بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
وَبِه نستعين
قَالَ الشَّيْخ ﵀:
الْحَمد لله رب الْعَالمين، وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد، وَآله وَصَحبه أَجْمَعِينَ.
وَبعد. .
فَهَذِهِ أَحَادِيث ومسائل وآداب، تتَعَلَّق بِدُخُول الْحمام، فَإِنَّهُ مِمَّا تمس إِلَيْهِ الْحَاجة فِي هَذِه الْبلدَانِ، وَقد جَاءَت فِيهِ أَحَادِيث كَثِيرَة عَن النَّبِي ﷺ وَعَن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ.
وسأذكرها لَك مفصلة إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي هَذَا الْجُزْء وَبِه الثِّقَة وَعَلِيهِ التكلان.
1 / 23
فصل
ذكر كثير من عُلَمَاء التَّفْسِير والتاريخ أَن أول من بني لَهُ الْحمام سُلَيْمَان بن دَاوُد ﵇، وَكَانَ سَبَب ذَلِك قدوم بلقيس عَلَيْهِ، لما رأى فِي سَاقهَا شعرًا كثيرا، فَسَأَلَ الجان عَن مَا يُزِيلهُ، فصنعوا لَهُ النورة، وصنعوا لَهُ الْحمام وَالله أعلم. وَقيل: إِن سُلَيْمَان ﵉ لما دخله فَوجدَ حره فَقَالَ: أوه من عَذَاب الله أوه قبل أَن لَا ينفع أوه.
ثمَّ لَا تزَال الْأَعَاجِم من ذَلِك الزَّمَان يعتادونه، وَكَذَلِكَ الرّوم والقبط، وَغَيرهم من الْأُمَم.
وَأما الْعَرَب بِبِلَاد الْحجاز وَنَحْوهَا، فَلم يَكُونُوا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهَا، وَلم يعرف ببلادهم إِلَّا بعد موت النَّبِي ﷺ فِي زمن الصَّحَابَة.
والْحَدِيث الَّذِي يرْوى أَن النَّبِي ﷺ دخل حمام الْجحْفَة، مَوْضُوع بِاتِّفَاق أهل الْمعرفَة بِالْحَدِيثِ، وَلَيْسَ بِصَحِيح.
وَإِنَّمَا روى الإِمَام الْحَافِظ أَبُو بكر بن أبي شيبَة فِي كِتَابه الَّذِي صنفه: عَن إِسْمَاعِيل بن علية عَن أَيُّوب عَن عِكْرِمَة: أَن ابْن عَبَّاس ﵄، دخل حمام الْجحْفَة، وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح.
1 / 25
فصل
وَقد اخْتلف الْعلمَاء ﵏ فِي دُخُول الْحمام على أَرْبَعَة أَقْوَال
القَوْل الأول أَنه ينْهَى عَنهُ الرِّجَال وَالنِّسَاء
القَوْل الثَّانِي يُبَاح للرِّجَال، وَينْهى عَنهُ النِّسَاء
القَوْل الثَّالِث يُبَاح للرِّجَال، وَينْهى عَنهُ النِّسَاء، إِلَّا لمريضة أَو نفسَاء
فَأَما القَوْل الرَّابِع إِبَاحَته مُطلقًا للرِّجَال وَالنِّسَاء بِشُرُوط
فَأَما القَوْل الأول قَالَ ابْن أبي شيبَة ﵀: حَدثنَا جرير عَن عمَارَة عَن أبي زرْعَة قَالَ: قَالَ عَليّ بن أبي طَالب ﵁: بئس الْبَيْت الْحمام
وَقَالَ عبد الرَّزَّاق فِي مُصَنفه: عَن معمر عَن أَيُّوب عَن نَافِع أَن ابْن عمر ﵄ دخل الْحمام مرّة وَعَلِيهِ إِزَار، فَلَمَّا دخل رأى النَّاس وهم عُرَاة قَالَ: فحول وَجهه نَحْو الْجِدَار وَقَالَ: يَا نَافِع إيتني بثوبي قَالَ: فَأَتَيْته بِهِ، فالتف بِهِ وغطى على وَجهه، ثمَّ ناولني يَده فقدته حَتَّى خرج ثمَّ لم يدْخلهُ بعد ذَلِك
وَقَالَ أَيْضا: عَن ابْن عُيَيْنَة عَن شيخ من أهل الْكُوفَة قَالَ قيل لِابْنِ
1 / 26
عمر: مَالك لَا تدخل الْحمام فكره ذَلِك. فَقيل لَهُ: أَنَّك تستتر فَقَالَ: إِنِّي أكره أَن أرى عَورَة غَيْرِي.
