Kitaabka Al-Adab Al-Kabiir
كتاب الأدب الكبير
Daabacaha
دار صادر - بيروت
بسم الله الرحمن الرحيم
قال عبد الله بن المقفع:
إنا وجدنا الناس قبلنا كانوا أعظم أجساما، وأوفر مع أجسامهم أحلاما1، وأشد قوة، وأحسن بقوتهم للأمور إتقانا, وأطول أعمارا, وأفضل بأعمارهم للأشياء اختبارا.
فكان صاحب الدين منهم أبلغ في أمر الدين علما وعملا من صاحب الدين منا, وكان صاحب الدنيا على مثل ذلك من البلاغة والفضل, ووجدناهم لم يرضوا بما فازوا به من الفضل الذي قسم لأنفسهم حتى أشركونا معهم في ما أدركوا من علم الأولى والآخرة, فكتبوا به الكتب الباقية، وضربوا الأمثال الشافية، وكفونا به مؤونة2
Bogga 63
التجارب والفطن.
وبلغ من اهتمامهم بذلك أن الرجل منهم كان يفتح له الباب من العلم, أو الكلمة من الصواب, وهو في البلد غير المأهول, فيكتبه على الصخور؛ مبادرة للأجل, وكراهية منه أن يسقط ذلك عمن بعده.
فكان صنيعهم في ذلك صنيع الوالد الشفيق على ولده3، الرحيم البر بهم، الذي يجمع لهم الأموال, والعقد4؛ إرادة ألا تكون عليهم مؤونة في الطلب، وخشية عجزهم، إن هم طلبوا.
فمنتهى علم عالمنا في هذا الزمان أن يأخذ من علمهم، وغاية إحسان محسننا أن يقتدي بسيرتهم.
وأحسن ما يصيب من الحديث محدثنا أن ينظر في كتبهم, فيكون كأنه إياهم يحاور، ومنهم يستمع، وآثارهم يتبع, غير أن الذي نجد في كتبهم هو المنتخل6 من آرائهم, والمنتقى من أحاديثهم.
Bogga 64
ولم نجدهم غادروا شيئا يجد واصف بليغ في صفة له مقالا لم يسبقوه إليه: لا في تعظيم لله، عز وجل، وترغيب فيما عنده، ولا في تصغير للدنيا, وتزهيد فيها، ولا في تحرير صنوف العلم, وتقسيم أقسامها, وتجزئة أجزائها, وتوضيح سبلها, وتبين مآخذها، ولا في وجه من وجوه الأدب, وضروب1 الأخلاق.
فلم يبق في جليل الأمر, ولا صغيره لقائل بعدهم مقال.
وقد بقيت أشياء من لطائف الأمور فيها مواضع لصغار الفطن، مشتقة من جسام حكم الأولين وقولهم، فمن ذلك بعض ما أنا كاتب في كتابي هذا من أبواب الأدب التي يحتاج إليها الناس.
يا طالب الأدب:
يا طالب الأدب إن كنت نوع العلم تريد, فاعرف الأصول والفصول2, فإن كثيرا من الناس يطلبون الفصول مع إضاعة الأصول, فلا يكون دركهم3 دركا, ومن أحرز الأصول اكتفى بها عن الفصول, وإن أصاب الفصل بعد إحراز الأصل, فهو أفضل.
فأصل الأمر في الدين أن تعتقد الإيمان على الصواب، وتجتنب الكبائر، وتؤدي الفريضة, فالزم ذلك لزوم من لا غنى له عنه,
Bogga 65
طرفة عين، ومن يعلم أنه إن حرمه هلك, ثم إن قدرت على أن تجاوز ذلك إلى التفقه1 في الدين والعبادة, فهو أفضل, وأكمل.
وأصل الأمر في صلاح الجسد ألا تحمل عليه من المآكل والمشارب والباه إلا خفافا2، ثم إن قدرت على أن تعلم جميع منافع الجسد, ومضاره, والانتفاع بذلك كله, فهو أفضل.
