Tirada iyo Dhismaha Aadanaha
الأعداد وبناء الإنسان: العد ومسار الحضارات الإنسانية
Noocyada
شكر وتقدير
تمهيد
الجزء الأول: تغلغل الأعداد في الخبرة البشرية
1 - الأعداد منسوجة في حاضرنا
2 - الأعداد منقوشة في ماضينا
3 - رحلة عددية حول العالم اليوم
4 - ما بعد مفردات الأعداد: أنواع أخرى من اللغة العددية
الجزء الثاني: عوالم بلا أعداد
5 - شعوب لا عددية معاصرة
6 - الكميات في عقول الأطفال الصغار
Bog aan la aqoon
7 - الكميات في عقول الحيوانات
الجزء الثالث: الأعداد وتشكيل حياتنا
8 - اختراع الأعداد والحساب
9 - الأعداد والثقافة: نمط الإعاشة والرمزية
10 - أدوات تحويلية
ملاحظات
شكر وتقدير
تمهيد
الجزء الأول: تغلغل الأعداد في الخبرة البشرية
1 - الأعداد منسوجة في حاضرنا
Bog aan la aqoon
2 - الأعداد منقوشة في ماضينا
3 - رحلة عددية حول العالم اليوم
4 - ما بعد مفردات الأعداد: أنواع أخرى من اللغة العددية
الجزء الثاني: عوالم بلا أعداد
5 - شعوب لا عددية معاصرة
6 - الكميات في عقول الأطفال الصغار
7 - الكميات في عقول الحيوانات
الجزء الثالث: الأعداد وتشكيل حياتنا
8 - اختراع الأعداد والحساب
9 - الأعداد والثقافة: نمط الإعاشة والرمزية
Bog aan la aqoon
10 - أدوات تحويلية
ملاحظات
الأعداد وبناء الإنسان
الأعداد وبناء الإنسان
العد ومسار الحضارات الإنسانية
تأليف
كيليب إفريت
ترجمة
الزهراء سامي
مراجعة
Bog aan la aqoon
هبة عبد العزيز غانم
إلى جيمي وجود، اللذين أثريا حياتي بطرق لا تحصى.
شكر وتقدير
لقد ساهمت الجائزة السخية التي منحتها مؤسسة «كارنيجي كوربوريشن أوف نيويورك» في إخراج هذا الكتاب إلى النور. أما البيانات والآراء الواردة فيه، فهي تعبر عني وحدي بالطبع.
إنني أكن الكثير من مشاعر الامتنان للإرشادات القيمة التي قدمها لي محرري، جف دين، في دار نشر هارفارد يونيفرسيتي برس، وأكن الكثير من مشاعر التقدير أيضا لمايكل فيشر الذي كان أول من رأى أن هذا العمل سيكون واعدا. وقد نال الكتاب فائدة عظيمة من التعليقات الوجيهة التي قدمها أربعة من المراجعين المرموقين؛ وأنا ممتن لكل واحد منهم لما بذلوه من وقتهم في قراءة المخطوطة الأولية. إن ما قدموه من تعليقات ونقد قد جعل الكتاب أفضل. وثمة عدد كبير من الباحثين اللامعين الذين ساهموا سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة في الأبحاث التي عرضها هذا الكتاب، والذين أتقدم لهم بجزيل الشكر. وإذا كنت أحد الأشخاص الذين يقومون بالأبحاث الرائعة التي يعتمد عليها هذا الكتاب، فشكرا لك على عملك.
لقد كتبت بعض أجزاء هذا الكتاب على متن سفينة «إم في إكسبلورر» في برنامج «سيمستر أت سي»، خلال الرحلات الطويلة في المحيط، والتي زاد من متعتها الأشخاص الذين التقيت بهم على تلك السفينة. وكتبت بعض الأجزاء أيضا في لاجوا دا كونسيساو، المحتجبة في منحدر تل من الفردوس. أما معظم أجزائه، فقد كتبت في جامعة ميامي، وهي مكان رائع للكتابة وإجراء الأبحاث. إنني أعمل هناك فقط لأنه قبل بضع سنوات، قامرت هيئة التدريس في قسم الأنثروبولوجيا على باحث صغير، كانوا قد قابلوه لأول مرة خلال توقف مؤقت في مطار ميامي الدولي. وأنا لا أزال ممتنا لهم على ذلك. ويجب الشكر أيضا لزملائي الآخرين في جامعة ميامي، والذين قد جعلوا تجربتي هناك تجربة رائعة. وقد شرفت أيضا بأن كان لي الكثير من الطلاب الرائعين في جامعة ميامي، والذين ناقشت معهم بعض الأفكار الواردة في هذا الكتاب.
لقد كان لوالدي كليهما بعض التأثير في هذا العمل بطريق مباشر وغير مباشر أيضا، وأرجو أن يكون ذلك قد اتضح في صفحات هذا الكتاب. إنني أشكرهما على ذلك وعلى جميع ما منحاني إياه، وهو ما أدرك أنني لا أستطيع أن أتذكر الجزء الأكبر منه. وسأظل ممتنا على الدوام لأختي الرائعتين وأسرتيهما المذهلتين، وإلى آل سكوتي أيضا. وأخيرا، لم يكن هذا الكتاب ليصبح ممكنا لولا زوجتي جيمي وابننا جود.
تمهيد
عن نجاح نوعنا البشري
البقاء على قيد الحياة ليس بالأمر السهل. وإذا كنت قد أقدمت من قبل على العيش في بيئة لا تخضع لنموذج المجتمع المعاصر، فالأرجح أنك قد أدركت هذه الحقيقة سريعا. إن الترحال بمفردك في إحدى الغابات الاستوائية مثلا، يطبع في ذهنك هذه الفكرة بعمق؛ فبخلاف الإرهاق الذي يسببه الهواء الخانق، والتعرق المصاحب له (أسلوب تكيفي ضعيف في الأماكن ذات الرطوبة الخانقة) إضافة إلى المتاعب الأخرى من البكتيريا والفيروسات والحشرات، والأنواع الأكبر حجما التي ربما تفترسك، سوف تجد أن مجرد الحصول على الماء والغذاء أمر شاق، أو محال تماما. وإذا أتيحت لك الفرصة في أن تتبع بعض السكان الأصليين الذين يقطنون الأدغال، وتسير خلفهم على الغطاء النباتي اللين الذي ينتشر في غابات الأمازون، فسوف تصبح واعيا تماما، إذا كنت تشبهني بأي حال من الأحوال، بمدى سرعة شعورك بالإنهاك من البيئة المحيطة، لولا معرفة هؤلاء الذين تتبعهم. إن جوليان كوبكه التي اشتهرت بنجاتها من تحطم طائرتها على بعد آلاف الأمتار فوق غابات بيرو عام 1971، قد أدهشت العالم حين نجت من الحادثة، وظلت وحدها على مدار تسعة أيام في الأدغال. ولأنها ابنة مراهقة لأبوين من علماء الأحياء كانا يعملان في الأمازون؛ فإن معرفتها بالنظام البيئي المحيط قد أنقذت حياتها، غير أنها لم تستطع الحصول على الغذاء خلال تجربتها القاسية، وكان من أنقذها في النهاية بعض الأفراد الذين ينتمون إلى مجتمع محلي، ويقطنون بجوار أحد الأنهار.
Bog aan la aqoon
إن معظم الأفراد الذين يكونون في وضعها، بمفردهم في إحدى الغابات، لا يتمكنون من النجاة، وينطبق الأمر نفسه على الذين يضلون طريقهم في غير ذلك من الأنظمة البيئية البدائية غير المألوفة. وتاريخ الملاحة في المحيطات يمتلئ بقصص المستكشفين الذين اضطروا إلى الاعتماد على الخبرة المحلية لمجتمعات السكان الأصليين، حين كانوا يرسون في بيئات طبيعية جديدة. أما «برامج الواقع» التي تعرض على التلفاز، والتي تقوم على أساس تصوير أفراد يعيشون في البرية دون مساعدة خارجية، فعادة ما يكون تنفيذها ممكنا لأن الناجي «المنعزل» الذي يجري تصويره مزود بالأدوات الأساسية، وهو يحصل على الدعم من فريق من المنتجين الذين أعدوه بطرق مختلفة للعيش في البيئات التي «سيترك فيها» مع طاقم الفيلم المزود بقدر كاف من المؤن. وبالرغم من أنه قد يكون أمرا مخزيا، فأنا أو أنت سنموت على الأرجح خلال أيام أو ربما أسابيع إن كنا أكثر حظا، إذا تركنا منعزلين في معظم الأنظمة البيئية الموجودة في العالم.
1
والأكثر غرابة من ذلك أن الأفراد الذين ينتمون إلى مجتمعات السكان الأصليين، غالبا ما يواجهون صعوبات في بيئات يعرفونها جيدا، إذا تعرضوا مصادفة للعزلة؛ فضلال الطريق تحت مظلة الغابة قد يكون أقل خطرا نسبيا لسكان الغابات الاستوائية الأصليين على سبيل المثال، غير أنه يمكن أن يظل أمرا قاسيا. لقد سمعت عن بعض أفراد إحدى القبائل التي تعيش في الأمازون، وقد تعرضوا لخطر ضلال طريقهم في مكان غير بعيد عن قريتهم، ولم يتمكنوا من النجاة إلا بصعوبة بالغة، أو في بعض الحالات المؤسفة لاقوا حتفهم. ومثل هذه الحالات تؤكد لنا نقطة مهمة غالبا ما نهملها، وهي أن بقاء البشر على قيد الحياة هو أمر مرهون بالمعرفة المخزونة في مستودع الثقافة، والذي نصل إليه من خلال الوسائل اللغوية. إننا نعتمد في حياتنا اليومية على معارف لا نملكها نحن على وجه التحديد، وإنما يمكن لنا أن نستخلصها بسهولة من عقول الآخرين، وهي لم تتأت لهم إلا بصعوبة كبيرة، أو اكتسبوها مصادفة على مدار آلاف الأعوام في العديد من الحالات. فلتتأمل في بعض الأمثلة من ثقافتك الخاصة؛ إنك لم تضطر إلى اختراع السيارة، أو التدفئة الداخلية بالمنازل، أو الطريقة الأكثر كفاءة لتخلية صدور الدجاج من العظام، بل ورثت هذه التقنيات والسلوكيات؛ فلطالما اقتديت بالآخرين في أفعالك، وتعلمت منهم سلوكياتك، سواء بطريقة رسمية أو بطريقة غير رسمية، عن طريق اللغة. إن مجموع أنشطتنا اليومية، بما فيها تلك الأنشطة المتعلقة بالعمليات الأساسية، مثل تناول الطعام والنوم، تستند كليا إلى أفكار استقيناها من المحيطين بنا، الذين استقوها بدورهم من آخرين. وبالرغم من أن بعض الاحتياجات هي احتياجات حيوية محتومة، فإن ثقافتنا الأصلية هي التي تشكل الأسلوب الذي نتخذه في التعامل مع مثل هذه الاحتياجات. كل الاختراعات المادية والسلوكية التي تسهل حياتك، بداية من فرشاة الأسنان وحتى المصافحة بالأيدي، قد اخترعها إنسان آخر أو مجموعة أخرى من البشر. وأما الأفكار فإننا نرث منها أكثر بكثير مما نبدعه، وينطبق الأمر نفسه على أفراد ثقافات أخرى تختلف تماما عن ثقافتنا؛ فالصيادون في نيو غينيا لا يحتاجون إلى اختراع الأقواس والسهام حين تقتضي الحاجة، بل ورثوا هذه التقنية من خلال التدريس والمحاكاة. إن كل جيل في أي ثقافة يبني على معارف الأجيال السابقة، التي تكون قد اكتسبت في معظم الأحيان عن طريق الاكتشافات العرضية التي ربما قد تبعت أحداثا مؤلمة أو مهلكة؛ فالأقواس والسهام وغيرها من أدوات الصيد على سبيل المثال، لم تخترع في غمضة عين، بل تطورت على مدار القرون فيما راح الصيادون يدركون تدريجيا بعض المزايا التي تنقذ حياتهم، والتي تمتلكها بعض الأقواس والسهام دون غيرها؛ لأسباب معينة.
2
إن الأساليب التي نستخدمها للنجاة والتكيف، والتي تتحسن باستمرار، هي نتيجة «تأثير السقاطة الثقافي». يشير هذا المصطلح، الذي روجه اختصاصي علم النفس ودراسة الرئيسات من جامعة ديوك؛ مايكل توماسلو، إلى حقيقة أن البشر يتعاونون معا في الاحتفاظ بالمعرفة من جيل إلى الجيل التالي، مثل ترس السقاطة الذي يدور في اتجاه واحد ولا يمكن عكس اتجاه دورانه أبدا. وبعبارة أخرى، فإن نجاح نوعنا يعود بدرجة كبيرة إلى قدرة الأفراد على التعلم من السلوكيات النافعة التي توصل إليها أسلافهم أو معاصروهم في المجتمع، ومحاكاتها. إن ما يتميز به البشر، ليس أننا أذكياء فحسب، بل أننا لا نحتاج باستمرار إلى التوصل إلى حلول جديدة للمشكلات القديمة نفسها. إننا نعرف ما كان ناجحا في الماضي، وإن كنا لا نعرف دائما سبب نجاحه في الماضي؛ فكونك قادرا على إعادة تسخين شطيرة من البوريتو لا يعني أنك تعرف أي شيء عن كيفية تصميم جهاز الميكروويف أو الشبكة الكهربائية التي تمكنك من استخدامه.
3
إن أهمية الاكتساب التدريجي للمعرفة المخزونة في المجتمع والمتجسدة فيه ثقافيا، لكنها غير محصورة في عقل فرد واحد بعينه، تتبلور حين نرى حالات لثقافات قد اندثرت بأكملها تقريبا؛ لأن بعضا من معرفتها المخزونة قد تبدد بسبب موت أفراد قد كانوا عقدا أساسية في شبكة المعرفة الخاصة بالمجتمع؛ ففي حالة مجتمع الإسكيمو القطبي في نورث ويست جرينلاند، تضاءل عدد السكان في منتصف القرن التاسع عشر بعد وباء قتل عددا من كبار السن في المجتمع. وقد دفن هؤلاء المسنون ودفنت معهم أدواتهم وأسلحتهم؛ وفقا لتقاليد المجتمع، وتأثرت قدرة الإسكيمو على صنع هذه الأدوات والأسلحة، تأثرا سلبيا كبيرا. وقد أدى ضياع مثل هذه المعرفة وغيرها من المعارف، إلى عرقلة جهودهم في صيد الوعول والفقمات، وكذلك صيد أسماك المياه الباردة. ونتيجة لذلك، فإن عدد السكان لم يبدأ في التزايد إلا بعد قرابة أربعين عاما، وذلك عند تواصلهم مع مجموعة أخرى من الإسكيمو، مما سمح لهم باستعادة قاعدة المعرفة الخاصة بمجتمعهم البدائي. وعلى مدار التاريخ البشري، اندثرت ثقافات بأكملها بسبب عمليات تدهور مماثلة لخبرات أفراد هذه الثقافة المتعلقة بالنجاة، أو بسبب ضياع تقنيات مادية أساسية، لم يكن من الممكن نسخها بسهولة.
4
إن مثل هذه الحالات تنفي بصورة مباشرة ذلك المفهوم الرائج أو الأسطوري مثلما قد يسميه بذلك البعض، والذي يقول بأن البشر متفوقون لأنهم يتمتعون بذكاء فطري أكبر من ذكاء الأنواع الأخرى. والواقع أنها فكرة واهية لا يدعمها قدر كاف من الأدلة؛ فبالرغم من أننا أذكى من الأنواع الأخرى بالتأكيد، ولدينا بالفعل زيادة نسبية في حجم الدماغ (حجم الدماغ كبير مقارنة بحجم الجسم)؛ فقدراتنا الإدراكية الفطرية في بعض الجوانب، ليست متطورة بالقدر الذي كنا نظنه من قبل. إن العديد من سماتنا الفكرية المميزة، ليست متأصلة في جيناتنا، وإنما تعلمناها بطرق عديدة تستند إلى الثقافة. وبالرغم من أن الانتخاب الطبيعي قد أثمر بالتأكيد عن أدمغة بشرية مميزة، فالأمر المثير حقا بشأن نوعنا هو ما تمكنا من تحقيقه بهذه الأدمغة منذ بزوغ الثقافة. في هذا الكتاب، سأنضم إلى الكورال التصعيدي الذي يتكون من العلماء في مجال أصل الإنسان، وعلماء اللغة، وعلماء النفس، وغيرهم من العلماء الذين يؤكدون على هذه النقطة. حيث يؤكد هؤلاء العلماء أن الاختراعات القائمة على الثقافة، مثل اللغة، قد دشنت ثورة إدراكية وسلوكية في نوعنا. وأنا أقترح في هذا الكتاب أن مجموعة من الأدوات المفاهيمية تدعى «الأعداد»، وهي الكلمات وغيرها من الرموز التي تستخدم للإشارة إلى كميات محددة، هي مجموعة بارزة من الاختراعات المستندة إلى اللغة، والتي قد أسهمت في تميز نوعنا بطرق لم تكن تحظى بالتقدير الكافي. وكما سنرى، فالأعداد هي اختراعات بشرية غيرت البيئات التي نحيا فيها ونتطور، مثلها في ذلك مثل الطهي والأدوات الحجرية والعجلة. وبالرغم من أن العلماء في مجال أصل الإنسان وغيره من المجالات، طالما كانوا مولعين بالتركيز على مثل هذه الاختراعات ودورها في تغيير نص قصة البشرية، فإن دور الأعداد لم يحظ بالانتباه الكافي من قبل. والسبب الذي كان يشجع على عدم الاهتمام هو أمر بسيط للغاية: أننا لم نبدأ في إدراك حجم إسهام الأدوات التي تدعى «الأعداد» في إعادة تشكيل الخبرة البشرية، إلا الآن.
