Affirmation of God's Exaltation and Separation from His Creation and Refutation of Those Who Claim God's Omnipresence is Intrinsic
إثبات علو الله ومباينته لخلقه والرد على من زعم أن معية الله للخلق ذاتية
Daabacaha
مكتبة المعارف
Lambarka Daabacaadda
الأولى
Sanadka Daabacaadda
١٤٠٥ هـ - ١٩٨٥ م
Goobta Daabacaadda
الرياض - المملكة العربية السعودية
Noocyada
إثبات علو الله ومباينته لخلقه
والرد على من زعم أن معية الله للخلق ذاتية
تأليف
الفقير إلى الله تعالى حمود بن عبد الله بن حمود التويجري
غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين
مكتبة المعارف
Bog aan la aqoon
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمدُ لله، والصَّلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فقد اطَّلعت على ما كتبه أخونا العلامة الشيخ حمود بن عبد الله التويجري في بيان الأدلة الشرعيَّة والعقليَّة على إثبات عُلُوِّ الله - سبحانه - فوق عرشه، واستوائه عليه استواءً يليق بجلاله لا يُشابه فيه خلقه.
وفي إثبات مَعِيَّته لعباده بعلمه واطلاعه وحفظه، وكلاءَته لأوليائه، والردِّ على مَن زعم أنَّ معية الله لعباده ذاتيَّة، بل قد سمعته جميعَه بقراءة مُؤلفه - حفظه الله - فألفَيْتُه كتابًا عظيمَ الفائدة مؤيدًا بالأدلة الشرعيَّة والعقليَّة، كما ألفيتُه ردًّا عظيمًا على أهل البدع القائلين بالحلول والاتِّحاد وردًّا كافيًا شافيًا على من قال: إنَّ معيةَ الله للخلق ذاتية، فجزاه الله خيرًا وزاده علمًا وهدى وتوفيقًا، ونفع به وبمؤلفاته المسلمين.
1 / 5
وبالجملة، فهذا الكتابُ عظيمُ القَدر، كثير الفائدة، مشتمل على أدلة كثيرة من الكتاب والسنة على إثبات أسماء الله وصفاته وعُلوه - سبحانه - فوق خلقه، والرَّد على جميعِ أهل البدع، كما أنَّه مُشتمل على نُقُولٍ كثيرة مُفيدة من كلام عُلماء السنة المتقدِّمين والمتأخرين، ومن كلام الصَّحابة والتابعين، رضي الله عن الجميع، ورحمهم رحمة واسعة.
فنسألُ الله بأسمائه الحُسنى وصفاته العُلى أنْ ينفعَ به المسلمين، وأنْ يُقيم به الحجة، ويقطع به المعذرة، وأن يُضاعف المثوبة لمؤلفه، ويَجعلنا وإياه وسائر إخواننا من أئمة الهدى وأنصار الحق، وأنْ يثبتنا جميعًا على دينه حتى نلقاه - سبحانه - إنه ولي ذلك والقادر عليه.
قاله الفقير إلى عفو ربِّه: عبد العزيز بن عبد الله بن باز، سامحه الله وعفا عنه.
وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمد وآله وصحبه.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
٢٧/ ٧/ ١٤٠٤ هـ
1 / 6
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمدُ لله نحمدُه ونستعينه ونستهديه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله، فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وَحْده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، المبعوث رحمة للعالمين، وحجة على الخلق أجمعين.
صلَّى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، ومَن تَبِعَهم بإحسان إلى يومِ الدِّين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بعد:
فقد رأيتُ مقالًا سيئًا لبعضِ المعاصرين، زعم في أوَّله أنَّ معية الله لخلقه معية ذاتية تليق بجلاله وعظمته، وأنَّها لا تقتضي اختلاطًا بالخلق، ولا حلولًا في أماكنهم.