وأصل الأمر في البأس والشجاعة ألا تحدث نفسك بالإدبار3، وأصحابك مقبلون على عدوهم, ثم إن قدرت على أن تكون أول حامل وآخر منصرف، من غير تضييع للحذر4، فهو أفضل.
وأصل الأمر في الجود ألا تضن بالحقوق على أهلها, ثم إن قدرات أن تزيد ذا الحق على حقه, وتطول5 على من لا حق له, فافعل, فهو أفضل.
وأصل الأمر في الكلام أن تسلم من السقط6 بالتحفظ, ثم إن قدرت على بارع الصواب, فهو أفضل.
وأصل الأمر في المعيشة ألا تني7 عن طلب الحلال، وأن
Bogga 66
تحسن التقدير لما تفيد1, وما تنفق, ولا يغرنك من ذلك سعة تكون فيها, فإن أعظم الناس في الدنيا خطرا2 أحوجهم إلى التقدير، والملوك أحوج إليه من السوقة3؛ لأن السوقة قد تعيش بغير مال، والملوك لا قوام4 لهم إلا بالمال, ثم إن قدرت على الرفق واللطف في الطلب, والعلم بوجوه المطالب, فهو أفضل.
وأنا واعظك في أشياء من الأخلاق اللطيفة, والأمور الغامضة التي لو حنكتك5 سن كنت خليقا أن تعلمها، وإن لم تخبر عنها.
ولكنني قد أحببت أن أقدم إليك فيها قولا؛ لتروض6 نفسك على محاسنها, قبل أن تجري على عادة مساوئها, فإن الإنسان قد تبتدر إليه7 في شبيته المساوئ، وقد يغلب عليه ما بدر إليه منها للعادة. وإن لترك العادة مؤونة شديدة , ورياضة صعبة.
Bogga 67
في السلطان:
إذا ابتليت بالسلطان تعوذ بالعلماء:
إن ابتليت بالسلطان فتعوذ بالعلماء1.
وأعلم أن من العجب أن يبتلى الرجل بالسلطان, فيريد أن ينتقص من ساعات نصبه2, وعمله, فيزيدها في ساعات دعته3, وفراغه, وشهوته, وعبثه, ونومه.
وإنما الرأي له والحق عليه أن يأخذ لعمله من جميع شغله، فيأخذ له من طعامه, وشرابه, ونومه, وحديثه, ولهوه, ونسائه.
وإنما تكون الدعة بعد الفراغ.
فإذا تقلدت شيئا من أمر السلطان, فكن فيه أحد رجلين: إما رجلا مغتبطا به4، محافظا عليه؛ مخافة أن يزول عنه، وإما رجلا كارها له مكرها عليه, فالكاره عامل في سخرة: إما للملوك، إن كانوا هم سلطوه، وإما لله تعالى، إن كان ليس فوقه غيره.
Bogga 68
وقد علمت أنه من فرط في سخرة الملوك أهلكوه, فلا تجعل للهلاك على نفسك سلطانا, ولا سبيلا.
إياك, وحب المدح:
وإياك إذا كنت واليا، أن يكون من شأنك حب المدح والتزكية1, وأن يعرف الناس ذلك منك، فتكون ثلمة2 من الثلم, يتقحمون عليك منها، وبابا, يفتتحونك منه، وغيبة3, يغتابونك بها, ويضحكون منك لها.
واعلم أن قابل المدح كمادح نفسه, والمرء جدير أن يكون حبه المدح هو الذي يحمله على رده, فإن الراد له محمود، والقابل له معيب.
لتكن حاجتك في الولاية إلى ثلاث خصال: رضى ربك, ورضى سلطان، إن كان فوقك، ورضى صالح من تلى عليه.
ولا عليك4 أن تلهو عن المال والذكر، فسيأتيك منها ما يحسن, ويطيب, ويكتفى به.