الجزء
Bog aan la aqoon
تغلغل الأعداد في الخبرة البشرية
الفصل الأول
الأعداد منسوجة في حاضرنا
كم عمرك؟ منذ سن مبكرة، وإجابة هذا السؤال طوع بنانك بالمعنى الحرفي، والأرجح أنه لم يستغرق من تفكيرك سوى قدر ضئيل من الثانية لكي تتوصل إلى الإجابة. أيمكن فعلا أن يوجد سؤال أسهل من هذا؟ إن العديد من أوجه حياتك يتحدد بناء على عدد سنواتك؛ أيمكن لك قيادة سيارة بنفسك؟ حسنا، يتوقف ذلك على عدد السنوات التي عشتها. هل أنت راض عما تراه في المرآة؟ إن ذلك يتأثر على الأرجح بعمرك، بدرجة ما على الأقل، وبما تتوقع أن تراه في المرآة. أيجب عليك أن تعمل في وظيفة أكثر إشباعا لذاتك؟ من الصعب الإجابة عن هذا السؤال دون معرفة عمرك. إن الإجابة عن هذه الأسئلة والعديد غيرها، والتي تمس صميم هويتك وخبراتك اليومية، لا يمكن معرفتها إلا بعد معرفة إجابة ذلك السؤال الأول البسيط. وهو سؤال عظيم الأهمية، ولا شك، بالنسبة إلى الأفراد الذين ينتمون إلى مصفوفتنا الثقافية.
بالرغم من ذلك، فنحن الذين نعزو أهمية كبيرة إلى أعمارنا، نجد أنه من الغريب أن يكون ذلك السؤال نفسه لا يعني أي شيء لأفراد بعض الثقافات الأخرى. وليس ذلك لأن أفراد هذه الثقافات يعجزون عن متابعة دوران الأرض حول الشمس، بل لأنهم لا يملكون الأدوات التي تمكنهم من تحديد كميات هذه الدورات بدقة. على سبيل المثال، لا تمتلك قبيلة موندوروكو من سكان الأمازون الأصليين أي كلمات محددة للأعداد فيما بعد العدد «اثنين». وفي حالة نظرائهم من قبيلة بيراها الأمازونية، فليس لديهم أي كلمات على الإطلاق للتعبير عن الأعداد، ولا حتى عن العدد «واحد»، فكيف يمكن إذن لمتحدثي هذه اللغات الإجابة عن سؤال «كم عمرك؟» وماذا أيضا عن غيره من الأسئلة القائمة على الأعداد، والتي تتناول جوانب أساسية للحياة بالنسبة إلى معظم سكان العالم؟ فلنتأمل بعض الأمثلة الأخرى: ما راتبك؟ وكم طولك؟ وكم وزنك؟ في عالم بلا أعداد، تصبح هذه الأسئلة عديمة الجدوى؛ إذ لا يمكن سؤالها ولا الإجابة عنها. لا يمكن صياغة هذه الأسئلة ولا إجاباتها المحتملة في الثقافات اللاعددية، ليس بالدرجة الأدنى من الدقة على الأقل. وعلى مدار الجزء الأكبر من تاريخ نوعنا البشري، كانت جميع الثقافات البشرية ثقافات لا عددية. إن الأعداد: التمثيل اللفظي والرمزي للكميات، قد غيرت أحوال البشر تغييرا جذريا. وفي هذا الكتاب، سوف أستكشف مدى هذا التحول، والذي لم يحدث إلا مؤخرا، وهو أمر لافت للنظر. سوف أركز كذلك على قدرة الأعداد المنطوقة على إحداث التغيير، لكنني سأتناول أيضا دور الأعداد المكتوبة. ومن أجل وضوح المصطلحات، فإنني أشير إلى الأعداد المنطوقة باسم «الأعداد،» وأشير إلى الأعداد المكتوبة باسم «الأرقام». وعند الإشارة إلى الكميات المجردة التي تصفها الأعداد، فإنني أستخدم الرموز مثل 1 و2 و3 و4 وما إلى ذلك.
خلال العقد الأخير، أجرى علماء الآثار وعلماء اللغة وعلماء النفس وغيرهم من العلماء، قدرا هائلا من الأبحاث عن الأعداد والأرقام، ومن تلك الأبحاث تبدأ كتابة قصة جديدة للأعداد، وهي القصة التي نرويها في هذا الكتاب. وباختصار، تسير القصة على هذا النحو: بالرغم مما كنا نعتقد من قبل، فإن الأعداد ليست مجرد مفاهيم تتولد لدى الأفراد بصورة تلقائية وفطرية. وبالرغم من أن الكميات ومجموعات العناصر يمكن أن توجد مستقلة، بعيدا عن خبرتنا العقلية، فالأعداد ابتكار من العقل البشري، واختراع معرفي قد غير كيفية إدراكنا للكميات وتمييزها إلى الأبد. وربما يكون هذا المفهوم مناقضا للبديهة بالنسبة إلى العديد منا، نحن الذين قد عشنا حيواتنا بأكملها في وجود الأعداد، وقد اقتنعت بها خبرتنا العقلية منذ الطفولة. بالرغم من ذلك، فالأعداد تشبه اختراعا رمزيا آخر مهما لنوعنا البشري ومرتبطا به، وهو اللغة، في أنها ابتكار يختلف باختلاف الثقافة. غير أن الأعداد تختلف عن اللغة في أنها لا توجد لدى بعض الجماعات السكانية في العالم؛ إنها ابتكار يترك أثرا لا يمحى بشأن الطريقة التي يفسر بها معظم الأفراد، وليس جميعهم، خبراتهم اليومية. وهذا التأثير الذي لا يمحى، يكمن في صميم القصة التي يرويها هذا الكتاب؛ فسوف نستكشف فيه كيف كانت الأعداد، وهي أحد الابتكارات الأساسية على مدار تاريخ نوعنا البشري، بمثابة حجر صوان قد أضاء التاريخ البشري.
تتضمن القصة العديد من الأجزاء، وفي جزء لاحق من هذا الفصل، سأوضح الطريقة التي يحاول بها الكتاب أن يخطو من جزء إلى آخر، على طريق متماسك يؤدي إلى استنتاج لم يتشكل إلا حديثا. وقبل أن نتحدث عن تلك الأجزاء، يجب أن أوضح ما أعنيه حين أقول إن الأعداد قد غيرت الخبرة البشرية. ربما تكون الطريقة الأفضل لفعل ذلك هي التعمق في دراسة كيفية إدراكنا لمرور الوقت. لقد أشرت إلى أنك لا تستطيع بالطبع، بدون الأعداد، أن تسمي عدد رحلات الأرض حول الشمس منذ مولدك، لكنك قد تعارض قائلا: إنه ربما لا يزال بإمكانك أن تكون فكرة عن عدد سنوات عمرك؛ فيمكن أن تعرف مثلا أنك قد ولدت قبل أختك وبعد أخيك؛ ومن ثم تستطيع أن تعرف أنك أكبر من الأولى وأصغر من الأخير، ويمكن أن تدرك تغير الفصول، وتدرك أنك قد عشت في دورات فصول سابقة؛ ومن ثم يمكنك أن تعرف على الأقل أنك تبلغ من العمر العديد من السنوات، وربما تعرف أنك قد عشت عددا أكبر من السنوات أو أصغر، مقارنة بمعاصريك. بالرغم من ذلك، فسوف نرى في تناولنا للشعوب اللاعددية في الفصل الخامس، أن الوعي بالعمر بهذه الطريقة يكون مبهما إذا لم يستعن المرء بالأعداد. ويتضح دور الأعداد بصورة أكبر في إدراكنا للزمن، لكن ذلك يتضح بصورة أكبر حين نفكر في مرور الوقت عند أكثر مستوى أساسي له، بخلاف طريقتنا في عد السنوات .
يتطلب هذا التفكير استطرادا موجزا عن كيفية فهمنا العام للوقت. ومفهوم الوقت من المفاهيم التي يصعب فهمها إلى حد ما؛ إذ إنه مفهوم مجرد تماما. ما معنى إدراك الوقت أو الشعور به؟ حسنا، يتبين أن ذلك يتوقف على الأشخاص الذين تسألهم والثقافة التي ينتمون إليها، أو اللغة التي يتحدثون بها. لقد أظهرت الأبحاث الحديثة أن إدراك الوقت يتباين بطرق عدة لدى بعض الشعوب. وفيما يلي، سأتناول قدرا من هذا التباين الثقافي، وسأقترح بعدها أن الأعداد قد أدت دورا عظيما للغاية في تشكيل خبرتنا عن الوقت، التي تختلف باختلاف الثقافة.
نتحدث كثيرا عن «مرور الوقت» أو «المرور بالوقت»، لقد تحدثت عن ذلك بالفعل في الفقرات السابقة، وأشك في أنك قد وجدت أن مثل هذه الصياغة غريبة. ونحن نتحدث أيضا عن مرور الوقت «ببطء» أو «بسرعة»، غير أن كل هذه التعبيرات مجازية بالطبع؛ فالوقت لا يتحرك فعلا، ولا نحن نمر به. لقد أثبت علماء الإدراك منذ فترة طويلة، أن البشر يتسمون بنزعتهم الطاغية لاستخدام الأشياء المادية، كالأغراض التي تتحرك في المكان لوصف الجوانب المجردة من حياتنا، مثل الوقت، وصفا مجازيا. ومن ثم يمكننا أن نتحدث عن «حركة» الوقت، أو نتحدث على العكس من ذلك، عن «المرور» بوقت صعب أو «رؤية» وقت صعب «أمامنا» أو عن عدم قدرتنا على الرجوع إلى «الوراء» للماضي، أو عن اختيار «المسار» المهني المناسب، أو عن مواجهة خيار صعب في «طريق» حياتنا وما إلى ذلك. إن متحدثي اللغة الإنجليزية وغيرها من اللغات، يستخدمون عددا هائلا من التعبيرات التي تدل على التأويلات المكانية للزمان، وتجسدها. وأبرز هذه التعبيرات التوجيهية المجازية، هو ذلك الذي يسود الأمثلة التي ذكرناها للتو، والذي يتمثل فيه المستقبل أمامنا، بينما يمر بنا الوقت. بالرغم من ذلك، يتضح لنا أن بعضا من متحدثي اللغات الأخرى لا يرون الوقت بهذه الطريقة؛ فبالنسبة إلى متحدثي اللغة الأيمرية والعديد غيرها من اللغات الأخرى، لا يكمن المستقبل أمام المتحدث، بل خلفه، أما الماضي فهو يقع مجازيا أمام المتحدث. ويتجلى هذا الاتجاه في العديد من التعبيرات المختلفة عن الوقت، وكذلك في إشارات اليد التي يستخدمها الفصحاء في اللغة الأيمرية، حين يتحدثون عن أحداث الماضي والمستقبل. (ويمكننا القول بأن مثل هذه الاستعارة الاتجاهية، ترتبط بالخبرة البشرية بصورة أكثر مباشرة؛ إذ إننا نستطيع بالفعل أن «نرى» ما حدث في ماضينا.) ولهذا، فإن بعض البشر يرون «حركة» الوقت بطريقة تبدو متناقضة تماما مع الطريقة التي نصفه بها ونراه.
1
Bog aan la aqoon
يتضح هذا الأساس المكاني المرن للأفكار المتعلقة بالوقت بصورة أكبر حين نفكر في طريقة أخرى يمكننا تصوير الوقت مجازيا من خلالها، وهي تصويره متحركا من اليسار إلى اليمين على خط يمكن قياسه. في ثقافتنا وغيرها من الثقافات، يوجد عدد هائل من الطرق التي يصور بها الوقت على مثل هذا النحو، ومنها التقويمات وشريط التقدم على «نتفليكس» و«يوتيوب»، والخطوط الزمنية في كتب التاريخ، وما إلى ذلك. وتقترح بعض الأدلة التجريبية القوية، أن مثل هذه الممارسات الرمزية الافتراضية، تؤثر على كيفية إدراكنا للوقت؛ فعلى سبيل المثال، حين تقدم إلى بعض الأمريكيين، مجموعة من الصور تصور أحداثا في مراحل مختلفة (صور لثمرة موز تقشر وتؤكل مثلا)، ثم يطلب منهم أن يقوموا بترتيب الصور في الاتجاه المناسب من البداية إلى النهاية، فإنهم يرتبونها عادة من اليسار إلى اليمين، حيث تكون الصور التي تمثل المراحل المبكرة أقرب إلى الجانب الأيسر من أجسادهم. أما حين يطلب من أفراد ينتمون إلى ثقافات أخرى أداء المهمة نفسها، يتغير الترتيب. في وقت قريب، اكتشفت عالمة اللغويات أليس جابي وعالمة النفس ليرا بوروديتسكي في ثقافة الثايور، التي تقع في شبه جزيرة كيب يورك، أن الأفراد لا يرتبون الصور من اليسار إلى اليمين، ولا من اليمين إلى اليسار (وهو نمط يظهر في بعض الثقافات). بدلا من ذلك، يرتبونها وفقا لمسار الشمس، حيث توضع الصور التي تدل على المراحل المبكرة باتجاه الشرق، والمتأخرة باتجاه الغرب، بصرف النظر عن الاتجاه الذي يقابله الشخص الذي يرتب الصور.
2
إن مثل هذه الاكتشافات تعكس أمرا مهما؛ وهو أن كيفية تفكيرنا في الوقت تعود بصورة كبيرة إلى الممارسة اللغوية والثقافية. وهنا تظهر الأعداد في القصة التي تروي الطريقة التي نفهم بها مثل هذا الجانب الأساسي من حياتنا؛ فمن الواضح أن الأعداد تمس طريقة تفكيرنا بشأن حركة «الوقت»، وسواء أكنا نرى أن الوقت يمر بنا، أم كنا نرى أنه يتحرك على خط زمني أمامنا، فإن هذه «الحركة» يمكن تقسيمها وعدها. فلتفكر مرة أخرى في أشرطة التقدم التي نراها في مقاطع الفيديو المتوفرة على الإنترنت، وكيف أن الأعداد (التي تدل على الدقائق والثواني) تتتبع الأيقونة التي تمثل اللحظة التي تعرض في مقطع الفيديو. والواقع أن الأعداد متغلغلة في التمثيلات المكانية الرمزية للوقت، مثل التقويمات التي تسير من اليسار إلى اليمين والخطوط الزمنية. ويمكننا القول بأن هذا التصور العقلي للوقت، بهذه الطريقة المرتكزة على الأعداد، يحكم حياتنا.
ما الوقت الآن؟ بالنسبة إلي فالوقت الآن، بينما أكتب هذه الكلمات على الساحل الشرقي للولايات المتحدة، هو 10:46 صباحا. ولأننا في ذلك الوقت من اليوم، فأنا في غرفة مكتبي أجلس عليه، ولست في المنزل أو أي مكان آخر. لكن ما الذي يعنيه ذلك الوقت فعلا؟ حسنا، إنه يعني أنه قد مرت عشر ساعات وست وأربعون دقيقة منذ منتصف الليل، لكن ذلك مجرد إعادة صياغة مطنبة لا حاجة لها؛ ما الساعات؟ وما الدقائق؟ الواقع أنها لا توجد بمعزل عن خبرتنا العقلية والعددية؛ إنها ببساطة وسيلة عشوائية لوصف وجودنا بصورة كمية، ووسيلة لتقسيم هذ المرور المجازي للوقت إلى وحدات منفصلة. إنها تدل على أن البشر قد اختاروا في مرحلة ما أن يحددوا كميات الوقت، وأن يعدوا لحظات التجربة. ربما يكون الوقت واقعا يوجد بمعزل عن خبرتنا، لكن الساعات والدقائق والثواني لا توجد إلا في عقولنا، بصفتها وسيلة للانخراط في العالم. ووسيلة الانخراط هذه قد تولدت هي نفسها عن تقاليد ثقافية ولغوية محددة؛ إن وحدات الوقت من الساعات والدقائق والثواني هي نفسها بقايا نظام عددي قديم، وما هذه الوحدات حقا إلا آثار لغوية من حضارات منقرضة.
