فاكفهر وجه الرجل وفكر هنيهة، ثم قال: وإذا كان مثلي بلا قوة مالية؟ - حينئذ تسميه ضعيفا. - ولكنك نسيت الأصدقاء. - بل أنت نسيتهم، أمس كنت تسكر مع أبناء الأغنياء، فلما استنفدت الخمرة صوابكم أخذتهم مركباتهم إلى قصورهم وأخذك البوليس إلى هذا القرقول، فأين أصدقاؤك الآن؟ وأين يكونون متى صرت هرما، ولم تعد عشرتك تلذ لأبناء الأغنياء؟ - ففكر الرجل هنيهة ثم قال: لقد نبهت يا صاح غافلا، وأنا أشعر الآن أني أضعف قوة مما كنت منذ خمس سنين أو عشر. - وهل ترتاب بأن تكون في منتهى الضعف حين تكون ابن ثمانين؟ فأنت تستنفد الآن كل قوتك العضلية والعقلية والمالية، ولا تدخر شيئا إلى حين تهرم، فالواجب عليك نحو نفسك الآن أن توفر من قواك إلى آخر سنيك.
فسكت الرجل على هذا الخطاب، وبعد قليل قال: لقد أيقظتني من غروري يا سيدي وصار لك علي فضل، تكلم يا أخي فإني أستلذ كلامك. - أخاف أن تحسب كلامي فضولا. - بل هو فضل. - إذن ائذن لي أن أسألك: أما لك عائلة؟ - كلا البتة. - حسن جدا فقد خف وقر ذنبك عليك، ولكني ألومك على أمر واحد في ماضيك. - على السكر والقمار طبعا؟ - لا لا، بل ألومك على أمر سبب تطوحك في السكر والقمار، وهو أنك بقيت عازبا.
فتنهد الرجل وبقي ساكتا، وبعد قليل قال له يوسف: لا ريب أنك شعرت الآن بهذا الغلط؛ لأنك لو تزوجت لوجدت في عائلتك لذة لا تجدها في سكر ولا في قمار.
وكان النور قد ملأ المكان من نوافذه «المحددة»، فرأى يوسف دمعتين تنحدران على لحية الرجل، وعند ذاك قال الرجل ليوسف: هل أنت متزوج؟
فأجابه يوسف: كلا. - إذن كيف تعرف لذة العيلة؟ - أعرفها بالمشاهدة، ومن منا لا يرى ألوفا من العيلات السعيدة بألفتها، فلماذا لم تتزوج حين كنت في يسر؟ - كنت مزوجا يا أخي .
وهنا استرسل الرجل بذرف الدموع، فقال له يوسف: أظنك لم تكن سعيدا بزواجك، وقد أخطرت على بالك مصيبة فاعذرني. - كلا يا أخي، لم أكن تعسا في زواجي، ولكن الأحوال فرقتني عن عيلتي، وشتتتها. - إذن لم تزل لك عيلة. - لا أدري فقد تكون عيلتي منقرضة.
وكاد الرجل يجهش بالبكاء، فقال له يوسف: لا تؤاخذني على استدراجك إلى هذا الموضوع الذي يذكرك بأحزان ماضية فدعنا منه. - نعم، دعنا منه، ولكني أود أن تكون صديقي. - إني صديقك فأود أن أتعرف بك، فهل تتفضل باسمك الكريم؟ - اسمي جورجي آجيوس. - منزلك؟ - هذا الفضاء الواسع، وإنما تجدني غالبا في «قهوة الشيشة»، فهل تذهب إلى هناك؟ - لا، ولكني أذهب لأجلك وإن كان لا مأرب لي «بالشيشة». - اسمك الكريم؟ - يوسف براق. - لم تقل لي لماذا أنت هنا. - إني متهم غلطا ومتى استجوبوني برأت نفسي. - لا أشك أن مثلك لا يؤتى به إلى هنا إلا بالغلط.
عند ذلك انفتح الباب، وكان شرطي ينتدب السجناء واحدا بعد الآخر.
نقص القانون
كانت الساعة التاسعة حين جيء بيوسف إلى المأمور، وبعد أن ألقى عليه الأسئلة المعتادة سأله: لماذا جيء بك إلى هنا؟ - ائذن لي يا سيدي أن أكون وحدي معك؛ لأني أود أن يكون التحقيق سريا.
Bog aan la aqoon