ومنذ بداية الكتاب أيضا يوضح لانجه أن المادية قد اشتبكت في صراع حاد مع العقائد القديمة منذ ظهور أول المذاهب الفلسفية التي تدعو إليها؛ ذلك لأن الأفكار الدينية الوثنية التي كانت سائدة في الشرق القديم وفي العقائد اليونانية المختلفة كانت خليطا مضطربا غامضا، يغذيه الجهل ويبعث فيه قوى متجددة، وهو يصف هذه العقائد بأنها كانت «مفتقرة إلى الروحانية بقدر ما كانت مفتقرة إلى المادية». ولا شك أن مثل هذه العقائد التي لم تكن تستمد قيمتها إلا من شعور الناس بالجهل والعجز عن التحكم في القوى الطبيعية. وكانت خليقة بأن تصطدم بمذهب يحاول الإتيان بمبدأ واحد لتفسير الكون، ويسعى إلى بعث النظام والوحدة في جمع الظواهر المادية، والفكرة التي يود لانجه أن يدافع عنها - وإن لم يكن قد صرح بها - هي أن الصراع بين المادية وبين العقائد الغابرة كان منذ البداية صراعا بين العلم والجهل؛ أي بين الرغبة في إيجاد تفسير منظم للظواهر وبين الاكتفاء بالأفكار المضطربة والآراء الغامضة؛ فالمسألة إذن لم تكن هجوما من هذه العقائد على المادية رغبة منها في الدفاع عن الروحانية، وإنما كان الدافع الوحيد إلى هذا الهجوم هو - في واقع الأمر - الرغبة في الدفاع عن الجهالة والتفسير الغيبي للأشياء، ومن جهة أخرى فلم تكن المعركة التي خاضها الفلاسفة الماديون القدماء ضد رجال الأديان الوثنية راجعة إلى كراهيتهم للروحانية أو للمثل العليا، بل كان مبعثها الوحيد هو تأكيد حكم العقل وسيادة القانونية في فهم العالم، والرغبة في المضي في التفسير إلى أقصى مدى ممكن، ومعاداة الجهل في كل صورة، ومنها تلك الصورة التي تؤكد عدم قابلية ظواهر كثيرة في الكون للتفسير العلمي، وبهذا المعنى تكون المادية مرادفة للنزعة إلى التفسير العقلي للأشياء، وأقوى دليل على ذلك ارتباطها الدائم بالتقدم العلمي، وازدهارها في العصور الذهبية للعلوم. وقد تجلى ذلك منذ أول عهود التفكير الفلسفي عند اليونانيين؛ إذ إن مادية الطبيعيين الأولين كانت مقترنة بفترة ازدهار هائل للعلوم الفلكية والرياضية والطبيعية، وهو الازدهار الذي تجلت أوضح مظاهره في مدينة أيونيا، مهبط الفلسفة اليونانية، وموضع التقاء خلاصة الثقافات القديمة. (3-2) سقراط والمادية
حين يتحدث لانجه عن سقراط، فإنه في واقع الأمر يصدر حكما على الفلسفة العقلية اليونانية بأسرها، فسقراط هو الذي بدأ رد الفعل الضخم على المذهب المادي في الفلسفة اليونانية، واستهل تلك الحركة العقلية الهائلة التي بلغت قمتها العليا في فلسفة أرسطو، والتي دخلت فيها بعد تحالف مع الفلسفات اللاهوتية في العصور الوسطى، وظلت مسيطرة على الأذهان في العالم الغربي على نحو لا يمكن القول عن آثاره كلها قد اختفت حتى اليوم، ومن جهة أخرى فإن من المستحيل علميا وضع حد فاصل دقيق بين تفكير سقراط وتفكير أفلاطون؛ ومن هنا فإن إعادة تقويم فلسفة سقراط - على النحو الذي يقوم به لانجه في هذا الكتاب - هي في واقع الأمر إعادة لتقويم التيار العقلي في الفلسفة الغربية كلها، ولا سيما في قطبيه الكبيرين: أفلاطون وأرسطو.
ويؤكد لانجه أن المحاورات الأفلاطونية، التي تحدثت في معظم الأحيان بلسان سقراط وعبرت في أحيان غير قليلة عن آرائه، كانت تحفل بالخدع المنطقية والألاعيب وجميع أنواع المغالطات التي يرتكبها سقراط الظافر دائما، فهو يتلاعب بخصومه «كما يتلاعب القط بالفأر»، ويدفعهم إلى الوقوع في التناقض، وإلى الاعتراف بأن استدلالاتهم باطلة. ولكنهم لا يتخلصون من هذا الخطأ إلا ليقعوا على يديه في خطأ آخر. وفي رأي لانجه أن هذه الطريقة في الجدال تفيد في الحديث. وفي الصراع المباشر بين الحجج، حيث يجرب الشخص قواه العقلية ضد شخص آخر. ولكنها لا تفيد في البحث العلمي والسعي الجاد إلى المعرفة؛ ذلك لأن العلم لا يهدف إلى إفحام الخصوم، وإنما يرمي أساسا إلى كشف الحقيقة دون مغالطة أو مجادلة عقيمة، على قدر ما كان سقراط بارعا في الاهتداء إلى أخطاء خصومه، كان هو ذاته يقع في أخطاء لا تقل عنها خطورة. ولكنه كان دائما يعجز عن كشف الخطأ في استدلالاته الخاصة، وإذا لم يكن في وسعنا أن نتهم سقراط بالغش والخداع في المناقشة، فإنه كان على الأقل مسئولا عن ذلك الاتجاه اليوناني إلى جعل الفلسفة نوعا من الجدال اللفظي الذي هو أشبه ما يكون بمباريات مصارعة عقلية، تضيع فيها الحقيقة الهادئة في غمار المعارك الكلامية والرغبة المتحمسة في قهر الخصوم.
