Fikrado iyo Rag: Taariikhda Fikirka Reer Galbeedka
أفكار ورجال: قصة الفكر الغربي
Noocyada
وفي هذا الكتاب نمط من أنماط التقويم، وفكرة رئيسية، وتفسير لمجرى الحوادث الإنسانية، التي لا بد أن تظهر بصورة محددة لأولئك الذين يتابعون الكتاب حتى نهايته. وأستطيع هنا في إيجاز، قد يكون مخلا بالوضوح، أن أسارع فأقول إن هذا الكتاب سيحاول أن يبين أن المثقفين الغربيين في خلال ألفي السنة الأخيرة قد عاونوا على إنشاء مستويات رفيعة جدا من الحياة الطيبة والسلوك المعقول، وأنه في السنوات الثلاثمائة الأخيرة انتشرت فكرة - وبخاصة في غضون مذاهب التقدم والديمقراطية - تقول بأن كل فرد حيثما كان في هذا الزمان على هذه الأرض، يستطيع، أو ينبغي له، أن يعيش وفقا لهذه المستويات وأن يكون «سعيدا»، وأن الحربين العالميتين اللتين نشبتا في العصر الحديث وما أعقبهما من شرور، والانهيار الاقتصادي العظيم، وكثيرا غير ذلك، قد جعلت تأجيل هذه الحياة الديمقراطية الطيبة - بل جعلت التخلي عنها كلية - أمرا محتملا عند كثير من المفكرين، وأن أقرب تفسير إلى العقل للفشل النسبي الذي أصاب المثل الديمقراطية والتقدم يرجع إلى المبالغة من المؤمنين بها في تقدير ما عند الرجل العادي اليوم من تعقل وقدرة على التفكير التحليلي، وأنه - بناء على ذلك - ينبغي لكل المهتمين بمصير الإنسان أن يدرسوا بعناية فائقة طريقة السلوك الفعلي للناس، والعلاقة بين مثلهم وأعمالهم، وبين أقوالهم وأفعالهم، وأخيرا، أن هذه العلاقة ليست بسيطة، مباشرة، سببية، كما نشأ أكثرنا على العقيدة أنها كذلك.
وفي خلال هذا الكتاب تدور مشكلة ضخمة حقا؛ مشكلة تشغل كثيرا أذهان كل من يهتم اليوم بالعلاقات الإنسانية، وهي مشكلة يجدها المرء في فجر تاريخ الفكر الغربي عند الإغريق في القرن الخامس قبل الميلاد، وهي مشكلة يتضمنها تميزنا بين المعرفة التراكمية والمعرفة اللاتراكمية. ولنسلم بأن العلم، أو المعرفة التراكمية، يستطيع أن يبين لنا في كثير من الحالات المحسوسة ما هو حق وما هو باطل، أو حتى ما هو «عملي» وما ليس بالعملي. ولكن هل هناك معرفة يعتمد عليها تنبئنا بما هو طيب وما هو خبيث؟ هل هناك علم، أو معرفة، ب «المعايير» أم هل ما نسميه عادة بالحكم على القيم (ولا أستطيع هنا أن أهبط إلى الأغوار السحيقة التي تتطلبها المعالجة الجادة لهذه المصطلحات) عاجز في أساسه عن الخضوع لقياس أداة التفكير؟
إن أهل الغرب - فيما يتعلق بالحق والباطل، والجميل والقبيح - لم يصلوا في الواقع إلى نوع من الاتفاق يشبه ما بلغوه في الأمور التي تتعلق بالعلوم الطبيعية. غير أن التقاليد الغربية يسري فيها في الواقع تيار شديد التدفق يرفض الزعم - الذي ظهر بين الحين والحين في تاريخ الغرب من السفسطائيين إلى المنطقيين الوضعيين - بأنه لا جدوى من تعليل أخلاق الناس وأذواقهم، ولا جدوى من البحث العقلي في «حاجاتهم». وبالرغم من الأقوال الشائعة مثل «لا فائدة من الجدل في الأذواق»، والادعاءات مثل «القوة تحدد الحق» فإن أهل الغرب ينبذون العقيدة بأن القيم ليست إلا نتيجة اعتباطية للرغبات الإنسانية المتعارضة. وهذا النبذ هو في حد ذاته حقيقة كبرى.
سنحاول في هذا الكتاب ألا نتحاشى هذه المسألة الكبرى؛ مسألة وجود معرفة قياسية للقيم، وإنما سوف نحفز القارئ على أن يفكر بنفسه فيها. ويعترف مؤلف هذا الكتاب أنه سار في تفكيره الخاص في الاتجاه الذي يرى أن الحكم على القيم لا يمكن - عند أهل الغرب - أن يقوم على أساس متين إلا إذا أقحمنا نوعا من النشاط الإنساني نسميه عادة ب «الإيمان». إن الناس بوسعهم أن يعتقدوا - بل هم يعتقدون - أن باخ مؤلف موسيقي أفضل من أوفنباخ، وهم يجزمون بذلك كما يجزمون بأن قمة إفرست أعلى من قمة واشنطن. إنهم يستطيعون أن يفكروا في العلاقة بين باخ وأوفنباخ وفي حكمهم على هذه العلاقة. وهم يستطيعون أن ينقلوا كثيرا مما يفكرون فيه (أو مما يحسونه) بشأن هذه العلاقة إلى زملائهم، بل إنهم ليستطيعون أن يقنعوا زملاءهم أن يقبلوا رأيهم في هذه العلاقة.