فلنتأمل في تقسيم كل دورة من دورات الأرض كل يوم إلى 24 ساعة. لم يقسم كل يوم بهذه الطريقة؟ ما من سبب فلكي لهذا التقسيم، فعلى أي حال، يمكننا نظريا أن نقسم اليوم إلى أي عدد نشاء من الساعات. غير أن النظام الذي نستخدمه لضبط الوقت، يدين بوجوده بصورة كبيرة إلى تقليد قد بدأه قدماء المصريين، الذين اخترعوا الساعات الشمسية قبل أكثر من 3000 عام. لقد صممت هذه الساعات الشمسية لتقسيم ضوء النهار إلى اثني عشر جزءا متساويا. وقد جاء نظام التقسيم إلى اثني عشر جزءا نتيجة لاختيار اتخذه المصريون بتقسيم ضوء النهار وفقا لطريقة تلائم ثقافتهم، وذلك من خلال قياس الظل على الساعات الشمسية. أتاح هذا الاختيار وجود عشر وحدات يمكن تقسيمها بدءا من شروق الشمس حتى غروبها، وهو اختيار طبيعي إذ كان قدماء المصريين يستخدمون نظاما عشريا للأعداد كالذي نستخدمه الآن. غير أن مبتكري الساعات الشمسية قد أضافوا وحدتين: إحداهما للفجر والأخرى للغسق، وهما الفترتان اللتان لا تكونان مظلمتين، لكن الشمس لا تظهر فيهما في الأفق. وذلك القرار البسيط الذي اتخذه المصريون بتقسيم ضوء النهار بهذه الطريقة، قد أنتج وحدات الوقت التي تستند إلى العدد 12، فأصبح للأيام طابع اثنا عشري. وكما سنرى في الفصل الثالث، توجد العديد من الأساسات المختلفة في الأنظمة العددية المنطوقة في العالم، لكن النظام الاثني عشري غير منتشر على الإطلاق (وهو مربك بعض الشيء للعديد من الأفراد الذين يستخدمون الأنظمة العشرية على سبيل المثال). بالرغم من ذلك، فبسبب الاختيار الذي اتخذه القائمون على ضبط الوقت من قدماء المصريين، فإن لغتنا وتفكيرنا عن الوقت، يستندان بدرجة كبيرة إلى نظام هو أشبه ما يكون بالنظام الاثني عشري. وقد أصبح هذا النظام مترسخا في حياتنا بشدة في الوقت الحالي، وهو يفرض منظورا محددا على أيامنا. ويعود السبب في تقسيم الليلة إلى اثنتي عشرة ساعة إلى قدماء المصريين أيضا، وكذلك يعود إليهم السبب في تقسيم دورة الليل والنهار التي تتكون من 24 ساعة، والتي نعرفها جميعا الآن، وإن كان ذلك بصورة أقل مباشرة. كان علماء الفلك من الإغريق في العصر الهلنستي، هم الذين قننوا النظام الأخير بصورة أكثر نظامية، بالرغم من ذلك، لم يحظ تقسيم الساعات بدقة إلى وحدات متساوية المدة بالتقدير والاستحسان، إلى أن تم اختراع آلات دقيقة لضبط الوقت. (لم تخترع ساعة البندول، وهي اختراع أساسي لضبط الوقت، حتى منتصف القرن السابع عشر.) ومن ثم، فإن وجود الساعات هو حادثة تاريخية في نهاية المطاف؛ فلو كانت الساعات الشمسية التي ابتكرها قدماء المصريين قد قسمت ضوء النهار إلى عشر وحدات بدلا من اثنتي عشرة وحدة، لأصبح لدينا الآن عشر وحدات في اليوم والليلة على التوالي، بدلا من اثنتي عشرة وحدة، ولأصبحت دورة الأرض مقسمة إلى عشرين «ساعة».
3
وفي حقيقة الأمر، استخدم نظام ضبط الوقت العشري في فرنسا بعد الثورة مباشرة، غير أنه لم يصمد بسبب الترسخ الثقافي للساعات والدقائق. يبدو أن الإطاحة بالملكية وضرب عنق عدد كبير من المواطنين، أسهل على شعب من إعادة توجيه تفكيره وفقا لوحدات جديدة للوقت.
الدقائق والثواني هي أيضا نتيجة قرارات ثقافية ولغوية عارضة، قد اتخذت قبل وقت طويل. ويعزى وجود هذه الوحدات إلى النظام الستيني (على أساس العدد 60) الذي استخدمه البابليون والسومريون من قبلهم. ويبدو أن هاتين الثقافتين هما أول من استخدم هذا الأساس للحسابات الفلكية؛ وذلك لأسباب لا تزال غامضة. حيث يعتقد البعض أن النظام الستيني قد اكتسب شهرة في بلاد الرافدين؛ لأنه يقبل القسمة على الأعداد من 1 إلى 6، وكذلك على 10 و12 و15 و20 و30. ويعتقد آخرون أن مثل ذلك النظام الستيني قد ظهر على الأرجح لأن البشر لديهم خمس أصابع في اليد، ويمكنهم استخدامها في عد المفاصل الاثني عشر الموجودة في أصابع اليد الأخرى، فيما دون الإبهام (و5 × 12 = 60). وبصرف النظر عن هذا، فإن الأنظمة الستينية ليست منتشرة بالقدر الكبير؛ فهي لم تتطور سوى مرات قليلة على مدار تاريخ اللغات في العالم، لكن الطبيعة الستينية لنظام العد البابلي هي السبب في أن الدقائق والثواني تستغرق المدة التي تستغرقها؛ لأن تلك هي وحدات الوقت التي تتوصل إليها حين تقسم الساعات والدقائق من بعدها بهذا الترتيب على ستين. ويمكن للبشر الآن أن يعتمدوا على قياسات مستقلة لتعريف الثواني، مثل المدة التي يستغرقها عدد محدد سلفا من ترددات الطاقة في ذرة سيزيوم، وهذا التعريف هو المقياس في الساعة الذرية. غير أن الاختيار لم يقع على مثل هذا المقياس إلا لأن قيمته تساوي قيمة الثانية التقليدية تقريبا، وهي ليست سوى منتج لنظام عددي قديم، قد جاء بطريقة فعالة للدلالة على الوقت، لكنها قد تكون غير عملية.
خلاصة القول، أن فهمنا للوقت يتأثر بالربط المجازي بين الوقت والمكان. لكن الأهم أن منظور الوقت المستند إلى المكان، يقاس بطرق تعتمد كليا على وجود الأعداد. وعلى وجه أكثر تحديدا يعتمد هذا القياس الكمي على خصائص أنظمة عددية كانت تستخدم قبل ذلك في أماكن مثل بابل القديمة. إن طريقة تفكيرنا في الوقت: على هيئة وحدات منفصلة يمكن قياسها من الساعات والدقائق والثواني، تعود إلى سمات من اللغات والثقافات المندثرة، وهي سمات لا تزال آثارها حاضرة في حياتنا المعاصرة. وهذه الآثار توجهنا باستمرار بشأن كيفية تنظيم خبرتنا اليومية؛ ومن ثم فإن الأرقام القديمة ذات الخصائص الغريبة لا تزال تشكل الطريقة التي نختبر بها الوقت، ذلك الجانب المجرد والأساسي من الحياة. إن حياتنا، رغم كل شيء، تحكمها الساعات والدقائق والثواني، غير أن الوقت لا يحدث فعلا في هذه الوحدات المنفصلة، أو غيرها؛ فتجزئة الوقت إلى وحدات يمكن قياسها ما هي، في حقيقة الأمر، سوى اختراع من العقل البشري.
4
Bog aan la aqoon
إن مناقشة الدور الذي تؤديه الأعداد في تشكيل إدراكنا للوقت، توضح لنا ما للأعداد والاختلافات بين الأنظمة العددية من تأثير فعال في الجانب الإدراكي والسلوكي في حيواتنا. بالرغم من ذلك، فسوف نرى على مدار هذا الكتاب أن اختراع الأعداد قد أثر في حياتنا، وفي قصة البشرية بصفة عامة، بالعديد من الطرق الأخرى التي لا تقل عن ذلك عمقا وأهمية. وقبل أن نتحدث عن هذه الطرق، يجدر بنا أن نعرض خلفية عن نوعنا البشري، وهي أساسية في قصة الأعداد التي يرويها هذا الكتاب، ووثيقة الصلة بها.
الإنسان العاقل: ذلك النوع الحديث
تفيدنا قدرتنا على قياس الوقت عند مناقشة الأصول الحديثة لنوع «الإنسان العاقل». فالأعداد تساعدنا في تصوير مدى حداثة نوعنا؛ فعمر الكون 13,7 مليارا من الأعوام، وعمر الأرض 4,5 مليارات عام، وعمر حقيقيات النوى 3 مليارات عام تقريبا. أما ظهور الرئيسات فقد حدث قبل 65 مليون عام تقريبا. ويشير سجل الحفريات إلى أن أشباه البشر، ومنهم أسلاف البشر، لم يعيشوا إلا لقرابة عشر ذلك الوقت. ويدور قدر كبير من الجدل بشأن تاريخ ظهورنا نحن - البشر المعاصرين - لكننا قد ظهرنا منذ 100000 عام على الأقل. وإذا قبلنا بهذا الرقم الأخير فهذا يعني أننا لم نوجد إلا لعام واحد مقابل كل 130000 عام من عمر الكون. وتلك من السمات التي غالبا ما نغفل عنها بشأن البشر، وهي أننا صغار للغاية. وبالرغم من ذلك فعلى حداثتنا في السن، قد شكلنا بطرق عدة هذا الكوكب الذي لم نعش عليه إلا لفترة صغيرة للغاية من تاريخ وجوده، في بضعة آلاف من الأعوام الماضية فحسب. وسوف نرى أن الأعداد تمثل جزءا كبيرا من كيفية حدوث ذلك، والسبب في حدوثه.
5
توضح البيانات المستفيضة أن نوع «الإنسان العاقل» وسلفه، قد تطور في أفريقيا، وقد بدأت العناصر الأساسية لخصائصنا الجسدية الحالية، تتشكل هناك؛ كالسير على قدمين الذي ظهر بوضوح لأول مرة في الأسترالوبيثسينات، التي ظهرت آثار أقدامها التي تعود إلى 3,7 مليون عام في الرماد البركاني في لايتولي، بتنزانيا. وكذلك ظهرت الأدمغة الأكبر حجما في بعض الأنواع مثل نوع «الإنسان المنتصب» (منذ 18 مليون عام تقريبا)، ونوع «إنسان هايدلبيرج» (منذ ما يزيد عن نصف مليون عام)، وهو النوع الذي تمكن من استكشاف قارات بخلاف أفريقيا، غير أن سجلاته المادية لا تدل على حدوث أي قفزة إدراكية إلى الأمام، مثلما هي الحال في نوع «الإنسان العاقل». وهذه النقطة الأخيرة تشير إلى أمر غاية في الأهمية، وهي أن أسلاف البشر كانوا يتمتعون بدماغ كبير نسبيا، وإن كان لا يزال أصغر من دماغنا، قبل أن نظهر على المشهد بفترة طويلة. وبالرغم من هذه الأدمغة الكبيرة، فإن سلوك أقرب الأسلاف إلينا لم يكن لافتا للنظر عند مقارنته بسلوك غيره من القردة العليا. لم يكن يحمل سوى قدر ضئيل من التشابه مع سلوك البشر المعاصرين، وكذلك سلوك «إنسان النياندرتال»، وهو النوع الشقيق لنوعنا، الذي عاش في أوروبا قبل نصف مليون عام تقريبا، إلى أن انقرض على نحو متسارع نتيجة وصولنا على تلك القارة فيما يبدو.
6
إذن، فيمكننا أن نصف نشوء نوعنا بأنه تغيير جذري حديث، ومن المؤكد أن سلالتنا قد ظلت تتطور على مدار الملايين من الأعوام؛ مما جعلنا على ما نحن عليه اليوم من الناحية الفسيولوجية، غير أن أسلافنا قد عاشوا في معظم هذا الوقت حياة قاسية وقصيرة، وقد كانوا في معظم الأحوال فرائس لغيرهم من الأنواع الأفريقية الأكبر حجما. إننا لم ننجح دائما في التغلب على الأنواع الأخرى في المنافسة بالدرجة التي ننجح بها الآن. وقد تحدثت مؤخرا مع زميل في مجال علم الإنسان، وهو أيضا عالم في الحفريات والآثار، يدرس حفريات العديد من أنواع أشباه البشر في أفريقيا. وقد ذكر أن واحدة من أبرز السمات في هذه الحفريات هي ما تدل عليه من عنف؛ فالعديد منها يحتوي على تمزقات وكسور عظمية، وكثيرا ما تحمل آثار أسنان المفترسات أو نابشات الفضلات، وكثيرا ما توجد هذه الحفريات في مخابئ المفترسات كالأسود، ومعظمها لأطفال وشباب. ومن المحزن أن هذه الأدلة تشير إلى أن العديد من أسلافنا قد عاشوا حياة صعبة وقصيرة، وكانوا يواجهون فيها صعوبة في التنافس مع الكائنات المفترسة المحيطة بهم.
ويمكننا القول بأن قدرا كبيرا من هذه الصعوبة التي كانوا يواجهونها قد جاء نتيجة للجمود الواضح في قدراتهم الإدراكية، ويتضح هذا الجمود في الاختراعات المادية التدريجية التي تظهر في سجل الحفريات على مدار العديد من ملايين السنين؛ فلننظر إلى الفأس اليدوية الحجرية، التي يشير إليها العلماء في مجال علم الإنسان باسم الفأس الأشولية، والتي ابتكرها نوع «الإنسان الماهر» قبل ما يقرب من 1,75 مليون عام. فهذه الفأس المحمولة التي تتميز بفائدتها العملية البارزة، قد كانت أداة مهمة للغاية لأسلافنا، غير أنها بسيطة للغاية مقارنة بالقوس والسهم. وقد اعتمد أشباه البشر عليها وحدها تقريبا على مدار 15 مليون عام. فمع السير على الأقدام، والأدمغة الكبيرة نسبيا، والأدوات البسيطة، يبدو أن أسلافنا قد كانوا على منصة الانطلاق إلى الحداثة، منذ مئات الآلاف من السنوات، غير أن هذا الانطلاق قد فشل إلى أن جاء ما أشعل جذوته حديثا.
بعد المعارك التي كان يخوضها أسلافنا من أجل البقاء في العصر الحجري القديم، اتخذت الأمور منحنى حادا إلى الأفضل. (استمر العصر الحجري القديم من نحو 2,5 مليون عام، إلى نحو 10000 عام مضت.) وفي مرحلة ما خلال مائتي ألف عام ماضية، قبل مائة ألف عام على الأرجح وفقا للسجل الأثري، حدث ما يبدو أنه تغير جذري في تفكير أسلافنا. ويتضح هذا التغير الإدراكي في الأدوات العظمية المعقدة المصقولة، والتي اكتشفت في كهف بلومبوس في جنوب أفريقيا على سبيل المثال، إضافة إلى غيرها من الأدوات التي اكتشفت في ذلك الكهف وغيره من الكهوف، وهو ما سنتناوله بقدر أكبر من التفصيل في الفصل العاشر. وبعد اختراع هذه الأدوات بفترة قصيرة، بدأ البشر في مغادرة أفريقيا بهمة. وتوضح التحليلات الجينية للبشر الذين يعيشون في العصر الحالي أن الشعوب الحديثة غير الأفريقية، هي أحفاد مجموعة صغيرة من نوع «الإنسان العاقل» الذين قد أخذتهم هجرتهم من أفريقيا على الأرجح عبر البحر الأحمر عند مضيق باب المندب.