ولقد كان سقراط يدعي أنه لا يعلم شيئا، ويتخذ موقف البراءة والسذاجة من خصومه، ويطلب إليهم أن يزيدوه علما. ولكن هذه البراءة الفكرية كانت تختفي وراءها - في واقع الأمر - نزعة قطعية جازمة، سرعان ما تظهر عندما يحتار الخصم ويعجز عن المضي في المناقشة، وقوام هذه النزعة القطعية مجموعة بسيطة من المبادئ الثابتة: «كالقول أن الفضيلة هي المعرفة، وأن العادل وحده هو السعيد، وأن أول واجبات الإنسان معرفته لنفسه، وأن علو المرء بنفسه أجدى من أية عناية يوجهها إلى الأشياء الخارجية»،
2
فإذا ما أحرجه الخصم في مسألة معينة، عاد إلى التذرع بجهله الدائم، وذكرنا بالنبوءة التي أعلنت أنه أحكم الإغريق؛ لأنه كان يعلم أنه جاهل، على حين أن غيره لا يعلمون مثله أنهم لا يعلمون. ومع ذلك فقد كان سقراط أبعد الناس عن روح الشك؛ لأن افتراض وجود معرفة يقينية وإمكان وصول العقل البشري إليها كامن في كل عبارة نطق بها.
ومع ذلك فإن لانجه لا ينكر أن سقراط أسدى إلى الفلسفة خدمة كبرى، فمن الممكن أن يعد رائدا للنزعة النقدية في الفلسفة؛ لأن هدفه كان تمهيد الطريق للمعرفة الحقة بالقضاء على كل معرفة باطلة، ووضع منهج يتيح التمييز بين الحقيقة والبطلان، فمنهج سقراط إذن نقدي في أساسه، وفكرته القائلة إن النقد أساس المعرفة، كانت ولا تزال فكرة لها قيمتها الكبرى في الفلسفة، والأهم من ذلك أنه أسهم في تأكيد التمييز بين المظهر والحقيقة، وأكد أن العلم إنما يكون بالماهيات الكلية للأشياء، على حين أن الظواهر البادية لا تصلح أساسا لأية معرفة حقة.
ويشترك سقراط مع أفلاطون وأرسطو في أنهم جميعا قد أحدثوا رد فعل عنيف على النزعة المادية السائدة لدى الفلاسفة اليونانيين السابقين عليهم، ولم يكتفوا بذلك وإنما قلبوا موازين الأمور بحيث أصبحت وجهة النظر الدنيا هي العليا، وأحيوا من جديد تلك الأخطاء والأوهام القديمة التي كان الماديون الأولون قد قضوا عليها. ولكنهم أحيوها من جديد في صورة أبهى وأروع، وأضفوا عليها سلطة ونفوذا، وبينما كانت الخرافة القديمة صريحة واضحة، أصبحت على أيديهم تكتسي بثوب وقور، هو ثوب العقل المصوغ في قالب بشري بحت، والغائية التي تصور الطبيعة على مثال الإنسان.
ولقد ركز الماديون القدماء أبحاثهم في ميدان العلوم الطبيعية والرياضية؛ أي في ذلك الميدان الذي يستطيع العقل إحراز تقدم حقيقي فيه. أما رد الفعل الذي بدأه سقراط فقد نقل مركز الاهتمام إلى علوم الأخلاق والنفس البشرية؛ أي إلى ميدان يستحيل فيه تحقيق تقدم تتفق عليه كل الأذهان. بل إن أرسطو عندما أراد أن يعود فيما بعد إلى بحث تلك الفروع القديمة التي تجاهلها أفلاطون وسقراط، خلط بين البحث الطبيعي والبحث الأخلاقي، وذلك بإدخاله فكرة الغائية، وهي فكرة ذات أصل أخلاقي واضح؛ فالغاية عند أرسطو تتفق مع الماهية الفكرية للأشياء. ولكن هذا يعني أننا نسبنا إلى هذه الغايات القدرة على تحقيق ذاتها في الأشياء الطبيعية، وهي فكرة لا يمكن تصورها في العلم، ولا ترجع إلا إلى التشبيه بطريقة الإنسان العملية في تشكيل الأشياء حسب غاية معينة.
3 (3-3) هل كان ديكارت ماديا؟
Bog aan la aqoon