يونيو في ...
بينك وبيني أيها الصديق العزيز فتور أحسسته أمس حين التقينا في قهوتكم هذه التي تزدحم بالشيوخ، ويشتد فيها لغطهم بالفقه والنحو والأدب، وتختلط أصواتهم بهذه الضوضاء العنيفة التي تصدر عن الناس وعن الترام وعن هذه العربات التي تخرج مع المساء من درب الجماميز إلى شارع محمد علي، لتنبث في أحياء القاهرة موزعة عليه ما يحتاج أهلها من اللحم، وقد كان هذا الضجيج المختلط خليقا أن يحول بيني وبين الشعور بهذا الفتور، حتى يطول الحديث بيننا، ولكني لم أكد أصافحك حتى أحسست الفتور في يدك، وتأكدت أنه صورة للفتور في نفسك، فلما تحدثنا فصل لي صوتك الهادئ ما أجملت يدك، واستيقنت أن بينك وبيني شيئا.
ولولا أصحابك من الشيوخ هؤلاء الذين أحب أن أراهم من بعد، وأكره أن أجلس إليهم، وأن يتصل بيني وبينهم الحديث، لولا أصحابك الشيوخ هؤلاء، وما كانوا يشغلوننا به من أحاديثهم عن الأزهر ومدرسة القضاء ودار العلوم، وما كانوا يشغلوننا به من تهالكهم على أصحاب الطعام حين كانوا يمرون بما يحملون من الفطير والشواء وما يشبهها من هذه الأطعمة الرخيصة، لولا أصحابك الشيوخ هؤلاء لما اتصل الحديث بينك وبيني أمس إلا في هذا الفتور الذي تبينته في يدك وفي صوتك، وفي وجهك، ولما انصرفت عنك إلا وقد رددت الأمر إلى ما كان عليه، من هذا الصفاء القوي الذي لا تكلف فيه ، ولا احتياط. ولكني جعلت أنتهز الفرصة لأخلو بك ولتفرغ لي فلا تسنح، ولم يكن من اليسير أن أطلب إليك النهوض معي لبعض الشئون كما تعودنا أن نفعل: فقد كنت على ثقة بأنك ستعتذر، وستتعلل بأنك متعب مكدود من ليلتك البيضاء، التي قضيتها معي أمس.
على أني لم ألبث أن تبينت أني لم أكن مخطئا فيما كنت أقدر حين رأيتك تتعجل العودة إلى بيتك ولا تحفل بإلحاحي عليك وإلحاح أصحابك في أن تبقى معنا كما تعودت أن تبقى حتى يتقدم الليل، وتقل الضوضاء في الشارع، ويطيب الحديث في هذه القهوة الجميلة.
ولقد هممت أن أنهض لأرافقك إلى بيتك، وكنت أظن أن في مرافقتك هذه الدقائق ما يتيح لي أن أدير الحديث بيننا حتى أبلغ هذا الفتور، وكنت واثقا بأني إن بلغته فلن أدعه حتى أمحوه محوا، وإن أرقتك ليلة أخرى، ولكن الله لم يرد ذلك، أو لم يرده أصحابك الشيوخ، فقد نهض صاحباك هذان اللذان طالما نغصا علي مجلسي معك فرافقاك، واضطررت أنا إلى التخلف، والله يعلم إلى أين ذهبتم، فلست أشك في أنهما لم ينصرفا عنك حين انتهيت إلى بيتك، وأكاد أعتقد أنك إنما تكلفت الانصراف وتعجلت العودة لتخلص مني وممن كان من أصحابك، ولتفرغ لصديقيك هذين فتقضي معهما شطرا من الليل غير قليل، فيما تعودتم أن تنفقوا ليلكم فيه من عبث وحديث.
