والحب على أتمه وأعمه وأقواه هو تفاهم بين نفسين، وامتزاج بين قلبين وجسدين، وقبل أن يفهم الإنسان نفسه كيف ينشد التفاهم مع نفس حبيبه، وقبل أن ينكشف له قلبه كيف يعرف مواضع الكشف والحجاب من القلوب، وقبل أن يكمل بناء جسمه كيف تكمل فيه رغائب الأجسام، وقبل أن يعرف النساء كيف يعرف المرأة؟ بل قبل أن يزاول الحياة كيف يزاول لباب العاطفة التي تنضجها الحياة.
فليس الاحتدام هو الحب نفسه؛ لأن هذا الاحتدام قد ينقص من الحب، كما أن الحب قد يلهب الاحتدام فيمن لم يكن يعانيه ...
فللشباب حبه، وللرجولة حبها، وللكهولة بعد ذلك حب لا يشبه الحبين ...
وإذا تقضى الشباب وتقضت بعده الرجولة، وتقضت بعدهما الكهولة، فهل تنفد مؤنة الغزل وهل يبطل دواعيه؟ كلا! فهناك الحنين والتذكار، وكلاهما مؤنة للغزل لا تنفد وداعية حاضرة في كل حين. ولو سألنا الشعراء الذين عالجوا النظم في خوالج النفوس شيوخا وشبابا لعلمنا منهم أن خير ما نظموه في شوق أو حزن، أو ألم أو خالجه ثائرة أيا كان فحواها إنما كان كله من قبيل الحنين والتذكار؛ لأنهم ينظمون بعد فوات الثورة الداهمة واطمئنان اللوعة العارضة، فيسلس لهم المعنى ويصفو الشعور من كدر الدخان والضرام ...
فلا عجب أن يجيد هاردي الغزل أو يجيده سواه من الشيوخ، سواء أنظرنا إلى الحقيقة الواقعة التي لا ريب فيها أم نظرنا إلى المعهود من أطوار النفوس والقرائح. وقد يحسن أن نذكر بعد هذا أن إجادة هاردي في الغزل لم تكن إجادة مطلقة يطمع فيها كل شيخ ينظم القريض، وتثبت له العبقرية، ولكنها كانت إجادة هاردية عليها سمة الرجل، وفيها طبيعة مزاجه التي لم تفارقه في شباب أو شيخوخة.
ومضت الأيام والسنون بعد كتابة هذا المقال، فلم يكن فيما قرأت ولا فيما عرفت شيء يخالف ما بدا لي من هذا الرأي منذ نظرت في حقائق العاطفة والتعبير. وأحرى أن نعلم مع الزمن أن العاطفة ألزم للحياة الإنسانية، وألصق بها وأعمق فيها من أن تحصرها فترة واحدة، أو تحتويها صورة واحدة، أو يختمها عهد واحد. فهي - ككل شيء في الحياة - تزداد فهما على طول المصاحبة، وطول المراس والمساجلة، وعلى حسب ازدياد الفهم يزداد التعبير، ويزداد الاستكناه والتصوير، وبخاصة بين الذين يقضون حياتهم في عالم الشعور والجمال، وهو عالم الفنون والآداب، وهم الشعراء والموسيقيون والمصورون والممثلون.
ويصح على هذا أن يكون الشباب عهد ابتداء العاطفة وافتتاحها على صورتها الأولى، أو هو العهد الذي تفاجأ فيه البنية بشعور جديد لم تكن لها به خبرة من قبل، فيشاهد عليها ما يشاهد على كل بنية تفاجئها حالة طارئة. فإن المفاجأة إذا عرضت لإنسان بدا لك في حالة كحالة الشاب في أول عشقه: وجه ساهم، وفم مفغور، وطرف ذاهل، ولسان معقود، ونفس مطرود ... وهذه هي الحالة التي يخيل إلى من يراها أنها العشق دون غيره، مع أنها أحرى أن تدل على أن العشق مفاجأة لم تعهدها البنية ولم تألفها النفس، فلم تزل بها حاجة إلى التثبت منها والرياضة عليها. ثم تأتي هذه الرياضة شيئا فشيئا مع تعاقب الأيام وتعاقب ألوان الشعور.
في هذه الحالة - حالة المفاجأة - تتفتح النفس على عالم مسحور حافل بالصور والزخارف والأسرار، وتجود القريحة بالمعنى البكر والخيال الطريف، وتتسع للشاعر منادح للإحساس ولوصف الإحساس يركض فيها ركض السبق والتجلية إن كان من السابقين المجلين. ولكن سحر المفاجأة يمتنع بعد قليل أو كثير، فلا يمتنع عليه سبيل القول بامتناعه، كالذي تسحره المدينة لأول نظرة فيصفها على التو والساعة في الصورة المتوهجة التي أضفاها عليه سحرها، ثم يقيم فيها سنة وسنوات، فلا يجهلها بعد معرفة، ولا يعز عليه وصفها بعد قدرة. ولكنه يصفها غير مسحور ولا مبهور، فيخسر وصفه ذلك الوهج اللامع ثم يعوضه نفاذ النظر، وطول الخبرة وصدة المشاهدة، كأنما تغيرت المدينة وهي لم تتغير بين النظرتين، ولا أخطأ واصفها في إحدى الحالتين.
وإذا كان هذا شأن المدينة المحدودة، فكيف يكون شأن العالم النفساني الذي ليست له حدود؟ وكيف يستنقذ هذا العالم الرحيب في نظرة واحدة ولا سيما نظرة المفاجأة والمعرفة الأولى؟ وكيف يفهم العاطفة الإنسانية من يحسبها ضيفا يفارق الحياة بعد المصافحة الأولى، ولا يعلم أنها هي صاحبة الدار، وأنها هي هي الحياة؟
فالأعاصير الطاغية تعصف على العالم النفساني حيثما تشاء على اختلاف الأوقات والأجواء، وليست أعاصير المغارب بدعا في عالم الأكوان ولا في عالم الإنسان.
Bog aan la aqoon