7
Bog aan la aqoon
ما حدث بعد ذلك كان سابقة من نوعه؛ كما كان غير متوقع على الإطلاق، ذلك أن النوع البشري كان يواجه صعوبة كبيرة، ويواجه تهديدا حقيقيا للغاية بالانقراض. وبالرغم من أن بعض أنواع الرئيسات الأخرى قد غادرت أفريقيا مصادفة، لينتهوا بعد ذلك بصورة أساسية في إقليم حيوي استوائي آخر، فقد بدأ أسلافنا عملية الاستكشاف الإرادي والتي ما زالت مستمرة حتى اليوم. وعلى مدار فترة التجوال في أنحاء العالم، التي استمرت لعشرات الآلاف من السنوات، إلى أن وصل البشر إلى حافة أمريكا الجنوبية قبل ما يقرب من 14000 عام، تمكنا في النهاية من التأقلم مع جميع البيئات الموجودة في العالم تقريبا. لقد تفوقنا في المنافسة مع بعض الأنواع الأخرى في بيئات قاسية مثل التندرا السيبرية، وأدغال تسمانيا، وصحراء أتاكاما، ومعظم البيئات البيولوجية التي تقع فيما بينها. والسجل الأثري يوضح تقدمنا، وباختصار، فقد تكيف البشر على التكيف. وهذا التكيف المستحدث كان سيصبح محالا بدون اللغة والثقافة، وهما السمتان الأبرز لنوعنا.
8
لا تزال أصول نشأة اللغة والثقافة محل جدال كبير، ووفقا لأعمال العديد من العلماء في مجال علم الإنسان، فإن الثورة اللغوية والثقافية لدى البشر قد نتجت بصورة كبيرة عن اعتمادهم على التعاون بدرجة أكبر. وقد كان لهذا الاعتماد جانبان: الجانب الأول هو أن البشر كانوا مجبرين على التعاون للتفوق في المنافسة مع الأنواع الأخرى، وأما الجانب الثاني فهو أن بعض المجموعات المحددة من البشر قد اعتمدت على شكل أكثر تقدما من التعاون، عند التنافس مع مجموعات أخرى من البشر. ويدعم هذا التفسير حقيقة أن البشر ينزعون إلى تحري التعاون مع غيرهم من أفراد النوع البشري، بينما لا يبدو أن مهارة اللغة متأصلة في شفرتهم الوراثية على وجه التحديد. إن أطفال البشر الذين يفتقرون إلى بعض الوظائف الإدراكية الأعلى التي تتمتع بها بعض الأنواع الأخرى من القردة العليا، يتميزون بملاحظتهم الدقيقة لأنشطة التعاون المحتملة مع أفراد آخرين. يبدو لنا إذن أن تأصل التعاون في البنية الأساسية البشرية قد كان، على الأقل، مؤشرا مهما على التحول من أنظمة التواصل البدائية القائمة على الإشارات، التي كانت تستخدمها القردة، إلى أنظمة التواصل الأقوى القائمة على الحديث، والتي استخدمها البشر. وبعبارة أخرى، فإن ما يجعلنا كائنات لغوية هو ليس أننا مزودون فطريا بمجموعة مهارات لغوية محددة، بل أننا قادرون على التعاون، وأننا ننظم وفقا لمبادئ جماعية مهاراتنا الإدراكية، التي يتمتع بالعديد منها أنواع أخرى من القردة الأقل ترابطا. يبدو أن هذا التحرك نحو التعاون كان له دور محوري في مسيرة حياتنا الإدراكية؛ إذ نتج عنه ذلك التحول في نظام التواصل، الذي أسهم في أن يجعلنا بشرا على وجه التحديد. لم يكن لوجود اللغة أن يصبح ممكنا دون تركيزنا على التعاون، وما يتصل به من الانتباه الذي بدأنا في توجيهه لفهم أفكار الآخرين ونواياهم. وأيا كانت أصولها، فلا شك بأن اللغة قد أعادت تشكيل خبرتنا البشرية، ومكنتنا من التفوق قبل مغادرة أفريقيا وبعدها.
9
إن اللغة تشكل طريقة تفكيرنا، وهي تسهل أيضا بعض أنواع عمليات التفكير غير اللغوية. والفائدة الأكبر من ذلك، هي أنها تتيح لنا أشكالا جديدة من التعاون، وتتيح للبشر أن ينقلوا ما توصلوا إليه من حلول للتحديات البيئية إلى بقية أفراد جيلهم والأجيال التالية كذلك. فالكلمات التي هي قنوات الأفكار، أدوات إدراكية تتيح للأفراد تسجيل حلولهم لتلك المجموعة الكبيرة والمتنوعة من المشكلات الحديثة التي تواجههم حين يدخلون بيئات جديدة، والإفصاح عنها. لقد أتاح اختراع اللغة للبشر أن يتوصلوا إلى الأفكار التي تدور في عقول غيرهم من البشر، وأن ينقلوها بكل سهولة، دون أن يضطروا إلى إنتاج أفكار جديدة باستمرار. وقد أتيحت الفرصة لوجود تأثير ترس السقاطة الثقافي العابر للأجيال، الذي ذكرته في الافتتاحية. إننا نظل قادرين على التكيف جيدا على بيئاتنا الحالية، حتى في البيئات الحضرية في العالم الحديث، بفضل الأفكار التي نقلت إلينا من عقول الآخرين منذ طفولتنا، عن طريق اللغة؛ فاللغة وغيرها من الممارسات الثقافية الرمزية تتيح لنا تخزين الأفكار والوصول إليها بسهولة، ومنها الأفكار التي تمكننا من النجاة بأنفسنا وبثقافتنا.
10
رغم أن قصة ظهور اللغة قد ضاعت مع مرور الزمن، أو ربما ظلت عالقة في غبش السجل الأثري بعيدة المنال، فما من خلاف على أهميتها، مثلما أوضحنا هنا؛ فمن الجلي أن الكلمات وغيرها من التمثيلات الرمزية، كانت بمثابة أدوات ناجعة، وربما هي أعظم أدوات قد امتلكناها على الإطلاق. غير أنه لا تزال هناك مجموعة متفرعة من هذه المجموعة من الأدوات اللفظية، وهي الأدوات الإدراكية المتمثلة في الأعداد، والتي أدت دورا مميزا للغاية في تشكيل الإنسانية منذ هجرتها من أفريقيا، بل حتى قبل الهجرة من أفريقيا على الأرجح. وقد مكنتنا هذه المجموعة الفرعية من الأدوات اللفظية، من رؤية الكميات واستخدامها بطرق جديدة. وكما ناقشنا بالفعل، فقد مكنتنا هذه الأدوات المحددة التي نتحدث عنها، من إدراك الوقت بطرق جديدة كذلك. وعلاوة على ذلك يقترح هذا الكتاب أيضا أن هذه الأدوات العددية قد أدت إلى بدء تطور الزراعة والكتابة، ثم أدت بطريقة غير مباشرة إلى تطور جميع التقنيات التي انبثقت عن هاتين الظاهرتين الأخيرتين. إن هذه الأدوات قد غيرت خبرتنا الإدراكية والسلوكية إلى الأبد.
الكميات في الطبيعة، والأعداد في عقولنا
في كثير من الأحيان تكون وظيفة الكلمات هي تسمية الأشياء أو الأفكار الموجودة مسبقا؛ فكلمة «باندا» مثلا تسمي نوعا محددا من الثدييات، وهذا النوع موجود بالفعل، بصرف النظر عن وجود الاسم، غير أن الكلمات تشير أحيانا إلى مفاهيم لا توجد إلا بوجود الكلمات المعنية. فلنتأمل ذلك في ضوء الألوان؛ إننا نتفاعل دائما مع الجزء المرئي من طيف الضوء، وهو جزء ضئيل من نطاق الأمواج الكهرومغناطيسية، وهذا الطيف المرئي من الضوء مستمر دون أي فواصل مادية محددة؛ ولذا فما من نقطة محددة على طيف الضوء تفصل بين الأخضر والأزرق بدقة. ولهذا السبب تتخلى العديد من اللغات عن استخدام مصطلحات مثل «أخضر» «وأزرق»، وتستخدم بدلا من ذلك كلمة للفئة اللونية «أخضرق». بالرغم من ذلك، فإن متحدثي بعض اللغات كالإنجليزية يشيرون إلى هذا التباين اللوني على الدوام، ومن ثم يؤسسون فرقا أوضح بين «الأخضر» «والأزرق»؛ فهم يستخدمون الكلمات للتواصل بشأن أجزاء من طيف الضوء يمكن التمييز بينها على وجه التقريب، غير أنها تفتقر إلى وجود حدود واضحة. وبعض متحدثي اللغات الأخرى، يقسمون طيف الضوء بطرق مختلفة؛ فمتحدثو لغة البيرينمو في نيو غينيا على سبيل المثال يستخدمون المصطلح «وول» والمصطلح «نر»، اللذين يميزان بين جزأين من طيف الضوء، يشار إليهما في الإنجليزية بمصطلح واحد هو «الأخضر». وهذه الاختلافات فيما بين اللغات، تؤثر في كيفية إدراك المتحدثين بها للألوان وتذكرهم لها، تأثيرا طفيفا لكنه أكيد. ومعنى هذا باختصار أن مصطلحات الألوان ليست مجرد أسماء لمفاهيم موجودة مسبقا عن الألوان، ويتشاركها جميع البشر، بل هي تبعث إلى الوجود أيضا مفاهيم أكثر تحديدا للألوان.
11
Bog aan la aqoon
مثلما أن مصطلحات الألوان تحدد أجزاء معينة من الطيف الضوئي وتجسدها، فإن الكلمات وغيرها من رموز الأعداد تولد في حياتنا الذهنية أنواعا معينة من الكميات؛ إذ يتضح أن البشر لا «يرون» الفروق بين معظم الكميات بدون الأعداد. وفي غياب الأعداد لن نختلف في رؤيتنا لكميات الأشياء التي نراها في البيئات الطبيعية عن غيرنا من الأنواع العديدة. فلولا قدرتنا على ابتكار الأعداد واستخدامها، ما امتلكنا الأدوات اللازمة للإبحار تجاه هدف واتجاه محدد، في بحر الكميات المحيط بنا.
قد يبدو الطرح القائل بأن الأعداد اختراع بشري، أمرا غريبا؛ فبالرغم من كل شيء قد يقول البعض: إن وجود بعض الأعداد المتوقعة في الطبيعة، مثل ثمانية (أرجل الأخطبوط) وأربعة (الفصول) وتسعة وعشرين (أيام الدورة القمرية) وما إلى ذلك، كان سيظل قائما بصرف النظر عن وجود البشر على الإطلاق من عدمه. بالرغم من ذلك، فحقيقة الأمر على وجه الدقة هو أن هذه «الكميات» تحدث في الطبيعة بانتظام وحسب، ويمكننا القول إن الكميات والتناظر بين الكميات، يوجد منفصلا عن الخبرة الذهنية البشرية، فسوف تظل أرجل الأخطبوط على الهيئة التي توجد بها في مجموعات منتظمة، حتى وإن لم نكن قادرين على إدراك هذا الانتظام. أما «الأعداد» فهي الكلمات والتمثيلات الرمزية الأخرى التي نستخدمها للتمييز بين الكميات.
12
ومثلما أن مصطلحات الألوان تخلق بينها حدودا ذهنية أوضح على الأجزاء المتجاورة على طيف الضوء المرئي، فإن الأعداد تخلق حدودا إدراكية بين الكميات، وقد تعكس هذه الحدود فرقا حقيقيا بين الكميات في العالم المادي، غير أن العقل البشري لا يتمكن عادة من إدراك هذه الفروق بدون الأعداد.
غالبا ما كانت كلمات الأعداد التي تمثل الكميات، ترى على أنها تسميات ملائمة لأفكار يزود بها البشر فطريا، أو يتعلمونها تلقائيا خلال مراحل نموهم الحيوي. وعلى العكس من ذلك، تشير الأعمال الحديثة إلى أن الأعداد ليست مجرد تسميات فحسب؛ فكما ذكرت عالمة اللغة واختصاصية الأعداد هايكا فيسا ملحوظتها الثاقبة: «تمدنا اللغة بأمثلة على الأعداد، هي الكلمات التي يمكن أن نستخدمها مثلما نستخدم الأعداد، لا كمحض أسماء نستخدمها للإشارة للأعداد والتفكير بشأنها.»
13
إن معظم الكميات المحددة لا توجد في عقولنا في غياب الأعداد. ربما يكون هذا الزعم مفاجئا للبعض، غير أنه مدعوم بالعديد من الأدلة التجريبية، أما الزعم بأن الأعداد هي محض أسماء لأفكار موجودة مسبقا، فهو زعم لا تؤيده أدلة كافية؛ لقد اتضح أن البشر، كالحيوانات الأخرى، لا يستطيعون دوما أن يميزوا بين الكميات المحددة فيما يتجاوز الثلاثة بدون وجود الأعداد. أما فيما يتجاوز الثلاثة، فلا يمكننا سوى تقدير كمية الأشياء التي يستقبلها إدراكنا، إذا لم نكن نعرف الأعداد. ويؤيد هذا الاستنتاج دراسات تجريبية حديثة أجراها العديد من الباحثين (بمن فيهم أنا) على الأفراد الذين لا يعرفون أي أعداد، وتؤيده أيضا الأبحاث التي أجريت على الأطفال الرضع وغيرهم من الأطفال الذين لم يتعلموا الأعداد بعد. سوف نناقش هذه النتائج بالتفصيل في الجزء الثاني، ومثلما سنرى فإننا لا يمكننا تفكيك المعوقات الفطرية التي تمنعنا من تمييز الكميات إلا من خلال أدوات الأعداد.
بالرغم من ذلك، علينا أن نقر بأن هذا التفسير يطرح لنا مفارقة، وهي: إذا كان البشر لا يستطيعون أن يفكروا في الكميات بدقة إلا من خلال الأعداد، فكيف توصلوا إلى اختراع الأعداد في المقام الأول؟ والنقطة الأولى التي سنوضحها في الإجابة عن ذلك السؤال هي أن هذه المفارقة تنطبق على جميع الاختراعات البشرية، في بعض الجوانب على الأقل. فلكي يحدث أي اختراع، لا بد للبشر أولا أن يدركوا مفهوما لا يدركونه عادة وبتلقائية. إن الاختراعات ليست متأصلة في شفرتنا الوراثية، بل نصنعها من سلسلة من الأفكار التي ندركها، وغالبا ما تكون أفكارا بسيطة. إننا لم نفطر على التفكير في أشياء كنقاط الارتكاز أو المسامير اللولبية أو العجلات أو المطارق أو غيرها من الأدوات الميكانيكية الأساسية، غير أننا قد طورنا جميع هذه الأدوات عبر مجموعة كبيرة مختلفة من الأفكار. فلنتأمل العجلة على سبيل المثال، هذه الأداة البسيطة العملية؛ إننا نجد أنه يكاد يكون من المستحيل «ألا» يخترع البشر هذه الأداة ، نظرا إلى وعينا بدحرجة الأشياء الدائرية في بيئاتنا الطبيعية. بالرغم من ذلك، فالعجلة ومحور الدوران من الاختراعات الحديثة نسبيا، والتي لم توجد في العديد من الثقافات السابقة (ومنها بعض المجتمعات الكبيرة مثل الإنكا)؛ ولهذا، بالرغم من بساطتها وسهولة إدراك مفهومها، لا يمتلك البشر مفهوما «فطريا» للعجلة. وبالمثل فإن أداة لفظية كالكلمة «سبعة»، تبدو أمرا مسلما به للغاية حين نعرفها، وبالرغم من ذلك فإن بعض الأفراد لا يعرفون الكمية المحددة التي تشير إليها. ومثلما أنهم قد يكونون لا يعرفون العجلات، لكنهم يفهمون فائدتها بسرعة حين يرون عجلة فعلية، فإنهم لا يتعلمون مفهوم وجود سبعة أشياء بالتحديد إلا حين يتعلمون الكلمة التي تمثل ذلك المفهوم؛ ولهذا السبب البسيط فإن مفردات الأعداد لا تيسر العمليات الحسابية المعقدة فحسب، بل تيسر أيضا مجرد التفريق بين الكميات التي تزيد عن ثلاثة، وتمييزها. (وسنناقش الأدلة التجريبية على هذا الاستنتاج في الجزء الثاني.)
