فاختلج جورجي وقال: وهل أنت واثق أنه لا يزال في أميركا؟ - كلا، لا أدري. - أما سمعت أنه جاء إلى مصر؟ - كلا البتة ولعله جاء إلى مصر سرا. - هل من داع لإتيانه سرا؟ - نعم هناك داع كبير فهو قد هرب من سوريا هربا إلى أميركا، ولا يحسن العمل في أميركا كسائر المهاجرين السوريين، فلا يبعد أن يكون قد جاء إلى مصر، فما هو اسم الرجل الذي يريد أن يتزوج الفتاة؟ - يسمي نفسه فهيم بك رماح، ولكن لا عبرة بالاسم، فقد يكون الرجل متنكرا باسم آخر إذا صح ظننا. - كيف تصفه؟ - ولا عبرة بالوصف؛ لأنه يقدر أن يغير شكله، فهو الآن ذو لحية صغيرة مستدقة إلى أسفل، ويلبس قبعة سوداء ونظارة، ويدعي أنه جاء ببعض الثروة من أميركا، واشتغل هنا بمضاربات الأطيان فربح ربحا جزيلا، ولكن قد يكون كاذبا بدعاويه حتى بلحيته وقبعته ونظارته، فلماذا هرب هربا؟ - كان يشتغل في سياسة البلاد ويطلب بعض المناصب، ولا يخفى عليك أن الذي يشتغل في السياسة في سوريا يكون أعداؤه أكثر من أصدقائه، أما صاحبنا فكان أعداؤه من ذوي النفوذ في الآستانة، فنصبوا له مكيدة هائلة كادت تؤدي به إلى البوسفور لولا أن هرب، فقد وشوا به أنه من رجال تركيا الفتاة. والذي تقع عليه هذه الشبهة في تركيا لا يكون نصيبه إلا الهلاك، إذا وقع في يد الحكومة. - ولكن لنفرض أن المسمى هنا فهيم رماح هو ذلك الرجل ... لم تقل لي ما اسمه يا أبانا؟ - اسمه الأمير سليمان الخزامي. - لنفرض أن الأمير سليمان هو فهيم رماح، فلماذا يتنكر في مصر وهو في مأمن من الحكومة العثمانية؟ - هذا ما أعترض به على افتراضك. - ألا تظن أن هناك داعيا آخر لتنكره؟ - لا يخطر لي داع آخر إلا أنه لا يريد أن يتظاهر قريبا لأهله؛ لئلا تضايقهم الحكومة بسببه؛ لأنهم قاسوا بسببه في أول الأمر اضطهادا لا يطاق، فكان أخوه وأبوه يتبرآن منه، ويدعيان أنهما قاطعاه تمام المقاطعة، ولكني أرجح أنهما كانا يرسلان إليه الأموال بالآلاف سرا، وقد باعا قسما كبيرا من الثروة الطائلة. - إن هذا السبب الذي تظنه ظنا يا أبانا لهو سبب وجيه، ولا يبعد أن يكون الأمير سليمان قد جاء إلى مصر رأسا متنكرا، أو جاءها بعد أن قضى مدة قصيرة في أميركا، وأخوه وأبوه يحولان الثروة إلى مصر تدريجا؛ لأن فهيم رماح هذا الذي نفرض أنه هو الأمير سليمان الخزامي قد جمع ثروة طائلة في مدة قصيرة هنا، فلا يعقل أنه يستطيع جمعها في هذه المدة، وهو رجل غريب البلاد. - إن تعليلك في محله يا ابني، ولكن لا بد من البحث والتحقيق حتى إذا ثبت أن هذا هو الأمير سليمان، وثبت أن الفتاة قريبته، فلا يبقى شك بأن الفتاة هي من نبحث عنها. - أما إنها قريبته فأمر أرجحه؛ لأني علمت أنه يبتغي الزواج منها مهما تكلف لأجله؛ لأنه علم سرا أن للفتاة ميراثا كبيرا لم تدر هي به بعد.
فاختلج الكاهن وحملق بجورجي قائلا: لم يبق عندي شك بأنه هو الأمير سليمان، ولكن كيف عرف بأمر ميراث الفتاة؟ - يقال: إنه وردت له كتابة سرية بذلك من أخيه أو أحد معارفه. - عجيب كيف عرف أخوه بذلك؟ لعل الشهود على الوصية أفشوا سرها. - إذن في الأمر وصية من أبي الفتاة؟ - كلا؛ لأن أباها مات قبل أن يدري هل له ابنة. - كيف ذلك؟ - لأبيها قصة طويلة لا محل لسردها الآن. - قل لي بالاختصار يا أبانا؛ لأن معرفة هذه الأمور ضرورية للتحقيق. - مسكين أبوها فقد قاسى اضطهادا لا يطاق من مكايد زوجة أبيه وأخيه ابنها، وآخر المكايد اضطرته أن يهرب إلى بلاد اليونان، وهناك تطوع في الجيش اليوناني، وقتل في حرب الدولة العلية مع اليونان، وكانت زوجته حاملا حين هرب، ولما كانت زوجة أبيه تضطهدها رحلت حاملا إلى بيت أهلها في قضاء البترون، وهناك ولدت الفتاة ولم يعد يعلم أحد ماذا حل بها بعد ذلك.
