وسافر صديقي الذي يدق أبواب الكهولة، وإن كانت الحياة الرغدة في أوروبا تخفي حقيقة سنه، والتقيت بعده بالعديد من الأصدقاء الذين عادوا في صيفنا الحالي لقضاء العطلة أو جانب منها في القاهرة، وكل منهم يحمل آمالا بأن يبدأ الحياة غدا عندما تكتمل له مشروعاته المالية، ويصل إلى طمأنينة في الرزق لا تتأتى لأقرانه، بل للسواد الأعظم من المصريين وراعني أن كلا منهم بلا استثناء يؤكد أنه لا بد عائد، وأنه لن يقضي شيخوخته في الغربة. وراعني وأدهشني أن كلا منهم مشغول بموضوع أوحد لا يبارح خياله؛ ألا وهو المال، وطرق استثماره، وأن كلا منهم حتى المثقفين من زملائي الذين جمعتني بهم أيام الدراسة لم يعد يتحدث إلا في العملات الصعبة والعملات السهلة. وفيما يتبدى في مصر من نواحي القصور التي نلمسها جميعا في حياتنا اليومية، وأن انشغالهم بالثقافة انحسر أو تلاشى، وأن فكرة العمل من أجل رسالة أو لبناء الوطن قد أصبحت ضربا من السخرية المؤلمة في أعينهم؛ فالمال هو قانون الحياة الأعظم، وهو القوة والبطش والسلطان في نظرهم، حتى حين ينكرون ذلك.
وذكرت زميلا مصريا قابلته في إدنبره عاصمة اسكتلنده عام 1970م أثناء رحلة إلى تلك الأصقاع الجميلة. وكان قد أتى من مصر ليدرس الطب. ولكنه اكتشف وسيلة لكسب المال شغلته عن دراسة الطب، فكان حاله مثل حال الأزهري الذي ذكره طه حسين في الأيام؛ قضى عشرين عاما لم يظفر بالدرجة ولم يستيئس من الظفر بها. وسمعت من أحد الأصدقاء الذين عادوا في العام الماضي من ذلك البلد أنه توسع في عمله وأصبح تاجرا للحوم يشار إليه بالبنان، ولا يعرف إلا القليل من أهل البلد علاقته بالطب، ولكنهم يعرفون أنه مصري. وهو يقول لكل من يقابله من المصريين إنه يدرس الآن للدكتوراه (بعد قرابة أربعين سنة)، وإنه لا يقبل أن يعود إلى مصر إلا بعد ظفره بالدرجة.
ونظرت إلى من عادوا مختارين من بلاد الغربة، فوجدت أنهم ينقسمون إلى قسمين بصفة عامة؛ القسم الأول هو الذي قنع بما اقتصد من مال أصلح به حاله فعاد مبكرا ليستقر به المقام في مصر؛ إما في عمله الأصلي (بعد كفاح)، أو في عمل مشابه. سواء تطلب ذلك نظام الوظيفة القديم أو تحرر منها. والقسم الثاني يضم من عاد بسبب طول الغربة التي ملها وملته. وبسبب إحالته إلى المعاش في سن مبكرة أو متأخرة. فجاء كارها للغربة مقبلا على مراتع الصبا يريد أن يعود للحياة من حيث تركها، فلم يجدها إذ كبر الأقران وهدهم الزمن، أو رحلوا عن الدنيا وتركوه قائما؛ فهو دائما أبدا يبحث عن الماضي فلا يجده، وهو يزعم أنه لم يمر زمن ولم تتغير الدنيا، وهو يرنو إلى مصر اليوم محاولا أن يجد فيها مصر الأمس مصرا على ألا يرى الهوة التي تفصل بينه وبين ما كان عليه وما كانت الدنيا عليه.
إن نمط الغربة من أجل المال أصبح مألوفا إلى حد جعلنا نعتبره القاعدة التي لا استثناء لها، وأصبح الجميع يحلمون بأن يبدءوا الحياة غدا عندما يعودون، إذا عادوا! أما من لا يعودون - وليس عددهم بقليل - فهم الواقعيون الذين تصالحوا مع الزمن وكفوا عن خداع النفس، فأصبحوا يرون اليوم حاضرا والغد مستقبلا، فلا بأس إطلاقا في أن يعيش المصري في بلد تصبح له وطنا جديدا؛ فهو هنا يعيش الزمن كما ينبغي وقد نفى فكرة بداية الحياة غدا، وإن كان عليه في هذه الحالة أن يقيم جسورا مع مصر الحاضر بالزيارة والتواصل والتفاعل؛ حتى لا تتراجع صور مصر إلى ماض غابر يخلق منه صورة ضبابية لمستقبل لا يجيء أبدا.