بالرغم من ذلك، فربما قد لاحظت أنني لم أحل المفارقة تماما، وإذا أعدنا صياغتها بطريقة مختلفة يمكننا أن نطرح السؤال التالي: كيف تمكن أفراد لا يمتلكون أعدادا من إدراك أن مثل هذه الكلمات يمكن أن تعبر عن الكميات، إذا كانت الأعداد ضرورية لإدراك الكميات المحددة؟ يمكنك أن تعتبر ما يلي بمثابة تعهد على ذكر تفسير أكثر تفصيلا في الجزء الثالث من هذا الكتاب: فلتتخيل أن بعض الأفراد من نوعنا قد أدركوا في نقاط زمنية مختلفة، أنه يمكن أن يمتد معنى كلمة موجودة بالفعل، ليمثل كمية محددة أكبر من ثلاثة. (فأدركوا مثلا أن كلمة «يد» يمكن أن تشير إلى العدد خمسة، وليس الطرف المادي فحسب.) إن هذه الفكرة البسيطة هي صميم اختراع الأعداد، غير أن أفراد نوعنا لا يولدون ومثل هذه الفكرة متأصلة فيهم، مثلما أننا لم نولد وفكرة وجود العجلات متأصلة فينا، أو فكرة أن السفن المصنوعة من الصلب يمكن أن تطفو، أو فكرة أن الطائرات المصنوعة من الألومنيوم يمكن أن تطير. بالرغم من ذلك، فحين اكتشف مخترعو الأعداد أنه يمكن استخدام الكلمات للتمييز بين الكميات، مثل التمييز بين خمسة وستة، مكنهم ذلك من تأسيس طريقة جديدة للتفكير بشأن الكميات، وقد بدأ آخرون في استخدامها. ومن خلال ذلك الاستخدام انتشرت الأعداد.
مثلما سأوضح بقدر أكبر من التفصيل في الفصل الثامن، فإن حقيقة أن بعض البشر تمكنوا من اختراع الأعداد، يعود بشكل كبير إلى عوامل تتعلق بالتشريح. إن الفكرة البسيطة التي تتمثل في وجود كميات كبيرة محددة، وفي إمكانية تسميتها، قد تولدت بصفة عامة عن حقيقة وجود كميات تتكرر بانتظام أمام أعيننا تماما. إننا نمتلك خمسة أصابع في كل يد، وتقدم لنا الحياة دائما مجموعات متطابقة تتكون من خمسة عناصر لم نزود مسبقا بالقدرات الإدراكية اللازمة لتمييزها، مثلنا في ذلك مثل الحيوانات الأخرى. غير أن البشر قد تمكنوا مصادفة من إدراك هذا التناظر، ويبدو هذا التناظر واضحا للغاية، غير أن مجرد إدراك هذا التناظر البيولوجي، لا يؤدي بالضرورة إلى اختراع الأعداد؛ فمن الممكن ألا يتم تمييز الكميات، وحتى الأصابع الخمسة في كل يد، إلا بطريقة عابرة. بالرغم من ذلك، عند معرفة كلمة مثل «خمسة» ثم استخدامها بشكل مثمر لوصف كمية الأصابع في كل يد، فإن ذلك يؤدي إلى اختراع الأعداد. وهذا المسار التشريحي العام الذي يفسر اختراع الأعداد، يدعمه الكثير من البيانات اللغوية، مثل تكرار التشابه بين كلمة «خمسة» وكلمة «يد» في لغات العالم. (سنوضح هذه النقطة بالتفصيل في الفصل الثالث.)
Bog aan la aqoon
إن اختراع الأعداد الذي تم في أوقات مختلفة على مدار التاريخ البشري، لم ييسر تفكيرنا بشأن الكميات فحسب، بل مكنتنا الأعداد من أن نكون قادرين دائما على التمييز بين الكميات التي تزيد عن ثلاثة، بدقة وبصورة منتظمة. وسوف نوضح هذه الفرضية بشكل أفضل على مدار هذا الكتاب، أما في الوقت الحالي فإنني آمل أن أكون قد حددت بوضوح أكبر ما أعنيه حين أقول إن الأعداد أدوات إدراكية ثورية قد اخترعها البشر. ويقترح هذا الكتاب أن اختراع الأعداد وانتشار استخدامها على نطاق واسع، قد أدى إلى إعادة توجيه البشر إدراكيا وسلوكيا. فربما كانت الأعداد هي الأداة الوحيدة الأكثر تأثيرا في مجموعة الأدوات اللغوية التي أتاحت التحول الحديث لنوعنا، والذي ناقشناه في جزء سابق. إضافة إلى ذلك، فقد مكنتنا من جميع أنواع الاختراعات الأحدث منها، والتي سنناقشها لاحقا في هذا الكتاب، أو سهلتها لنا على الأقل. وبدون هذه الأدوات الإدراكية، لم تكن الثورة الزراعية لتحدث على الأرجح، ولم تكن الثورة الصناعية لتحدث بالتأكيد.
إلى أين سيأخذنا هذا الكتاب؟
يقدم هذا الكتاب توليفة من الأدلة المستقاة من مجال علم الإنسان، والأدلة اللغوية والنفسية، وهو يأخذ في الاعتبار بيانات من الجماعات البشرية وكذلك الحيوانات. وجميع هذه البيانات تؤدي بإصرار إلى الاستنتاج البسيط الذي تنبأنا به بالفعل، وهو أن الأعداد قد كانت بمثابة دعامات إدراكية وسلوكية أساسية، فأسهمت في تأسيس الصرح الأكبر للحداثة.
في القدر المتبقي من الجزء الأول، سوف نبحث في مدى تغلغل الأعداد في الخبرة البشرية، وسوف نركز على التمثيلات الرمزية للكميات في السجلات الأثرية والمكتوبة (الفصل الثاني)، وفي الحديث كذلك، وسوف نستطلع كلمات الأعداد (الفصل الثالث) وغيرها من الإشارات اللغوية إلى الكميات، في اللغات حول العالم. وتقترح البيانات التي سترد في هذه الفصول أن الأعداد مكون أساسي في جميع لغات العالم تقريبا، وكذلك جميع الأنظمة الرمزية غير اللفظية القديمة. إضافة إلى ذلك، فإن جميع النتائج التي فحصناها، تؤكد أهمية التشريح البشري وعلم الأعصاب في اختراع الأعداد واستخدامها.
وفي الفصل الثاني سنتناول الدور الذي قامت به الأعداد في تاريخ البشرية، وذلك من خلال تفصيل ما يرتبط بهذا الموضوع من نتائج جمعت من بالغين لا يعرفون الأعداد (الفصل الخامس). وسوف نفحص أيضا الإدراك العددي لدى الأطفال الذين لم يكتسبوا مهارة اللغة بعد (الفصل السادس)، وكذلك المهارات العددية لدى الأنواع الأخرى، التي يرتبط العديد منها بنوعنا ارتباطا وثيقا (الفصل السابع). وسيركز هذا الفحص على الدراسات الحديثة التي أجراها علماء الإنسان وعلماء اللغة في أماكن بعيدة في معظم الأحوال، وكذلك الدراسات المستندة إلى المختبرات، التي أجراها الباحثون في فروع أخرى من مجال العلوم الإدراكية.
وفي الجزء الثالث من هذا الكتاب ، سوف نرى كيف أن الأعداد قد شكلت معظم الثقافات المعاصرة، وسوف نتناول الكيفية التي اخترعت بها الأعداد والعمليات الحسابية الأساسية على الأرجح (الفصل الثامن). وأنا أقترح أيضا أن اللغة العددية قد أسهمت في تغيير أنماط إعاشة البشر (الفصل التاسع). وسوف نرى كيف أن الأعداد قد أتاحت ازدهار بعض التقنيات المادية والسلوكية الأخرى، وهي تقنيات قد أدت إلى أحداث مهمة في التاريخ البشري الحديث. وأخيرا ينتهي الكتاب بتناول بعض الطرق المحورية التي قد غيرت بها الأعداد الثقافات البشرية من الناحية الاجتماعية والروحية، وإن كان ذلك بطريقة غير مباشرة على الأقل (الفصل العاشر).
الفصل الثاني
الأعداد منقوشة في ماضينا
فوق أرض الغابة، وفي صميم قلب غابات الأمازون البرازيلية، بالقرب من مدينة مونتي أليجري العتيقة، توجد مجموعة من الرسومات على كهف بجانب أحد التلال وبعض الجدران البارزة. وهذه الرسومات التي أبدعها فنان من السكان الأصليين قبل أكثر من 10000 عام، ووثقتها بعناية شديدة عالمة الآثار آنا روزفلت، قد أسهمت في تغيير فهمنا لتاريخ ما قبل الاستعمار في الأمريكتين. في إحدى اللوحات، نجد مجموعة من علامات
x
Bog aan la aqoon
المرسومة في ترتيب شبكي. ووظيفة هذه الرسمة، التي هي أشبه بالمخطط منها بالعمل الفني، ليست معروفة على وجه اليقين، لكن الأرجح أن هذه العلامات تشير إلى كميات: للأيام، أو للبدور أو غيرها من أنواع الدورات الثمينة التي ضاعت بمرور الزمن، تدل هذه الرسمة على توجه أكبر. على مدار العقود العديدة الماضية، اكتشف علماء الآثار العديد من قطع الأدلة التي تشير إلى أن القدماء كانوا يولون اهتماما للكميات، وقد كانوا يمثلون هذه الكميات في بعدين؛ فلم يكونوا يمثلونها على هيئة كتابة رمزية مكتملة الملامح، بل بالعلامات المرسومة على جدران الكهوف، والعلامات المنقوشة على الخشب والعظام. وعلامات العصي تلك هي علامات رمزية من حيث إنها ترمز إلى شيء آخر، لكنها لا تمثل الكميات بطريقة رمزية مجردة تماما كالأرقام الفعلية المكتوبة؛ فالرقم سبعة، على سبيل المثال، يشير إلى مجموعة تتكون من سبعة عناصر، بغض النظر عن نوع هذه العناصر. يمكن تسمية هذه العلامات البدائية «أرقام ما قبل التاريخ»؛ فهي مؤشرات شبه رمزية على الأرقام الحديثة المكتوبة. فلتتأمل الرقم 3 في الأرقام الرومانية
III
إنه أكثر شبها بتمثيل ثلاثة عناصر بطريقة العد بالعصا فحسب. حتى الأرقام التي نستخدمها، والتي تعود إلى أصل هندي، تحمل آثارا واضحة على نظام العد بالعصا؛ فالرقم 1 مثلا، يمثل بعلامة عصا واحدة.
1
على بعد 5000 كيلومتر من مونتي أليجري، في ليتل سولت سبرينج بفلوريدا، اكتشف طلاب علم الآثار من جامعة ميامي في وقت قريب جزءا كبيرا من قرن أحد غزلان الرنة، يعود تاريخه هو أيضا إلى ما يقرب من عشرة آلاف عام قبل الآن. تظهر صورة حديثة لهذا القرن في الشكل
2-1 ، وكما توضح الصورة، توجد مجموعة من الخطوط المنقوشة على جانب القرن، وهي خطوط منتظمة للغاية، ويبلغ طول كل منها خمسة ملليمترات تقريبا. إضافة إلى ذلك، فالمسافة بين الخطوط متسقة بدرجة كبيرة، مما يوحي بأن هذه العلامات قد نقشت عن قصد وبشكل منهجي. وبجوار هذه العلامات توجد نقوش صغيرة، يتوازى كل منها مع الخطوط الأكبر. وتوحي هذه الخطوط الثانوية الصغيرة بأن العظمة كانت تستخدم لمتابعة تقدم شيء ما. (في الشكل
2-1 ، تظهر النقوش الثانوية إلى اليسار قليلا من الخطوط الأساسية على القرن.) لقد غفل الكثيرون عن أهمية قطعة قرن الوعل؛ فهي لم توصف إلا مؤخرا في دورية متخصصة في مجال علم الإنسان، دون الإشارة إلى ما يترتب عليها من نتائج أعم. بالرغم من ذلك، فعلى العكس من رسمة مونتي أليجري، يمكن لنا أن نطرح فرضية تتسم بدرجة كبيرة من المنطقية، بشأن وظيفة العلامات الموجودة على القرن. إن هذه العلامات توحي بالفعل بأن هذه القطعة من القرن هي أقدم أداة معروفة في العالم الجديد، استخدمت لأهداف تتعلق بالتقويم، وتوجد العديد من الأدلة التي تؤيد هذا الاستنتاج.
2
شكل 2-1: قرن غزال الرنة المكتشف في ليتل سولت سبرينج بفلوريدا، مع يد زميل لتوضيح الحجم. الصورة الفوتوغرافية من التقاط المؤلف.
إن المياه في ليتل ووتر سبرينج فقيرة بالأكسجين (فهي تفتقر إلى الأكسجين المذاب) فيما يزيد عن عمق 5 أمتار تحت السطح. والقطعة المعنية، وهي جزء مستو من قرن، ويبلغ طولها 8 سنتيمترات تقريبا وتزن ما يقرب من خمسين جراما، قد اكتشفت على عمق 8 أمتار. لقد كانت محاطة بالماء الفقير بالأكسجين منذ أن قطعت قبل 10000 عام تقريبا، والآثار لا تتلف في الماء الفقير بالأكسجين بالدرجة التي تتلف بها في الماء المعتاد؛ إذن فالقرن محفوظ بعناية شديدة؛ ولهذا يمكننا أن نثق بأن عدد العلامات الموجودة على جانبه هو نفسه العدد الذي نقشه ذلك الفنان قبل كل هذه الأعوام. إضافة إلى ذلك، فقد اكتشف القرن مغروسا في الأرض بجوار حافة جرف تحت الماء، ولم يكن هذا الجرف مغمورا تحت المياه في العصر الجليدي الذي صنعت فيه هذه الأداة، حين كانت مستويات المياه المحيطة بفلوريدا أقل انخفاضا مما هي عليه الآن بدرجة كبيرة. وقد كانت القمة المنحدرة لهذا الجرف تستخدم بمثابة موقع صيد في ذلك العصر؛ فقد اكتشفت هناك العديد من بقايا الحيوانات والأسلحة، وذلك على يد عالمي الآثار البحرية بجامعة ميامي؛ جون جيفورد، وستيف كوسكي، وطلابهما. وقد قام هذا الفريق البحثي بوصف هذه البقايا والأسلحة المعنية وأرخها بدقة، واكتشف أنها تعود إلى العصر ذاته الذي ينتمي إليه القرن المنقوش. ونظرا لأن قرن غزال الرنة قد اكتشف في هذا الموقع، فمن المنطقي أن نفترض أن العظمة كانت تستخدم لغرض متعلق بالصيد. ولدينا دليل آخر مهم يدعم هذا الاستنتاج الأخير، وهو أن قطعة القرن قد نقش بها تسعة وعشرون خطا أساسيا، ولدينا الآن جزء مكشوط، حيث كان به أحد هذه الخطوط كما يدل على ذلك وجود نقش أصغر بجوار ذلك الجزء المكشوط. وأحد هذه الخطوط الموجودة في المنتصف أقل انتظاما؛ ولهذا فقد يكون ثمانية وعشرون خطا فقط هي التي نقشت عن قصد، غير أن هذا الاحتمال الأخير يبدو غير مؤكد؛ إذ إن المسافة بين العلامات متساوية، كما يتضح في الشكل
Bog aan la aqoon
2-1 .
ولأنه من الواضح أن ليتل سولت سبرينج كانت تستخدم بمثابة موقع صيد في العصر الحجري، فمن المحتمل أن تكون العلامات الموجودة على القرن تمثل الأيام أو الليالي. فأطوار القمر تؤثر في ممارسات الصيد نظرا إلى بعض العوامل مثل تغير سلوك بعض الحيوانات في طور البدر، وتأثير ضوء القمر على حدة رؤية الصيادين؛ ومن ثم فالأرجح أن المصفوفة المنقوشة على القرن، التي تتكون من تسعة وعشرين خطا، تمثل عدد الأيام في الشهر القمري، الذي يمتد على مدار 29 يوما ونصف اليوم في المتوسط. ويدعم هذا التأويل التقويمي دليل موجود على القرن، لكنه أقل وضوحا؛ وهو أنه لا يوجد نقش صغير بجوار أحد السطور الطرفية في سجل العلامات (السطر الطرفي السفلي في الشكل
2-1 ). ويوحي لنا ذلك بأنه لم يكن ثمة حاجة إلى نقش علامة أصغر بجوار العلامة الأكبر، أي إن تسجيل العلامة الأخيرة لم يكن ضروريا على ما يبدو. وذلك هو ما كان سيحدث بالتأكيد إذا كان أحد الصيادين يتابع تقدم دورة القمر؛ فلن يكون هناك حاجة إلى تسجيل حدوث البدر/الهلال، في الليلة الفعلية المعنية، وسيكون الصياد مدركا تماما أن البدر أو الهلال قد حل. وبالنظر إلى هذه العوامل، وكذلك اكتشاف الأداة في موقع مرتبط بالصيد؛ فإن الاستنتاج الأرجح والجدير بالملاحظة بشأن قطعة القرن، هو أن الصيادين كانوا يستخدمونها أداة لعد الأيام/الليالي في الشهر، ثم عدها من جديد. ومعنى هذا أن البشر قبل ما يزيد على 10000 آلاف عام، وفي مكان غير بعيد عن ميامي التي نعرفها في الوقت الحاضر، كانوا يستخدمون العلامات الخطية لمتابعة تقدم الكميات. وقد كانت أرقام ما قبل التاريخ تتمثل في علامات العصي المنقوشة على جزء من قرن غزال قد قطع إلى حجم مناسب حتى يمكن حمله بسهولة في قبضة اليد. لقد كان ذلك بصفة أساسية تقويم الجيب في العصر الحجري، وقد حفظ مصادفة في مياه فقيرة بالأكسجين. (ومن المفترض أن العديد غيره لم يحفظ.)