وقال في آخر مقاله: وهكذا نقول في المعية: نثبت لربِّنا معية ذاتية تليق بعظمته وجلاله، ولا تشبه معيَّة المخلوق للمخلوق، ونثبت مع ذلك عُلُوه على خلقه، واستواءه على عرشه، على الوجه اللاَّئق بجلاله، ونرى أنَّ مَن زعم أنَّ الله - تعالى - بذاتِه في كل
1 / 7
مكان، فهو كافر أو ضالٌّ إن اعتقده، وكاذب إنْ نسبه إلى غيره من سلف الأُمَّة أو أئمتها.
فعقيدتنا أنَّ لله - تعالى - معية ذاتية تليقُ به، وتقتضي إحاطته بكل شيء علمًا وقدرة، وسمعًا وبصرًا وسلطانًا وتدبيرًا، وأنه - سبحانه - مُنَزَّه أن يكون مختلطًا بالخلق، أو حالًاّ في أمكنتهم، بل هو العَلِيُّ بذاته وصفاته، وعلوه من صفاته الذاتيَّة التي لا ينفك عنها، وأنه مستوٍ على عرشه كما يليق بجلاله، وأنَّ ذلك لا ينافي مَعيَّته، ثم صرح أنه قال ذلك مُقررًا له، ومعتقدًا له، ومنشرحًا له صدره.
وأقول: لا يَخفى على من له علم وفهم ما في كلام الكاتب من التناقُض، والجمع بين النقيضين، ومُوافقة من يقول بالحلوليَّة: إنَّ الله بذاته فوق العالم، وهو بذاته في كل مكان، وما فيه أيضًا من مُخالفة الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها.
فأمَّا التناقض، ففي تقريره لمعية الله الذاتية لخلقه مع زعمه أنَّ هذه المعية الذاتية لا تقتضي الاختلاطَ بالخلق، ولا الحلول في أماكنهم، ولا يَخفى على عاقلٍ أنَّ المعية الذاتية للخلق تستلزم مُخالطتَهم والحلول في أماكنهم، وعلى هذا فمن أثبت المعية الذاتيةَ
1 / 8
للخلق ونفى مخالطتهم، والحلول في أماكنهم، فقد تناقضَ، شاء أم أبى.
وأمَّا الجمعُ بين النقيضين، ففي تقريره لمعية الله الذاتية لخلقه، مع تقريره أنَّ الله مستوٍ على عرشه، وأنَّه العليُّ بذاته وصفاته، وأن عُلُوه من صفاته الذاتية التي لا ينفك عنها، فقد جمع في هذا التقرير بين إثبات صفة العلو لله - تعالى - وإثبات ضدها، وهي صفة السُّفل الذي تستلزمه المعية الذاتية للخلق، وعلى هذا فمن أثبت المعية الذاتية للخلق، وأثبت مع ذلك أنَّ علو الرب من صفاته الذاتية التي لا ينفكُّ عنها، فقد جَمَع بين النقيضين، شاء أم أبى.
وأمَّا الموافقة لبعض القائلين بالحلول، فإنَّه لازم لمن زعم أنَّ معية الله لخلقه معية ذاتية؛ لأنَّه يلزم على هذا القول الباطل أن يكون الله مع الخلق في الأرض، وأن يكون مخالطًا لهم، وحالًاّ معهم في أماكنهم.
وقد قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية - رحمه الله تعالى - في صفحة ٢٩٧ من المجلد الثاني من "مجموع الفتاوى" وصفحتين بعدها ما ملخصه:
1 / 9
ولما ظهرت الجهميَّة المُنكِرَة لمباينة الله وعلوه على خلقه، افترق الناسُ في هذا الباب على أربعة أقوال:
فالسَّلف والأئمة يقولون: إنَّ اللهَ فوق سمواته مستوٍ على عرشه، بائن من خلقه، كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة.
والقول الثاني قول مُعطلة الجهمية ونُفاتهم، وهم الذين يقولون: لا هو داخلَ العالم ولا خارجَه، ولا مباينٌ له، ولا مُحايثٌ له، فينفون الوصفين المتقابلين اللَّذين لا يَخلو موجودٌ عن أحدهما، كما يقول ذلك أكثرُ المعتزلة ومَن وَافقهم من غيرهم.
