ومعنى هذا الذي قلناه هو أن تصوير الشيء المعين في دنيا الفن يبعد بنا عن الحق خطوتين؛ فهو - أولا - أقل صدقا من الشيء نفسه ، ثم هذا الشيء نفسه - ثانيا - أقل صدقا من النموذج العقلي الذي قد خلق على غراره. وعلى هذا الأساس أوصى أفلاطون بألا يكون في الدولة المثلى التي تنشد العلم الصحيح بالكائنات، شاعر أو مصور.
لكنه برغم موقفه هذا الرافض للفن، أصر على أن تكون الموسيقى جزءا أساسيا ضروريا من التعليم، منذ الطفولة الباكرة. لماذا؟ لأن دوام الاستماع إلى الموسيقى من شأنه أن يترك في نفس المستمع خصائص الموسيقى، التي من أهمها ذلك التناسب المحكم بين الأصوات، الذي لولاه لتحولت أنغامها إلى خليط صوتي تنفر منه الآذان.
وهنا نستطيع اليوم أن ندرك الخطأ الجسيم الذي وقع فيه الفيلسوف عندما حذف الشعر والتصوير من دولته المثلى، لظنه بأن هذين الفنين إنما يصوران الأشياء كما هي؛ فالطائر طائر، والشجرة شجرة، وهلم جرا. لكن ماذا كان أفلاطون ليقول: لو أنه عاش بيننا اليوم؛ حيث الشعر إيحاء والتصوير تجريد؟ ألم يكن ليرى أن ما يبقى منهما في نفس المتلقي، هو نفسه الذي يبقى من الموسيقى؟ أعني: إدراك ما بين الأجزاء من تناسب محكم، ومن وحدة تضم تلك الأجزاء في كيان موحد، لولاه لأصبحت الأجزاء أشتاتا بغير معنى؟
وأخلص من هذه إلى النتيجة التي أريد عرضها، وهي ضرورة أن ندخل في تعليمنا لأبنائنا مقررات أساسية تفي بالتذوق الفني، على تعدد أنواع الفن واختلافها. إنني أرى العلاقة وثيقة بين «الهرجلة» التي تشيع في حياتنا - وأقصد حياة العربي في أي قطر من أقطار الوطن الكبير - أقول إني أرى العلاقة وثيقة بين الفوضى التي تفتت قوانا وتفكك أوصالنا، وبين حرماننا من نشأة يكون التذوق الفني مقوما من أهم مقوماتها؛ إذ يكاد يستحيل - في ظني - أن ينشأ ناشئ على إدراك ما في القطعة الفنية - كائنا ما كان منها - من تعاون بين أجزائها يوحدها ويحفظ النسب الصحيحة بينها، ثم يجنح بعد ذلك إلى الفوضى؛ فما الفوضى إلا امتناع الكيان الموحد، واضطراب النسب بين الأجزاء.
ثم أضيف ثمرة أخرى، نجنيها من أبنائها إذا ما أكسبوا القدرة على تذوق الفنون، وهي ثمرة أشرت إليها وألححت عليها في مناسبات كثيرة سابقة، وأعني بها الرابطة التي تربط العرب المعاصرين بالعرب الأسبقين، وهي رابطة في صميم الصميم من إحياء المجد العربي بإحياء تراثه؛ فليس إحياء التراث هو أن نقيم له هيكلا ثم نجلس في ظله لنستريح، بل هو أن تشرب روح ذلك التراث تشربا يسري به في الشرايين. كيف؟ بأن «يتذوق» الأبناء فنون الآباء؛ فقارئ البحتري - مثلا - إذا قرأه قراءة المتذوق، بمعنى أن يدخل في جلد الشاعر، ليرى بعينيه ويسمع بأذنيه، كان وكأنه البحتري في رؤيته للعالم وللناس وللأحداث من حوله. ومثل هذا الدمج الذي تحققه لنا لحظات التذوق الفني لتراث أسلافنا، هو في مقدمة العوامل الكفيلة للمعاصرين أن يجيئوا استمرارا للأقدمين في الروح والجوهر، وإن اختلفت بينهما بالضرورة تفصيلات العيش.
علموا أبناءنا كيف يتذوقون الفن بمختلف أشكاله، تعلموهم حب النظام، وجدية العمل، وتنسيق الوسائل مع الأهداف، وتنشئوهم تنشئة التهذيب والإحساس بالكرامة، ثم تعلموهم فوق هذا وذاك أي الطرق يسلكون ليستلهموا ماضيهم المجيد من أجل حاضر أمجد.
وللحياة أسلوبها
إنني أحب ألفاظ اللغة - واللغة العربية بصفة خاصة - حبا كثيرا ما يحملني على ترك ما أكون بصدد الكتابة فيه، حتى أتعقب لفظة بعينها: كيف جاءت، وماذا يحتوي جوفها من لباب. ولم يحدث أن تناولت لفظة بمثل هذا التشريح إلا وقد وجدت في حناياها رحلة عجيبة في أطوار التاريخ وتطوراته؛ فأرى عقل الجماعة التي صنعت تلك اللفظة صنعا؛ أقول إني أرى عقلها وهو يعمل، وأحس شعورها وهو ينبض، كلما لمحت لفتة جديدة في مسار اللفظة خلال الزمن وتغيراته.
وأذكر أني منذ أعوام طويلة - ربما بلغت الثلاثين عاما - أردت الكتابة في الخصائص المميزة ل «أسلوب» العقاد، لكنني ما كدت أستوي في جلستي، وأنشر الورقة، وأرفع القلم، حتى تحرك في رأسي شيطان اللفظة، فأثار في نفسي السؤال: من أين جاءت كلمة «أسلوب» هذه؟ إذا كان أصلها الثلاثي هو «سلب» بمعنى «سرق» أو مرادف من مرادفاتها، فماذا يا ترى العلاقة بين «الأسلوب» بمعناها الذي نعرفه لها، وهو السرقة؟
تركت مكاني وقصدت إلى حيث القواميس العربية المطولة، التي تعطيك الكلمة وأصولها وفروعها، وكأنها تقدم لك شجرة أنساب لأسرة عريقة الآباء والجدود، وظللت أتعقب معنى «سلب» إلى أن بلغت غايتي، وهي أن «أسلوب» الكاتب أو الفنان إنما سمي كذلك لأن صاحب هذا الأسلوب قد استطاع أن يستلب من نفسه كوامن سرها. لقد كانت النفس منطوية على خبيء من جوهرها، كأنها تحرص على أن يظل خافيا عن أبصار الناس، فجاء صاحب تلك النفس - إذا كان أيضا صاحب «أسلوب» - فانتزع من نفسه سرها، ونشره أمام الناس، على الورق أو غير الورق من وسائط.
Bog aan la aqoon