ولقد التقى هذان الطرفان معا، واندمجا في ثقافة واحدة، هي ثقافة الشرط الأوسط؛ ففي هذه الرقعة من الأرض، اجتمع تأمل المتصوف وتحليل العالم وصناعة العامل، حتى لقد قال «وايتهد» - الفيلسوف المعاصر - إن حضارة الغرب الحاضرة، ترتد كلها إلى أصول ثلاثة، هي: اليونان وفلسطين ومصر؛ فمن اليونان فلسفة، ومن فلسطين دين، ومن مصر علم وصناعة. ولقد اجتمع كثير من هذه العناصر الثلاثة - دفعة واحدة - في شوارع الإسكندرية القديمة؛ إذ التقى رجال العلم بأصحاب النظرة الصوفية، وبرجال المهارة الصناعية العملية، في آن واحد. وحين انتقل مركز الثقافة من أثينا إلى الإسكندرية، لم تكن النقلة تغييرا في المكان وكفى، بل كانت تغييرا في منهج التفكير كذلك، حتى جاز لمؤرخي الفكر أن يفرقوا بين مرحلتين، أطلقوا عليهما اسمين مختلفين، وإن يكونا قريبين؛ هما: «الهلينية» و«الهلينستية»؛ فالأول منهما اسم لفلسفة اليونان وهي متركزة في أثينا، قبل انتقالها إلى الإسكندرية القديمة، والثاني اسم لتلك الفلسفة نفسها، حين امتزجت في الإسكندرية بالتراث الديني والتراث العلمي والتراث الصناعي العملي، وهو مزيج أدى إلى ضرب من الثقافة كان فيه تأمل المتأمل وعبادة العابد، وتحليل العالم، وصناعة الصانع؛ أي إنها كانت ثقافة جمعت في ذاتها عبقرية الغرب وعبقرية الشرق مجتمعين.
جاءت الأفلاطونية من أثينا إلى الإسكندرية، فانطبعت بالطبع الشرقي الصوفي - على يدي أفلاطون في القرن الثالث الميلادي - وهو رجل ولد في أسيوط، وتعلم في الإسكندرية، فكان هو الذي أنشأ ما نسميه في تاريخ الفلسفة، بالأفلاطونية الجديدة، وقد كان لها بالغ الأثر - فيما بعد - على الفلاسفة المسلمين، الذين أطلقوا عليها أحيانا اسم: مذهب الإسكندرانيين.
وهل نحن بحاجة إلى القول، بأن هذا الشرق الأوسط في روحانيته منذ أقدم عصوره، هو الذي اختاره الله ليكون مهبط وحيه الذي أوحى به إلى موسى وعيسى ومحمد، عليهم جميعا صلاة الله وسلامه؟
لقد كانت الإسكندرية حامية المسيحية في قرونها الأولى، وفيها بدأ اللاهوت المسيحي لأول مرة، ينسق بين العقيدة من جهة، والعقل الفلسفي من جهة أخرى، مما رسم الطريق أمام أوروبا المسيحية بعد ذلك، طوال العصور الوسطى، وذلك دليل على اجتماع أمرين لأهل بلادنا، كما زعمنا، وهما القلب والعقل معا، أو قل: الإيمان والعلم، العيان المباشر ومعه عملية التحليل العقلي.
