قلت للفتى: أرأيت أن الأمر في عالم الإنسان كما هو في عالم الطير والحيوان؟ إنها فطرة لا يلجمها إلا أن يصادفها من يضع لها الشكائم فتقف أمام المعتدي الذي لا يجد لاعتدائه رادعا فسيمضي في طريقه آمنا مطمئنا. وإن اللحظة التي يدرك فيها أن ليس لعدوانه رادع لهي اللحظة التي يتحرك في أحشائه الطاغية الكامن في فطرته. ألا إن الإنسان ليطغى إن رآه قادرا على الطغيان وهو آمن.
سألني الفتى في دهشة: ولكن هل هناك من الناس من يترك حقه نهبا لغيره وهو عامد؟ فأجبته: نعم يا ولدي هم يعدون بالملايين. ولولا هؤلاء لما شهد التاريخ طغيانا ولا طغاة. لماذا تركت أنت أرزكم ليملأ منه العصفور جوفه ويطير سالما غانما؟ قال الفتى فعلت ذلك حسبانا مني بأن المعرفة المكسوبة ترجع الأرز الضائع. فابتسمت له مشفقا وقلت: هي أعذار ينتحلها الخاسر حتى يوهم نفسه بأنه إنما ضحى بالقيمة الأدنى ليظفر بالقيمة الأعلى. لقد حدث لي يا بني لا أقول مرة أو مرتين أو عشر مرات بل هي مواقف لا أستطيع حصرها أن بدأت التعامل مع أطراف أخرى فيبدأ من أعامله بالحذر والحساب، لكن لا يلبث أن يدرك تهاوني في حقوقي فيسرع إلى انتهاز الفرصة ويمسك باللجام ويضع الشكيمة وإذا هو الطاغية قد ولد له الأمر والنهي والقيادة، فأقول لنفسي متعزيا: لقد تنازلت له عامدا التماسا لراحة البال واكتسابا للوقت الذي أفرغ فيه للعمل. إنها أعذار نتعلل بها يا بني لا تنفي أن يكون الطاغية قد أمسك بالصولجان. قال الفتى: أرى أن هذه حالات فردية في دنيا التعامل والأخذ والعطاء ليست هي ما تستخدم له كلمات الطاغية والطغيان أليس كذلك؟ قلت له: صدقت لكن لا فرق في الحقيقة؛ فالقاعدة التي أريد أن أضعها بين يديك هي أنه حينما فرط إنسان في حقه ظهر لذلك الحق طاغية يستبد به.
قال الفتى: ما زلت - يا عمي - في حيرة من الأمر لا أتصور كيف يضع المرء حبل العبودية حول عنقه بيديه ثم يسلمه إلى من يستبد به ويطغى. أجبته قائلا: إن الأمر ليسهل إدراكه إذا علمت أن الحرية حملها ثقيل على عواتق الناس. نعم إنك لترى الإنسان دءوبا في المطالبة بحريته في الفكر والعمل حتى إذا ما ظفر بها استسهل أن يدع الفكر والعمل لسواه؛ فأيسر عليه أن يأخذ الفكرة عن غيره جاهزة وأن يترك غيره ليضع له خطة العمل.
إنني أعلم عنك حبك للقراءة وسأذكر لك موضعين تجد فيهما شرحا مستفيضا لهذه الحقيقة في طبائع الناس؛ فرد من الناس أو شعب بأسره يسترخي لحظة عن تحمل تبعات حريته ومسئوليته، فيتولد له في ذات اللحظة مستبد يمسك بزمامه. وأما الموضعان اللذان أشرت إليهما فهما كتابان ستجدهما في مكتبة أبيك؛ أولهما الخوف من الحرية ومؤلفه أربك فروم، والثاني كتاب الجمهورية للفيلسوف اليوناني العظيم الذي لا بد أن تكون قد سمعت عنه.
