وفي كل حياتها لم تغضب من أبيها أو أخيها أو زوجها، وإذا ضربها زوجها حتى الموت وعادت لبيت أبيها أخذها أبوها وعاد بها إلى زوجها. وإذا عادت مرة أخرى ضربها أبوها ثم أعادها، وإذا أخذها زوجها ولم يطردها، ثم ضربها وعادت إلى أمها تقول لها أمها: عودي يا زينب ولك الجنة في الآخرة.
ولم يكن خيالها حين تذكر حسنين يتسع لأكثر من إمساك اليد في اليد، والجلوس تحت الظل في الجنة، لكن أمها نهرتها، وقالت لها إن الجنة لن يكون فيها ابن جارهم حسنين ولا ابن أي جار آخر، ولا يمكن لعينها أن تقع على رجل خلاف أبيها أو أخيها. وإذا ماتت بعد الزواج ودخلت الجنة فليس هناك إلا زوجها، وإن راودتها نفسها في اليقظة أو المنام، ووقعت عينها على رجل آخر غير زوجها، ومن قبل أن تمسك يدها في يده، لن ترى الجنة بطرف عين، ولن تشم رائحتها من ألف متر.
ومنذ ذلك الحين أصبحت كلما رقدت وراحت في النوم حتى الموت، لا ترى في المنام إلا زوجها، وزوجها في الجنة لا يضربها، وكوم السباخ لم يعد فوق رأسها، ولا التراب يلسع تحت قدميها، وبيتهم الطيني الأسود أصبح من الطوب الأحمر، وداخل البيت السلم العالي، ثم السرير العريض، وزوجها جالس على السرير يمسك يدها في يده.
ولم يكن خيالها يتسع لأكثر من إمساك اليد في اليد داخل الجنة، ويدها في كل حياتها لم تصبح أبدا في يد زوجها، وثمانية أولاد وبنات أنجبتهم منه دون أن يمسك يده في يدها. وفي ليالي الصيف يرقد في الحقل، وفي الشتاء يرقد في الجرن أو فوق الفرن، وطول الليل ينام على ظهره دون أن ينقلب، وإذا انقلب نادى عليها بصوت كعواء ذئب: يا بت! وقبل أن ترد بنعم أو حاضر، يكون قد ركلها الثانية، وإذا لم تتأوه ولم تنطق جاءتها الركلة الثالثة والرابعة حتى تنطق، ولم يحدث أن أخطأت يده مرة وأمسكت يدها، أو ذراعه امتد والتف حولها.
ولم يظهر أمامها في كل حياتها اثنان يتعانقان من الإنس ولا من الجن، اللهم في برج الحمام حين تصعد، وعلى حافة الجدار يظهر الزوجان، ومنقارهما متلاصقان، أو في الزريبة حين تهبط من وراء الجدار يظهر الاثنان من البقر أو الجاموس أو حتى الكلاب، والعصا الخيزران تمسكها أمها وتظل تلسعهما وهي تلعن الحيوان.
وفي كل حياتها لم تفك الطرحة السوداء من حول رأسها، ولا المنديل الأبيض المعقود تحت الطرحة، اللهم إلا حين يموت أحد، تفك المنديل الأبيض وتشد المنديل الأسود حول رأسها، وحين مات زوجها عقدت المنديل الأسود فوق جبينها عقدتين، وظلت ترتدي الحداد ثلاثة أعوام. وجاءها رجل يطلبها للزواج بغير أطفالها، فبصقت أمها في فتحت جلبابها وأسدلت الطرحة فوق وجهها وهي تهمس: يا عيب الشوم، وهل تترك الأم أطفالها من أجل رجل؟ ومضى العام وراء العام، وجاءها رجل يطلبها للزواج بأطفالها، فشهقت الأم بأعلى صوتها: وماذا تريد المرأة من الدنيا بعد أن تصبح أما ويموت زوجها؟
وأرادت يوما أن تفك المنديل الأسود من حول رأسها وتربط منديلا أبيض، لكنها خشيت أن يظن الناس أنها نسيت زوجها. وظلت بالمنديل الأسود وملابس الحداد، حزينة على زوجها، حتى ماتت من الحزن.
ووجدت نفسها ملفوفة بالكفن الحرير داخل الصندوق، ومن وراء النعش سمعت عويل أمها حادا عاليا كالعواء في الليل، أو كصفارة القطار: ستلحقين بزوجك في الجنة يا زينب!
ثم انقطع الصوت، ولم تسمع إلا الصمت، ورائحة تراب، والأرض تحتها أصبحت ناعمة كالحرير، وقالت: لا بد أنه الكفن. ومن فوق رأسها سمعت صوتا غليظا كعراك رجلين، ولم تعرف لماذا يتعاركان، حتى سمعت أحدهما يذكر اسمها، ويقول إنها تستحق أن تذهب إلى الجنة قفزا دون المرور بعذاب القبر. لكن الرجل الثاني كان يعارض ويصر على أن تنال شيئا ولو قليلا من العذاب داخل القبر، ولا يمكن أن تصعد هكذا إلى الجنة في قفزة واحدة، وكل الناس تمر بعذاب القبر. لكن الرجل الأول ظل على رأيه، ويقول إنها لم تفعل شيئا تستحق عليه العذاب، وأنها كانت زوجة مخلصة لزوجها مائة في المائة. وعارضه الرجل الثاني قائلا إن أطراف شعرها كانت تظهر من تحت المنديل الأبيض، وأنها كانت تصبغ شعرها بالحنة الحمراء، وكعباها يظهران من تحت الجلباب حمراوين كالدم.
واعترض الرجل الأول قائلا إن أطراف شعرها لم تظهر أبدا من تحت المنديل، وأن ما رآه زميله لم يكن إلا ضفائر الصوف، وأن جلبابها كان طويلا سميكا، ومن تحته جلباب آخر أشد سمكا وأكثر طولا، ولم يكن لأحد أن يرى كعبيها الحمراوين.
Bog aan la aqoon