Fikrado iyo Rag: Taariikhda Fikirka Reer Galbeedka
أفكار ورجال: قصة الفكر الغربي
Noocyada
ذلك أن بولس كان يجمع في شخصه الناحية العملية مع الناحية الصوفية - شأنه في ذلك شأن كثير من الشخصيات الجذابة الأخرى في تاريخ المسيحية. أراد أن يتخلص الناس من الاشتباك بهذا العالم القذر، عالم الحواس، لكي يعيشوا في عالم الروح الطاهر. ولكن حياة الروح الأخرى - عند بولس - ليست حياة الفرد الفذ الذي يبلغ «النرفانا»، أو الذي يتابع أفلوطين إلى النشوة الفلسفية المنعزلة. الحياة الأخرى عند بولس لم تتجاوز أن تكون حياة إنسانية، حياة جهد مشترك، حياة مشاركة، وإيمان، وأمل، وإحسان. وأفضل ما قال بولس هو ما جاء في الإصحاح الثالث عشر من رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس؛ حيث قال:
المحبة تتأنى وترفق. المحبة لا تحسد والمحبة لا تتفاخر، ولا تتعالى، ولا تقبح، ولا تطلب ما لنفسها، ولا تحتد، ولا تظن السوء، ولا تفرح بالإثم، بل تفرح بالحق، وتحتمل كل شيء، وتصدق كل شيء وترجو كل شيء وتصبر على كل شيء. المحبة لا تسقط أبدا، وأما النبوات فستبطل، والألسنة ستنتهي، والعلم سيبطل؛ لأننا نعلم بعض العلم، ونتنبأ بعض التنبؤ. ولكن متى جاء الكامل فحينئذ يبطل ما هو بعض. لما كنت طفلا، كطفل كنت أتكلم، وكطفل كنت أفطن، وكطفل كنت أفتكر، ولكن لما صرت رجلا أبطلت ما للطفل. فإننا ننظر الآن في مرآة في لغز، لكن حينئذ وجها لوجه. الآن أعرف بعض المعرفة، لكن حينئذ سأعرف كما عرفت. أما الآن فيثبت الإيمان والرجاء والمحبة. هذه الثلاثة، ولكن أعظمهن المحبة.
والخلاص أخيرا، وحتى في هذه العبارة بما فيها من تأكيد على المحبة، وهي عند بعضهم ترجمة عن الإغريقية أفضل من كلمة
Charity
يقحم بولس وعد المسيحية الأعظم، وهو: «الآن أعرف بعض المعرفة لكن حينئذ سأعرف كما عرفت. هذه الدنيا (الآن) - حتى هذه الدنيا كما يحاول المسيحيون أن يصنعوها - ليست سوى مكان اختبار للحياة في العالم الآخر (حينئذ). إن من يخلص فسوف يستمتع في ذلك العالم بالنعيم الأبدي. أما من لم يخلص فسوف يعاني هناك عذابا أبديا. وكل المسيحيين الصادقين سوف يخلصون.»
ما هو مقياس المسيحي الصادق؟ يبدو أن بولس - في نظر الرائي من الخارج - يفرض مقياسا ذا شقين. وهو يعتبره بشكل واضح مقياسا واحدا لا مقياسين؛ فالمسيحي الصادق ينبغي أولا أن ينتمي إلى جماعة مسيحية منظمة (أو كنيسة)، بعد أن يكون قد أدى - ويستمر في أداء - طقوس معينة، مثل التعميد والتناول. ويجب ثانيا أن يكون مسيحيا من الداخل، في روحه، وأن يكون قد بلغ تلك الحالة التي لا يفلح الصوفي قط في التعبير عنها بالألفاظ، بالرغم من أنه قد يسميها «نعمة الله» أو «الإيمان»، أو غير ذلك.