واجعل الخصال الثلاث منك بمكان ما لا بد لك منه, واجعل المال والذكر بمكان ما أنت واجد منه بدا.
Bogga 69
اعرف الفضل في أهل الدين والمروءة في كل كورة1, وقرية, وقبيلة, فيكونوا هم إخوانك وأعوانك وأخدانك وأصفياءك وبطانتك2 وثقاتك وخلطاءك, ولا تقذفن في روعك3 أنك إن استشرت الرجال ظهر للناس منك الحاجة إلى رأي غيرك، فإنك لست تريد الرأي للافتخار به، ولكنما تريده للانتفاع به, ولو أنك مع ذلك أردت الذكر، كان أحسن الذكرين, وأفضلهما عند أهل الفضل, والعقل, أن يقال: لا يتفرد برأيه دون استشارة ذوي الرأي, إنك إن تلتمس رضى جميع الناس, تلتمس ما لا يدرك.
وكيف يتفق لك رأي المختلفين، وما حاجتك إلى رضى من رضاه الجور، وإلى موافقة من موافقته الضلالة والجهالة؟ , فعليك بالتماس رضى الأخيار منهم وذوي العقل, فإنك متى تصب ذلك تضع عنك مؤونة ما سواه.
ما ينبغي للسلطان نحو رعيته:
لا تمكن أهل البلاء الحسن عندك, من التدلل4 عليك، ولا تمكنن من سواهم من الاجتراء عليهم, والعيب لهم.
لتعرف رعيتك أبوابك التي لا ينال ما عندك من الخير إلا
Bogga 70
بها، والأبواب التي لا يخافك خائف إلا من قبلها.
احرص الحرص كله على أن تكون خابرا أمور عمالك، فإن المسيء يفرق1 من خبرتك, قبل أن تصيبه عقوبتك، وإن المحسن يستبشر بعلمك, قبل أن يأتيه معروفك.
ليعرف الناس، في ما يعرفون من أخلاقك، أنك لا تعاجل بالثواب, ولا بالعقاب، فإن ذلك أدوم لخوف الخائف, ورجاء الراجي.
عود نفسك الصبر على من خالفك من ذوي النصيحة، والتجرع لمرارة قولهم, وعذلهم، ولا تسهلن سبيل ذلك إلا لأهل العقل والسن والمروءة؛ لئلا ينتشر من ذلك ما يجترئ به سفيه, أو يستخف به شانئ2.
مباشرة الصغير تضيع الكبير:
لا تتركن مباشرة جسيم أمرك, فيعود شأنك صغيرا، ولا تلزمن نفسك مباشرة الصغير، فيصير الكبير ضائعا.
واعلم أن مالك لا يغني الناس كلهم, فاخصص به أهل الحق، وأن كرامتك لا تطيق العامة كلها, فتوخ3 بها أهل الفضل، وأن قلبك لا يتسع لكل شيء, ففرغه للمهم، وأن ليلك ونهارك
Bogga 71
لا يستوعبان حاجاتك، وإن دأبت1 فيهما، وأن ليس لك إلى إدامة الدأب فيهما سبيل, مع حاجة جسدك إلى نصيبه منهما, فأحسن قسمتهما بين عملك, ودعتك.
وأعلم أن ما شغلت من رأيك بغير المهم, أزرى بك في المهم، وما صرفت من مالك في الباطل, فقدته حين تريده للحق، وما عدلت به من كرامتك إلى أهل النقص, أضر بك في العجز عن أهل الفضل، وما شغلت من ليلك ونهارك في غير الحاجة, أزرى بك عند الحاجة منك إليه.
