أما الباطنة فدار حرب والأخرى تابعة لمن غلب وتسلط واستولى، فيها صاحب مأوى وهو الخناس وطليعته مبحث الأخبار وهو الجاسوس أعني الوسواس وهلاك الآدمي منهما ومنه قول الله تعالى: (من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس)، كما وصفنا هذا كله بديًا في موضعه؛ والجوارح قرى حولها وعلى كل واحد منهما عامل فإذا كان العدو مغلوبًا مقهورًا والهوى مسجونًا كان الملك وهو المعرفة في سلطان جاري وملك وهيبة وكمال وأمر نافذ مطاع مشكور وعز وشرف منورًا قد سطع نور الجلال من لدنه إلى أقصى المدينة وقراها وكانت المدينة بما فيها جنة طربة أعي القلب وكانت المدائن حوله ساكنة مطمئنة قد انجلى عنها غيم الهوى وغمام الضلالة ودخان الشهوة والعامل في عز وشرف وبهاء ورفعة منورًا قد سطع نور الرعية والطاعة ونور الفرح منه إلى أقصى المدائن وقراها وكانت القرى مطمئنة ساكنة وكان العمال بها مطيعة والرعية في راحة ومال والخناس مقهور والوسواس منحجز والهوى مسجون، واللعين مدحور محسور، وإذا غلب عليها العدو وأخذها عنوة وأمّر عليها أميرًا ودخل الجنود مع أميره وحشمه بظلمته ودنسه وشهواته وملاهيه وأباطيله وخدعه وأدناسه ونتنه ودخانه وغيمه قويت النفس وهي الهوى وحييت وتخلصت من السجن والقيد وعسكرت واستعمل عليها عاملًا وعلى القرى عمالًا وثبت ملكه إلى أن يأخذ مسكن العقل وموضع قضائه فيحمل عليه العقل بجنوده وتنصب الحرب بينهما فيثور من بينهما عجاجة سوداء ودخان مظلم من نتن الهوى وظلمته فيظلم على العقل ومسكنه وهو الصدر فيصير الملك ومن معه من الجنود في حجب من ظلماتها ودخانها، فأما أن كان الغلبة له عليها وأما غلبة لها فإذا كان الغلبة لها عليه انهزم العقل بجنوده من شدة الظلمة ونتنها ودخانها وضعف وذل وأخلّ بمركزه ولجأ إلى ملكه وهو المعرفة بجنوده مستغيثا فزعا وتركوا الميادين والمراكز وهو الصدر ووثب رجالة العدو وفرسانه مع الصدر وأخذوه ونزلوا به وكان الأمر أمر العدو والسلطانسلطانه نافذ أمره مطاع مشكور والمدائن ساكنة مطيعة والقرى محمودة مرضية والرعية مطواعة والعمال في منعة والعدو فرح واللعين مستبشر مباه وكان الملك وملك الملك وهو العقل والمعرفة وجنودهما وحشمهما محجوبين مسجونين مقهورين مذلين لا يجاوز أمرهما وسلطانهما ربض المدينة وهو القلب فيجزع الملك من ذلك ويحزن ويستوحش فينقبض وينزوي فيتجلى من القلب من نوره على قدر الانقباض والانزواء فيصير ذلك الموضع من القلب خاليا من النور وكلما كان سلطان العدو أجرأ وأمره أنفذ كان الصدر أظلم، وكلما كان الصدر أظلم كان الملك أحزن وأوحش وكلما كان الملك أوحش كان انقباضه وانزواؤه أشد وكلما كان انقباضه أشد كان سلطان نوره أضعف كان القلب أحزن وكان من نوره أخلى وذلك أنه لا يصل النور إلى حوالي القلب وزوايا نوره لانقباضه وضعف نوره لوحشته ألا ترى إلى المصباح في بيت واسع كلما كان سلطان السراج أشد كان ضوء البيت أضوأ وأنور وأسطع حتى يجاوز الزوايا وينفذ المشاكي، وكلما كان سلطانه أضعف كان الضوء منه أضعف لا أنه ينقبض منه ولكن قد ضعف الضوء فليس له سلطان يسطع لوحشته وظلمة دخانه على الصدور وعلى باب القلب فإذا طال ذلك عليه وهو محبوس ومسجون محجوب قد حجبته غيوم جنود العدو ودخانها منطوي سلطان نوره مرضت المدينة أي القلب وذلك أنها صارت كسية مقحوطة قد منعت عنها الماء فيبست أشجارها وتغيرت ألوانها فلم يزل عليلًا مريضًا حتى يموت ومن ذلك قول الله ﷿: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يسكبون)، قال الذنب على الذنب حتى يموت القلب وذلك أن العدو إذا كان مسلطًا على المدائن كان الأمر أمره وكانت الرعية مطيعة وكلما أمر أمرًا أطيع فذلك كسبت ورين على القلب أي انطوى نور من الملك على القلب وانقبض فإذا بطل الانقباض منع الماء فإذا منع الماء عن المدينة وظهرت في ألوانها وأشجارها الشدة واليبوسة حتى إذا طال ذلك وكثر مات القلب أي هلكت المدينة ويبست أشجارها أصلًا وذلك أن الروح حياة النفس والنور حياة القلب فإذا ضعف الروح ضعف البدن ألا ترى إلى الإنسان إذا نام أو مرض أو غشي عليه لا يمكنه التحرك ولا القيام، والروح فيه لم تنقض منه وكذلك القلب إذا انطوى سلطان النور وانقبض ضعف القلب ويبس حتى يموت وكذلك الشجر إذا منعت
1 / 37