والقول الثالث قولُ حلولية الجهمية الذين يقولون: إنَّه بذاته في كل مكان، كما يقول ذلك أتباعُ حسين النجار وغيرهم من الجهمية.
والقول الرابع قول من يَقول: إنَّ الله بذاته فوق العالم، وهو بذاته في كل مكان، وهذا قول طوائف من أهل الكلام والتصوُّف كأبي معاذ وأمثاله.
وقد ذَكَر الأشعريُّ في المقالات هذا عن طوائفَ، ويوجد في
1 / 10
كلام السالمية كأبي طالب المكي وأتباعه كأبي الحكم بن برجان وأمثاله، ما يشير إلى نحوٍ من هذا.
وفي الجملة فالقول بالحلول أو ما يناسبه وقع فيه كثيرٌ من متأخري الصوفية، ولهذا كان أئمة القوم يحذرون منه؛ انتهى المقصود من كلامه.
وما ذكره شيخُ الإسلام - رحمه الله تعالى - عن الذين يقولون: إنَّ الله بذاته فوق العالم، وهو بذاته في كل مكان هو بعينه قولُ المردودِ عليه؛ حيث زعم أنَّ معية الله لخلقه معية ذاتية، وهو مع ذلك مستوٍ على العرش.
1 / 11
فصل
وأمَّا مُخالفة صاحب المقال لكتاب الله - تعالى - فإن الله ﵎ ذكر استواءه على العرش في سبعة مواضع من القرآن:
الموضع الأول قوله - تعالى - في سورة الأعراف: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف: ٥٤].
الموضع الثاني قوله - تعالى - في سورة يونس: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾ [يونس: ٣].
الموضع الثالث قوله - تعالى - في سورة الرعد: ﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ﴾ [الرعد: ٢].
الموضع الرابع قوله - تعالى - في سورة طه: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: ٥].
الموضع الخامس قوله - تعالى - في سورة الفرقان: ﴿الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا﴾ [الفرقان: ٥٩].
1 / 12
الموضع السادس قوله - تعالى - في سورة السجدة: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ﴾ [السجدة: ٤].
الموضع السابع قوله - تعالى - في سورة الحديد: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [الحديد: ٤].
والنَّص على استواء الرب ﵎ على العرش، الذي هو فوق جميع المخلوقات يُنافي كونَه مع سكان الأرض بذاته، وفي كلٍّ من هذه الآيات السَّبع أبلغُ رد على مَن زعم أنَّ مَعِيَّةَ الله لخلقه مَعية ذاتية.
ومما يُرَدُّ به أيضًا على مَن زعم أنَّ معية الله لخلقه مَعية ذاتية: قول الله - تعالى - مُخبرًا عن الملائكة: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ﴾ [النحل: ٥٠]، وإذا كان الرب ﵎ فوق الملائكة الذين هم سُكَّان السموات، ولم يكن معهم بذاته، فكيف يقال: إنَّ معيته لخلقه -أي: الذين في الأرض - مَعية ذاتية؟! هذا قول ظاهر البطلان.
ومما يرد به عليه أيضًا قولُ الله - تعالى -: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ
1 / 13
عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾ [الأنعام: ١٨]، وقوله - تعالى -: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً﴾ [الأنعام: ٦١]، وقوله: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ [الأعلى: ١]، وقوله - تعالى -: ﴿وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى﴾ [الليل: ١٩ - ٢٠]، وقوله - تعالى -: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ﴾ [الرعد: ٩]، وقوله - تعالى -: ﴿رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ﴾ [غافر: ١٥]، وقوله - تعالى -: ﴿وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ [البقرة: ٢٥٥]، وقوله - تعالى -: ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ [الشورى: ٤]، وقوله - تعالى -: ﴿أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الشورى: ٥١]، وقوله - تعالى -: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا﴾ [النساء: ٣٤]، وقوله - تعالى -: ﴿قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾ [سبأ: ٢٣]، وقوله - تعالى -: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾ [الحج: ٦٢]، ومثلها الآية التي في سورة لقمان، وقوله - تعالى -: ﴿ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ﴾ [غافر: ١٢].
