التساؤل الأول - لا شك - هو ما معنى العالمية؟ هل معنى أن تكون ثمة رواية عالمية أن العالم يقرؤها؟ أي إنها تتمتع بقدر من الإقبال الشعبي يتخطى حدود الإقليمية واللغة والثقافة وما إليها؛ بحيث يقرؤها الناس في كل مكان وبأي لغة؟ (أيا كانت الأسباب الدافعة على ذلك) أم أن معنى العالمية هو أن ثمة خصائص في العمل الأدبي أو الفني تجعله قادرا على البروز بحيث ينتقل من حدود الاستمتاع المحلي به إلى آفاق العالم الواسع بلغاته وثقافاته المتعددة؟
التفريق بين المعنيين هام. أما الأول، وهو السائد، فلا يقتضي بالضرورة امتيازا فنيا خاصا للعمل الأدبي، بل ولا يقتضي احتواء العمل الأدبي على مادة إنسانية أصيلة حافلة تتخطى به حدود اللغة التي كتب بها، فإن هناك عوامل شتى تحدد إقبال الجماهير في بلدان العالم المختلفة على عمل دون غيره - منها ارتباطه الوثيق بالثقافة التي نبع منها؛ أي: كونه وثيقة اجتماعية أو ثقافية يحتاج إليها من يريد التعرف على الحياة في بلد ما. وفي هذا الإطار تندرج أعمال أدبية كثيرة كتبت بلغات متعددة، ويقرؤها القارئ لا للاستمتاع الأدبي في المقام الأول، بل للتعرف على الثقافة أو الحضارة التي تمثلها - أيا كان حجم الدولة أو الأمة في موازين القوة الدولية. ومن هذه العوامل أيضا ارتباط العمل بالجذور المشتركة للثقافة الإنسانية مثل الأساطير والحكايات الخرافية والرموز النفسية المستمدة من الوعي الجمعي (بل واللاشعور الجمعي)، وفي هذا الإطار تندرج الملاحم القديمة، الشعبية منها والأدبية، والمواويل والألغاز والقصص الشعبي وبعض الصور الدرامية الأولى التي مر بها المسرح عبر تاريخه الطويل، ومن هذه العوامل أيضا قدرة العمل على التسلية، وهذه قيمة محدودة؛ فالأعمال الأدبية التي تعتمد على الإثارة أو الإضحاك أو على تصوير مشاهد الرعب، تعتبر أعمالا ترفيهية بالدرجة الأولى، وهي رغم إقبال العالم عليها لا ترقى إلى مستوى الأدب الرفيع. وقد حل محلها في زماننا بعض مسلسلات التليفزيون الأمريكية، وأفلام الهزليات ومسرح الهزل والقصص الرخيص وما إلى ذلك. إن تلك الأعمال تطبع وتكتب ويقرؤها الناس بلغات متعددة، ولكنها لا تتمتع بالاعتراف الأدبي ولا يعيرها النقاد اهتماما كبيرا (مثل الروايات البوليسية مثلا).
المعنى الأول للعالمية إذن لا يفترض معايير أدبية أو فنية ولا مادة إنسانية صادقة ترقى بالعمل الأدبي إلى مصاف الروائع. أما المعنى الثاني فهو الذي يعنينا؛ وهو المعنى الذي يمثل صعوبة لا يمكن التهوين من شأنها.
لقد تحدثت عن المعايير الفنية والمادة الإنسانية. ولقد اقترنا في حديثي اقترانا وثيقا؛ ولكن الواقع أن نسبة وجودهما معا في عمل واحد تتفاوت من عمل إلى عمل، فلربما صادفت عملا أدبيا حافلا بالمادة الإنسانية، نابضا بالحياة البشرية التي يصورها، وهو مع ذلك لا يخضع للمعايير الفنية التي أشرنا إليها؛ فما هي تلك المعايير الفنية ومن الذي وضعها، وكيف تتغير - إذا كانت تتغير - ومن الذي يغيرها؟
المؤسسة الأدبية العالمية
إذا كنا نقيس الأدب بمقياس ذي شقين؛ أولهما المادة الإنسانية التي تهبه حياته وعمقه، والثاني المعايير الفنية «المتفق عليها»؛ فنحن نواجه في الحياة معيارين لا معيارا واحدا - الأول إنساني والثاني فني - وإذا كان المعيار الإنساني أيسر في التعرف عليه فهو أصعب في الحكم عليه؛ لأنه لا يصل إلينا إلا من خلال الشكل الفني - أي إنه يتحد به ولا يمكن فصله عنه؛ ولذلك فإذا ركزنا على ما اصطلح على تسميته بالمعيار الفني الذي يحدد الأدب الرفيع استطعنا أن نرى الشكل والمضمون معا.