معنى التراث
كتبت في هذا المكان قبل عدة أسابيع سطورا عن معنى الزمن، فصلت فيها القول عن الزمن الفردي (النفسي) والجماعي (الإنساني) والاجتماعي، وذكرت أن من صور الزمن الاجتماعي أحوال الناس في مجتمع ما كما ينقلها لنا التاريخ، وأن من أسباب الخلط في تفكيرنا هو الإحساس بالزمن الفردي أي بالماضي في صورة الزمن الاجتماعي؛ أي تحويل الحنين إلى الماضي، وهو عاطفة بشرية طبيعية، إلى حنين غامض عام إلى صور من التاريخ، فإذا نحن نضفي عليها صفات ليست فيها، بل هي نسج مشاعرنا وطبيعة شوقنا إلى ما فات، وإذا نحن نتصور بعض العصور المظلمة في صور من البهاء لا يمكن أن يشهد بها التاريخ الصادق.
وربما استعصت هذه الفكرة على قارئ من القراء، فتصور أنني أدين بهذا التاريخ كله، أو أنني أهاجم ما اصطلح على تسميته بالتراث؛ ومن ثم كان لا بد من العودة إلى هذا الموضوع الذي أصبح ساخنا في هذا الصيف الساخن، بل لا بد من تفصيل القول فيما نعنيه بالتراث، وما يمكن أن تعني هذه الكلمة لكل منا في ميدان عمله الخاص.
التراث في اللغة يعني الميراث، أي التركة التي خلفها لنا الأقدمون؛ قال تعالى:
وتأكلون التراث أكلا لما ، وكل إنسان له تراثه الفردي وتراثه الجماعي؛ فتراثه الفردي هو ما يتركه أبواه أو أجداده، ولا يقتصر ذلك بالضرورة على التركة المادية بل يتعداها إلى الصفات الموروثة سواء كانت ذهنية أو نفسية، إلى جانب المبادئ الخلقية التي تغرس في سنوات العمر الأولى فلا تنتزعها ولا تهزها أحداث الزمن وما يأتي به الجديدان، وأما التراث الجماعي فهو مجموعة القيم والأعراف التي تسود مجتمعا ما نقلا عن الآباء والأجداد، وقد تستند هذه القيم إلى أدب مكتوب أو أدب شفاهي، أو قد تكون مجسدة في قواعد السلوك ونظم الحياة نفسها، وبهذا المعنى فالتراث الجماعي قريب من الثقافة التي هي في آخر الأمر أسلوب حياة.
وقد كتب علينا نحن العرب أن نحمل في صدورنا وعقولنا أكبر كم من التراث (أي الموروث)؛ بسبب تاريخ لغتنا الطويل وتعدد الأطر الثقافية التي ازدهرت فيها هذه اللغة؛ ففي لغتنا يكمن تاريخنا الطويل، ولغتنا هي مفتاح إدراك أعماق هذا الزمن المترامي في صحراء الإنسانية (إن صح هذا التعبير، كما كان طه حسين يقول )؛ فلغتنا تتضمن من النظم الثقافية المتباينة ما لا يتوافر في أي حضارة أخرى! وسوف أضرب بعض الأمثلة حتى لا يتصور أحد أنني أبالغ؛ فبعض لغات العالم القديم (الصينية والهندية) ما زالت تحمل جميع سمات ذلك العالم؛ إذ لم تتغير كثيرا على مر الأزمان؛ لأن مجتمعاتها لم تتغير كثيرا هي الأخرى، وما زالت أنماط التفكير والإحساس القديمة حية في تلك اللغات القديمة. والبعض الآخر من لغات ذلك العالم قد اندثر معه (كالمصرية واليونانية القديمة واللاتينية) أو تحول إلى لغات حديثة مع نشوء الدول الحديثة، أما الغالبية العظمى من اللغات الصغرى في العالم القديم فقد تضاءلت وانحسرت؛ إما في مجتمعاتها المحدودة، أو في الكتب التي خلفها أصحابها للدارسين والمؤرخين.
Bog aan la aqoon