فقد وصف الرب ﵎ نفسَه في هذه الآيات بصفة
1 / 14
العُلوِّ المطلق، وهو يشمل عُلُوَّ القدر، وعلو القهر، وعلو الذَّات، ولا يَخفى على من له عقل وعلم أنَّ صفة علو الذات تنافي المعية الذاتية للخلق أعظم المنافع.
ومما يُرَدُّ به عليه أيضًا قول الله - تعالى -: ﴿أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ﴾ [الملك: ١٦ - ١٧]؛ قال البيهقي في كتاب "الأسماء والصِّفات" في الكلام على قوله: ﴿أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء﴾ [الملك: ١٦]: "أراد من فوق السَّماء، كما قال: ﴿وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ﴾ [طه: ٧١]، بمعنى: على جذوع النخل، وقال: ﴿فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ﴾ [التوبة: ٢]؛ أي: على الأرض، وكل ما علا فهو سماء، والعرش أعلى السموات، فمعنى الآية: أأمنتم من على العرش، كما صرَّح به في سائر الآيات.
قال: وفيما كتبنا من الآيات دلالةٌ على إبطال قول من زَعَم من الجهميَّة أنَّ الله بذاته في كلِّ مكان، وقوله: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾ [الحديد: ٤]، إنَّما أراد بعلمه، لا بذاته انتهى.
وقد نقله عنه شيخُ الإسلام أبو العباس ابن تيمية في القاعدة
1 / 15
المركشية، وأَقَرَّه وهو في صفحة ١٩٢ - ١٩٣ من المجلد الخامس من "مجموع الفتاوى".
وقال القُرطبي في تفسيره في الكلام على قوله - تعالى -: ﴿أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء﴾ [الملك: ١٦]، قال المحقِّقون: أأمنتم من فوق السماء، كقوله: ﴿فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ﴾ [التوبة: ٢]؛ أي: فوقها؛ انتهى.
ومن الآيات التي يُرَدُّ بها على مَن زعم أنَّ مَعِيَّة الله لخلقه معية ذاتية قول الله - تعالى -: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ [فاطر: ١٠]، وقوله - تعالى -: ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ﴾ [السجدة: ٥]، وقوله - تعالى -: ﴿تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ﴾ [المعارج: ٤]، وقوله - تعالى -: ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ [آل عمران: ٥٥]، وقوله - تعالى -: ﴿بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ﴾ [النساء: ١٥٨]، وقوله - تعالى -: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ﴾ [النحل: ١٠٢]، وقوله - تعالى -: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ﴾ [المائدة: ٤٤]، وقوله - تعالى -: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا
1 / 16
مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ﴾ [الأنعام: ٩١]، وقوله - تعالى -: ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ * مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ﴾ [آل عمران: ٣ - ٤].
والآيات في إنزال القُرآن من الله - تعالى - كثيرة جدًّا، وفيها مع ما ذكرته ها هنا من الآيات دليلٌ على علوِّ الرب ﵎ فوق خلقه، وفيها أبلغُ ردٍّ على من زَعَمَ أن معية الله لخلقه معية ذاتية.
1 / 17
فصل:
وأمَّا مُخالفة صاحب المقال لسنة رسول الله ﷺ فقد ثبت عن النبي ﷺ أنَّه لَمَّا أسري به إلى بيت المقدس، عَرَجَ به جبريلُ حتى علا به فوقَ السموات السبع، وظهر به لمستوًى يسمع به صرير الأقلام، ودنا من الربِّ ﷻ فكلَّمه الله، وفرض عليه وعلى أمته خمسين صلاةً في كلِّ يومٍ وليلة، فلم يزلْ يتردَّد بين ربِّه وبين موسى في طلب التخفيف عنه وعن أمَّته، وحتى جعلها الله خمسَ صلوات، وقد جاء في هذا أحاديث صحيحة: الأول منها رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث شريك بن عبدالله عن أنس بن مالك ﵁ والثاني رواه الإمام أحمد ومسلم من حديث ثابت البناني عن أنس ﵁ والثالث رواه النَّسائي من حديث يزيد بن أبي مالك عن أنس ﵁ والرابع رواه الإمام أحمد والبُخاري ومُسلم من حديث قتادة عن أنس بن مالك عن صعصعة ﵁ والخامس رواه البخاري ومسلم من حديث ابن شهاب عن أنس بن مالك عن أبي ذر ﵁.