ولا نستطيع هنا إلا أن نمس موضوع الحكم القياسي من ظاهره. ومن الجلي أن المرء لا يستخدم في الحكم على العلاقة بين موسيقى باخ وموسيقى أوفنباخ نفس المعايير التي يستخدمها في الحكم على العلاقة بين ارتفاع قمة إفرست وارتفاع قمة واشنطن. إن أكثرنا عند الحكم في الموضوع الثاني يعود إلى مرجع جيد ويقبل حكمه، ولا يحاول أن يقيس القمتين بنفسه. مثل هذه العودة إلى مرجع في أمر واقعي (أو في «علم من العلوم» بمعنى ما) كثيرا ما يأخذ به المدافعون عن صحة الأحكام القياسية في الأخلاق، والجمال، وغير ذلك من الميادين، الذين يريدوننا - طبقا لذلك - أن نقبل الرجوع إلى الكنيسة مثلا فيما يتعلق بوجود الله. بيد أن هناك في الواقع فارقا بين الإفادة من المرجعين في هذين المثالين؛ ذلك أن كل فرد مدرب يستطيع أن يخطو نفس الخطى التي يراها الجغرافيون صحيحة والتي انتهت إلى قياس القمتين، في حين أن مثل هذه العملية مستحيلة بالنسبة إلى وجود الله. نعم إن الأفراد المدربين تدريبا صحيحا يستطيعون أن يتابعوا خطوات التفكير التي يبرهن بها رجال الدين على وجود الله، غير أنهم سوف يلتقون بكثير من الأدلة المتعارضة، بما فيها الأدلة التي تنتهي بالبرهان على أن الله «غير» موجود.
كذلك يستطيع الفرد المدرب، تدريبا صحيحا أن يتابع خطوات الفكر التي يبرهن بها ناقد موسيقي على أن موسيقى باخ أفضل من موسيقى أوفنباخ، وسيجد هنا كثيرا من الفروق، ولكنه سوف يجد أيضا اتفاقا أكثر مما هناك على وجود الله - وسوف يجد الدليل في المراجع على أن الحكام الكفاة يتفقون على أن موسيقى باخ أفضل من موسيقى أوفنباخ. وسوف يجد أدلة مركبة، تدخل في ميدان الأخلاق، تبرهن على أن باخ كان في الموسيقى أعلى مرتبة من أوفنباخ وأنه ألف قطعا موسيقية أقوى أثرا وأفضل وقعا إذا قيست بمعايير الجمال. وسوف يجد شروحا فنية جدا قائمة على رياضيات الموسيقى وطبيعتها. وأخيرا سوف يسعده أن يجد أن باخ يؤلف في الموسيقى الجادة تأليفا جيدا، وأن أوفنباخ يؤلف موسيقى خفيفة تأليفا جيدا، وأن المرء يستطيع أن يستمتع باللونين، كل في مكانه الملائم.
وإذن فليس العقل عاجزا بأية حال في مسائل القيم؛ فهو يستطيع أن يفعل الكثير، وهو يستطيع فوق كل شيء أن يقنع الناس وأن يعلمهم. ولكن العقل لا يستطيع أن يفعل المستحيل فيستبعد ما يعده العقليون الأقحاح من عناد الأفراد - أعني عقيدة كل فرد أنه عند حد أدنى معين لا بد أن يختلف عن غيره، وأن له إرادة، وشخصية خاصة به. هذه الإرادة - عند حد معين - يجب أن تجد لنفسها دعامة من الإيمان «تستند إلى الأمور التي لا تروى».
الفصل الثاني
المنبع الهليني
وصلت إلينا كتابات كلاسيكية، أو قديمة، أو إغريقية، يرجع تاريخها على وجه التقريب إلى ما بين عام 750ق.م، وعام 1000 ميلادية، تشمل مجال التفكير الذي قام به الناس في ميادين المعرفة اللاتراكمية. وقد عبر الفلاسفة الإغريق، ومراقبو الطبيعة البشرية منهم، والمؤرخون الإغريق، ورجال الأدب، في صورة من الصور، عن كل ضروب الخبرة الفكرية والعاطفية تقريبا التي عرفها أهل الغرب ووضعوا لها الأسماء. وقد يبدو هذا القول مبالغا فيه، وهو ليس بطبيعة الحال إنكارا للقوة، والوزن، والجمال والحكمة، والابتكار، بشتى المعاني مما تم إنجازه في العصور الوسطى أو الحديثة في هذه الميادين.
Bog aan la aqoon