ولنبدأ بأن نلاحظ أن تكوين ليفي ستروس وتعليمه كان فلسفيا وقانونيا، وأنه لم يتجه إلى البحث الأنثروبولوجي إلا في مرحلة متأخرة نسبيا؛ ومن هنا كان من الطبيعي أن ينعكس هذا التكوين الفلسفي على منهجه في البحث الأنثروبولوجي، حتى أن أحد الباحثين قال عنه: إنه «كان يتصرف دائما كما لو كان داعية يدافع عن قضية، لا عالما يبحث عن الحقيقة الفعلية.»
12
على أن اهتمام ستروس المتأخر بالبحث الأنثروبولوجي لا ينبغي أن يعد تحولا عن الأصل الفلسفي الذي بدأ منه؛ ذلك لأن هذا الميدان بالذات يمكن أن يقدم مادة خصبة للتفكير الفلسفي، إذا كان الباحث قد تدرب على هذا التفكير بما فيه الكفاية، فمن الممكن أن نقول - ومن وجهة نظر معينة، إن دراسة الثقافات القديمة لها أهمية فلسفية كبرى؛ إذ تخرجنا من الحيز الضيق للثقافة التي نعيش فيها، وتقدم إلينا أنماطا فكرية مغايرة لتلك التي اعتقدناها. وصحيح أن هذه الأنماط البدائية - في رأي ستروس - لا تختلف «في جوهرها» عن تلك التي نستخدمها اليوم، ولكن المهم أنها تدرس هنا في إطار مغاير لذلك الذي ألفناه في حضارتنا الحديثة. وهكذا يجد الأنثروبولوجي مجالا خصبا لتطبيق واختبار فكرة النسبية التي طالما سعى الفلاسفة إلى فهمها، ويتيح له ميدان دراسته فرصة عظيمة لإلقاء نظرة «موضوعية» على الفكر الإنساني الذي نسينا أصوله وعجزنا عن اختبار جذوره العميقة المتأصلة فينا دون وعي منا، وعلى حين أن الفيلسوف يعجز - في الأحوال العادية - عن الخروج عن الإطار الفكري لحضارته؛ لأن هذا الإطار الفكري هو الذي يتكلم فيه ومن خلاله، فإن الدراسة الأنثروبولوجية تتيح له مجالا فريدا لتأمل مبادئه الفكرية «من الخارج» في بساطتها ونقائها الأول.
وفضلا عن ذلك، فإن ستروس لم يكن من أولئك الأنثروبولوجيين الذين يتوقف اهتمامهم عند حدود ثقافة بدائية معينة يعايشها بعمق، ويحلل ما لاحظه عنها في مؤلفات تفصيلية فيها كثير من الوصف وبعض التفسير، كما هي الحال عند مالينوفسكي
Malinowski
مثلا، فقد كانت دراسة الثقافات القديمة عنده وسيلة لغاية أوسع، هي الوصول إلى المبادئ الأساسية «للذهن البشري»، ولم تكن التفاصيل الأنثروبولوجية في نظره سوى أداة تساعده على الوصول إلى حقائق تصدق على هذا الذهن في عمومه، لا في شكل خاص من أشكاله؛ ولذلك لم يحاول ستروس أن يعايش ثقافة بعينها، ويقضي بين أهلها سنوات طويلة، ويندمج في حياتها اليومية فترة طويلة كما فعل غيره من الأنثروبولوجيين المحترفين. بل إنه كان يقوم بدراسات ميدانية سريعة إلى حد ما إذا قيست بما قام به غيره، ولم يكن يستقر في مكان واحد طويلا، وإنما كان يدرس ثقافة هذا المكان بالقدر الذي يساعده على تحقيق هدفه الأصلي، الذي هو في صميمه هدف فلسفي. وهكذا يمكن القول - من وجهة نظر معينة: إن بحثه في الأنثروبولوجيا لم يكن غاية في ذاته، بل كان وسيلة لغاية معينة هي في صميمها غاية فلسفية، وبقدر ما كان هذا الأسلوب في البحث مميزا له عن غيره من علماء الأنثروبولوجيا، من ثم سببا من أسباب شهرته بينهم، فقد كان في الوقت ذاته هو المحور الذي دارت حوله الانتقادات التي وجهت إليه، سواء من جانب علماء الأنثروبولوجيا ومن جانب الفلاسفة، وتلك - على أية حال - مسألة سنعرض لها فيما بعد بالتفصيل.
لقد كانت الفلسفة - مند بداية عهدها - ترفض المظهر الخارجي للعالم. وحين انبثق منها العلم الطبيعي أخذ بدوره يبحث عن حقيقة لا تقدمها إلينا المظاهر المباشرة، وأخذ بالتدريج يكون لنفسه عالما خاصا به، مؤلفا من كيانات عقلية ورياضية، لا نستطيع أن نجد لها وجودا في عالم المظاهر، وإن كانت مع ذلك قادرة على أن تجعل هذا العالم مفهوما ومعقولا. وكانت مهمة ليفي ستروس هي أن يطبق هذا الشرط الذي أتاح للعلم الطبيعي إحراز أكبر قدر من التقدم على العلوم الإنسانية؛ لكي يجعلها بدورها علوما تتجاوز نطاق المظهر الخارجي للأشياء، ولا تندمج في ظواهر العالم أو في الظواهر الإنسانية، وإنما تبحث عن حقيقة عميقة وراء مظاهرها البادية.
ولنذكر أنه كان في هذا الصدد يفرق بين العلوم الإنسانية، التي تستهدف الفهم النظري وحده، ولا تفترق مهمتها عن مهمة العلوم الطبيعية أو العلوم المنضبطة، وبين العلوم الاجتماعية، التي يمكن أن يكون لها دور عملي؛ لأن هدفها هو التغيير، وهو شيء لم يحاول ليفي ستروس أن يحققه في كتاباته، بل حرص على أن يظل بعيدا عن الميدان العملي وعن محاولات التغيير، فهو يسعى إلى الفهم فحسب، وقد عبر عن هذه التفرقة بقوله: «لقد استعارت العلوم الإنسانية من العلوم المنضبطة والطبيعية درسا هو ضرورة التخلي عن المظاهر
apparences
إذا أراد المرء فهم العالم، على حين أن العلوم الاجتماعية قد استخلصت درسا موازيا، هو ضرورة قبول المرء للعالم إذا أراد تغييره». وربما بدا المصطلح الذي يستخدمه ستروس في هذا الصدد غريبا إلى حد ما؛ إذ إن من الشائع أن يستخدم لفظ «العلوم الإنسانية» لمجموعة العلوم التي تقبل مظهر العالم وتعترف بالظواهر الإنسانية على ما هي عليه، على حين أن لفظ «العلوم الاجتماعية» أكثر انطباقا على تلك العلوم الهادفة إلى الانضباط والدقة، والتي تسعى إلى الاقتراب من مناهج العلوم الطبيعية؛ ومن ثم ترفض الشكل الظاهري للموضوعات التي تبحثها وتسعى إلى حقيقة خافية من وراء المظاهر، تعبر عنها - في الغالب - بقوانين رياضية. ولكن ستروس آثر أن يعكس الآية، ويجعل الانضباط في جانب العلوم الإنسانية، وعلى أية حال فالمسألة مسألة تسمية فحسب، ومن المعروف أن تعبيري «العلوم الاجتماعية» و«العلوم الإنسانية» ما زال موضوع خلاف بين المشتغلين في هذا الميدان، ولم يستقر الرأي نهائيا على مسميات ثابتة تحدد نطاق كل منهما حتى اليوم.
Bog aan la aqoon