وكل عرف؛ لكي يتوصل إلى مبدأ للتفسير يسري على كل النظم والأعراف الأخرى، شريطة أن نمضي في التحليل بما فيه الكفاية بطبيعة الحال.»
14
هكذا تكتسب لغة ستروس صبغة «كانتية» واضحة، ويصبح تفسير هذه الظواهر من خلال البناء «شرطا لإمكان» هذه الظواهر؛ أي إن البناءات هي التي تفرض على الظواهر المتباينة والكثيرة تنظيمها وترتيبها الخاص، بل هي التي تجعلها ممكنة. ولقد كان هذا التشابه الواضح مع مذهب كانت هو الذي دعا الفيلسوف «ريكير
Ricoeur » إلى أن يصف بنائية ستروس بأنها «مذهب كانتي بدون ذات ترنسندنتالية»،
15
صحيح أن زوال الذات الترنسندنتالية يعني فقدان عنصر أساسي في مذهب كانت؛ لأن هذه الذات - بما لديها من صور الحساسية ومقولات الفهم - هي التي تعطي العالم مظهره القابل للمعرفة. ولكن يظل من الصحيح أيضا أن بناءات ليفي ستروس، وعلاقتها بالظواهر الاجتماعية التي تفترضها مقدما، مشابهة للصور الذهنية التي هي بمثابة القوالب لكل موضوع نعرفه في العالم كما قال بها كانت، وإن هذا التشابه يصل إلى حد لا يمكن تجاهله.
على أن هذه النزعة الفلسفية الواضحة لدى ليفي ستروس، إذا كانت تضفي مزيدا من العمق على أعماله الأنثروبولوجية، وتصبغها بطابع فريد لا نجد له نظيرا بين غيره من المشتغلين في هذا الميدان، فقد كانت هي ذاتها السبب الأكبر في النقد الذي تعرض له. ومما يلفت النظر أن النقد لم يأت من جانب المشتغلين بالأنثروبولوجيا وحدهم، فعلى حين أن هؤلاء لم يقتنعوا بالاتجاه الفلسفي الواضح في كتابات ستروس العلمية، نجد أن الفلاسفة بدورهم قد دخلوا معه في حوار حاد وجهوا فيه انتقاداتهم إلى الركائز الأساسية لتفكيره، وإلى الأهداف التي يتجه إليها عمله العلمي بوجه عام، وسوف نبحث كلا من اتجاهي النقد هذين - العلمي والفلسفي - على حدة.
إن من الحقائق المعروفة في حالة فلسفة كانت: أنه افترض للذهن البشري تركيبا معينا دون أن يحدد مصدر هذا التركيب، فهو لا يقول لنا من الذي وضع في الذات الإنسانية صور الحساسية ومقولات الفهم التي هي أساس معرفتنا لكل ظواهر العالم، ولا يبين لنا كيف أصبح للذات هذا التركيب بعينه. ويمكن القول: إن ليفي ستروس قد سار في أعقاب كانت في هذه المسألة بدورها، فهو لا يبين لنا كيف تكون البناء، ولا يحدد له أصلا، وأغلب الظن أنه ينظر إلى السؤال عن أصل البناء على أنه سؤال ميتافيزيقي لا شأن له به.
ومع ذلك ففي مجال العلم ينبغي أن يطرح هذا السؤال، ولا يمكن أن يقبل المشتغلون بالعلم - سواء في ميدان الأنثروبولوجيا أو غيره - افتراضا مسبقا بوجود بناءات ثابتة للعقل البشري تفرض نفسها على كل نواتجه الاجتماعية والثقافية، وتصبغها بصبغتها الخاصة، ما لم يحدد الباحث أصلا لهذه الأبنية يكفي لإقناعهم بأن لها هذا القدر من العمومية والثبات، وهو ما لم يفعله ليفي ستروس.
ولقد كان الأصل الوحيد الذي ورد في كتاباته صراحة هو الأصل اللغوي، وهذه نقطة أساسية كان فيها ستروس مختلفا عن كانت الذي لم تكن للغويات أهمية في فلسفته. ومع ذلك فمن الممكن القول بوجود قدر معين من التشابه حتى في هذه الحالة، فمن المعروف أن «كانت» قد استمد قائمة مقولاته من أنواع الأحكام المنطقية، مرتكزا في ذلك على الفكرة القائلة إن النشاط الرئيسي للذهن البشري يتمثل في عملية إصدار الأحكام ذات الطابع المنطقي؛ ومن ثم فإننا إذا حصرنا قائمة الأحكام التي يصدرها ذهننا، أمكننا أن نستخلص منها المقولات والقوالب الرئيسية التي يشكل بها الذهن كل موضوع يدخل في نطاق معرفته، ويجوز أن ليفي ستروس لم يبتعد كثيرا عن هذه الفكرة حين قال: إن النشاط الرئيسي للذهن هو العملية الرمزية التي تتمثل في اللغة،
Bog aan la aqoon