وَقَالَ مَنْصُور عَن الْحسن وَابْن سِيرِين أَنَّهُمَا كَانَا يكرهان دُخُول الْحمام.
وَإِنَّمَا نهوا عَنهُ لما فِيهِ من كَثْرَة التنعم، وَلِأَنَّهُ مأوى الشَّيَاطِين، وَمحل تنكشف فِيهِ العورات، وتكثر فِيهِ مُخَالطَة النَّجَاسَات.
القَوْل الثَّانِي: أَنه يُبَاح للرِّجَال، وَينْهى عَنهُ النِّسَاء.
قَالَ الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل ﵀: حَدثنَا هَارُون حَدثنَا ابْن وهب حَدثنِي عَمْرو بن الْحَارِث أَن عمر بن السَّائِب حَدثهُ أَن الْقَاسِم ابْن أبي الْقَاسِم السبئي حَدثهُ عَن قاص الأجناد بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ أَنه سَمعه يحدث أَن عمر بن الْخطاب ﵁ قَالَ: يَا أَيهَا النَّاس إِنِّي سَمِعت رَسُول الله ﷺ يَقُول من كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فَلَا يقْعد على مائدة يدار عَلَيْهَا الْخمر، وَمن كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فَلَا يدْخل الْحمام إِلَّا بإزار، وَمن كَانَت تؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فَلَا تدخل الْحمام.
1 / 27
وَقَالَ ابْن جريح
أَخْبرنِي سُلَيْمَان بن مُوسَى أَن زِيَاد ابْن جَارِيَة حَدثهُ أَن عمر بن الْخطاب ﵁ كَانَ يكْتب إِلَى الْآفَاق لَا تدخل امْرَأَة مسلمة الْحمام إِلَّا من مرض، وَعَلمُوا نساءكم سُورَة النُّور.
وَعَن ابْن الْمُبَارك عَن هِشَام بن الْغَاز عَن عبَادَة بن نسي عَن قيس ابْن الْحَارِث قَالَ كتب عمر بن الْخطاب إِلَى أبي عُبَيْدَة بَلغنِي أَن نسَاء من نسَاء الْمُسلمين أَو الْمُهَاجِرين يدخلن الحمامات، ومعهن نسَاء من أهل الْكتاب فازجرهم عَن ذَلِك وامنعهم مِنْهُ قَالَ فَتكلم أَبُو عُبَيْدَة وَهُوَ غَضْبَان وَلم يكن ﵁ غضوبا وَلَا فَاحِشا فَقَالَ اللَّهُمَّ أَيّمَا امْرَأَة دخلت
1 / 28
الْحمام من غير عِلّة، وَلَا سقم، تُرِيدُ بذلك أَن تبيض وَجههَا فسود الله وَجههَا يَوْم تبيض الْوُجُوه.
وَعَن قيس بن الْحَارِث قَالَ كتب عمر إِلَى أبي عُبَيْدَة بن الْجراح ﵄ أَنه بَلغنِي أَن نسَاء من نسَاء الْمُسلمين يدخلن الحمامات مَعَ نسَاء الْمُشْركين فَإِنَّهُ عَن ذَلِك أَشد النَّهْي، فَإِنَّهُ لَا يحل لامْرَأَة تؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر، أَن يرى عورتها غير أهل دينهَا.
وَعَن أبي هُرَيْرَة ﵁ قَالَ سَمِعت رَسُول الله ﷺ يَقُول من كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فَلَا يدْخل حليلته الْحمام.