والتباين بين الأعمال والإيمان، بين أداء الطقوس والنور الداخلي، يسري خلال تاريخ المسيحية بأسره. و«المسيحي الأرثوذكسي يرى أن أحدهما يستحيل دون الآخر»؛ ف «المسيحي الذي لا يكون طيبا في داخله لا يمكن بطبيعة الحال أن يسلك سلوكا طيبا في الخارج». «بيد أننا» نستطيع جميعا أن نرى خارجه، ولا يستطيع إلا الله وحده أن يرى داخله، ومن أجل هذا فإن المجتهدين في الدين قد يبدءون في أغلب الأحيان بالرجوع إلى مذهب التبرير بالإيمان (أو الروح)، ولكنهم ينتهون - إذا هم أفلحوا في جمع شعب يسير وراءهم - بالرجوع إلى مقياس خارجي، إلى التبرير بالأعمال (أو الحرفية)، وسوف نعود إلى هذا الموضوع مرة أخرى عندما نتحدث عن لوثر.
والشخصية الثانية الكبرى في التفكير المسيحي القديم هي يوحنا، الذي يعزى إليه الإنجيل الرابع، وثلاث رسائل موجزة رعوية، والكتاب الختامي الرائع في العهد الجديد؛ «رؤيا يوحنا اللاهوتي». ولا بد أن يكون يوحنا هذا - الذي يمثل في التصوير والنحت المسيحي شابا غير ملتح، والذي يتميز بذلك بين البقية الملتحية - شيخا هرما عندما كتب الإنجيل الرابع، إذا صح التاريخ الذي حدده العلماء لكتابته. والواقع أن شكا علميا عظيما يخيم على الحقيقة التاريخية ليوحنا، حتى إن العلماء المسيحيين المخلصين الممعنين في الأرثوذكسية أنفسهم قد ألفوا أن يذكروا في كتاباتهم: «مؤلف الإنجيل الرابع أو مؤلفيه» و«مؤلف الرؤيا».
و«الرؤيا» كتاب من الوحي مليء بالتنبؤات الممعنة في خفاء المعنى. وقد كان كتاب «الرؤيا» لمدة ألفي عام المستودع الذي يستمد منه أسباب القوة كل من يسميهم العقليون - بل والمسيحيون الهادئون التقليديون - متهورين مندفعين. «الرؤيا» كتاب يعجز أمامه من لا يعتقد فيه، بل ومن يعتقد فيه من عامة الناس. ويستطيع من يبحث عن الخفايا أن يجد فيه أي شيء تقريبا . وتكاد تجد في الرؤيا كل ما حدث في بضعة آلاف السنين الماضية.
أما الإنجيل الرابع فهو من أهم الكتابات المسيحية. ومؤلفه شخص تحوطه الظلال إذا قيس إلى بولس، ونحن نميل إلى معرفته مما كتب؛ لأننا لا نعرف عنه إلا القليل. ويظهر أن مؤلف الإنجيل الرابع لم يكن إداريا، أو رجلا عمليا يحمل نفسه تبعة علاج النفوس. ولكن ربما كان من الخطأ - من ناحية أخرى - أن نلمس فيه الميتافزيقي، أو رجل الدين الذي يعزل نفسه عن الدنيا. ومن الواضح أن مؤلف الإنجيل الرابع كان يكتب متأثرا بتوتر خلقي شديد. ومن رأيه أن من يسمونهم المسيحيين، أولئك الذين لم يعرفوا المسيح قط، لا يدركون المغزى العظيم للمسيحية، وهو أن المسيح هو ذلك الاتحاد المستحيل بين الله والإنسان، أو بين العالم الآخر وهذا العالم، أو اللامحدود والمحدود. وما جاهد المتصوفون الأوائل عبثا في بلوغه بلغه المسيح لمجرد كونه المسيح، ولكن هذا الاتحاد بين الله والإنسان كان يتهدده دائما خطر سوء تفسير العامة من الناس، الذين يميلون دائما إلى تبسيط فهم الأمور لأنفسهم بتصويرهم للمسيح إما إنسانا كاملا وإما إلها كاملا.
Bog aan la aqoon