في تلك الفترة التي أتحدث الآن عنها، وهي النصف الثاني من العشرينيات، كان الدكتور طه حسين هو الذي ملأ خيالي. وليست المسألة هنا متعلقة بالمادة المكتوبة نفسها - علمية كانت أو أدبية - وإلا فلست أظن أن طه حسين بما كان ينشره عندئذ كان أغزر فكرا من سواه، ولا كان ألصق من سواه بصور الإبداع الأدبي؛ فربما كان العقاد - مثلا - أوفر محصولا منه، وأدنى منه إلى صور الإبداع؛ إذ كان العقاد شاعرا ولم يكن طه حسين. لا، ليست المسألة هنا متعلقة بغزارة الفكر أو بالدنو من أصالة الإبداع، بل هي مسألة متوقفة على الروح التي كان طه حسين يبثها في النفوس؛ ولذلك فقد كان دون سواه هو الذي انشقت له جماعة المثقفين معسكرين؛ معسكر معه يؤيده ويسانده، ومعسكر ضده يعارضه ويحاربه. وقد كنت بغير شك من المؤيدين المساندين.
إنك تظلم طه حسين لو وزنت قدره بوفرة المحصول الفكري الذي قدمه للناس في كتبه، وتكون أشد ظلما له إذا جعلت الميزان هو الصور المتعارف عليها في الإبداع الفني، وهي الشعر والقصة والمسرحية؛ لأن طه حسين إنما استمد معظم قيمته من قدرته على تغيير الاتجاه. إنه لم يكتب ما كتبه لمجرد الرغبة في الكتابة، أو الرغبة في كسب الرزق، بل ولا لمجرد عرض الأفكار المنقولة أو المبتكرة، وإنما كان يكتب ليغير وجه الحياة الثقافية في الأمة العربية؛ ومن ثم جاءت خطورته. إنه رمز ذات يوم إلى العوامل التي رآها عقبة في سبيل التغيير المطلوب؛ رمز إليها باسم قرطاجنة، ثم أعلن على رءوس الأشهاد بأنه لن يستريح حتى تهدم قرطاجنة؛ ومن أجل هذه الرغبة في التقدم والتجديد امتلأ به خيالي.
لست أمدح نفسي ولا أذمها، حين أصفها وصفا أمينا فأقول: إن لديها استعدادا قويا - لا بد أن تكون له جذوره البعيدة في طفولة لم تجد فرصتها في نمو حر طليق - استعدادا قويا لتلقف كل فكرة تراها مؤدية إلى تقويض القديم إذا ما بطلت صلاحيته، لتقيم مكانه جديدا مأمولا. إنني لأتصيد الأفكار التي يثور بها أصحابها على عوائق التقدم، أتصيدها تصيدا، وأفرح كلما وقعت منها على شيء يغذي هذا الميل في نفسي.
ولقد كتبت بعد تلك السنوات التي أضع الآن معالمها؛ كتبت بعدها بأكثر من ربع قرن، وكان ذلك في مقدمة كتابي عن فلسفة برتراند رسل، أقول: إنني وإن لم أكن تابعا كل التبعية لبرتراند رسل في فلسفته، ولا رافضا كل الرفض لها، فإنني مع ذلك أشعر برباط قوي بينه وبيني، وذلك الرباط هو الدفاع الحار الذي ينهض به رسل في سبيل حرية الفرد من كل طغيان؛ طغيان التقاليد الاجتماعية إذا لم تعد صالحة لحياة العصر؛ وطغيان الحكومات إذا لم تجعل الأولوية الأولى لمصالح الناس.
وكذلك بيني وبين برتراند رسل رباط آخر يقربه من نفسي، هو تلك الفرحة الكبيرة التي يفرحها كلما استطاع إقامة البرهان على خطأ اعتقاد كان يظنه الناس بديهية لا تحتمل الشك ولا الجدل. إن مثل هذه النزعة عند الرواد، ضرورية لتمهيد الطريق نحو تغيير الأوضاع الاجتماعية، وتغيير الأفكار التي تحجرت على مر الزمن دون أن يصبح الناس بحاجة إليها؛ فيظن أن صلابتها تلك هي صلابة الصواب الذي لا يأتيه الخطأ. إن أصحاب هذه الرغبة في التجديد ومسايرة روح العصر، هم دائما بمثابة الفدائيين، الذين يتسللون إلى حصون العدو، فيمهدون بذلك إلى دكها وتخريبها، كي يتاح لأنصار الجديد الأصلح أن يقيموا في مكانها حصونا أخرى.