وَقَالَ الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل ﵀: حَدثنَا عُبَيْدَة بن حميد حَدثنِي يزِيد ابْن أبي زِيَاد عَن عَطاء بن أبي رَبَاح قَالَ أتين نسْوَة من نسَاء أهل حمص إِلَى عَائِشَة ﵂ فَقَالَت لَهُنَّ لعلكن من النِّسَاء اللواتي يدخلن الحمامات فَقُلْنَ لَهَا: نعم. فَقَالَت لَهُنَّ عَائِشَة ﵂ سَمِعت رَسُول الله ﷺ يَقُول أَيّمَا امْرَأَة وضعت ثِيَابهَا فِي غير بَيت زَوجهَا هتكت مَا بَينهَا وَبَين الله
قَالَ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ: حَدثنَا شُعْبَة عَن مَنْصُور عَن سَالم بن أبي
1 / 29
الْجَعْد عَن أبي الْمليح واسْمه عُمَيْر بن أبي أُسَامَة قَالَ دخل نسْوَة من أهل الشَّام على عَائِشَة ﵂ فَقَالَت فَمن أنتنفقلن من أهل الشَّام. فَقَالَت: لعلكن من الكورة الَّتِي يدْخل نساؤها الحمامات قُلْنَ: نعم. قَالَت: أما إِنِّي سَمِعت رَسُول الله ﷺ يَقُول مَا من امْرَأَة تخلع ثِيَابهَا فِي غير بَيتهَا إِلَّا هتكت مَا بَينهَا وَبَين الله.
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ عَن مَحْمُود بن غيلَان عَن أبي دَاوُد بِهِ. وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن. وَرَوَاهُ ابْن ماجة أَيْضا.
وروى الإِمَام أَبُو يعلي الْموصِلِي والحافظ أَبُو حَاتِم مُحَمَّد بن حبَان فِي
1 / 30
صَحِيحه الملقب بالأنواع والتقاسيم من حَدِيث مُحَمَّد بن ثَابت ابْن شُرَحْبِيل عَن عبد الله بن يزِيد \ الخطمي عَن أبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ ﵁ أَن رَسُول الله ﷺ قَالَ من كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فَلَا يدْخل الْحمام إِلَّا بمئزر، وَمن كَانَت تؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر من نِسَائِكُم فَلَا تدخل الْحمام قَالَ فَقلت ذَلِك لعمر بن عبد الْعَزِيز فِي خِلَافَته فَكتب إِلَى أبي بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم: أَن سل مُحَمَّد بن ثَابت عَن حَدِيثه فَإِنَّهُ مرضى. فَسَأَلَهُ ثمَّ كتب إِلَى عمر فَمنع النِّسَاء عَن الْحمام.
1 / 31
فَهَذَا عمر بن عبد الْعَزِيز قد نفذ هَذِه السّنة عَن رَسُول الله ﷺ، وَقد قَالَ رَسُول الله ﷺ: عَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين من بعدِي. فأجمع الْمُسلمُونَ قاطبة على أَن عمر بن عبد الْعَزِيز من الْأَئِمَّة المهديين، وَالْخُلَفَاء الرَّاشِدين، الَّذين قضوا بِالْحَقِّ وَبِه كَانُوا يعدلُونَ.
القَوْل الثَّالِث: أَنه يُبَاح للرِّجَال، وَينْهى عَنهُ النِّسَاء، إِلَّا لمريضة أَو نفسَاء. للْحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ عبد بن حميد: حَدثنَا جَعْفَر بن عون حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن زِيَاد أنعم عَن عبد الرَّحْمَن بن رَافع عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ ﵁ أَن رَسُول الله ﷺ قَالَ: إِنَّهَا ستفتح عَلَيْكُم أَرض الْعَجم، وستجدون فِيهَا بُيُوتًا يُقَال لَهَا الحمامات، فَلَا يدخلهَا الرِّجَال إِلَّا بالإزار، وامنعوا النِّسَاء إِلَّا مَرِيضَة أَو نفسَاء
وَقد رُوِيَ عَن عمر بن الْخطاب ﵁ أَنه قَالَ سَمِعت رَسُول الله ﷺ يَقُول ستفتح عَلَيْكُم بِلَاد الشَّام، وستجدون فِيهَا بُيُوتًا يُقَال لَهَا: الحمامات، فامنعوها النِّسَاء إِلَّا سقيمة أم نفسَاء.
وَقَالَ أَبُو بكر بن أبي شيبَة: حَدثنَا حَفْص بن غياث عَن أُسَامَة ابْن
1 / 32
زيد عَن مَكْحُول قَالَ: كتب عمر بن الْخطاب إِلَى أُمَرَاء الأجناد: أَن لَا يدْخل رجل الْحمام إِلَّا بمئزر، وَلَا امْرَأَة إِلَّا من سقم.
القَوْل الرَّابِع: إِبَاحَته مُطلقًا للرِّجَال وَالنِّسَاء بِشُرُوط.
وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح وَهُوَ الْمَرْوِيّ عَن أبي الدَّرْدَاء ﵁ أَنه كَانَ يدْخل الْحمام قَالَ: وَكَانَ يَقُول: نعم الْبَيْت الْحمام: يذهب الْوَسخ، ويطيب النَّفس، وَيذكر النَّار.
ثمَّ روى الإِمَام الْحَافِظ أَبُو بكر بن أبي شيبَة ﵀ فِي كِتَابه المُصَنّف: حَدثنَا جرير عَن عمَارَة عَن أبي زرْعَة عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: نعم الْبَيْت الْحمام: يذهب الدَّرن، وَيذكر النَّار.
وَقد حكى أَيْضا ابْن أبي شيبَة عَن جرير بن عبد الله البَجلِيّ، وَالْحُسَيْن ابْن عَليّ بن أبي طَالب، وَابْن عَبَّاس، وَأبي هُرَيْرَة أَنهم دخلُوا الْحمام. وَقد حكى غير وَاحِد الْإِجْمَاع على جَوَازه بِشَرْطِهِ، وَاسْتدلَّ على ذَلِك بِحَدِيث رَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو بكر أَحْمد بن عَمْرو بن عبد الْخَالِق الْبَزَّار فِي مُسْنده من حَدِيث طَاوس عَن ابْن عَبَّاس ﵄ قَالَ: قَالَ رَسُول الله ﷺ احْذَرُوا بَيْتا يُقَال لَهُ الْحمام قَالُوا: يَا رَسُول الله إِنَّه ينقي
1 / 33
الْوَسخ. قَالَ: فاستتروا.
وَقَالَ أَبُو بكر بن أبي شيبَة فِي مُصَنفه: حَدثنَا وَكِيع عَن سُفْيَان عَن ابْن طَاوس عَن أَبِيه رَفعه قَالَ: من دخله مِنْكُم فليستتر. وَهَذَا إِسْنَاد جيد.
وَكَذَا رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق فِي مُصَنفه عَن معمر وَالثَّوْري وَابْن جريج فرقهم عَن ابْن طَاوس عَن أَبِيه عَن رَسُول الله ﷺ فَذكر مثله.
ثمَّ قَالَ عبد الرَّزَّاق: عَن الثَّوْريّ عَن دثار عَن مُسلم البطين عَن سعيد بن جُبَير قَالَ: حرَام دُخُول الْحمام بِغَيْر إِزَار.
وَذكر أَبُو مُحَمَّد عبد الْحق فِي أَحْكَامه حَدِيث الْبَزَّار، وَقَالَ: هَذَا أصح حَدِيث فِي هَذَا الْبَاب، على أَن النَّاس يرسلونه عَن طَاوس.
وَأما مَا خرجه أَبُو دَاوُد فِي هَذَا الْحَظْر وَالْإِبَاحَة فَلَا يَصح مِنْهُ شَيْء لضعف الْأَسَانِيد وَكَذَلِكَ مَا خرجه التِّرْمِذِيّ انْتهى كَلَامه
1 / 34
فصل
وينقسم دُخُول الْحمام بِاعْتِبَار أَحْوَال النَّاس إِلَى خَمْسَة أَقسَام: فقد يكون وَاجِبا، ومستحبا، ومباحا، ومكروها، وحراما.
فالقسم الأول: يتَصَوَّر فِي حق من وَجب عَلَيْهِ غسل من جَنَابَة، أَو حيض، أَو نِفَاس، أَو حُصُول نَجَاسَة على جِسْمه، أَو للْجُمُعَة على قَول من يُوجِبهُ وَهُوَ مَعَ ذَلِك لَا يُمكنهُ الِاغْتِسَال بِالْمَاءِ الْبَارِد، وَلَا بِغَيْرِهِ فِي الْبَيْت، من مرض أَو شدَّة برد فَهَذَا يجب عَلَيْهِ الْمُضِيّ إِلَى الْحمام. لِأَن مَا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِب.
وَالْقسم الثَّانِي: يتَصَوَّر فِي حق من اتَّسع رَأسه، أَو بدنه أوشك فِي حُصُول جَنَابَة، أَو أَرَادَ غسل الْجُمُعَة على جُمْهُور الْعلمَاء، أَو اغتسالا للعيد، وَنَحْوه من الاجتماعات الْعَامَّة، أَو للتداوي إِذا قيل باستحبابة وَهُوَ مَعَ ذَلِك لَا يَسْتَطِيع الِاغْتِسَال فِي غير الْحمام، أَو يشق عَلَيْهِ، فَهَذَا يسْتَحبّ لَهُ الذّهاب إِلَيْهِ ليحصل هَذَا الْمَقْصُود لِأَنَّهُ وَسِيلَة إِلَى فعل الْمُسْتَحبّ فَيكون مُسْتَحبا.