وقال الزهري في هذا الحديث: أخبرني ابنُ حزم أنَّ ابن عباس
1 / 18
وأبا حَبَّةَ الأنصاري ﵄ كانا يقولان: قال النبي ﷺ: «ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوًى أسمع فيه صريفَ الأقلام»، قال ابنُ حزم وأنس بن مالك: قال رسول الله ﷺ: «فرض الله على أمتي خمسين صلاة، فرجعت بذلك حتى مَرَرْتُ على موسى ﵇ فقال: ما فرض اللهُ على أُمَّتِك؟ قلت: فرض خمسين صلاة، قال: فارجع إلى ربِّك، فإنَّ أمتك لا تطيقُ ذلك، فرجعت فوضع شطرَها، فرجعت إلى موسى، قلت: وضع شطرَها، فقال: راجعْ ربَّك فإن أمَّتك لا تُطيق، فراجعت فوضع شطرَها، فرجعت إليه فقال: ارجعْ إلى ربِّك، فإنَّ أمَّتَك لا تُطيق ذلك، فراجعته، فقال: هي خمسٌ وهي خمسون لا يبدل القول لدي»؛ الحديث.
وفي عروج النبي ﷺ من الأرض إلى ما فوق السموات السبع، وما أكرمه الله به من الدُّنُو منه أبلغ رد على مَن زَعَم أنَّ معيةَ الله لخلقه مَعيَّة ذاتية، وكذلك في تردُّده ﷺ بين ربِّه وبين مُوسى ﵊ عِدَّة مرات حين كان موسى يقول له: ارجع إلى ربِّك، فاسأله التخفيف لأمتك، فيعرج به جبريلُ إلى الله فيسأله التخفيف لأمته حتى صارت إلى خمسِ صلوات، كلُّ ذلك يدُلُّ على إثبات العلوِّ لله - تعالى - وأنه بائن من خلقه، وفيه أبلغ رَدٍّ
1 / 19
على من زَعَم أنَّ معية الله لخلقه معية ذاتية.
ومِمَّا يرد على صاحب المقال أيضًا قولُ النبي ﷺ للجارية: «أين الله؟»، فقالت: في السماء، قال: «من أنا؟»، قالت: أنت رسولُ الله، قال: «أعتقها، فإنَّها مؤمنة»؛ رواه مالك وأحمد ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث معاوية بن الْحَكَم السُّلَمِي ﵁ قال أبو عثمان الصابوني: حكم بإيمانِها لَمَّا أقرت أنَّ ربَّها في السماء، وعرفت ربَّها بصفة العُلُو والفوقية.
ومما يرد به عليه أيضًا قول النبي ﷺ: «ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء؟!»؛ رواه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري ﵁.
ومما يرد به عليه أيضًا قول النبي ﷺ: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء»؛ رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والبخاري في "الكُنَى"، والحاكم في "مستدركه" من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص ﵄ وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وصححه الحاكم والذهبي.
ومما يرد به عليه أيضًا ما جاء في حديث أبي الدرداء - رضي الله
1 / 20
عنه - أنَّه سمع رسول الله ﷺ يقول: «من اشتكى شيئًا، فليقل: ربُّنا الله الذي في السماء تقدس اسمك»؛ الحديث رواه أبو داود.
قال البيهقي في كتاب "الأسماء والصفات": معنى قوله في هذه الأخبار: "من في السماء"؛ أي: فوق السماء على العَرش كما نطق به الكتاب والسنة؛ انتهى.
