومها، ما دام في مقاومتها إنما يقاوم الله؟!

والواقع أن هذا موقف قلما كان يقفه أحد من الناس . وحقيقة الأمر أن أولئك الذين يعتقدون في القدرية اعتقادا جازما يتصرفون كأن كل لحظة من لحظات حياتهم ليست إلا قرارا ضخما لاتباع الصواب والابتعاد عن الخطأ. غير أن التهديد - عقلا - بعدم المسئولية الخلقية يحلق فوق كل مبادئ الحتمية، وفي الطبيعة البشرية العادية شيء يتصل بالعقيدة التي يصل إليها المرء بإدراكه العام في واقعية الاختبار الفردي، أو في حرية الإرادة. والكنيسة الكاثوليكية ذاتها هي من الناحية العملية شبه أوغسطينية في هذه النقطة؛ فهي تقبل ضرورة الحتمية المفزعة بسبب عظمة الله التي لا تحد. ومن الواضح أن الإنسان لا يستطيع في الواقع أن يقاوم الله، ولكنا يجب أن نعزو إلى الإنسان نوعا من المسئولية الخلقية المفوضة إليه لكي تتحقق المأساة التي يريد الله أن تحدث فوق هذه الأرض حتى يكون الجهاد واقعيا.

وفي الحتمية المتطرفة على كل حال خطر آخر على الأرثوذكسية أكثر شيوعا. والظاهر أن فكرة وجود قوة عظمى لا تقاوم «تبعد الأمور عن واقع الأشياء الواضح العادي المبتذل» لها جاذبية عظمى لأصحاب الميول الشديدة نحو العصيان على بيئاتهم. ولم يكن أسقف هيبو دائما بأية حال من الأحوال في مثل هذه الحالة من العصيان؛ إذ كان يعتقد أن إرادة الإنسان الحرة تتفق ومعرفة الله المطلقة السابقة - ولكن أوغسطين المتصوف، أوغسطين الذي يحب الله في حماسة شديدة، كان بالفعل عصيا. ويبدو من المحتمل بدرجة عجيبة أن الرجل الذي يريد ألا تكون الدنيا كما هي يؤمن بأنه يعرف كيف ولماذا بالضبط لا بد للدنيا من أن تتحول إلى شيء آخر. والمصلح - في كثير من الأحيان ولا أقول دائما - يريد أن يعرف بأن خطته هي خطة الله، أو خطة المادية الجدلية. ومما له دلالته بالتأكيد أن اثنين - بعد أوغسطين - من أكبر مؤيدي الحتمية الصارمة، وهما كالفن وكارل ماركس، كانا كذلك قائدين من قواد الحركات الإصلاحية الكبرى، حركات من وحي احتقار المألوف، والمريح، ورتابة الحياة اليومية، فوق كل شيء، وفي الكاثوليكية ميل من جانب الجماعات الإصلاحية إلى الرجوع إلى أوغسطين، كما أن الجماعات الرجعية تعود إلى سنت توماس أكويناس.

ومن أوغسطين يمتد خط - معتم مضطرب في أول الأمر - يؤدي إلى أوج الفكر الرسمي في «المذهب المدرسي» في العصور الوسطى. وهذا المذهب المدرسي نظام من التفكير ناضج، وقد تم نضجه في عصر من عصور الثقافة الغربية العظمى. والمؤلفات الأصيلة فيه عديدة، وقد حفظت حفظا جيدا. والتعليق الحديث عليها مسهب مطول. غير أن سعة هذا الكتاب لا تتيح لنا أكثر من الإشارة إلى بعض النقاط المعينة الكبرى ذات الأهمية في المذهب المدرسي، آملين أن يرجع القارئ مباشرة إلى بعض ما كتب المدرسيون.

ويجب أن نذكر أولا أن أساس الفكر في العصور الوسطى يمثل قصة لها جاذبيتها في ذلك النوع الخاص من التاريخ الفكري الذي يهتم بانتقال المعرفة، وبالدراسة المعقدة للمخطوطات، والترجمات، وتبادل الإخصاب الثقافي. وقد أضيفت إلى مجموعة المواد الثابتة برغم صغرها، والتي احتفظ بها الغرب خلال العصور المظلمة - وبخاصة في القرن الحادي عشر - كمية ضخمة من المواد المترجمة عن اللغة العربية؛ فالعرب في عهد محمد

صلى الله عليه وسلم

Bog aan la aqoon