وكان كلما رام أن ينهض ليمضي يشعر بقوة تقوده، وهو يقول: ما ضرني أن أبقى هنا، وليس من يعرفني ولا هي ولا ذووها يرونني.
وبقي على هذه الحال حتى قامت جماعة ليلى ومضت، فنهض ومشى وما وجد نفسه إلا ماشيا وراء تلك الجماعة، فلعن نفسه قائلا: هل أنا بعير حتى تقودني هذه المتصلفة بخيط من حب؟
ثم انقلب راجعا، ودخل إلى «كافه إيجبسيان»، ووقف فيها يتفرج على لاعبي البلياردو، وبعد هنيهة حسبها ساعة خرج ومشى مستعجلا، وهو يظن أنه متمهل، وما صار في وسط شارع نوبار «الذي سمي بعد ذلك شارع باب الحديد»، حتى رأى الجماعة أمامه فقال: إني سائر في سبيل عمومي يسير فيه كل الناس، فما أنا تابع هذه الثقيلة.
بلغت الجماعة إلى شارع عباس وهو يتبعها عن بعد، ويغالط نفسه قائلا: إن هذا الشارع عمومي يسوغ لي أن أسير فيه كغيري، إني أبحث عن غرفة.
وما زال يسير كأنه يسوق تلك الجماعة أمامه ولا نور هناك غير نور الشارع، حتى انعطفت الجماعة في شارع آخر، فتقدم إلى ذلك الشارع ووقف عند زاويته يرصد القوم حتى دخلوا في باب، فنظر في اسم الشارع المعلق في الزاوية، وقرأه على النور الضئيل، فإذا هو الشارع الذي يسكن فيه صديقه نجيب المراني، فقال لنفسه: تبا لك من غرور لقد قادتك إلى حيث تقطن.
ثم انقلب راجعا وهو يتغيظ من هذه المصادفات القاهرة، وقال: لقد انقضى النهار وأنا لم أهتد إلى غرفة موافقة، فلماذا لا أسكن في هذا الشارع، فإنه طلق الهواء بعيد مسرح النظر.
وكان واقفا أمام منزل قد كتب فوقه «غرف للإيجار»، فدخل إليه واتفق مع صاحبة المنزل وهي إيطالية على الغرفة وأجرتها، وأتى بحقيبته وأقام في غرفته الجديدة، وهو يشعر بشيء من الارتياح إلى مسكنه الجديد.
وكان شباك الغرفة يطل على منزل مجاور، وليس بين المنزلين إلا فسحة ضيقة تتصل بالشارع العمومي، ويفصلها عنه جدار واطئ، وبعد أن رتب يوسف غرفته جلس على مقعد عند الشباك، وجعل يطالع في أحد كتبه وفكره سابح في فضاء الخيال.
ولما مل هذه الحال أطفأ مصباحه واضجع في سريره، ولكنه لم يستطع هجوعا، فكان تارة ينزل من سريره، ويقعد على المقعد ثم يعود إلى السرير حتى ضاق ذرعه من الأرق.
صرخة مباغتة
Bog aan la aqoon