ومما يرد به عليه أيضًا ما جاء في حديث أبي هريرة ﵁: "أنَّ رسول الله ﷺ ذكر الرجل يُطيل السفر أشعث أغبر يَمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِّي بالحرام، فأنَّى يُستجاب لذلك؟! "؛ رواه الإمام أحمد وسلم والترمذي، وقال: حديث حسن غريب.
وفي كون الدَّاعي يَمدُّ يديه إلى السماء خاصَّة دون سائر الجهات أبلغ رد على مَن زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية، ولو كان الأمر على ما زعم القائل على الله بغير علم، لكان الدَّاعي يَمد يديه إلى سائر الجهات من فوقه، ومن أمامه، ومن خلفه، وعن يَمينه، وعن شماله، ولا يَخص جهة السماء التي فوقها الله - تعالى.
ومما يرد به عليه أيضًا ما جاء في الحديثِ الطَّويل عن جابر بن عبدالله ﵄ في ذكر حجة الوَداع، ففيه: أنَّ رسول
1 / 21
الله ﷺ خطب النَّاس في بطن الوادي، وقال في آخر خطبته: «وأنتم مسؤولون عني، فما أنتم قائلون؟»، قالوا: نَشهد أنَّك قد بلَّغت، وأدَّيت، ونَصَحت، فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء، وينكبها إلى الناس: «اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد»؛ رواه مسلم وأبو داود وابن ماجه.
وفي رفع النبيِّ ﷺ أصبعه إلى السماء دون سائر الجهات أبلغُ ردٍّ على من زَعَمَ أنَّ معية الله لخلقه معية ذاتية.
ومِمَّا يُرَدُّ به عليه أيضًا ما جاء في حديث الأَوْعَال: أنَّ رسولَ الله ﷺ قال بعد أنْ ذكر سبعَ سَموات، بين كل سماءَيْن مسيرةُ خمسمائة عام، وكِثَفُ كُلِّ سماء مسيرةُ خمسمائة عام، قال: «وفوق السماء السابعة بَحر بين أسفله وأعلاه، كما بين السماء والأرض، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال، بين ركبهن وأظلافهن كما بين السماء والأرض، ثم فوق ذلك العرش بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، والله ﵎ فوق ذلك، وليس يَخفى عليه من أعمال بني آدم شيء»؛ رواه الإمام أحمد والحاكم من حديث العَبَّاس بن عبدالمطلب ﵁ وصَحَّحه الحاكم والذَّهبي، وقد رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم والبيهقي في كتاب: "الأسماء
1 / 22
والصِّفات" بلفظ آخر، وقال الترمذي: حسن غريب.
ومما يرد به عليه أيضًا ما رواه النَّسائي والحاكم في "المستدرك"، والبيهقي في كتاب "الأسماء والصفات" من طريق الحاكم، عن سعد بن أبي وقاص ﵁: أنَّ سعد بن معاذ ﵁ حكم على بني قريظة أنْ يُقتل منهم كلُّ مَن جرت عليه الموسى، وأن تقسم أموالهم وذراريهم، فذكر ذلك لرسول الله ﷺ فقال: «لقد حكم اليوم فيهم بحكم الله، الذي حكم به من فوق سبع سموات»، لم يتكلم عليه الحاكم، وقال الذهبي في تلخيصه: صحيح، وذكره الذهبي أيضًا في كتاب "العلو"، وقال: هذا حديث صحيح.
وقد رواه الإمام أحمد والبُخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري ﵁ وقال فيه: «لقد حكمت فيهم بحكم الله، ورُبَّما قال: بحكم الملك»، ورواه أحمد ومسلم أيضًا من حديث عائشة ﵂ وفيه: «لقد حكمت فيهم بحكم الله ﷿)، زاد أحمد: «وحكم رسوله»، ورواه الترمذي من حديث جابر ﵁ ولفظه: «أصبت حكم الله فيهم».
ومِمَّا يرد به عليه أيضًا ما جاء في حديث أبي هريرة - رضي الله
1 / 23