Althusser » كان يعيد قراءة الأصول الكبرى للفلسفة الماركسية - وخاصة كتاب «رأس المال» ذاته - من خلال تفسير بنائي مبتكر، وقبل هؤلاء جميعا كان «ليفي ستروس
Lévi-Strauss » يواصل جهوده الرائدة التي كان قد بدأها قبل هذا التاريخ بما يقرب من عشرين عاما، والتي استطاع بفضلها أن يجعل للبنائية مكانة بارزة على خريطة المذاهب الفلسفية في النصف الثاني من القرن العشرين، على الرغم من أن ميدان تخصصه كان علما اجتماعيا وليس فلسفيا هو الأنثوبولوجيا.
على أن هذا الانتشار الذي جعل من البنائية مذهبا فلسفيا شاملا ما يقرب من عشر سنوات ، لا ينبغي أن يخفي عن حقيقة هامة، هي أن البنائية لم تصبح مذهبا فلسفيا إلا لأن المتخصصين قد تنبهوا في ذلك الوقت بالذات إلى الإمكانات الخصبة التي تكمن في فكرة «البناء»، إما الفكرة ذاتها، وإما مبدأ التفكير من خلال «بناءات»، فكان معروفا قبل ذلك بوقت طويل، وعلى هذا الأساس نستطيع أن نقول: إن البنائية هي - قبل كل شيء - «منهج» في التفكير، وبهذا المعنى كانت موجودة منذ عهد بعيد. ولكنها لم تصبح «مذهبا» فلسفيا إلا بعد أن تنبه بعض المفكرين - بطريقة واعية - إلى أهمية هذا المنهج وحددوا معالمه بوضوح بعد أن كان يطبق بطريقة ضمنية دون وعي بكافة أبعاده. وكانت نتيجة الحماسة التي تملكتهم حينما اكتشفوا هذه الطريقة في التفكير أن جعلوا منها «مذهبا» شاملا يقدم تفسيرا للمشكلات التي تواجه العقل في ميادين شديدة التباين، ومعنى ذلك أن البنائية - من حيث هي منهج - قديمة العهد. أما من حيث هي مذهب شامل؛ فهي ظاهرة حديثة في الفكر المعاصر.
ولكن على أي أساس نقول: إن البنائية - من حيث هي منهج - كانت معروفة ومطبقة منذ وقت طويل؟ ذلك لأن مجرد تطبيق نموذج رياضي على موضوع علمي معين، هو في ذاته نوع من البنائية، «فإذا أدركنا أن العلم الحديث - منذ القرن السابع عشر - لم يتمكن من تحقيق إنجازاته الضخمة إلا بفضل تطبيق النموذج الرياضي على الظواهر الطبيعية، كان في استطاعتنا أن نحكم بأن هذا العلم كان منذ بدايته «بنائيا»؛ لأنه استهدف الاهتداء إلى «البناء» الكامن وراء الظواهر الطبيعية، وعبر عن هذا البناء بلغة رياضية. بل إن كل علم لا بد أن يكون له من البنائية نصيب؛ لأن دراسته تنصب على بحث أنساق من العلاقات والروابط بين الظواهر.»
1
ويؤيد بياجيه - عالم النفس المشهور - الرأي القائل: إن البنائية في تصميمها منهج قبل أن تكون مذهبا؛ ذلك لأنها أسلوب فني متخصص (
Technical )، وتقتضي التزامات عقلية معينة، تؤمن بالتقدم المتدرج. ولقد كان للمنهج الذي تمثله البنائية تاريخ طويل يشكل جزءا من تاريخ العلوم. غير أن سماتها لم تكتشف إلا في وقت متأخر؛ وذلك لأسباب منها: صعوبة المنهج البنائي وتعقده، واتجاه العقل البشري إلى أن يتجاهل في البداية مفاهيم الاعتماد المتبادل بين الظواهر، والكل النسقي الذي تشكله، مكتفيا بتفسيرات مبسطة موحدة الاتجاه. هذا فضلا عن أن البناءات الكاملة وراء الظواهر لا تظهر للملاحظة المباشرة، بل توجد على مستويات لا يتم التوصل إليها إلا بتجريد مضاعف، أو على حد تعبيره: بتجريد «صور الصور
Forms of Forms ».
2
على أنه إذا كان للبنائية - بوصفها منهجا - مثل هذا التاريخ الطويل، فإن ظهورها الذي يبدو على شكل انبثاق مفاجئ، والذي اتخذ صورة مذهب فكري متكامل، قد ارتبط بظروف تاريخية معينة، كان لها تأثيرها في الفلسفة الفرنسية بالذات؛ إذ إن أول البنائيين وأهمهم كانوا من الفرنسيين. فبعد الحرب العالمية الثانية كان إنتاج سارتر الغزير في ميادين الفلسفة والرواية والمسرحية والمقال السياسي هو المسيطر على الجو الثقافي الفرنسي. بل إنه تعدى نطاق هذا الجو الثقافي حتى أصبح «أسلوبا خاصا للحياة» يتميز به عدد كبير من الشبان الفرنسيين في مظهرهم وملبسهم ومناقشتهم، هم «الوجوديون» الذين كانوا من المعالم الفرنسية المميزة في ذلك الحين، ولم تظهر قوة فكرية أخرى تتحدد آراء سارتر في الحرية «المحكوم بها» على الإنسان إلا في الماركسية، التي ركزت أبحاثها على قوانين التحول التاريخي، وأكدت حتمية الصراع الطبقي، ولم يمض وقت طويل حتى سعى سارتر نفسه إلى إزالة التعارض الحاد بينه وبين الماركسية، حتى وصل به الأمر إلى حد إعلان أن الماركسية لا يمكن تجاوزها، وأن فلسفته بالتالي تتخذ لنفسها موقعا «داخل» الماركسية. هذا على الرغم من أن حركة التقارب لم تكن متبادلة من الطرفين؛ لأن الماركسية ظلت تهاجم النزعة الذاتية والمثالية في الوجودية، وتصفها بأنها نموذج واضح للأيديولوجية البورجوازية.
Bog aan la aqoon