ولم يدعني هذا الخاطر الملح عن الفارق بين حاضرنا وماضينا، من حيث روح التعصب التي تستبد بحاضرنا، والتسامح الذي تميز به ماضينا؛ أقول إن الخاطر الملح لم يدعني حتى أتناول مفهوم «التسامح» بشيء من التحليل والتحديد، لكي تكون المقارنة أكثر وضوحا. فلم ألبث أن وجدت المفتاح في التفرقة - أو في الخلط - بين ما «يجب» قبوله في عالم الفكر وما «يجوز» رفضه أو قبوله؛ فبينما عرف الأقدمون كيف يفرقون بين المجالين، فكان لهم ما كان من التسامح، امتنعت علينا هذه القدرة اليوم، فحسبنا واجبا ما هو جائز، وجائزا ما هو واجب، فنتج لنا عن هذا الخلط ما نتج من تعصب وتطرف.
ولو اهتدينا إلى ما اهتدى إليه الأقدمون، لفرقنا بادئ ذي بدء بين ما هو «علم» وما هو «رأي». فأما الأول فملزم للجميع إلزاما لا مجال فيه لحرية الاختيار بين قبول ورفض. وأما الثاني فلكل أن يختار الزاوية التي ينظر منها ليكون له «رأي» أو «رؤية». في الحالة الأولى لا يتعدد الحق، فإذا صح حكم علمي معين، وجب أن يبطل كل حكم علمي يناقضه؛ كأن يصح الحكم بأن الأرض كروية الشكل، فلا يجوز لأحد أن «يختار» لنفسه القول بأنها مسطحة. وأما في الحالة الثانية فقد تختلف الآراء باختلاف المواقف واختلاف الثقافات، وليس من حق موقف ثقافي معين أن يكون حجة على موقف ثقافي آخر. فإذا اختار أديب أو فنان في بلد أوروبي شكلا خاصا لأدبه أو فنه، اختار أديب أو فنان عربي شكلا آخر؛ فليس أحدهما حجة على الثاني.
إلى هنا وأحسب أن الأمر واضح لا إشكال فيه، لكن ينشأ الإشكال الصعب حقا، حين نجد بين أيدينا موقفا نحس إزاءه بالإلزام وبالحرية في آن واحد؛ فهنالك في مجال الرأي درجات، يهبط بعضها إلى أن يكون لكل فرد حريته في الاختيار، كألوان الثياب التي يرتديها وصنوف الطعام التي يشتهيها، ولكن بعض تلك الدرجات قد يعلو حتى ليكاد يكون له وجوب المعرفة العلمية، مع أنه ليس منها، وذلك حين يدور الرأي حول «قيمة» عليا من القيم التي تواضع المجتمع على أن تكون ركائزه التي يعتمد عليها في قيامه واستمرار وجوده؛ فمثلا - بالنسبة للعربي - هل يجوز له أن يعبث باللغة العربية في أصولها وقواعدها وروحها؟ جوابي هو بالنفي القاطع، لا لأنه قانون من قوانين الفيزياء والكيمياء واجب الأخذ به، بل لأنه «قيمة» قومية عليا، بغيرها لا يكون عرب ولا عروبة. لكن قارن ذلك بسؤال آخر: هل يجوز للفنان العربي أن يشيد عمارته على غير الطراز العربي؟ جوابي هو بالإيجاب؛ لأن «القيمة» هنا تقع في مجال الاختيار.
حيث تكون الفكرة علمية واجبة القبول، يقع على صاحبها أن يؤيدها بالدليل العلمي الذي لا يبقي للشك مجالا. وأما حيث يكون الأمر «رأيا» أو جهة نظر من شأن من شئون الحياة، فها هنا يجوز الرفض ويجوز القبول. مع اعترافنا أن مجال الرأي ليس كله على درجة سواء؛ ففيه ما يوشك أن يكون قبوله وجوبا (داخل الأمة الواحدة) وفيه ما يقبل التفاوت بين الأفراد.
والطريق إلى روح التسامح في حياتنا، هو ما أن نميز بين ما يجب وما يجوز، فلا نضع أحدهما في موضع الآخر.
قسمة الحظوظ
حدثني صاحبي فقال : بينما كنت في الصيدلية واقفا أنتظر إعداد الدواء، غمرتني موجة من يأس مميت؛ وذلك أني نظرت خلال زجاج الباب إلى الشارع المزدحم بالسائرين، مشاة وراكبين، فتذكرت أعواما كنت فيها أخوض في زحمة الناس وحدي، قائدا لسيارتي مرة وماشيا مع المشاة مرات، ثم همست لنفسي قائلا: هل ترى أحدا من هؤلاء الألوف الذين يزحمون الطريق أصيبت عيناه بمثل ما أصاب عينيك؟ لكن هذه الهمسة لم تكد تبلغ آخر حروفها حتى دخل الصيدلية رجل علق عصاه البيضاء على مرفق ذراعه اليمنى، ومد ذراعيه متوازيين أمامه، يتحسس بهما الطريق داخل المكان، خشية أن يصطدم بشيء لا يراه.
ومضى صاحبي في روايته يقول: وعندئذ همست لنفسي مرة أخرى: يا سبحان الله! أبمثل هذه السرعة ترسل إلي السماء جوابا عن سؤالي؟ وعندئذ أيضا تذكرت بيتين لشاعر عربي قديم، يذكر فيها تفاوت الناس في الحظوظ، ضاربا لهذا التفاوت مثلا درجات الأبصار؛ ففيهم الأعمى الذي يقف من الإبصار عند درجة الصفر، وفيهم من يقف بين العمى والبصر عند درجة العشى، وفيهم من اكتمل عنده البصر سليما، وفيهم فوق هذا من هو ذو بصر حديد، يجاوز به الحدود القصوى إلى ما هو أبعد منها، وهاك ذينك البيتين اللذين قالهما الشاعر القديم:
سبحان من قسم الحظو
ظ فلا عتاب ولا ملامة
Bog aan la aqoon