ولولا أني كرهت أن أثقل عليك وعليهما وأن أوصف بالإلحاح، لتبعتكم لأعلم علمكم، ولأسقط عليكم بعد أن يستقر بكم المجلس، ولأتخذ موضوعا للصراع بينهما وبيني، فلا أنصرف عنك، حتى أصرفهما، وما أوسع حيلتي حين أريد أن أصرفهما عنك، وأي شيء أيسر من أن آخذ معك في بعض الحديث الذي لا يحبانه، ولا يسيغانه، ولا يفهمانه، فإذا أنت تجيب وإذا أنا أمضي في الحديث، وإذا هما يظهران الضجر، ثم يظهران الضجر الشديد، ثم يتثاءبان، ثم يؤذنان بعزمهما على الانصراف ثم ينصرفان، ولكني لم أنشط لشيء من هذا لأني لم أجد منك ما يعينني على النشاط إليه، ولأني لم أجد من نفسي ما يدفعني إلى هذا النشاط، فقد كنت أنت فاترا، وكنت أنا مثقل النفس بالهم، مملوء القلب بالحزن، والله يعلم ما احتجت إليك في يوم أو ليل كما احتجت إليك أمس، وما افتقدتك في يوم أو ليل كما افتقدتك مساء أمس، لقد رأيتكم تنهضون، وأتبعتكم بصري وأنتم تسعون إلى درب الجماميز. حتى إذا انعطفت بكم الطريق، أثبت بصري في الفضاء أمامه كأنما كنت أريد أن ينعطف معكم وأن يبلغكم وأن يدعوكم إلي وأن يردكم علي، ولكن بصري لبث ثابتا في الفضاء، لم يستطع أن يتبعكم ولا أن يبلغكم ولا أن يؤدي إلى أنفسكم ولا إلى نفسك أنت خاصة رسالة نفسي، فرددته إلي خائبا محزونا، ومكثت في قهوتكم هذه أنظر ولا أكاد أرى، وألقي السمع ولا أكاد أسمع، ويتحدث إلي من حولي فأجيب حينا، وأذهل أحيانا عن الجواب. وقد تفرق الناس من حولي كما تعودوا أن يتفرقوا حين كاد الليل أن ينتصف، وخلت القهوة لي ولجماعات ضئيلة تفرقت فيها حول بعض اللعب، فأنفقت فيها ما استطعت أن أنفقه من الوقت، وأستطيع أن أنبئك صادقا بأني دهشت حين سمعت الخادم ينبهني إلى أن قد آن أوان الإغلاق، فنهضت كارها متثاقلا، وأخذت الطريق التي أخذتموها، في درب الجماميز، أسعى أمامي وكأني كنت أقدر أنني سألقاك عائدا إلى بيتك مع أحد صاحبيك، فآخذك منه قهرا أو أنفق معك بقية الليل هائمين في القاهرة، أو لاجئين إلى داري أو إلى هذا السطح الجميل الهادئ الذي ينبسط أمام بيتكم الصغير، وكنت كالمستيقن بأنكم إنما ذهبتم عند أحدكم في هذا البيت الذي يسكنه غير بعيد عن بيتي، عند جامع ابن طولون، فسمرتم ما شاء الله أن تسمروا وهزأتم بشيوخكم في الأزهر ما شاء الله أن تهزءوا، وذكرتم من أنباء صحبكم ما شاء الله أن تذكروا، وتناشدتم الشعر وهجا بعضكم بعضا، وأثنى بعضكم على بعض، ثم آن لكم أن تتفرقوا فبقي أحدكم في بيته وخرجت أنت مع صاحبك تسعيان في هدوء الليل الساكن وتمضيان فيما كنتم فيه من لغو، وتضحكان من هؤلاء السكارى الذين يتخبطون في هذه الأحياء الوطنية حين يعودون إلى بيوتهم آخر الليل، حتى إذا بلغتما بيتك آويت إليه، ومضى صاحبك وحيدا، يسرع في هدوء الليل كأنه السهم، حتى يبلغ داره في أقصى الظاهر.
كنت أقدر هذا كله وأكاد أثق به، وأكاد لا أشك في أني سألقاك مع صاحبك في بعض الطريق، والله يعلم ما سمعت وقع أقدام من بعد، إلا خيل إلي أنها أقدامكما، ولكني قطعت درب الجماميز حتى انتهيت إلى السيدة دون أن ألقاكما، ثم مضيت نحو جامع ابن طولون، فلم ألقكما، ثم انعطفت حتى مررت ببيت صاحبك، فلم ألقكما، ولم أر في البيت ما يدل على يقظة، ولم أسمع منه ما ينبئني باتصال السمر والحديث.