بالرغم من أن «التقويم» المصنوع من قرن الغزال، والمكتشف في ليتل سولت سبرينج، قد يمثل أحد أوضح الأمثلة على الآلات الحجرية التي استخدمت لمتابعة دورة القمر، فمن المؤكد أن البشر الذين استخدموه لم يكونوا هم البشر الوحيدين في العصر الحجري الذين استخدموا نقش علامات العصي على العظام لمتابعة الكميات؛ ففي كهف جروت دي تاي في جنوب فرنسا على سبيل المثال، اكتشفت لوحة عظمية صغيرة منقوشة، ويعود تاريخها أيضا إلى العصر الحجري الحديث. ويظهر على سطح عظمة الضلع مئات الخطوط المنقوشة، وتوضح بعض التحليلات أن هذه الخطوط كانت تستخدم لأغراض تتعلق بالتقويم. ومن الأدوات الأخرى التي اكتشفت في فرنسا، لوحة أبري بلانشارد، وهي عظمة يعود تاريخها إلى 28 ألف عام، وتظهر عليها نقوش دائرية وبيضاوية تمثل على الأرجح أطوار القمر وحركته. إضافة إلى ذلك، يبدو أن البشر في أوروبا في العصر الحجري الحديث، كانوا يستخدمون نظام عصي أقل تعقيدا، لتمثيل الكميات، وذلك يشبه كثيرا استخدام بشر العصر الحجري العلوي القديم الذين كانوا يعيشون فيما نعرفه اليوم بفلوريدا. ويؤيد هذا الاستنتاج نموذج لنظام عصي بسيط، قد اكتشف أيضا في فرنسا، وهو عظمة أبري سيليه أفيان التي تقترب في العمر من أداة أبري بلانشارد. تحتوي عظمة أبري سيليه على علامات خطية، تفصل بينها مسافة منتظمة بدرجة كبيرة، مثل قرن ليتل سولت سبرينج. ولا يوجد بجوار العلامات نقوش أصغر، كالتي تتضح في قطعة ليتل سولت سبرينج، وهي لا تمثل الكمية 29 أو أي كمية أخرى يمكن فهم أسباب تمثيلها بعلامات العصي. بالرغم من ذلك، فإن أحد التحليلات الحديثة يوضح أن عظمة أبري سيليه، لا تختلف عن أداة جروت دي تاي وأداة أبري بلانشارد؛ فهي تقدم دليلا على أن مخترعها، أو مخترعيها، قد عمدوا إلى تمثيل المفاهيم العددية بطريقة مادية.
3
يبدو لنا إذن أن البشر في أوروبا وأمريكا الجنوبية وأمريكا الشمالية، كانوا يمثلون الكميات في بعدين منذ آلاف السنوات. ونحن لا نعلم على وجه اليقين ما إذا كانت أرقام ما قبل التاريخ تستخدم مع مفردات الأعداد أم لا، لكن بالنظر إلى الدور الذي تؤديه مفردات الأعداد في تيسير عملية التفكير الرياضي وتمييز الكميات المتكررة (انظر الفصل الخامس)، فإن هذه الأدوات تدل بالفعل على أن مخترعيها كانوا يستخدمون اللغة العددية. إننا لا نعرف بصورة واضحة طول المدة التي كان البشر يستخدمون فيها أرقام ما قبل التاريخ المنقوشة والمرسومة، لكنهم كانوا يستخدمونها على الأرجح على مدار عشرات الآلاف من الأعوام. في هذا الفصل وفي الفصلين الثالث والرابع، سوف أوضح استنتاجا بسيطا يتضح في البيانات الأثرية العالمية واللغوية كذلك، وهو أن البشر كانوا منشغلين دائما بتمثيل الكميات. إن مصطلحات الكميات تؤدي دورا طاغيا وشاملا تقريبا، في لغات البشر المعاصرة، مما يدل على دورها البارز في تاريخ الكلمة المنطوقة. وبالمثل، فإن تركيز البشر على الأعداد يبرز في السجل الأثري وفي تاريخ أنظمة الكتابة؛ فالأعداد منقوشة بالفعل على سجلنا التاريخي.
مثلما هي الحال في جميع النقاشات عن تطور الأنظمة الرمزية البشرية، فإن تركيزنا يتحول بالضرورة إلى أفريقيا. وبصورة أكثر تحديدا، يسترعي انتباهنا إقليم صغير في الكونغو، وهو الإقليم الذي كان عالم الجيولوجيا البلجيكي، جون دي هينزيلين، قد اكتشف فيه في العام 1960 قصبة ساق أحد حيوانات البابون يبلغ طولها 15 سنتيمترا، ويوجد عليها بعض النقوش. وبعد تأريخ هذه العظمة، التي سميت بعظمة إيشانجو، على اسم المكان الذي اكتشفت فيه في بحيرة إدوارد، اتضح أنها تبلغ من العمر عشرين ألف عام على الأقل. وعلى جوانب العظمة التي يقترب شكلها من الأسطوانة، يوجد ثلاثة أعمدة من الخطوط التي تظهر فيها علامات مجمعة في مجموعات. ومنذ اكتشاف هذه العظمة يدور جدل حاد بشأن دلالة هذه المجموعات؛ فقد اقترح البعض أن المجموعات تشير إلى استخدام النظام العددي الاثني عشري (الأساس 12) أو الوعي بالأعداد الأولية، أو النظام العشري. غزيرة هي الفرضيات؛ لأننا لا نعرف الغرض الذي استخدمت العظمة لأجله بالتحديد، غير أننا نعرف بالتأكيد أن الخطوط التي تمتد على جوانب العظمة، متوازية تقريبا مع مثيلاتها من الخطوط الموجودة في الأعمدة الأخرى. (وتختلف الخطوط في الاتجاه اختلافا طفيفا، وهي تختلف أيضا بعض الشيء في الطول.) والأهم من ذلك أن الكميات التي تظهر في مجموعات العلامات ليست عشوائية؛ فالعمود الأول يتضمن العدد التالي من الخطوط، بالترتيب من الأعلى إلى الأسفل: 3، 6، 4، 8، 10، 5، 5، 7 (المجموع = 48). ويتضمن العمود الثاني مجموعات تتكون بالترتيب من 11 و21 و19 و9 (المجموع = 60). وكالعمود الثاني، يتضمن العمود الثالث أيضا 60 خطا، لكنها ترد في مجموعات تتكون من 11 و13 و17 و19. وجميع الأعداد في هذا العمود الأخير هي أعداد أولية، وتلك مصادفة على الأرجح، لكن ما يبدو مصادفة أقل هو تساوي المجموع الكلي للعلامات في العمودين؛ فهو يبلغ ستين في كلا العمودين. إضافة إلى ذلك، لدينا احتمال واضح بأن العمود الأول يشير إلى نمط من أنماط المضاعفة، نظرا إلى وجود مجموعات متجاورة هي عبارة عن 3 / 6، و4 / 8، و5 / 10 على التوالي.
4
ربما تكون الفرضيات المتنوعة الجذابة بشأن العلامات الموجودة على الجوانب، هي السبب في أننا عادة ما نغفل بشأن عظمة إيشانجو حقيقة بسيطة لكنها هامة، وهي أن أحد طرفي العظمة تبرز منه قطعة حادة من معدن المرو، وهي سن مدببة ملحقة بها، من الواضح أنها كانت تستخدم في النقش. يبدو أن عظمة إيشانجو كانت تستخدم بمثابة قلم رصاص في العصر الحجري؛ لقد أمسك شخص ما بهذه العظمة بين أصابعه ذات مرة، واستخدمها للنقش على أشياء أخرى؛ عظام على الأرجح. والاستنتاج البارز هنا هو أن جوانب العظمة ربما كانت تستخدم بمثابة جدول مرجعي عددي للشخص الذي يحملها، بينما يقوم هو بدوره بتسجيل كمية من العناصر أو الأحداث، بشكل تفصيلي، على جانب عظمة أخرى أو قطعة خشب، أي إن هذه العظمة كانت تستخدم لهدف فعلي ونظري في الوقت ذاته. إنها تبدو كمسطرة للعصر الحجري؛ فالكميات ممثلة على جوانبها لتيسير عملية مضاعفة هذه الكميات وغيرها بدقة. إن هذه العظمة تشير إلى أن بعض سكان أفريقيا كانوا يجرون عمليات المضاعفة على أرقام ما قبل التاريخ، منذ عشرين ألف عام على الأقل.
وبعض العظام الأفريقية الأخرى التي تظهر على جوانبها خطوط منقوشة، يعود تاريخها إلى أبعد من ذلك، وينطبق الأمر نفسه على بعض العظام المكتشفة في أوروبا، مثل عظمة الذئب التي يبلغ عمرها 33 ألف عام، والتي تحتوي على خمس وخمسين علامة على أحد جوانبها، وقد اكتشفت في جمهورية التشيك، غير أن وظائف معظم هذه المنقوشات القديمة للغاية قد ضاعت للأبد على الأرجح. بالرغم من ذلك، يبدو لنا أن إحدى العظام الأفريقية، وهي أقدم كثيرا من عظمة إيشانجو؛ إذ يقدر عمرها باستخدام وسائل التأريخ بالكربون المشع بحوالي 43000 عام أو 44000، كانت تستخدم لأهداف تتعلق بالرياضيات، اكتشفت هذه العظمة في سلسلة جبال ليبومبو التي تمتد على الحدود بين جنوب أفريقيا وسوازيلاند، وتوجد أيضا على جوانبها خطوط منقوشة. عظمة ليبومبو هي قصبة ساق إحدى حيوانات البابون، وهي شبيهة في الحجم بعظمة إيشانجو، لكنها كانت تستخدم لوظيفة أقل تعقيدا، أو أوضح على الأقل؛ فهي تحتوي على تسعة وعشرين خطا منقوشا على أحد جوانبها، ومن ثم فقد كانت تستخدم على الأرجح لتتبع دورة القمر، مثل قرن الغزال المكتشف في ليتل سولت سبرينج. وبالرغم من أن هذا التفسير ليس مؤكدا؛ إذ إن العظمة مكسورة من كلا الطرفين، وهي ليست مقطوعة بانتظام كقرن ليتل سولت سبرينج، فهو تفسير منطقي في ضوء ما سبق ذكره من أهمية دورة القمر بالنسبة إلى الجماعات البشرية، وكذلك في ضوء حقيقة أن بعض الشعوب الأفريقية المعاصرة تستخدم تقويمات العصي المشابهة لها.
Bog aan la aqoon
5
ما يتضح لنا من كل هذه العظام التي يتضمنها السجل الأثري، هو أن البشر كانوا يسجلون الكميات بطريقة مادية، باستخدام أرقام ما قبل التاريخ منذ عشرات الآلاف من الأعوام. فلطالما كنا مهتمين بتسجيل الكميات ومتابعتها، سواء أكانت دورة القمر التي تتكون من 29 يوما، أو غيرها من فئات الكميات التي تحدث في الطبيعة. ويتضح هذا الاهتمام الذي تمسكنا به طويلا، على مستوى العالم؛ إذ ظهر لدى الشعوب التي أتت لتقيم في فلوريدا، والأمازون، وجنوب فرنسا، وفي وسط أفريقيا وجنوبها، ومن المؤكد أن العديد من المواقع الأخرى لا تزال بها أدوات مدفونة.
القليل فقط من التقنيات التي ابتكرها البشر، كان لها هذا القدر من التأثير الذي حققته أنظمة العصي الأساسية. وقد أدت أنظمة العصي الأكثر تعقيدا دورا أكثر أهمية في أوروبا وغيرها من الأماكن في الألفية الماضية، ولا تزال بعض أنظمة العصي الأساسية تستخدم حتى الآن. ومن الأمثلة المتعددة على هذه الأنظمة، سوف نلقي نظرة على نظام العصي الذي تستخدمه قبيلة جاراوارا، وهم مجموعة من السكان الأصليين يبلغ عددهم مائة فرد، ويعيشون تحت ظل غابات الأمازون الكثيفة في الجنوب الغربي، وهم يعيشون بصفة أساسية على الصيد والتقاط الثمار. لا يزال هؤلاء الأشخاص بارعين في استخدام أساليب البقاء التقليدية، والعديد منهم أيضا على بعض الدراية بالحياة المتمدنة في البرازيل. وقبل خمسة أعوام فقط، كنا نعتقد أن هؤلاء الأفراد يفتقرون إلى وجود أعداد خاصة بهم من أي نوع. بالرغم من ذلك، فكما سنرى في الفصل الثالث، اتضح أن الجاراوارا كانوا يستخدمون نظاما شفهيا للأعداد على مدار قرون عديدة، وكانوا يستخدمون أيضا نظام العد بعلامات العصي، وقد كان هذا النظام منقوشا على الخشب لا على العظام. ويوضح الشكل
2-2
أحد أمثلة هذا النظام، حيث تظهر صورة غصن شجرة صغير عار، قد حفر فيه ببراعة أحد رجال الجاراوارا سلسلة من الشقوق، وهذه الشقوق المثلثة المحفورة في الغصن ترد في مجموعات منتظمة؛ فهي ترد في مجموعات تتكون من 1 و2 و3 و4 و5 و10 نقوش منفصلة. وقد شرح لي الفنان الذي حفر هذه الشقوق استخدامها التقليدي: عند الإشارة إلى الكميات، كعدد الأيام التي من المتوقع أن يقضيها أحد رجال الجاراوارا في السفر على سبيل المثال، سيشير الرجل إلى المجموعة المناسبة من الشقوق؛ فإذا كان يتوقع أن يسافر لمدة أسبوع مثلا، فيمكنه أن يشير إلى مجموعة تتكون من خمسة شقوق، وأخرى تتكون من شقين. وهذا التمثيل للكميات مفيد للغاية، غير أننا سنرى في الفصل الخامس أن بعض الثقافات التي تعيش في منطقة الأمازون لا تستخدم أي تمثيلات مشابهة للكميات، سواء أكانت حسية أو لفظية أو بصرية؛ فهي ثقافات لا عددية. أما الجاراوارا، فقد اعتادوا على استخدام نظام عصي محمول، لا يختلف كثيرا عن ذلك الذي استخدمه صيادو فلوريدا في ليتل سولت سبرينج، قبل 10000 عام. ونظرا لأنهم استخدموا الخشب لا العظام لتسجيل نظامهم، وكذلك مع مراعاة استهلاك غابات الأمازون لمعظم الأدوات التي صنعها البشر ؛ فإن نظام العصي الذي يستخدمه الجاراوارا لم يكن ليبقى حاضرا في السجل الأثري لفترة طويلة. بالرغم من ذلك، فنظرا لوجود رسومات قديمة تشبه نظام العصي في مونتي أليجري، فالأرجح أن سكان الأمازون، كانوا هم أيضا يتحرون الدقة في الكميات منذ آلاف الأعوام. ولا شك أن العديد من التقنيات المثيرة للاهتمام، والتي كانت تستخدم لتصوير الكميات بصريا، مثل ذلك النظام الذي يستخدمه الجاراوارا، قد ضاعت بمرور الزمن نتيجة للتحلل المادي، وليس ذلك في الأمازون فقط، بل في جميع أنحاء العالم.
6
شكل 2-2: نظام العصي التقليدي لدى الجاراوارا. الصورة من التقاط المؤلف.
