ثم تشرق الشمس وتصحو الطيور من وعثاء الرحلة وتبدأ في البحث عن الطعام، فهذا موسم الفواكه أيضا؛ موسم البلح والمانجو والقشطة الخضراء، «وإذن فوجه منظارك المقرب إلى الفاكهة الناضجة تجد تلك الطيور تتناول طعام الإفطار!»
وعندما تسطع الشمس في السماء ويقبل الضحى، تهدأ حركة الطيور إلا من قرناص ينشد جعرانا أو دودة، أو من دقناش يزهو بألوانه، وسائر الطيور الصغرى كالقبرة والوروار والخضيري التي تملأ الجو شقشقة وشدوا متصلا حتى الهاجرة.
وكبر الابن وكبرت معه الأشجار التي كان والده قد غرسها في فدانين اقتطعهما من قلب الصحراء وأحالهما جنة وارفة الظلال حتى تجتذب الطيور الزائرة، واعتاد الصبي منظر الخضرة وسط الرمال، واعتاد انتظار طيور أوروبا (ويسمونها في رشيد «طيور النيل»؛ لأنها تأتي مع فيضان النيل)، وأحب تمييز أصواتها وألوانها، واعتاد رؤية والده عاكفا على كتب ضخمة بالإنجليزية حافلة بصور الطيور الملونة المطبوعة على ورق سميك لامع، ينقل منها ملاحظات، مثلما اعتاد رؤيته منكبا على كتب الأدب العربي القديم ينقل منها مختارات في كراسات كثيرة، يتحف بها أبناءه من وقت لآخر، أو متحدثا عن الطيور التي عرفها العرب، أو منشدا ما قيل فيها من شعر.
ولم يستطع الصبي الذي شب عن الطوق أن يدرك العلاقة بين الأدب العربي والطيور؛ فقد كان ذلك من ألغاز الطفولة التي تقبلها دون تساؤل مثلما تقبل أخبار الحرب العالمية الثانية في الأربعينيات! لكنه عندما تخصص في الأدب هو الآخر، لم يستطع أن يتفادى السؤال، خصوصا بعد أن بهره الشعر الرومانسي الإنجليزي الحافل بالطيور، وقرأ عن نظرية «النماذج الفطرية»
ARCHETYPES
التي أتى بها العالم النفسي الأشهر «يونج»، ومؤداها أن ثمة صورا ورموزا يرثها الإنسان من ضمير البشرية الواحد؛ فهو يعرفها بالفطرة ويحس معناها دون تلقين، ويستوحي قوتها دون مرشد أو هاد.
لقد ارتبطت الطيور في أعماق البشر بنزعة الحرية والانطلاق؛ نزعة التحرر من الالتصاق بالأرض، فهي سابحة في جو السماء، تبصر البشر من عل وعيونهم تتطلع إليها من الأرض، وهي تنذرهم بالغيوم أو الجو الصحو، وتتهادى أو تهوي، ترفرف أو تدف، تحلق أو تحوم، فيرون فيها رموزا لما يدف بين جوانحهم ولما يحلق في خيالهم! ولكنها قبل هذا وذاك رمز للغز الأكبر؛ لغز الروح.
لقد صور الفراعنة الروح في صورة طائر، واستعار القرآن العظيم صورة الطائر في معنى مشابه
وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ، واقتبس هذا المعنى الشاعر الرومانسي الكبير «كولريدج» عندما جعل الملاحين يربطون طائر القادوس الذي قتله الملاح الهرم في عنقه (بدلا من قلادة الصليب) إيحاء بتحمله الوزر وحده! ولكن السمة الأساسية التي شدت الشعراء إلى الطيور هي صوتها الذي يأتي من السماء! والشعر الرومانسي يزخر بالطيور التي نسمعها ولا نراها! وهذا هو ما جعل العقاد يرى في الكروان هذا اللغز:
هل يسمعون سوى صدى الكروان
Bog aan la aqoon