وَالْقسم الثَّالِث: فِي حق من يدْخلهُ للترفه، والتلذذ، من غير إِسْرَاف، وَلَا إكثار أَو للتداوي إِذا قيل بِأَنَّهُ يُبَاح وَلَيْسَ بمستحب.
1 / 35
وَالْقسم الرَّابِع: فِي حق من يدْخلهُ لما تقدم فِي الثَّالِث، وَيكثر فِي ذَلِك من صب المَاء، ويسرف فِيهِ.
فقد روى عبد الله بن الْمُبَارك ﵀ فِي كِتَابه الزّهْد فَقَالَ: حَدثنِي بَعضهم أَن عمر ﵁ قَالَ إيَّاكُمْ وَكَثْرَة الْحمام، وَكَثْرَة طلي النورة، والتوطؤ على الْفرش فَإِن عباد الله لَيْسُوا بالمتنعمين. فقد زجر أَمِير الْمُؤمنِينَ عَن ذَلِك، وَقد قَالَ ﵊: اقتدوا باللذين من بعدِي: أَبُو بكر وَعمر.
وَقد روى أَبُو دَاوُد فِي سنَنه عَن الْحسن بن عَليّ عَن يزِيد بن هَارُون عَن سعيد الْجريرِي عَن عبد الله بن بُرَيْدَة عَن فضَالة بن عبيد ﵁ أَن رَسُول الله ﷺ كَانَ ينْهَى عَن كثير من الإرفاه
وَالْقسم الْخَامِس: فِي حق من يدْخلهُ أشرا، وبطرا، وبذخا، وفخرا، وإظهارا للزِّينَة الَّتِي أَمر الله بإخفائها إِلَّا فِي محلهَا، كَمَا يَفْعَله كثير من النِّسَاء فِي عصرنا هَذَا
1 / 36
وينضم إِلَى ذَلِك ترك الصَّلَوَات، وكشف العورات، فَهَذَا مِمَّا لَا يشك أحد من الْعلمَاء فِي تَحْرِيمه عَلَيْهِنَّ، وَالْحَالة هَذِه. فَالْوَاجِب على الكافة مَنعهنَّ من تعَاطِي مثل ذَلِك فَإِنَّهُ مِمَّا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ من الْمَفَاسِد: الْخَاصَّة والعامة اللَّازِمَة والمتعدية مَا الله بِهِ عليم
وَقد قَالَت أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة ﵂: لَو رأى رَسُول الله ﷺ مَا أحدث النِّسَاء بعده، لمنعهن الْمَسَاجِد كَمَا منعت نسَاء بني إِسْرَائِيل فَهَذَا قَوْلهَا فِي الْمَسَاجِد الَّتِي زجر النَّبِي ﷺ الرِّجَال أَن يمنعوهن إِذا أردن الْخُرُوج إِلَيْهَا، فَكيف بالحمامات اللَّاتِي قد تقدم زَجره إياهن عَن دُخُولهَا إِلَّا لمريضة أَو نفسَاء لَا بل قد أنْكرت عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ عَلَيْهِنَّ دُخُول الحمامات مُطلقًا، وَقَالَت سَمِعت رَسُول الله ﷺ يَقُول: أَيّمَا امْرَأَة خلعت ثِيَابهَا فِي غير بَيت زَوجهَا هتكت مَا بَينهَا وَبَين الله ﷿. وَقَالَ ابْن أبي الدُّنْيَا حَدثنَا الْحُسَيْن بن بَحر حَدثنَا عَمْرو بن عَاصِم حَدثنَا همام حَدثنَا قَتَادَة عَن مُورق الْعجلِيّ عَن أبي الْأَحْوَص عَن عبد الله بن مَسْعُود ﵁ قَالَ: قَالَ رَسُول الله ﷺ الْمَرْأَة عَورَة، فَإِذا خرجت استشرفها الشَّيْطَان، وَأقرب مَا تكون من رَبهَا إِذا هِيَ فِي قَعْر بَيتهَا.