فمضيت في طريقي يائسا من لقائك محزونا لهذا الفتور الذي لم أستطع أن أمحوه حتى انتهيت إلى بيتي، وليتني لم أنته إليه، لقد كنت ذاهلا حين بلغت البيت فدققت الباب كما تعودت أن أفعل وانتظرت، ثم دققته مرة أخرى ومرة ثالثة، وكان الصوت يتردد في هذه الدار ثم يعود إلي فينبئني بشيء لا أكاد أفهمه، حتى إذا كانت الطرقة الثالثة عاد الصوت إلي ينبئني بما فهمته وارتعت له، عاد الصوت إلي يقول لي: إنك لأحمق، فيم تطرق الباب وليس من ورائه من يسمع لك، ولا من يسرع إليك؟ لقد تحمل من كان في البيت وأصبح البيت خاليا فارغا هادئا ينتظر مقدمك لتملأه وتعمره وتذيع فيه الحركة، لا تعد طرق الباب، فلن يستجيب لك أحد، ولكن أخرج المفتاح وأدره في القفل أمامك، فإذا انفتح لك الباب، فادخل وأغلقه من دونك أو لا تغلقه، فمن يدري! لعلك لا تستطيع مصاحبة لهذه الوحدة المروعة في هذا البيت الذي لم يتعود الفراغ، لن تهديك الخادم الصغيرة بمصباحها الضئيل كما تعودت أن تفعل، فأنت تعلم أنها سافرت مع سيدتها، فأخرج من جيبك علبة الثقاب وأضئ لنفسك ظلمة الطريق واذهب إلى أي الوجهين شئت، اذهب إلى غرفتك الحرام، فلا بأس عليك من الالتجاء إليها، لن يبلغك فيها صوت، ولن تنتهي إليك فيها حركة. ولن تتحدث فيها إلى صديقك، ولن تلقى فيها إلا كتبك التي لا تحصى، ومن يدري! لعل نفوس المؤلفين لهذه الكتب قد أقبلت جماعات من أعماق الزمان ومن أقطار الأرض، لتؤنس وحشتك في هذه الغرفة الخالية، واذهب إن شئت إلى غرفة نومك فلن ترى في السلم سراجا مضيئا ولن ترى إذا انتهيت إلى أعلى السلم خادمتك الصغيرة مستلقية تغالب النوم وتنتظر مقدمك، ولن ترى في غرفتك امرأتك في سريرها تتكلف النوم وهي مستيقظة، ولكنها لا تريد أن تؤذيك، ولا أن تشق عليك ولا أن تلقي في روعك أنها تأرق حتى تعود إلى غرفتك، فالله يعلم أنها لا تأرق إلا انتظارا لك، وشوقا إليك، ولكنك خليق أن تسيء الظن وأن تقدر أنها إنما تأرق لتحصي عليك الساعات، تستطيع الآن أن تدخل هذه الغرفة لا مترفقا ولا محتاطا فلن توقظ أحدا، ولن يحس مقدمك أحد، ومن يدري! لعل ظلا من امرأتك قد أقام في هذه الغرفة ينتظر مقدمك ويأبى أن يفارق هذا البيت حتى تفارقه أنت لتعبر البحر.
نعم عاد إلي صوت الطرقة الثالثة بهذا الحديث الطويل، في لحظات لا أدري أكن طوالا أم قصارا، ولكن الذي أعلمه هو أني لم أخرج المفتاح ولم أدره في القفل أمامي، ولم يفتح لي الباب، وإنما لبثت قائما أمام البيت بعد أن تردد هذا الحديث في أعماق نفسي، فملأها حزنا ووحشة ورعبا، وأكاد أكتب وندما، ولكني لا أريد أن أعترف بأني أحسست الندم.
لبثت قائما أمام البيت أسأل نفسي أأقدم أم أحجم، أأدخل الدار أم أنصرف عنها، ثم لا أخفي عليك لقد عجزت عن الإقدام وكرهت أن أفتح الباب، ولم أحس شوقا إلى لقاء الظلال، ظلال العلماء والأدباء والفلاسفة، قد أقبلوا يؤنسون وحشتي في الغرفة الحرام. ولم أجد جلدا عن أن ألقى ظل امرأتي في غرفة نومي، وإنما استحييت منه أشد الاستحياء، لم أدخل الدار وإنما انصرفت راجعا أدراجي، ومضيت أهيم في الطريق أمامي، أخرج من شارع لأدفع إلى شارع آخر، لا أحفل بما قد يظنه بي هؤلاء الخفراء والشرطيون الذين لا أشك في أنهم كانوا ينكرون شخصي الهائم، في مثل هذه الساعات المتأخرة من الليل، ولعل منهم من هم أن يسألني عن أمري، ولكنه لم يجد علي من مظاهر الريبة ما يغريه بهذا السؤال، فخلى بيني وبين الطريق.
Bog aan la aqoon