ابدأ بجمهورية أفلاطون وإذا شئت اختصارا للزمن بسبب انشغالك بدروسك، فاقرأ الفصل الثامن فهو هناك يقدم تحليلا بلغ الغاية في الدقة والوضوح يبين به الخطوات المتدرجة التي تؤدي إلى ظهور المستبد في دنيا السياسة؛ ففي المجتمع الواحد قلة قليلة تختار السياسة عملا لها وهذه القلة بدورها تشبه ذكور النحل في الخلية بعضها يلدغ والآخر لا قبل له على ذلك فيتجمع العسل كله للادغين وتبقى أكثرية الشعب لا تدري في أمر السياسة أين الرأس وأين الذنب؛ لأنها تصفق كلما خطف أبصارها بطل؛ فها هنا يكون منبت الاستبداد والمستبد لأنه يتقدم لحماية تلك الأكثرية الغافلة يلقي عليها من البسمات ما تلين له القلوب فتقدم له الطاعة اختيارا. وفي هذا الموضع من مراحل التطور تتحقق أسطورة قديمة كانت شائعة معروفة عند اليونان وهي أسطورة من يأكل شيئا عن اللحم الآدمي ممزوجا بمختلف القرابين يتحول إلى ذئب يستمرئ شرب الدم ...
اقرأ يا بني هذا الجزء بعناية تعلم على وجه اليقين كيف ومتى يولد في الناس مستبد. وما دمت قد ذكرت لك مادة للقراءة فلا بد لي أن ألفت نظرك منذ الآن إلى آية كبرى ظهرت في عالم الفكر المصري المعاصر وعملاقها هو الراهب في محراب العلم الدكتور جمال حمدان، وذلك في مؤلفه الضخم شخصية مصر ظهر منه حتى اليوم جزآن ونحن موعودون بجزء ثالث. وأخيرا ضع هذا الكاتب ومؤلفه في ذاكرتك يا ولدي حتى يتاح لك أن تغترف منه العلم والصبر معا. إن أحدا منا لم يعد يستطيع أن يعد معالم الحياة المصرية في نهضتها الحديثة دون أن يذكر هرمها الأكبر وهو هذا المؤلف الجبار. وقد يكفيك الآن أن تقرأ فصلا واحدا يدور حول ما كنا نتحدث فيه وهو الفصل الثاني والعشرون وعنوانه «من الطغيان الفرعوني إلى الثورة الاشتراكية».
قال الفتى وقد هم بالانصراف: لقد كانت في حوار اليوم شموع مضيئة.
قلت مجيبا: لئن كانت الشموع من عندي فأعواد الثقاب التي أشعلتها كانت من عندك. وهكذا تتعاون في مصر أجيالها المتعاقبة أخذا وعطاء. إنه موقف حضاري خالد لمصر أكثره تعاون وأقله صراع.
قلم يتوب
عدت إلى أوراق كتبتها على فترات متباعدة، لأرى كم ثبت مني وكم تغير؟ فوقعت على صفحات كتبتها يوم الإثنين الثامن والعشرين من ديسمبر سنة 1953م، إثر زيارتي لمتحف الفن (المتروبوليتان) في نيويورك. وبعد أن أطلت الوقوف عند المعرض في القسم المصري، وهو أول ما يصادف الزائر، ويقع في عشر غرف متجاورة تؤدي الواحدة منها إلى الأخرى، ختمت بقولي: «امتلأت اليوم زهوا، بقدر ما أفعمت حسرة على أن يكون هذا هو ماضينا المصري، ثم نملأ الدنيا صياحا بأننا عرب! إن عظمة الشعوب هي في فنونها وعلومها. وقد ترك المصريون هذا التراث الفني الضخم، الذي يملأ متاحف العالمين، فماذا ترى في المتاحف من آثار العرب؟ أفبعد هذا الماضي المصري المجيد، نلقي بكنوزنا في جوف البحر، ونغمض عنه أعيننا، ونصم آذاننا، لنقول للدنيا بأفواه تتساقط منها خيوط من لعاب البلاهة والخبل: نحن عرب؟»
Bog aan la aqoon