1 / 37
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَابْن حبَان فِي صَحِيحه، من رِوَايَة عَمْرو بن عَاصِم الْكلابِي بِسَنَدِهِ نَحوه.
وَقَالَ التِّرْمِذِيّ فِي كتاب النِّكَاح من جَامِعَة بَاب كَرَاهِيَة خُرُوج النِّسَاء فِي الزِّينَة يَعْنِي وَهِي مزينة حَدثنَا عَليّ بن خشرم أخبرنَا عِيسَى بن يُونُس عَن مُوسَى بن عُبَيْدَة عَن أَيُّوب بن خَالِد عَن مَيْمُونَة بنت سعد وَكَانَت خَادِمًا للنَّبِي ﷺ قَالَت: قَالَ رَسُول الله ﷺ مثل الرافلة فِي الزِّينَة فِي غير أَهلهَا كَمثل ظلمَة يَوْم الْقِيَامَة لَا نور لَهَا.
وَقد رَوَاهُ بَعضهم عَن مُوسَى بن عُبَيْدَة وَلم يرفعهُ. وَتقدم عَن أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن عبد الْعَزِيز أَنه مَنعهنَّ من دُخُول الْحمام، وَهُوَ أحد الْخُلَفَاء الرَّاشِدين، وَالْأَئِمَّة المهديين، الَّذين قضوا بِالْحَقِّ، وَبِه كَانُوا يعدلُونَ، وَقد قَالَ ﵊:
1 / 38
عَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين من بعدِي، عضوا عَلَيْهَا بالنواجذ، وَإِيَّاكُم ومحدثات الْأُمُور، فَإِن كل محدثة بِدعَة، وكل بِدعَة ضَلَالَة، وَفِي رِوَايَة وكل ضَلَالَة فِي النَّار. فَالْوَاجِب على وُلَاة الْأُمُور التَّمَسُّك بِهَذَا الحَدِيث، وَالْعَمَل بِهِ فِي جَمِيع أُمُورهم.
1 / 39
فصل
إِذا علم هَذَا فَالْوَاجِب: أَن يؤمرن إِذا أردن دُخُول الْحمام إِمَّا لمَرض، أَو نِفَاس، وَمَا يلْحق بذلك من كَثْرَة الْوَسخ والأذى أَن يخْرجن كَمَا أمرهن الله ﷿ فِي تستر وَعدم تبرج بزينة، لَا يظهرن زِينَة من حلي، وَلَا قماش ملون، وخف، وبخور ثِيَاب وَغير ذَلِك مِمَّا يتَأَذَّى بِهِ الرِّجَال، وَيفتح طرق الشَّيْطَان. قَالَ الله تَعَالَى: ﴿يَا أَيهَا النَّبِي قل لِأَزْوَاجِك وبناتك وَنسَاء الْمُؤمنِينَ يدنين عَلَيْهِنَّ من جلابيبهن ذَلِك أدنى أَن يعرفن فَلَا يؤذين وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما﴾ . وَقَالَ فِي سُورَة النُّور: ﴿قل للْمُؤْمِنين يغضوا من أَبْصَارهم ويحفظوا فروجهم ذَلِك أزكى لَهُم إِن الله خَبِير بِمَا يصنعون وَقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن وَلَا يبدين زينتهن إِلَّا مَا ظهر مِنْهَا وَليَضْرِبن بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبهنَّ وَلَا يبدين زينتهن إِلَّا لبعولتهن أَو آبائهن أَو آبَاء بعولتهن أَو أبنائهن أَو أَبنَاء بعولتهن أَو إخوانهن أَو بني إخوانهن أَو بني أخواتهن أَو نسائهن أَو مَا ملكت أيمانهن أَو التَّابِعين غير أولي الإربة من الرِّجَال أَو الطِّفْل الَّذين لم يظهروا على عورات النِّسَاء وَلَا يضربن بأرجلهن ليعلم مَا يخفين من زينتهن وتوبوا إِلَى الله جَمِيعًا أَيهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تفلحون﴾ .