وكان جورجي يبالغ في كتمان عواطفه ليخفي حقيقته، فقال: أولم يكن لها أولاد آخرون؟ - كان لها صبي وكان جده يبعده في المدارس؛ لينجو من اضطهاد زوجته، ولكنه لم ينج من كيدها، فنصبت له مكيدة هرب بسببها إلى أوروبا، وبعد ذلك أهمله عمه بالرغم من تساؤل جده عنه فاختفى خبره، رحمة الله على الأمير خليل فقد قاسى هو وذريته من جور تلك الداهية ما لم يقاسه أيوب الصديق.
وكان جورجي يزمهر والعرق ينضح من جبينه وهو يمسحه، فقال له الكاهن: ما رويت هذه القصة لأحد إلا تأثر منها، فلا أستغرب تأثرك يا ابني. - إذن الوصية التي ذكرتها لي من ... - من جد الفتاة، فإن ما قاساه من سوء سلوك ابنه الأمير إبراهيم وحفيديه فضل وسليمان، حمله على أن يوصي بثروته لحفيدته التي نبحث عنها الآن ولأخيها إن ظهر في الوجود، وقد كلفني أن أنفذ الوصية بعد موته؛ لأنه كتمها خوفا من اضطهاد ابنه له، وأوصاني ألا أظهر الوصية حتى أجد الفتاة، وقد مات الأمير منذ مدة؛ ولهذا تراني الآن أبحث عن الفتاة، وقد سقتني في الحديث إلى إفشاء هذا السر لك؛ لأني توسمت فيك معينا قديرا في البحث، فأرجو منك ... - كتمان السر، إني أكتمه يا أبانا، أكتمه حتى بعد ظهور الحقيقة؛ لأني تأثرت جدا لهذه القصة الغريبة فاتكل علي في تحقيق أمر الفتاة، كن مطمئنا، لقد اهتدينا إليها وسنخلصها من مخالب الذئاب. - هل علمت لماذا هربت بها خالتها إلى هنا؟ - علمت علمت، علمت أنها ربتها لتقدمها ضحية لصنم الرذائل والشهوات، وقد وجدت هذا الصنم وهي تنوي أن تزوجها منه. - إذا كان الأمر كذلك ف ... - فماذا؟ - من يستطيع منع هذا الزواج؟ - أنا. - لماذا؟ - لأن الفتاة لا تريد رجلا يجعلها رابعة خليلاته. - نعوذ بالله. - اعذرني الآن يا أبتاه، فإني مضطر أن أفارقك في الحال، ولا تتعب نفسك بعد الآن، فإن الفتاة ستكون بين يديك محمية من الغادرين.
إفلات العصفور ثانية
كانت الساعة الثامنة مساء حين قرع الباب على يوسف براق في غرفته، وهو يكتب على مكتبه.
فنهض يستقبل القادم وفتح الباب، فدخل منه جورجي آجيوس كالمجنون، وقال: خفت ألا أجدك هنا. - أراك مضطربا فماذا؟ - هيفاء تحت خطر. - ماذا تقول؟ - ستتزوج الليلة. - لذلك الزنيم؟ - له.
فقال يوسف متهددا: حياتها الروحية أو حياتك الجسدية. - وعدتك يا يوسف وها أنا أبر بوعدي، ولكني أريد يدك. - ها يدي فماذا أفعل؟ - اذهب واستأجر أوتوموبيلا، ها عشرة جنيهات ولا تبخل بعشرين أو مائة أو ألف إذا لزم الأمر. - ثم ماذا؟ - خذ الأوتوموبيل، وانتظر قرب منزل نديمة، ومتى خرجت الفتاة ضعها فيه وخذها إلى منزل في شبرا، هذا وصفه مدون على الورقة بكل وضوح حتى لا تضل عنه، وهذا مفتاح باب المنزل، ليس فيه أحد، فامكثا فيه ريثما أعود إذا لم أستطع أن أرافقكما، اتركا الأوتوموبيل عند محطة كبري الليمون، وبعد أن يبرح الحوذي اركبا مركبة إلى شبرا. - حسن، هل أنت واثق بالنجاح؟ - إني واثق، فلا تخف. •••
في الساعة التاسعة دخل جورجي إلى منزل نديمة، فوجد هناك نديمة وابنتها وجميل مرمور وفهيم رماح، فلما دخل رحبوا به، وأما هيفاء فحملقت فيه وكانت دلائل الكآبة بادية عليها، وكل لمحة من ملامحها كلمة تدل على نفورها وعلى تململها من الضغط الواقع عليها، أما نديمة فتقدمت وأسرت إليه قائلة: ما الذي جاء بك الآن؟ - إذا لم تدعوني فأدعو نفسي لأكون شاهدا. - أخاف أن توجس هيفاء منك؛ لأني أراها تحملق فيك كأنها عرفتك. - الناس يتشابهون يا سيدتي وأنا أتجاهل فلا تخافي، أما جاء القسيس بعد؟ - سيجيء بعد ساعة على الكثير.
بعد هنيهة خرج جورجي إلى غرفة الحمام لقضاء حاجة، وعاد وما هي إلا بضع دقائق حتى صاح الخادم: «حريقة حريقة.» فهرع الكل إلى المطبخ، فوجدوا اللهيب يندلع من بعض الحطام، فاشتغلوا بالإطفاء.
Bog aan la aqoon