Fikrado iyo Rag: Taariikhda Fikirka Reer Galbeedka
أفكار ورجال: قصة الفكر الغربي
Noocyada
ولفظ «الله» هو عند أكثر الأفراد العاديين اللفظ الذي يمكن أن يقترب جدا من البعد عن تلويث الحواس. وبالرغم من هذا نجد أن أحدث الديانات الوحدانية العظيمة - اليهودية والمسيحية والإسلام - كان حتما عليها دائما أن تكافح ميل المؤمنين إلى تصور الإله شخصا ملتحيا حليما، وإن يكن رهيبا (والكلية العلمية التي تعبر عن هذا الميل الأنثروبومورفزم، أو نسبة صفات الإنسان إلى الله). وبالرغم من أنه من الواضح جدا أن أفلاطون سار شوطا بعيدا جدا - في لحظات على الأقل - نحو الإنكار الكامل لحقيقة عالم الحس - أو في لغة إيجابية نحو انعدام الذات الكامل الصوفي في تأمل «الواحد»، و«الكامل» و«الطيب»، فإن جانبا كاملا من نشاطه، وكتاباته، يتصل اتصالا وثيقا بمشكلات هذه الدنيا، دنيا الحواس. وفي الحق أن أفلاطون - حتى في ميتافيزيقياته - لا يقف، دائما الموقف الذي يتخيله المرء من تشبيهه المشهور - تشبيه الكهف: الذي يرى فيه أن هذا العالم الناقص - عالم الحواس - إنما هو وهم من الأوهام؛ أي إنه لا وجود له.
وبهذا نبلغ في الواقع إحدى المشكلات الكبرى التي عذبت العقل البشري - عذبته فعلا في حالة الأفراد الحساسين. ويمكن وصف هذه المشكلة في إيجاز كما يلي: إننا نحس - وبعضنا على الأقل «يعرف» - أن هناك كائنا «واحدا» كاملا لا يتغير، إلها كاملا، يجاوز تماما تلك الكائنات التافهة الناقصة التي تعيش وتموت. ولكن كيف ولماذا يسمح - بل يخلق - هذا الإله الكامل ذلك النقص؟ كيف يوجد الوثبة من «الواحد» إلى «المتعدد»، من «غير المتغير» إلى «المتغير»، من الخير إلى الشر؟ أو لماذا وضع الله الأغلال في أولئك المسجونين في الكهف من أول الأمر؟ هناك جواب منطقي ذكرناه آنفا: وهو أن هذا العالم الناقص غير حقيقي، غير موجود، وهذا جواب قلما يرد في تاريخ الفكر الغربي. وإنما الجواب في الغرب دائما هو وجه من الأوجه المختلفة لحجة واحدة أساسية، يمكن أن نوردها في هذه العبارة: أن «الواحد الكامل» لا يمكن أن يبلغ تمام الكمال وغايته إلا إذا استطاع هذا الكمال أن يواجه حالة النقص، برغم ما في ذلك من تناقض، أو أن هذا «الواحد الكامل» لا يمكن في الواقع أن يكون كاملا في عالم ثابت ثباتا كاملا. ومن ثم صدر النقص عن الكمال، وعلى هذا النقص أن يجاهد دائما نحو بلوغ الكمال. وهناك من الأدلة ما يثبت أن أفلاطون برر نفسه ميتافيزيقيا بمثل هذا الأسلوب - وليس من شك في أن الأفلاطونيين قد فعلوا ذلك.
ولكنا نستطيع عند هذه النقطة أن ننتقل من أفلاطون الميتافيزيقي إلى أفلاطون الأخلاقي والمفكر السياسي. ومهما نبالغ في تفسير ميتافيزيقيات أفلاطون التي تؤدي إلى الإنكار الكامل لحقيقة هذا العالم؛ فقد كان الرجل بالتأكيد من تلك الطائفة التي تريد أن تسلك الكائنات البشرية في هذه الدنيا مسلكا خاصا. كان مثاليا، لا بالمعنى الميتافيزيقي فحسب، وإنما بمعنى أشد منه وضوحا للأمريكيين، بالمعنى الاصطلاحي العملي، الدنيوي. وهنا أيضا سنعالج في إيجاز أفكارا بالغة التعقيد شغلت على الدوام عقول رجال الفكر خمسة وعشرين قرنا.
وكما أن المفسرين يختلفون في درجة «الصورة الميتافيزيقية للعالم الآخر» التي ينسبونها إلى أفلاطون، فهم يختلفون أيضا في الدرجة التي يرفعونه إليها كرجل صاحب نفوذ أخلاقي وسياسي - أو بعبارة معاصرة لا تضلل كثيرا رجلا دكتاتورا متسلطا من جميع الوجوه. وإذا رسمت خطا متدرجا يسير من الدفاع عن أقصى حرية للأفراد إلى الدفاع عن أقصى تسلط عليهم، كان حتما عليك أن تضع أفلاطون في نصف الخط الذي يبتعد عن الحرية. ومما له دلالته أن المدافعين عن الحرية من أمثال توماس جفرسن وه. ج. ولز، يمقتون كتابات أفلاطون السياسية مقتا شديدا. ومن العسير أن تقرأ أشهر مؤلفاته الذي يتميز به عادة أكثر من أي عمل آخر، وأعني «الجمهورية»، ولا تضعه على هذا الخط قريبا جدا من السلطة المطلقة.