إياك والإفراط في الغضب:
اعلم أن من الناس ناسا كثيرا يبلغ من أحدهم الغضب، إذا غضب، أن يحمله ذلك على الكلوح2 والقطوب3 في وجه غير من أغضبه، وسوء اللفظ لمن لا ذنب له، والعقوبة لمن لم يكن يهم بمعاقبته، وشدة المعاقبة باللسان واليد لمن لم يكن يريد به إلا دون ذلك, ثم يبلغ به الرضى، إذا رضي، أن يتبرع بالأمر ذي الخطر4 لمن ليس بمنزلة ذلك عنده، ويعطي من لم يكن يريد إعطاءه، ويكرم من لم يرد إكرامه, ولا حق له, ولا مودة عنده
Bogga 72
فاحذر هذا الباب الحذر كله! , فإنه ليس أحد أسوأ فيه حالا من أهل السلطان الذين يفرطون باقتدارهم في غضبهم، وبتسرعهم في رضاهم, فإنه لو وصف بهذه الصفة من يلتبس بعقله, أو يتخبطه المس1 أن يعاقب عند غضبه غير من أغضبه, ويحبو2 عند رضاه غير من أرضاه, لكان جائزا ذلك في صفته.
الملك ثلاثة:
أعلم أن الملك ثلاثة: ملك دين، وملك حزم، وملك هوى.
فأما ملك الدين, فإنه إذا أقام للرعية دينهم، وكان دينهم هو الذي يعطيهم الذي لهم, ويلحق بهم الذي عليهم، أرضاهم ذلك، وأنزل الساخط منهم منزلة الراضي في الإقرار والتسليم.
وأما ملك الحزم, فإنه يقوم به الأمر, ولا يسلم من الطعن والتسخط3, ولن يضر طعن الضعيف مع حزم القوي.
وأما ملك الهوى, فلعب ساعة, ودمار4 دهر.
Bogga 73
الاعتدال في الكلام, والسلام:
إذا كان سلطانك عند جدة1 دولة، فرأيت أمرا استقام بغير رأي، وأعوانا أجزوا2 بغير نيل، وعملا أنجح3 بغير حزم، فلا يغرنك ذلك, ولا تستنيمن إليه, فإن الأمر الجديد ربما يكون له مهابة في أنفس أقوام, وحلاوة في قلوب آخرين، فيعين قوم على أنفسهم, ويعين قوم بما قبلهم, ويستتب4 ذلك الأمر غير طويل, ثم تصير الشؤون إلى حقائقها, وأصولها.
فما كان من الأمور بني على غير أركان وثيقة, ولا دعائم محكمة, أوشك أن يتداعى, ويتصدع.
لا تكونن نزر6 الكلام والسلام، ولا تبلغن بهما إفراط الهشاشة والبشاشة7؛ فإن إحداهما من الكبر, والأخرى من السخف8.
Bogga 74
بأي شيء تكون الثقة؟:
إذا كنت إنما تضبط أمورك, وتصول على عدوك بقوم لست منهم على ثقة من دين, ولا رأي, ولا حفاظ1 من نية, فلا تنفعنك نافعة حتى تحولهم، إن استطعت، إلى الرأي, والأدب الذي يمثله تكون الثقة، أو تستبدل بهم، إن لم تستطع نقلهم إلى ما تريد.
ولا تغرنك قوتك بهم على غيرهم، فإنما أنت في ذلك كراكب الأسد الذي يهابه من نظر إليه، وهو لمركبه أهيب.
تجنب الغضب, والكذب:
ليس للملك أن يغضب؛ لأن القدرة من وراء حاجته.
وليس له أن يكذب؛ لأنه لا يقدر أحد على استكراهه على غير ما يريد.
وليس له أن يبخل؛ لأنه أقل الناس عذرا في تخوف الفقر, وليس له أن يكون حقودا؛ لأن خطره قد عظم عن مجاراة كل الناس2.
وليس له أن يكون خلافا؛ لأن أحق الناس باتقاء الإيمان الملوك، فإنما يحمل الرجل على الحلف إحدى هذه الخصال:
Bogga 75
إما مهانة1 يجدها في نفسه، وضرع2, وحاجة إلى تصديق الناس إياه.
وإما عي3 بالكلام، فيجعل الأيمان له حشوا ووصلا.