على بعد مئات الكيلومترات باتجاه الجنوب الغربي للقرى القليلة والصغيرة التي تسكنها قبيلة جاراوارا، حيث حافة إقليم الأمازون، اكتشف مؤخرا نوع مختلف تماما من النقوش، وهي نقوش تتفق مع الاستخدام القديم للأعداد، على يد مجموعة غير معروفة من البشر، غير أن هذه النقوش ليست على الخشب ولا على العظام، بل على الأرض. إنها مجموعة كبيرة من رسوم «الجيوجليف» الضخمة¬¬، وهي عبارة عن خنادق خطية محفورة في الأرض، ويبلغ عمقها من مترين إلى ثلاثة أمتار. عند رؤيتها من الأعلى، فإن هذه الرسوم تمثل أشكالا هندسية منتظمة، كالدوائر والأشكال رباعية الأضلاع. وبعضها مربعات منتظمة تماما بأضلاع متساوية يصل طولها إلى 250 مترا. والأمر الغريب أن بعض هذه الرسوم يعود تاريخه إلى أكثر من 2000 عام. لقد ظلت مغطاة بالغابات الكثيفة على مدار قرون طويلة، إلى أن سمحت إزالة الغابات باكتشافها مصادفة، من طائرة صغيرة. وبالرغم من أن قصة المعماريين الذين صمموا هذه الرسوم لا تزال غامضة نظرا لقدمها، فمن الجلي أن هؤلاء الأشخاص قد اعتمدوا على التطابق الرياضي المعتاد لابتكار هذه الرسوم.
7
لقد أنتجت رسوم «الجيوجليف» هذه في وقت حديث نسبيا، مقارنة ببعض ما ذكرناه من الأرقام الرياضية الأكثر وضوحا، والتي تنتمي إلى مرحلة ما قبل التاريخ. غير أن هذه الرسوم تمثيل واضح لأحد الموضوعات الشائعة في علم الآثار، وهو أن آثار انشغال البشر الدائم بالأعداد، كثيرا ما تتضح في السجلات المادية. وينطبق ذلك على أشهر أنواع بقايا العصر الحجري القديم، وهي رسومات الكهوف، كما يتضح ذلك في الموقع الموجود بالقرب من مونتي أليجري. وبالرغم من صعوبة معرفة وظائف رسومات الكهوف، فإن بعض توجهات فن العصر الحجري القديم تتجلى في الجدران الداخلية في بعض الكهوف. وبالرغم من استحالة معرفة المعنى الذي تنطوي عليه هذه الرسومات على وجه التحديد، فغالبا ما يمكننا معرفة أعمارها بدقة. ففي الأماكن التي استخدم فيها الفنانون الأصليون الطلاء المعدني مثل المغرة لرسم أعمالهم، يمكننا تأريخ هذه اللوحات بشكل غير مباشر، وذلك من خلال استخدام الأدوات ذات الأساس العضوي، التي توجد بالقرب من العمل الفني. أما الرسومات الفحمية، فإنها تسمح بتأريخها بالكربون المشع بشكل مباشر من خلال تأريخ الطلاء المستخدم في الرسم.
Bog aan la aqoon
إن الجمع بين التأريخ والتأويل يوضح بعض ما تتضمنه رسومات الكهوف الأوروبية من عناصر أساسية متكررة قديمة للغاية، وغالبا ما نجد في هذه الرسومات ظهورا للحيوانات؛ فللثيران البرية وغيرها من أنواع الأبقار، دور بارز للغاية، إضافة إلى الثور الأمريكي والخيول وغيرها من الثدييات الكبيرة. ويتكرر في هذه الرسومات أيضا ظهور عنصر آخر، وهو اليد البشرية؛ إذ تظهر في أقدم الرسومات الأوروبية، كالرسومات الموجودة في كهف إل كاستيلو في إسبانيا (عمرها 40000 عام تقريبا)، وفي كهف شوفيه (32000 عام تقريبا)، وكهف لاسكو بجنوب فرنسا (17000 عام تقريبا). وربما يكون لشكل اليد في هذه الكهوف وظيفة عد من نوع ما، غير أن ذلك تخمين فحسب. أما رسومات الأيدي المطبوعة في كهفي كوسكار وجارجاس في فرنسا، التي يعود تاريخها إلى 27000 عام تقريبا، فقد كان لها على الأرجح وظيفة عددية؛ فالرسومات المطبوعة في هذين الكهفين تصور أياد يسرى تمتد أصابعها من 1 إلى 5، وفي جميع الرسومات، يظهر الإبهام مرفوعا وكأنه يعبر عن العدد الأول في تسلسل العد. وقد ذكر عالم الآثار كارينلي أوفرمان، والذي أجرى أبحاثا رائعة عن التمثيلات العددية في السجل البشري المادي، أن رسومات الأيدي المعنية في هذين الكهفين تعبر عن أسلوب العد من الإبهام (1) إلى الإصبع الصغيرة (5). (ومعنى هذا أن الإبهام بمفردها مرفوعة تمثل العدد 1، وحين تكون الأصابع كلها مرفوعة، بما فيها الإصبع الصغيرة؛ فإن ذلك يمثل الكمية 5.) وإذا قبلنا بتلك الافتراضات فإنها تشير إلى أن ما دون ذلك من تمثيلات الأيدي البشرية في العصر الحجري القديم، ربما كانت تستخدم هي الأخرى لتمثيل الكميات.
8
إن ما يلفت النظر تحديدا في سياق ما نطرحه الآن، هو أن اليد البشرية وأصابعها عنصر أساسي يتكرر في جميع رسومات الكهوف على مستوى العالم، لا الكهوف الأوروبية فحسب. وبالفعل، فإن بعضا من أقدم الرسومات المعروفة في العالم، في كهف سولاويسي بإندونيسيا، مزخرفة برسومات ملونة للأيدي، تظهر فيها كل إصبع بوضوح. يبلغ عمر رسومات كهف سولاويسي ما يقرب من 40000 عام، وكغيرها من العديد من الرسومات الموجودة في الكهوف الأخرى، قد صنعت من خلال وضع الصبغة على يد ثم وضع اليد على الجدار. وفي السياق نفسه، فإننا نجد بعض رسومات الطباعة بالأيدي في كهف فيرن في أستراليا، ويعود تاريخ هذه الرسومات إلى ما يقرب من 12000 عام. وحتى في أمريكا الجنوبية، يظهر عنصر اليد بدرجة كبيرة في الأشكال الفنية التي يبلغ عمرها 10000 عام تقريبا، والموجودة في كهف «كويفا دي لاس مانوس» أي «كهف الأيدي» - وهو اسم على مسمى - الذي يوجد في منطقة بتاجونيا بالأرجنتين. ويضم هذا الكهف عشرات الصور الملونة للأيدي، وهي تظهر في الشكل
2-3 .
9
شكل 2-3: رسومات الأيدي المطبوعة في كهف كويفا دي لاس مانوس، بالأرجنتين. ويكيميديا كومونز (
CC BY-SA 3.0 ).
لقد أدى تصوير الأيدي والأصابع دورا بارزا يتضح في جميع قارات العالم، في تطور الفن والرموز ثنائية الأبعاد. وبناء على هذا التوزيع العالمي لرسومات الأيدي، فمن المحتمل أن يكون البشر قد مارسوا رسم الأيدي قبل مغادرة أفريقيا. ويحمل هذا التفسير لتصوير الأيدي قدرا لا بأس به من التخمين، وربما يكون قد حدث لظروف فحسب. بالرغم من ذلك، ففي بعض الحالات على الأقل، يوضح التحليل التفصيلي وجود وظيفة عددية لرسومات الأيدي المطبوعة. ونظرا لأهمية الأيدي في التمثيل اللغوي للأعداد، الذي سنناقشه بالتفصيل في الفصل الثالث، ونظرا إلى الوظيفة العددية الواضحة لبعض الأدوات القديمة الأخرى، كعظمة إيشانجو ، فليس من المستبعد أن تكون لبعض هذه التمثيلات الفنية للأيدي وظائف أساسية تتعلق بالكميات؛ فرسومات الأيدي الموجودة في كهفي كوسكار وجارجاس تعبر عن العد بصفة خاصة. وحتى إذا نحينا هذه الافتراضات المنطقية جانبا، فسوف ندرك على الأقل أن رسومات الكهوف تمتلئ بالأدلة التي توضح تركيز البشر على أيديهم؛ فنحن قوم مشغولون بأيدينا. ومثلما سنرى في مناقشتنا عن الإدراك لدى الأطفال في الفصل السادس، فإن تطور التفكير العددي لدى الأطفال يرتبط ارتباطا وثيقا بهذا التركيز على اليد؛ فحتى ونحن لا نزال في الرحم، نبدأ بالانتباه إلى أيدينا. وعادة ما تتضمن محاولاتنا الأولى لتمثيل الكميات استخدام الأصابع، وكذلك فإن العد على الأصابع هو ممارسة منتشرة في جميع ثقافات العالم.
أيا كان ما يشير إليه كثرة ظهور الأيدي في رسومات الكهوف، بشأن تاريخ الأعداد، فالواضح أن العديد من إبداعات مختلف فناني العصر الحجري القديم، التي انتشرت في مناطق جغرافية مختلفة، وعلى مدار عشرات آلاف الأعوام، تصور الكميات. فللنقوش والرسومات القديمة تفسير عددي في معظم الحالات، وقد أدى تمثيل الكميات بالعصي دورا متكررا في عرض أفكار الإنسان على عظام الحيوانات والخشب والأرض وجدران الكهوف.
لم يؤدي تمثيل الكميات مثل هذا الدور البارز في مثل هذه الأعمال الإبداعية القديمة؟ أعتقد أن الإجابة عن هذا السؤال ذات شقين على الأقل؛ أولهما هو سهولة تمثيل الكميات في صورة ثنائية البعد، مقارنة بغير ذلك من جوانب الخبرة البشرية كالوقت (الذي يبدو أنه كان يمثل بطريقة غير مباشرة في أعمال العصر الحجري القديم من خلال علامات العصي التي تمثل الدورات السماوية)، أو الانفعالات أو بعض المواقع الفعلية المحددة كذلك، والتي تستلزم درجة أكبر من التعقيد الفني؛ كي يتم التعبير عنها بدقة من خلال الرسم. وعلى العكس من ذلك، فالخطوط البسيطة وغيرها من العلامات يمكنها تمثيل الوحدات أو الكميات بطريقة سهلة ومباشرة، غير أن ذلك يثير التساؤل عن السبب في أن علامات العصي تعبر عن غيرها من الأشياء بسهولة شديدة وبطريقة مجردة، دون أن تصورها فعليا. وربما تكمن إجابة هذا السؤال في أيدينا، وإن كان ذلك بصورة جزئية على الأقل، وهي تتمثل في التشابه بين العلامات الخطية البسيطة وأصابعنا التي تشبه الخطوط. يمكننا أن نقول بطريقة ما: إن الأصابع هي خطوط تشريحية ثلاثية الأبعاد؛ فليس من المفاجئ إذن أن نجد الأفراد في العديد من الثقافات حول العالم، وليس الأفراد في جميع الثقافات بالتأكيد، قد استخدموا الخطوط لتمثيل الكميات، مثلما يستخدمون الأصابع للغرض نفسه. ومعنى هذا أن الانتقال من أنظمة العد على الأصابع إلى أنظمة العد بعلامات العصي، يستلزم قفزة إدراكية أبسط مما يستلزمه اختراع أنواع أخرى محتملة للتمثيلات البصرية للأفكار. فمن الناحية العملية، تستند أنظمة العد بالعصي إلى طريقة مباشرة لتمثيل الأفكار على مساحة ثنائية البعد، وذلك مقارنة بالعناصر والأفكار التي تزيد صعوبة تمثيلها بأسلوب فني، وما من مدخل تشريحي يسهم في تمثيلها تمثيلا بسيطا.
Bog aan la aqoon
وأما الشق الثاني، وربما يكون الأهم، فهو أن علامات العصي الرقمية المنقوشة، وكذلك الرسومات التي تعبر عن ممارسات العد على الأصابع، وإن كان ذلك على نحو افتراضي بصورة أكبر، قد انتشرت بصورة أكبر في السجل الأثري بسبب فائدتها لمبتكريها. إن الوسائل التمثيلية لترميز الكميات ذات فائدة عظيمة؛ فمن السهل جدا أن نرى على سبيل المثال بعض المزايا المحتملة لإعداد جدول بالعدد الدقيق لرجال إحدى القبائل التي ينتظر شن غارة عليها، أو تسجيل العدد الدقيق للحيوانات المفترسة الموجودة بالقرب من المرء. ومن السهل أيضا أن ندرك بعض المزايا المحتملة لتتبع وحدات دورة القمر، وبالرغم من أن البشر يستطيعون العيش والنجاح بالطبع دون تتبع مثل هذه الكميات، فإن مزايا القيام بذلك تساعد في تفسير السبب في أن جميع ثقافات العالم تقريبا تستخدم الأعداد. ويمكن لهذه المزايا أن تحسن من معدلات البقاء على قيد الحياة، سواء في الحرب أو الصيد. إن وظيفة أرقام ما قبل التاريخ، تتجاوز العوامل الروحية والاجتماعية والبلاغية. إنها قد تكون ضرورية، في بعض الحالات على الأقل؛ لمجرد البقاء على قيد الحياة.
ليس من العجيب إذن أن نجد أن أرقام ما قبل التاريخ قد أدت مثل هذا الدور البارز في هذا التمثيل المجرد الذي ابتكره البشر خلال العصر الحجري القديم. ولم يقتصر دورها البارز في هذه التمثيلات ثنائية البعد للأفكار، على العصر الحجري، وإنما تجلى أيضا بعد ذلك بآلاف السنين، حين تحول البشر إلى تمثيلات رمزية أكثر تعقيدا للأفكار؛ ففي فجر الكتابة، احتل دور البطولة الذي تقوم به الأعداد مركز الصدارة مرة أخرى.
الأعداد في مرحلة نشأة الكتابة
الساحة الكبرى للمتحف البريطاني في وسط لندن، محمية بمظلة من الزجاج والصلب، وتعمل هذه المظلة الشفافة بمثابة مصفاة للضوء؛ فهي ترشح سماء لندن الرمادية، وتلقي بضوء سماوي أبيض على مجموعة المصنوعات البشرية الهائلة التي تقطن تحتها. وهي مجموعة منقطعة النظير من نواح عديدة، نظرا إلى الطريقة التي جمعت بها الإمبراطورية البريطانية هذه الكنوز من جميع أنحاء العالم (أو ربما الوصف الأنسب أنها استولت عليها، في بعض الحالات على الأقل). ومن هذه الكنوز حجر رشيد، الذي يحيط به دوما حشد من السياح هم أشبه بالمصورين المتطفلين، وهو يقع إلى اليسار في اتجاه القاعة الجنوبية الغربية المجاورة للساحة الكبرى. أما في الطابق الأعلى للقاعة، فيقبع غرض آخر أصغر وأبسط، ومهمل بعض الشيء، لكنه قد يمدنا برؤى أعظم عن تطور الكتابة البشرية. على جدار عادي غير مزخرف، وفي معرض بسيط لتاريخ الكتابة البشرية، يعلق لوح من الجص يبلغ عمره 5300 عام (أكبر من حجر رشيد بثلاثة آلاف عام). لا يزيد طول هذا اللوح على بضعة سنتيمترات في كل جانب، ويضم خطوطا ونقطا نقشت في الجص، قبل كل هذه الأعوام. ونحن نعرف الآن أن هذه النقط والخطوط تمثل كميات، كميات حبوب على الأرجح، أو ربما سلعة أخرى كانت تستخدم في المعاملات الاقتصادية، وهي نظامية بدرجة أكبر من العلامات التي تظهر في سجل العصر الحجري القديم؛ فهي ليست مجرد علامات عصي تعبر عن الكميات، بل تمثل طريقة قياسية للتواصل في بعدين. إنها أول رموز كتابية فعلية نعرف عنها؛ فكل خط وكل نقطة يعبر عن كمية محددة مجردة. وبعبارة أخرى، فالعلامات الموجودة على لوح الجص هي أرقام فعلية.
من بين ضباب الممارسات الرمزية المنتشرة حول العالم، ظهرت الكتابة الفعلية في بلاد الرافدين في الوقت الذي شكل فيه هذا اللوح. وهذا اللوح المعروض في لندن الآن، هو مثال على التحول الذي بدأه الكتاب في بلاد الرافدين، وهو التحول من استخدام الطرق البسيطة في تصوير الكميات إلى الكتابة مكتملة الأركان. إن علماء الكتابات الأثرية وغيرهم من العلماء، عادة ما يفرقون بين الكتابة التي توفر ترميزا كاملا للغة معينة، وبين الكتابة الأولية، وهي صورة أقدم من الممارسة الرمزية (غير أنها أقل قدما من أرقام ما قبل التاريخ المستخدمة في سياقات العصر الحجري القديم)، وهي لا تصور سوى مجموعة محددة من المعاني المحتملة. واتخاذ قرار محدد بشأن ما إذا كان أحد النصوص القديمة ينتمي إلى فئة الكتابة الأولية أم الكتابة الفعلية، ليس بالأمر السهل، والواقع أن هذه المصطلحات تعتم العملية التدريجية التي تطورت الكتابة من خلالها.