نشأ أفلاطون شابا حساسا ذكيا من أسرة كريمة في أثينا بعدما هزمت هزيمة منكرة في حربها ضد إسبرطة وحلفائها. وكان الرأي الشائع بين المثقفين الأثينيين أن يعزوا هذه الهزيمة إلى عيوب الحكومة والمجتمع الأثيني الديمقراطي. ثم إن أثينا كانت - فوق ذلك - وسط سلسلة من الأزمات، الروحية والمادية، كما سوف نرى في الفصل القادم. ومن الواضح أن أفلاطون ثار ضد هذه البيئة، التي وجدها خسيسة، عنيفة، لا تطاق. وفي مقابل أثينا هذه الناقصة التي عرفها صور في «الجمهورية» دولة كاملة، وهي أفضل تجسيد دنيوي لفكرة العدالة.
وليست هذه الدولة ديمقراطية. وليس للجماهير الضخمة الكادحة - وهم إحدى طبقاتها الثلاث - صوت في إدارتها. إنهم ينتمون، وهم بمثابة المعدة من الجسد. وثمة طبقة أصغر منها، وهي طبقة المحاربين، تدرب على حياة الجندية؛ لأن العالم المثالي عند أفلاطون لا يتوافر فيه السلام العالمي. ويتصف هؤلاء المحاربون بالشجاعة، وهم بمثابة القلب، وأخيرا هناك مجموعة صغيرة جدا من ولاة الأمر، ينشئون منذ طفولتهم على أداء هذا الواجب، وهم الذين يرشدون الدولة إلى مصيرها، تتوافر لديهم الفضيلة والذكاء، وهم بمثابة الرأس. وهم يحكمون لأنهم يصلحون فعلا للحكم، لا لأنهم استطاعوا أن يقنعوا العامة الجاهلة أنهم يصلحون للحكم، وعلى رأسهم الملك الفيلسوف، وهو أصلحهم جميعا.
وليس لطبقة الولاة عند أفلاطون حق الأرستقراطية الموروث المألوف؛ فهو يدرك تمام الإدراك أن مثل هذه الأرستقراطيات مالت في الماضي نحو الانحلال من نواح عدة، وهو يتخذ في عالمه المثالي احتياطات متنوعة لتحسين سلالة الولاة من الناحية العنصرية، كما يتخذ احتياطات دقيقة لتدريبهم على جميع الفضائل التي يرى أن الطبقة الحاكمة بحاجة إليها. وربما كان أفلاطون ديمقراطيا بمعنى الديمقراطية عند نابليون - لأنه كان يعتقد في انفساح المجال أمام المواهب - ولكنها دائما تلك المواهب التي يراها هو.
وهو يقترح لولاته نوعا من الأرستقراطية الشيوعية الصارمة، تقوم إلى حد ما على ما كان يعتقد بعض الأثينيين المثقفين أنه نوع الحياة التي تحياها الطبقة الحاكمة في إسبرطة في أحسن أيامهم. كان يريد أن يلغي الأسرة بالنسبة إلى الولاة؛ لأن الأسرة عنده عش يحفز صاحبه نحو حب الذات، وهي بؤرة تتجمع فيها ضروب من الولاء التي تصرف المرء عن الدولة وعن الفضيلة. وقد أعطيت المرأة درجة كبيرة من الحرية، تدعو إلى الدهشة، ولا تتفق مع الآراء الأثينية الشائعة. وهي متساوية مع الرجل في كثير من الأمور؛ أي إن أفلاطون - بمعنى ما - من دعاة النهضة النسائية.
أما الأطفال فهم أطفال المجتمع، ينشئهم المجتمع، ويدربون على اعتبار كل من يكبرهم آباء لهم. وهم ينشئون على التربية البدنية الإسبرطية، وعلى التربية العقلية التي صورها أفلاطون بنفسه في العالم الآخر نقية إلى أبعد الحدود؛ فلا يسمح لهم مثلا بقراءة هومر، أو الشعر الغنائي؛ لأن مثل هذه القراءة تبعدهم عن الخشونة، وتمدهم بآراء مضللة عن الآلهة، وتفسدهم بوجه عام. ويلتمس أفلاطون المعاذير للشعر إلى حد ما، بل هو راغب عنه تقريبا؛ فالشعر والفن هما عنده - على الأقل - نوع من الجهد الذي يجاوز عالم الإدراك الحسي الأسفل، الذي كان يمقته مقتا شديدا. والشعراء في طريقهم نحو المثل الأعلى، ولكنهم ضلوا الطريق في مكان ما، فانصرف عنهم. وكذلك حرم أفلاطون بعض أنواع الموسيقى على صغار الولاة - الموسيقى الناعمة المسترخية. أما الموسيقى الصارمة العسكرية فيسمح لهم بها.
وكذلك كان المحاربون مجموعة منتقاة، تعلموا كثيرا من فضائل الولاة، مع استثناء الفلاسفة منهم - وهو استثناء هام. أما المنتجون، وهم الغالبية العظمى، أو الرجال الذين يمثلون المعدة، فلم يعرهم أفلاطون في الواقع اهتمامه. لهم أن يتزوجوا وأن يعيشوا الحياة العائلية التقليدية. ولهم أن يأكلوا وأن يشربوا وأن يعملوا وأن يلعبوا، كما يشاءون، ما داموا يحتفظون بسير الدولة ولا يحاولون أن يؤثروا في سياستها. وعليهم على وجه الإجمال أن يحسنوا السلوك، وأن يعرفوا مكانتهم، ولكنهم لا يستطيعون في الواقع أن يحيوا الحياة الطيبة.
Bog aan la aqoon