ومن هؤلاء كان طه حسين فيما كتب يومئذ؛ ومن أجل هذا تابعته بقلبي الشاب وبعقلي الناشئ معا.
وفي تلك السنوات الأخيرة من العشرينيات، مالت الرغبة بجماعة من الأصدقاء تضمني نحو استغلال فراغنا في الصحافة؛ إذ رأيناها طريقا لإشباع ما أحسسناه في نفوسنا من نوازع الفكر والأدب. وكنا بالفعل قد بدأنا نكتب مقالات أدبية في المجلات الأسبوعية، وهي مجلات كانت يومئذ ركنا هاما من أركان الحياة الثقافية؛ فمنها «السياسة الأسبوعية» التي كانت ملحقا لجريدة السياسة المعبرة عن حزب الأحرار الدستوريين، ومنها «البلاغ الأسبوعي» الذي كان ملحقا لجريدة البلاغ لناطقة بلسان الوفد. وكان الأغلب على السياسة الأسبوعية أن تنقل عن الثقافة الفرنسية، كما كان يغلب على البلاغ الأسبوعي أن ينقل عن الثقافة الإنجليزية، أو هكذا كان انطباعنا، بحكم أن الأولى كانت تنشر للدكتور طه حسين، والدكتور محمد حسنين هيكل، وغيرهما من الذين تلقوا العلم في السوربون، وأن الثاني - البلاغ الأسبوعي - كان ينشر للعقاد الذي، وإن لم يتلق العلم في إنجلترا، إلا أن مصادره الرئيسية كانت من أدباء بريطانيا ومفكريها.
بدأنا نحن - جماعة الأصدقاء من الشباب - نكتب المقالات في هاتين المجلتين. وأذكر أن أول مقالة كتبتها في حياتي الأدبية كانت في عام 1927م تعليقا على الأغاني التي شاعت في ذلك الحين، وامتلأت أصواتها - ولا أقول «كلماتها» لأنها كانت في بعض أجزائها أصواتا بغير كلمات - امتلأت أصواتها بما يوحي بمعان داعرة، ونشرت لي تلك المقالة في السياسة الأسبوعية.
أقول إن تلك الجماعات من الشباب الأصدقاء - التي كنت أحد أعضائها - قد أحست برغبة قوية في أن تتصل بالصحافة. وكنا عندئذ خمسة فيما أذكر، أنا وأخي الأستاذ محمود محمود، ومعنا ثلاثة آخرون، كان أحدهم المرحوم الدكتور عباس مصطفى عمار؛ فاتفقنا بادئ الأمر على تكوين جمعية أدبية تنمو مع الزمن، وأقمنا علينا من بيننا رئيسا وسكرتيرا وأمينا للصندوق؛ أي إنه لم يبق منا إلا عضوان فقط بغير ألقاب، كنت أحدهما على أرجح الظن. وقررنا في أول جلسة من جلساتنا أن يكون الاشتراك الشهري عشرة قروش، كما قررنا أن نبدأ في تكوين مكتبة للجمعية، تنمو هي الأخرى مع الزمن. وبدأنا بشراء كتاب كان قد صدر حديثا وضجت الصحف بالإعلان عنه، وهو كتاب «عصر المأمون» للدكتور فريد الرفاعي، ثم حزمنا أمرنا ذات يوم وصممنا على عرض أنفسنا للخدمة مجانا في أية صحيفة تقبل العرض.
بدأنا بجريدة الأهرام. ودخلنا نحن الخمسة على رئيس التحرير، فسألنا: ماذا تريدون؟ وأجاب عنا أحدنا فقال: نحن جمعية أدبية من الطلاب، تريد الاشتغال بالصحافة بغير أجر، كل ما نريده هو فرصة للتدريب، حتى إذا ما تخرجنا جعلنا الصحافة مهنتنا عن خبرة ودراية. فقال رئيس التحرير في نغمة عاطفية لم تخل من سخرية: يحسن أن تنصرفوا إلى دروسكم، وأن ترجئوا هذا الحديث إلى ما بعد التخرج.
Bog aan la aqoon