وإما تهمة قد عرفها من الناس لحديثه، فهو ينزل نفسه منزلة من لا يقبل قوله إلا بعد جهد اليمين.
وإما عبث4 بالقول, وإرسال للسان على غير روية, ولا حسن تقدير، ولا تعويد له قول السداد, والتثبت5.
التفويض إلى الكفاة:
لا عيب على الملك في تعيشه, وتنعمه, ولعبه, ولهوه، إذا تعهد6 الجسيم من أمره بنفسه، وأحكم المهم، وفوض ما دون ذلك إلى الكفاة.
ما يزين الجور, ويحمل على الباطل:
كل أحد حقيق، حين ينظر في أمور الناس، أن يتهم نظره
Bogga 76
بعين الريبة1، وقلبه بعين المقت2، فإنهما يزينان الجور3, ويحملان على الباطل, ويقبحان الحسن, ويحسنان القبيح.
وأحق الناس باتهام نظره بعين الريبة, وعين المقت, السلطان الذي ما وقع في قلبه ربا4 مع ما يقيض5 له من تزيين القرناء والوزراء.
وأحق الناس بإجبار نفسه على العدل في النظر والقول والفعل الوالي الذي ما قال أو فعل كان أمرا نافذا غير مردود.
ليعلم الوالي أن الناس يصفون الولاة بسوء العهد, ونسيان الود ، فليكابد نقض6 قولهم، وليبطل عن نفسه, وعن الولاة صفات السوء التي يصفون بها.
تفقد الوالي لرعيته, وتجنبه الحسد:
حق الوالي أن يتفقد لطيف أمور رعيته، فضلا عن جسيمها، فإن للطيف موضعا ينتفع به، وللجسيم موضعا لا يستغنى عنه, ليتفقد الوالي، في ما يتفقد من أمور رعيته، فاقة7 الأخيار
Bogga 77
الأحرار منهم، فيلعمل في سدها، وطغيان السفلة منهم, فليقمعه1، وليستوحش2 من الكريم الجائع, واللئيم الشبعان، فإنما يصول3 الكريم إذا جاع، واللئيم إذا شبع.
لا ينبغي للوالي أن يحسد الولاة إلا على حسن التدبير.
ولا يحسدن الوالي من دونه, فإنه أقل في ذلك عذرا من السوقة التي إنما تحسد من فوقها، وكل لا عذر له.
لا يلومن الوالي على الزلة من ليس بمتهم عنده في الحرص على رضاه, إلا لوم أدب وتقويم، ولا يعدلن بالمجتهد في رضاه البصير بما يأتي أحدا.
فإنهما إذا اجتمعا في الوزير والصاحب نام الوالي واستراح، وجلبت إليه حاجاته، وإن هدأ عنها، وعمل له فيما يهمه, وإن غفل.
لا يولعن الوالي بسوء الظن لقول الناس، وليجعل لحسن الظن من نفسه نصيبا موفورا يروح به4 عن قلبه, ويصدر عنه5 في أعماله.
لا يضيعن الوالي التثبت عندما يقول، وعندما يعطي، وعندما يعمل.
Bogga 78
فإن الرجوع عن الصمت أحسن من الرجوع عن الكلام، وإن العطية بعد المنع أجمل من المنع بعد الإعطاء، وإن الإقدام على العمل بعد التأني فيه أحسن من الإمساك عنه بعد الإقدام عليه.
وكل الناس محتاج إلى التثبت.
وأحوجهم إليه ملوكهم الذي ليس لقولهم وفعلهم دافع، وليس عليهم مستحث1.
كيف يكسد الفجور والدناءة؟:
ليعلم الوالي أن الناس على رأيه إلا من لا بال له2, فيكن للدين والبر والمروءة عنده نفاق3, فيكسد بذلك الفجور والدناءة في آفاق الأرض.
ما يحتاج إليه الوالي من أمر الدنيا:
جماع4 ما يحتاج إليه الوالي من أمر الدنيا رأيان: رأي يقوي به سلطانه، ورأي يزينه في الناس.