إنه كثيرا ما عرض الكتاب الغربيون للفوارق التي تميز الغربي من الشرقي في التفكير، حتى لقد ذهب رجل مثل الشاعر البريطاني، رديارد كيلنج، إلى القول المشهور: الشرق شرق، والغرب غرب، ولن يلتقيا. ولعل هذه التفرقة بين شرق وغرب، هي التي أثارت الزوبعة الخفيفة التي ثارت في أول الستينيات، عندما نشرت هذا الرأي في اختلاف الثقافات، لما رسب في أذهاننا من آثار سياسية سيئة بقسمة العالم إلى شرق هنا وغرب هناك، لكن فات الجميع فكرة أساسية أكدتها، ومن أجلها نشرت الكتيب الذي نشرته، وهي الفارق الثقافي من حيث الجذور، بين الشرق الأقصى والشرق الأوسط، فجعلوهما معا من الناحية الثقافية «شرقا» واحدا، مع أن هذين الشرقين - الأقصى والأوسط - وإن تشابها في النظرة الحدسية المباشرة، فهما بعد ذلك يختلفان، في أن الشرق الأوسط يضيف إليها نظرة علمية عملية. وكذلك من الناحية الأخرى، يتشابه الشرق الأوسط مع الغرب في النظرة العقلية العلمية العملية، ثم يختلفان بعد ذلك، في أن الشرق الأوسط يضيف إليها نظرته الصوفية الدينية.
على ضوء هذا الذي قلناه، نستطيع أن نرى وجه الخطأ في آراء المستشرقين الذين تصدوا لتحليل العقل العربي. ووجه الخطأ عندهم دائما، هو أنهم نظروا من جانب واحد إلى عقل هو بطبيعته ذو جانبين، يقول «ليون جوتييه» في كتابه عن الفلسفة الإسلامية: «إن العقل «السامي» - وكان يقصد العقل العربي - يترك الأشياء مفرقة ومفككة كما يصادفها، وكل ما يفعله إزاءها، هو أن يقفز قفزات مباغتة من شيء إلى شيء، بغير ربط ينسقها معا، بما يراه فيها من تدرج. على حين أن العقل «الآري» - وكان يقصد العقل الأوروبي - يركب الأشياء المختلفة تركيبا يعتمد على روابط متدرجة، تجعلها وثيقة العرى بعضها مع بعض، حتى ليصبح الانتقال من شيء إلى شيء أمرا طبيعيا.»
ونحن نصحح هذا الذي قال جوتييه، فنقول إن ذلك الانتقال المباغت، من جزئية واحدة إلى جزئية أخرى، هو جانب ما يميز النظرة الحدسية، لو أخذناها من سطحها الظاهر؛ ذلك لأنه لا مندوحة لصاحب النظرة الفنية - مثلا - عن الوقوف أمام هذه الزهرة اليوم، وأمام ذلك الغدير غدا، لكنه قد يغوص داخل الجزئية الواحدة ليبرز حقيقتها الباطنة إبراز بين روابط القربى وبين سائر أجزاء الكون. هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإن ما قاله جوتييه إنما يصدق على الجانب الحدسي وحده، من جانبين يؤلفان العقل العربي. وأما الجانب الآخر الذي أسقطه من حسابه، كعادة المستشرقين دائما، فهو الجانب العلمي المنطقي الذي عرف به الشرق الأوسط خلال تاريخه.
فالنظرة الصوفية والنظرة العلمية، اللتان قال عنهما رديارد كيلنج إنهما لن تلتقيا، قد تلاقتا بالفعل في أمة، جعلها الله أمة وسطا، هي الأمة العربية.
أفكار في حياتنا العقلية
أنشأت وزارة الثقافة سنة 1965م مجلة «الفكر المعاصر»، وكنت أول من قام على إنشائها، وأول من أشرف على تحريرها. وقد روعي في تلك المجلة أن تكون معرضا للأفكار المؤثرة في عصرنا، بغض النظر عن مصادرها وألوانها، لكنني بالإضافة إلى هذا الهدف العام، وضعت لنفسي هدفا آخر موازيا له، ألا وهو إلقاء الأضواء على طائفة كبيرة من المفهومات العقلية التي شاعت في مجتمعنا خلال الستينيات بصفة خاصة، شيوعا جعل الناس يألفون سمعها إلفا أنساهم حقيقة معانيها، فكانت - في رأيي - بحاجة شديدة إلى تحليل وتوضيح، ليكون قبولها - بعد ذلك - أو رفضها، قائما على أساس من الفهم الصحيح، لا على مجرد العادة الآلية التي تنتج من تكرارها على ألسنة المتكلمين أو أقلام الكاتبين.
Bog aan la aqoon