وإذا نحينا الاختيارات الاصطلاحية جانبا، نجد أنه من المتفق عليه عامة أن أول تطور شامل للكتابة، قد حدث في منطقة الهلال الخصيب، وتحديدا في بلاد الرافدين على يد السومريين. غير أنها ليست اختراعا خاصا بمنطقة الشرق الأوسط فحسب؛ فقد تطورت أيضا بصورة مستقلة في الصين وأمريكا الوسطى. ومن هذه الأقاليم، انتشرت الكتابة وتطورت وفقا للاحتياجات اللغوية والاجتماعية والاقتصادية المحلية. واليوم توجد العشرات من أنظمة الكتابة، مثل ذلك النظام الذي أستخدمه الآن للتعبير عن أفكاري إليك. بالرغم من ذلك، يمكننا أن نتتبع أصل جميع هذه الأنظمة الكتابية العديدة ونردها إلى واحد من ثلاثة أساليب أساسية للكتابة، وذلك بطرق فعلية ومثبتة تاريخيا. وسيكون تركيزنا هنا على نشأة أقدم أنظمة الكتابة الفعلية، الذي تطور في بلاد الرافدين. (وفي الفصل التاسع، سنناقش باختصار، أصول بعض أنظمة الكتابة الأخرى.) لقد ولدت الكتابة البشرية لأول مرة في هذه المنطقة، وتوضح قصة الميلاد هذه الدور الأساسي الذي أدته الأرقام في بداية تطور الكتابة.
10
بطريقة ما، ليس هناك ما يدهش في تلك الجاذبية التي طالما اتسمت بها الرموز العددية؛ إذ إن الطلاقة في مثل هذه الرموز قد أدت، ولا تزال تؤدي، دورا اجتماعيا اقتصاديا في حياة الناس. فالعديد من هذه الرموز الكتابية التي تعبر عن الكميات، والتي حفظت جيدا، هي عملات معدنية أو أدوات تشبهها، ترمز لقيم مالية محددة. ومع مراعاة النسب المحدودة لمعرفة القراءة والكتابة على مدار معظم تاريخ وجود الكتابة البشرية، فالعملات المعدنية وغيرها من أنواع العملات المرتبطة بكميات محددة، قد ظلت على مدار فترة طويلة (ولا تزال في بعض مناطق العالم) هي الرموز الوحيدة التي يستطيع الناس تفسيرها. وحتى بعد تطورها المستقل في أوراسيا والأمريكتين، ظلت الكتابة الفعلية على مدار ألف عام، مهارة متخصصة، يمارسها ويعلمها للآخرين مجموعة محددة من الأفراد في عدد قليل من المجتمعات. فدروس الكتابة في نهاية المطاف، هي ترف اقتصادي قد نتج بصورة غير مباشرة عن الزراعة التي أتاحت وجود مثل هذه المهنة المتخصصة. وقد أدت الوظيفة الاقتصادية للأعداد دورا واضحا في تطور نقوش الكتابة في مجتمع بلاد الرافدين الزراعي، وقد أدى هذا الدور في النهاية إلى تشكيل لوح الجص الذي يوجد فوق الساحة الكبرى في المتحف، فلنتناول سريعا إحدى النظريات التي تفسر كيفية حدوث ذلك.
من المحتمل أنه قبل فترة تقدر بثمانية آلاف عام، كان البشر في بلاد الرافدين يتقايضون كميات كبيرة من المحاصيل الزراعية والحيوانات فيما بينهم. وقد سهل المقايضة في المنطقة إدراكهم لإمكانية تمثيل الكميات بصورة رمزية، ونقلها عبر مسافات بعيدة. إن إحدى الوسائل الأساسية التي تطورت في هذه المنطقة، قد تبدو الآن عتيقة، غير أنها كانت ثورية ولا شك في ذلك الوقت، وهي أوعية متينة من الفخار مملوءة بعملات رمزية، كانت بمثابة العقد. فإذا افترضنا مثلا أن أحد ملاك الأراضي قد وافق على أن يدفع لمالك أرض آخر مقدارا محددا من الأغنام؛ فيمكن تسجيل هذا الاتفاق في كرة من الطين، فتوضع العملات الرمزية التي تمثل الكمية المحددة من الأغنام في الطين الذي يوضع بعد ذلك في أفران حتى يصبح صلبا؛ ومن ثم فقد كانت كرة الفخار بمثابة سجل يمكن نقله وكسره بعد ذلك حين الوفاء بالعقد. ولتيسير عملية التسجيل؛ كان من الممكن الإشارة إلى عدد العملات الموجودة داخل الإناء الفخاري ، على الجانب الخارجي منه. ومع الوقت، اخترعت رموز خارجية محددة لتمثيل أنواع البضائع التي تتكرر كثيرا في المعاملات. وكان يمكن بعد ذلك مضاهاة هذه الرموز الخارجية مع عدد العملات الرمزية الموجودة داخل الإناء. ومما لا شك فيه أن نظام المضاهاة هذا قد سرع وتيرة التعاملات الاقتصادية في هذا الزمن السابق على العملات النقدية الفعلية.
إننا لا نعرف على وجه التحديد طول المدة التي استمر خلالها هذا النظام الكمي الثلاثي الأبعاد لتمثيل السلع، في بلاد الرافدين. وعلى أي حال، فقد بدأ السومريون في نهاية المطاف في التخلي عن العملات الرمزية الداخلية تماما، وتحول النظام تدريجيا من نظام ثلاثي الأبعاد إلى نظام ثنائي الأبعاد (غير أنه من المحتمل أن يكون النظام الثلاثي الأبعاد قد استمر في بعض الأماكن). ومعنى هذا أنه بدلا من ترميز كميات السلع التجارية بعملات حقيقية داخل الأواني الفخارية، كانت الكميات تمثل ببساطة على ألواح طينية صغيرة جاءت لتحل محل تلك الأواني. وبالفعل، كانت تلك الأواني والعملات الموجودة بداخلها زائدة عن الحاجة. فكل ما كان ضروريا لحفظ العقود، هو طريقة منهجية لتسجيل السلع والكميات الموجودة على الفخار. ومن المرجح أن تكون الكتابة المسمارية، وهي أول كتابة اخترعها البشر، قد ولدت تدريجيا من هذه الفكرة. فمع مرور الوقت، امتد استخدام هذا النظام لترميز الكميات والبضائع ليشمل أغراضا أخرى. وتطورت رموز جديدة للسلع وغيرها من الأفكار، مرة تلو الأخرى، من خلال أجيال جديدة من النقوش الكتابية. وأصبحت وسائل تسجيل هذه الرموز المصورة على الطين منظمة، وذلك باستخدام الخوص أو القصب لنقش الرموز بعناية، وبطريقة تتيح فهمها بسهولة، ثم جاء تمثيل قواعد اللغة بعد ذلك، إلى أن أصبح من الممكن في النهاية تمثيل جميع الجمل بالكتابة. وبينما نحن نتحدث بكل يسر عن «اختراع» الكتابة، فقد تطورت بالفعل على مدار آلاف الأعوام. بالرغم من ذلك، فمن الواضح أنه في بداية هذا التطور الطويل في بلاد الرافدين، كان تمثيل الكميات موجودا بالفعل، وقد كان ذلك في الواقع هو صميم الكتابة المبكرة.
Bog aan la aqoon
ثمة شيء يدعى «مبدأ استخدام الرموز في تمثيل أصوات اللغة» هو الذي يسرع التطور التدريجي لأنظمة الكتابة، مما يؤدي إلى السرعة في استخدام الرموز المستندة إلى الأصوات، بدلا من الرموز المعبرة عن أفكار ومفاهيم، كالرموز المستخدمة في الأشكال الأولى من الكتابة السومرية. ويشير مبدأ استخدام الرموز في تمثيل أصوات اللغة إلى استخدام الرمز نفسه في تمثيل لفظتين متجانستين صوتيا. فلتتأمل مثلا هذا المثال الخيالي البسيط: تخيل لو أن الكتابة الإنجليزية كانت تمثل بالرموز أو الصور المعبرة عن الأفكار، بحيث يمثل الرمز الواحد فكرة أو مفهوما أساسيا، لا صوتا. وتخيل أيضا أن مفهوم «العين» أو بالإنجليزية
Eye
يمثل من خلال هذا الشكل الذي يتمثل في قوسين بينهما علامة النجمة ( ⋆ )، ويمكننا القول إن هذا الرمز يمثل العين الفعلية بطريقة أيقونية ولكن مجردة إلى حد ما. لكن لنقل مثلا: إنه لا يوجد رمز للضمير «أنا» الذي يعبر عنه في الإنجليزية بكلمة
I
في هذا النظام لكتابة الإنجليزية، ويمكننا أن نتخيل السبب في ذلك؛ إذ إنه ما من طريقة مادية سهلة لتمثيل ذلك المفهوم، فالمقصود بالضمير «أنا» يتغير وفقا للمتحدث. بالرغم من ذلك، فإذا كنت كالعديد من الكتاب في التاريخ، فسوف تدرك أنه يمكن استخدام « ⋆ » للتعبير عن مفهوم «العين» والضمير «أنا» في الوقت ذاته إذا كان لهما الصوت نفسه. ويشار لهذه الفكرة باسم «مبدأ استخدام الرموز في تمثيل أصوات اللغة» وهي تمثل خطوة كبيرة تجاه تطور أنظمة الكتابة الصوتية الأكثر تجريدا، التي تستخدم عددا أقل من الرموز. ونظرا لوضعها القديم في أنظمة الكتابة، فقد تأثرت الأرقام نفسها بهذا المبدأ على الأرجح؛ فكانت رموزا تمثل الألفاظ المتجانسة صوتيا معها. والواقع أن بعض أشكال الكتابة الحديثة في الرسائل النصية مثلا تؤيد هذا الاحتمال؛ فقد يستخدم البعض هذا التجانس الصوتي فيكتبون مثلا أنهم:
2 good 4 you
وفي هذه الحالة يرمز «2» إلى
too (وهما متجانسان صوتيا في الإنجليزية ومختلفان في المعنى)، ويرمز «4» إلى
for ، (وهما أيضا متجانسان صوتيا ومختلفان في المعنى)، وتستخدم هذه الطريقة لسهولتها في كتابة الرسائل النصية والتعبير عن المعنى بطريقة أسهل وأسرع. بالرغم من ذلك ، يمكننا بسهولة أن نتخيل واحدا من السيناريوهات تمثل فيه بعض المفاهيم المجردة مثل
too
Bog aan la aqoon
وكذلك
for
من خلال الأعداد؛ لا بغرض السهولة، وإنما لأن الصور الكتابية لمثل هذه المفاهيم غير الملموسة لم توجد بعد.
11
لقد كان مبدأ استخدام الرموز في تمثيل أصوات اللغة عاملا محفزا ولا شك في تطور أنظمة الكتابة القائمة على المقاطع وأنظمة الكتابة القائمة على الحروف، لكن علينا أن نتذكر أن مبدأ استخدام الرموز في تمثيل أصوات اللغة يعتمد على وجود رموز سابقة عليه تعبر عن الأشياء الأقل تجريدا، كالسلع والكميات. وأكثر ما يسترعي الملاحظة في سياق مناقشتنا، هو أن نزعة الإنسان للتعبير عن الكميات باستخدام الرموز قد كانت قديمة وتأسيسية؛ فوضعت الأساس لتطورات تالية، مثل مبدأ استخدام الرموز في تمثيل أصوات اللغة، الذي أدى في نهاية المطاف إلى تأسيس أنظمة الكتابة التي تشبه أبجديتنا.
أحد أشكال الكتابة التي تطورت بعد ذلك في بلاد الرافدين، هي كتابة تكتب بالرموز الرياضية؛ فقد طور السومريون، والبابليون من بعدهم، وهم آخر قاطني منطقة بلاد الرافدين، رموزا رياضية واضحة مكتوبة. فقبل 3600 عام تقريبا، كان البابليون يستخدمون الجبر والهندسة بالفعل، وكانوا قادرين على حل المعادلات التربيعية، وكانوا قد اكتشفوا قيمة ثابت الدائرة
π
بالفعل (بدرجة تقريبية على الأقل)؛ ومن ثم يبدو أن تمثيل الكميات قد أشعل شرارة تطور الكتابة السومرية، وهو ما نتج عنه في نهاية الأمر، القدرة على تمثيل الكميات بصورة أوضح.
12
موجز القول أن أقدم أنظمة الكتابة ينبع - ولو جزئيا على الأقل - من الفائدة الجوهرية لتمثيل الكميات، ومن سهولتها النسبية في تمثيل المفاهيم الرقمية بصورة مجردة. وكما رأينا من قبل، فإن هذه السهولة تنعكس أيضا في الممارسات التمثيلية الأقدم والأقل انتظاما، التي كان يستخدمها البشر في العصر الحجري القديم. فمن العصر الحجري إلى العصر الزراعي، لدينا خيط براق من الأعداد يلتف حول السجل الرمزي البشري.
Bog aan la aqoon
الأنماط في الأرقام القديمة
بينما كان السومريون هم أول من استخدم الأرقام بصورتها المكتملة، فقد تطورت الأعداد المكتوبة في أماكن أخرى كذلك. والواقع أن الأرقام قد ظهرت في مراحل مختلفة في التاريخ على مستوى العالم؛ إذ إن لدينا ما لا يقل عن مائة نظام مسجل لتدوين الأعداد، غير أن الغالبية العظمى من هذه الأنظمة قد تطورت عن أنظمة أخرى، أو طورت على الأقل، مع الوعي بأن شعوبا أخرى قد دونت الأرقام بالفعل. إن العديد من هذه الأنظمة العددية المعنية قد أصبحت الآن بائدة، غير أن الأمثلة المتبقية منها تتيح لنا فهم كيفية عملها.
حين ندرس الأنظمة العددية الحالية والبائدة، تتشكل لدينا فكرة واضحة بشأن وجود أنماط مشتركة في الطريقة التي يستخدمها البشر في كتابة الأعداد. فلنلق نظرة على هذه الأنماط من خلال دراسة بعض الأنظمة العددية التي أدت دورا بارزا في الحضارات الإنسانية. وأفضل نقطة نبدأ منها هي دراسة الأرقام في نظام الترقيم الغربي. والواقع أن هذا النظام معدل من نظام الترقيم العربي، الذي هو معدل بدوره من أحد الأنظمة التي تطورت في الهند.
13
فما كيفية عمل نظام الترقيم الغربي؟ لا يوجد سوى عشرة رموز في نظام الترقيم الذي نستخدمه: 0، 1، 2، 3، 4، 5، 6، 7، 8، 9. وقد تبدو هذه الملاحظة واضحة للغاية؛ فهي عشرة رموز فقط بالطبع. وقد يكون من الصعب أن نتخيل أنظمة عددية أخرى تتكون من أكثر من عشرة رموز أو أقل من ذلك، غير أنه ليس من الضروري أن تكون أنظمة الترقيم عشرية، بل يمكن أن تتكون من أي عدد من الرموز. فأحد الأنظمة التي استخدمها اليونانيون القدماء، هو نظامهم العددي الأبجدي، الذي كان يتكون من نحو أربعة وعشرين حرفا، تمثل قيما مختلفة. وتذكر أيضا أننا نجمع بين هذه الرموز العشرة، لنكون منها أرقاما أكبر، مثل مائتين واثنين وعشرين 222. فلتتأمل القواعد اللازمة لكي تفهم هذا الرقم. فأنت تعرف مثلا أن أرقام 2 المتتالية لا تعني مجرد الجمع، أي إن 222 لا يعني 6، أو 2 + 2 + 2. هذه الأرقام المتتالية تدل على المضاعفة، لكن هذا الرقم لا يعبر عن حاصل ضرب 2 في ثلاثة، وهو لا يرمز أيضا إلى الكمية 8، أو 2 × 2 × 2، وإنما تشير «الخانات» أو الأماكن في نظامنا العددي إلى مضاعفة ضمنية بأسس العدد عشرة؛ لذا فإن 222 تشير إلى 2 × 10
2
زائد 2 × 10
1
زائد 2 × 10
0 ، أي 200 زائد 20 زائد 2. وبعبارة أخرى، فإنك حين تقرأ الأرقام المكتوبة وفقا لنظام الترقيم الغربي، فأنت تضيف على الدوام حاصل ضرب الأعداد التي ضربت في إحدى قيم الأس عشرة؛ ومن ثم فإن 2456346 تعني بالنسبة إليك: (2 × 10
Bog aan la aqoon