قَالَ الْعلمَاء: وَيسْتَحب أَن تمشي الْمَرْأَة إِلَى جَانب الطَّرِيق، كَمَا جَاءَ فِي
1 / 40
الحَدِيث أَنَّهُنَّ نهين أَن يحققن الطَّرِيق أَي لَا تمشى فِي وَسطه. وعَلى هَذَا فَيكْرَه أَن تمشي الْمَرْأَة إِلَى جَانب الْمَرْأَة صفا، بل تكون الْوَاحِدَة خلف الْوَاحِدَة، فِي تستر وحياء
وَيسْتَحب لَهُنَّ أَن تكون الجلابيب وَهِي الأزر غلاظا، لِئَلَّا يظْهر مَا تحتهَا للنَّظَر
وَلَا تتحيل فِي إِظْهَار زينتها كَمَا قَالَ الله تَعَالَى ﴿وَلَا يضربن بأرجلهن ليعلم مَا يخفين من زينتهن﴾، وَذَلِكَ أَنَّهُنَّ كن يلبسن الخلاخيل فِي أرجلهن كَمَا تَفْعَلهُ نسَاء الْعَرَب وبلاد حوران وَغَيرهَا. فَكَانَت الْمَرْأَة إِذا أَرَادَت أَن يعلم أَن فِي رجلهَا خلخالا ضربت برجلها ليسمع صَوت الخلاخيل فنهين عَن ذَلِك مُطلقًا. ويؤمرن بالتستر فِي الْحمام، وَلبس المئزر، أَو الفوط وَنَحْوهَا، فِي أوساطهن. فَإِن عَورَة الْمَرْأَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَرْأَة، كعورة الرجل بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرجل فَلَا بُد من مواراة الْقبل، والدبر، والفخدين على قَول جُمْهُور الْعلمَاء، والسرة على قَول بَعضهم كَمَا سَنذكرُهُ بعد إِن شَاءَ الله. وَيحرم عَلَيْهِنَّ كشف الْعَوْرَة، كَمَا يحرم على الرِّجَال بِلَا خلاف بَين
1 / 41
الْعلمَاء بل هن أَشد فِي ذَلِك من الرِّجَال كَمَا سَيَأْتِي دَلِيل ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَقد ذهب جمَاعَة من الْعلمَاء من السّلف وَالْخلف إِلَى أَنه لَا يحل للمسلمة أَن تكشف جسمها بِحَضْرَة ذِمِّيَّة، وَلَا تبدي لَهَا زينتها، لقَوْله تَعَالَى: ﴿أَو نسائهن﴾ فَدلَّ على أَن غير نسائهن من المسلمات لَا يبدين لَهُنَّ زينتهن، وَهَكَذَا رُوِيَ عَن أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب، وَغَيره من عُلَمَاء السّلف فِي تَفْسِير هَذِه الْآيَة. وَقَالَ عبد الرَّزَّاق فِي مُصَنفه: عَن إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش عَن هِشَام ابْن الْغَاز عَن عبَادَة بن نسي عَن قيس بن الْحَارِث قَالَ كتب عمر إِلَى أبي عُبَيْدَة ابْن الْجراح أَنه بَلغنِي أَن نسَاء الْمُسلمين قبلك يدخلن الحمامات مَعَ نسَاء المشركينفإنه عَن ذَلِك أَشد النَّهْي، فَإِنَّهُ لَا يحل لامْرَأَة تؤمن بِاللَّه، وَالْيَوْم الآخر، أَن يرى عورتها غير أهل دينهَا.
قَالَ وَكَانَ عبَادَة بن نسي، وَمَكْحُول، وَسليمَان يكْرهُونَ أَن تقبل الْمَرْأَة الْمسلمَة، الْمَرْأَة من أهل الْكتاب. وَيجب عَلَيْهِنَّ مُرَاعَاة الصَّلَاة فِي أَوْقَاتهَا، فِي كل وَقت، وَيَوْم الْحمام أَيْضا، ولهن الصَّلَاة فِي الْحمام إِذا تسترت إِمَّا خَارجه أَو دَاخله على قَول
1 / 42
جُمْهُور الْعلمَاء.
وَجوز بعض الْعلمَاء لَهُنَّ جمع الْعَصْر إِلَى الظّهْر فِي الْبَيْت لعذر الْحمام وَهُوَ قَول غَرِيب، وَله حَظّ من الْفِقْه وَهُوَ شَبيه بقول من ذهب من الْأَصْحَاب إِلَى صِحَة الْجمع فِي الْحَضَر من غير خوف وَلَا مطر كَمَا جَاءَ فِي صَحِيح مُسلم.
وَقد حَكَاهُ الْخطابِيّ فِي المعالم عَن أبي بكر الْقفال الكبي عَن أبي إِسْحَاق الْمروزِي ﵀.
1 / 43