إن من مزالق الخطأ عند الإنسان ألا يراعي التغير الذي يصيب معنى لفظة مع بقاء اللفظة على حالها. فإذا قلنا - مثلا - إن من أخلاق القرية «التعاون» بين أفرادها، كان واجبا علينا كذلك أن نتذكر بأن «التعاون» ركن من أركان الحضارة الصناعية كذلك، ولكن بعد أن تنظم فكرته تنظيما بحمله من العلوم. وهل كان يغنينا أن نبقي التعاون على صورته القروية العشوائية التي إن تناولت بعض جوانب الحياة الاجتماعية كالأفراح والمآتم، فقد فاتها أهم الجوانب التي تمس عملية الزراعة نفسها؟
أبناء القرية في تمسكهم بأخلاق الريف الزراعي، يعدون أنفسهم أسرة واحدة أو كالأسرة الواحدة، ومن هنا كان مصدر صلابتهم، لكنه من هنا أيضا هو مصدر التخلف الحضاري في بعض صوره؛ لأن ذلك الشعور الأسري هو في الأساس مصدر «المحسوبية»؛ فيكفي صاحب الحكم أن يعلم أن بينه وبين فلان تلك العلاقة الوثيقة، ليجعله محسوبا عليه، مما يلزمه إلزاما خلقيا أن يسانده ولو بغير حق، وهي مساندة غالبا ما يجيء ثمنها وهو أن يدين المحسوب لولي نعمته بالولاء، وهكذا ينسل المعنى الأول نتائجه الضارة، إذا قيست بمقاييس الحضارة القائمة.
العلاقة بين أفراد القرية قائمة على ما تقتضيه روابط الدم - أعني روابط القربى - فكثيرا ما يكون ذلك على حساب المصلحة القومية التي تجاوز القرية وأبناءها. ولقد جاءت حضارة العصر بنوع جديد من التجمعات البشرية، هو هذا الذي نراه عندما يجتمع ألوف العمال في مصنع واحد، بل ويسكنون عادة في حي واحد، مما أدى بالضرورة إلى علاقة اجتماعية من نوع جديد، هي العلاقة التي تمثل في النقابات. وسرعان ما يصبح الهدف المشترك - لا خدمة أسرة بعينها - بل خدمة حرفة صناعية معينة، وخدمة القائمين بها. وهنا تتغير معاني طائفة كبيرة من الألفاظ الخلقية، كالعدل والكرامة والتعاون ... إلخ.
ليس في أخلاق القرية مكان لدقة الزمن باعتبارها فضيلة؛ لأن حضارة الزراعة لم تكن تقتضيها؛ فأدق ما تعرفه من ذلك أن يقال: صبح وضحى وعصر ومغرب وليل؛ ولذلك نلاحظ في ابن القرية ضيقا إذا طالبته بتوقيت يلتزم الساعة والدقيقة. فإذا عرفنا أن دقة الزمن هي من الركائز الأساسية في الحضارة الصناعية القائمة، علمنا أن أخلاق القرية لم تعد تسعف - في هذا الجانب - من أراد المشاركة في حضارة عصره.
الدعوة إلى أخلاق القرية فيها رومانسية تشبع الخيال، لكننا ونحن ندعو لها، فلنتذكر حدودها وقصورها بالنسبة إلى هذا الزمان وحضارته.
منطق معكوس
إذا أردنا تلخيص المهمة المطروحة أمام لجنة المنابر، قلنا إنها البحث عن أفضل الطرق التي يتم بها اختلاف الرأي السياسي، أو - بعبارة موجزة دالة - هي أن يقول أعضاء اللجنة بعضهم لبعض: تعالوا نتفق على كيف نختلف!
لكن اختلاف الرأي لا يمكن حصره قبل وقوعه؛ لأنه اختلاف وثيق الصلة بالمشكلة المطروحة للحل وطبيعتها؛ فقد تكون المشكلة الطارئة مما يتفرع عن التطبيق الاشتراكي، وهنا يجيء اختلاف الرأي بين تطرف واعتدال، أو قد تكون المشكلة مما يتصل بالاتجاه العام في السياسة الخارجية، فيجيء اختلاف الرأي بين يمين ويسار، أو قد تكون خاصة بتنظيم الأسرة أو بقانون الأحوال الشخصية، فيجيء اختلاف الرأي بين جمود وتغير ... وهكذا؛ فليست المسألة مرتبطة في الأساس بأنواع العمل التي تؤديها الفئات المختلفة، بقدر ما هي مرتبطة بالطريقة التي يتجه نحوها الرأي في حل مشكلة بعينها، نشأت فعلا، ويتطلب الحل فعلا. فإذا كان الفلاحون، أو العمال - مثلا - على رأي واحد متجانس في طرائق الحل، فليس هناك ما يمنع أن يشترك معهم في الرأي غيرهم من سائر الفئات؛ بدليل أن حزب العمال في بريطانيا، فيه أعضاء لم يخرجوا من صفوف العمال، ولكنهم يشاركونهم وجهة النظر.
كان المنطق المستقيم يقتضي أن ترجأ هذه اللجنة أو ما يشبهها، فتنعقد بعد ظهور المشكلات لا قبل ظهورها؛ فنحن لا نعلم مقدما أنواع المشكلات القومية التي ستنشأ لنا على الطريق، والتي إذا ما نشأت فربما استدعت ضروبا من اختلاف الرأي لا سبيل إلى التنبؤ بها قبل وقوعها؛ وبالتالي فلا سبيل إلى تحديد «المنابر» المطلوبة. وإذا أردت مثلا قريبا، فخذ مشكلة المنابر نفسها؛ فمن ذا كان يتوقع - عندما أطلقت هذه الكلمة لأول مرة - كل هذا الخلاف في وجهات النظر؟
فإذا قيل: إن الاختلاف الذي نعنيه ليكون أساسا لإقامة المنابر، هو اختلاف «المبادئ الأساسية» نفسها، لا الاختلاف على حلول المشكلات التفصيلية التي تظهر آنا وتختفي آنا، كان في هذا القول ما ينقض الزعم الذي لا نمل من تكراره كل يوم، وهو أننا نعيش تحت مظلة التحالف بين الفئات. وماذا يعني هذا التحالف المزعوم إذا لم يكن يعني الاتفاق على المبادئ الأساسية المشار إليها، حتى وإن تعددت بعد ذلك آراء المواطنين في طريقة التطبيق - وأقول «التحالف المزعوم» - لأن لي رأيا في فلسفة التحالف هذه، ليس مكانه هنا، ولا زمان التعبير عنه هو الآن، حتى لا نزيد من بلبلة الفكر، ولدينا ولدينا منها الآن ما يكفينا.
Bog aan la aqoon