وأول ما ينبغي أن نثبته هو أن المعايير الفنية نسبية وليست مطلقة؛ أي إن تحديدها يتغير من عصر إلى عصر ومن نوع أدبي إلى نوع آخر، بل ومن لغة إلى لغة. وتحضرني في هذا المقام نظرية «النسبية النقدية» التي نادى بها في الخمسينيات البروفيسور «بوتل» وعرضت لها في كتابي «النقد التحليلي» (1963م) ومفادها أن معيار تحديد الأدب الرفيع يستند إلى ما اتفق عليه النقاد «المحترمون» في أي عصر من العصور وأي مكان وأي لغة، وما وصفوه بأنه جدير بالبقاء. ولكن كيف نحدد أولئك النقاد «المحترمين» هل هم مثلا من كتبوا كتبا ضمنوها اختياراتهم لشعر الأقدمين أو المعاصرين كصاحب ديوان الحماسة أو المفضليات أو يتيمة الدهر أو العقد الفريد أو المستطرف أو حتى لصاحب «الكنز الذهبي» الإنجليزي وغيرهم؟ أم أنهم النقاد الذين قدموا نظريات في اللغة والأدب مستشهدين بشعر السلف أو «محاسن أهل العصر» (الجاحظ وابن الأثير وقدامة وبشر والثعالبي ومن إليهم)؟ أم تراهم نقاد اليوم؛ أي نقاد المتابعة
REVIEWERS
الذين يقدمون الأعمال الأدبية في الصحف والمجلات ويعلقون عليها تعليقات تتضمن أحكاما بالرفض أو القبول، وقد تتضمن بعض التحليل الفني أيضا؟ وأخيرا ألا يمكن اعتبار الفنانين أنفسهم والأدباء بما لهم من نظرات في إنتاج بعضهم البعض نقادا؟ ألا يمكن اعتبار أحكام أبي العلاء على المتنبي (وتعصبه له) أو أحكام تشيخوف على جوجول أو وردزورث على ميلتون وسبنسر؛ آراء نقدية قد تبين لنا بعض الجوانب الفنية في فن هؤلاء، وقد تفيدنا في فهم التيارات الأدبية التي ينتمون إليها جميعا؟
الحق أن النظرية - على وجاهتها - ليست مطلقة الدقة. فربما اتفق النقاد أيا كان تعريفنا لهم على تمجيد عمل أدبي في زمن ما ومكان ما، ثم طواه النسيان، ولم يعد بقادر على تخطي حدود عصره ومكانه. فالنقد علم لا يتمتع بالاستقلال عن سائر المعارف الإنسانية، ويتغير بتغيرها، ولا أقول إنه «يتقدم» بالضرورة؛ إذ إن ازدياد القدرة على التحليل الفني مثلا أو على ربط الأدب بسياقه الإنساني أو الاجتماعي لا يعني بالضرورة نضجا في التذوق أو عمقا في الفهم، وربما استطاع ناقد قديم أن يصل إلى نفس النظرة النقدية في عمل ما دون استخدام الوسائل الحديثة، بل ربما استطاع أن يتفوق على بعض المحدثين بإدراكه جوهر العمل اعتمادا على الحس الصائب وحده، دون التحليل المنطقي وما إليه من وسائل النقد الحديث. أضف إلى هذا أن النقاد بشر؛ فهم قد ينخدعون بمظهر ما من مظاهر العمل، وقد تضللهم أشياء أبعد ما تكون عن الاعتبارات التي ألمحنا إليها، فيصدرون أحكاما قد تتناقلها الأجيال من بعدهم على أنها مقدسات. وهل منا من لا يذكر الأقوال التي شاعت في كتب النقد، والتي دهشنا لها في صبانا ثم تقبلناها دون مناقشة؛ مثل «هذا أشعر بيت قالته العرب»، أو «أمدح بيت» وما إلى ذلك؟ وما يقال عن القدماء يصدق على المحدثين.
Bog aan la aqoon