Bogga 79
ورأي القوة أحقهما بالبداءة, وأولاهما بالأثرة1.
ورأي التزيين أحضرهما حلاوة, وأكثرهما أعوانا.
مع أن القوة من الزينة، والزينة من القوة, ولكن الأمر ينسب إلى معظمه وأصله.
ماذا على المبتلى بصحبة السلطان, وصحبة الوالي؟:
إن ابتليت بصحبة السلطان فعليك بطول المواظبة في غير معاتبة، ولا يحدثن لك الاستئناس به غفلة, ولا تهاونا.
إذا رأيت السلطان يجعلك أخا فاجعله أبا، ثم إن زادك فزده.
إذا نزلت من ذي منزلة أو سلطان, فلا ترين أن سلطانه زادك له توقيرا وإجلالا، من غير أن يزيدك ودا ولا نصحا, وأنك ترى حقا له التوقير والإجلال, وكن في مداراته, والرفق به كالمؤتنف2 ما قبله، ولا تقدر الأمر بينك وبينه على ما كنت تعرف من أخلاقه، فإن الأخلاق مستحيلة3 مع الملك، وربما رأينا الرجل المدل4 على ذي السلطان بقدمه, قد أضر به قدمه.
إن استطعت ألا تصحب من صحبت من الولاة إلا على
Bogga 80
شعبة من قرابة1 أو مودة، فافعل, فإن أخطأك ذلك, فاعلم أنك إنما تعمل على السخرة2.
إن استطعت أن تجعل صحبتك لمن قد عرفك بصالح مروءتك, وصحة دينك, وسلامة أمورك, قبل ولايته, فافعل.
فإن الوالي لا علم له بالناس إلا ما قد علم قبل ولايته, أما إذا ولي, فكل الناس يلقاه بالتزين والتصنع3, وكلهم يحتال لأن يثني عليه عنده بما ليس فيه, غير أن الأنذال والأرذال هم أشد لذلك تصنعا, وأشد عليه مثابرة, وفيه تمحلا4.
فلا يمتنع الوالي، وإن كان بليغ الرأي والنظر، من أن ينزل عنده كثير من الأشرار بمنزلة الأخيار، وكثير من الخانة5 بمنزلة الأمناء، وكثير من الغدرة6 بمنزلة الأوفياء، ويغطي عليه أمر كثير من أهل الفضل الذين يصونون أنفسهم عن التمحل والتصنع.
إذا عرفت نفسك من الوالي بمنزلة الثقة، فاعزل عنه كلام الملق، ولا تكثرن من الدعاء له في كل كلمة، فإن ذلك شبيه
Bogga 81
بالوحشة والغربة، إلا أن تكلمه على رؤوس الناس، فلا تأل1 عما عظمه, ووقره.
لا يعرفنك الولاة بالهوى في بلد من البلدان, ولا قبيلة من القبائل، فيوشك أن تحتاج فيهما إلى حكاية أو شهادة، فتتهم في ذلك.
فإذا أردت أن يقبل قولك, فصحح رأيك, ولا تشوبنه2 بشيء من الهوى، فإن الرأي الصحيح يقبله منك العدو، والهوى يرده عليك الولد والصديق.
وأحق من احترست من أن يظن بك خلط الرأي بالهوى الولاة، فإنها خديعة وخيانة وكفر عندهم.
إن ابتليت بصحبة وال لا يريد صلاح رعيته, فاعلم أنك قد خيرت بين خلتين3, ليس منهما خيار:
إما الميل مع الوالي على الرعية، وهذا هلاك الدين.
وإما الميل مع الرعية على الوالي، وهذا هلاك الدنيا، ولا حيلة لك إلا الموت, أو الهرب.
واعلم أنه لا ينبغي لك، وإن كان الوالي غير مرضي السيرة إذا علقت حبالك بحباله، إلا المحافظة عليه، إلا أن تجد إلى الفراق الجميل سبيلا.
Bogga 82