وكان الرعب متمكنا منه حتى إنه باح بسره لميشيل، فقال له الخادم: إن الأموات لا يحيون يا سيدي، والصور لا تتجسم، وخير ما أشير به عليك أن تعود إلى قصر الكونتيس في فرساي غدا، فتحرق هذه الصورة.
وقد عمل البارون بنصحه، وأحرق الصورة في اليوم التالي، ولكنه كان مضطربا، وكاد يصاب بما أصيبت به الكونتيس من الجنون، فأشار عليه الأطباء بالسفر، وسافر يصحبه ميشيل، فسافر في البدء إلى بروكسل - عاصمة بلجيكا - وصحا في ليلته منذعرا من رقاده؛ إذ تمثلت له الصورة، وقد لبثت هذه الصورة تطاره في كل مدة سفره منذ عامين، فعاد إلى فرنسا وهو يشبه الشيوخ بكثرة همه، وهناك ذهب إلى أراضيه في بريتانيا، واعتكف في الريف فأصبح من البخلاء بعد هذه العزلة، ولم يكن يفرج همه غير الصيد، فبات شاغله الوحيد.
وقد عادت الصورة إلى الظهور له، فكانت تظهر مرة في الشهر، ثم توالى ظهورها، فبات مرة في الأسبوع إلى أن ظهرت له أخيرا فاشتدت مخاوفه، وقال لميشيل: لقد عولت على أن لا أنام في الليل، وهذه خير طريقة أأمن فيها ظهور الصورة.
وبات ليلته في غرفته وميشيل في غرفة أخرى متصلة بها، وقد نزع كل الصور عن الجدران، وأخذ كتابا يطالع فيه على نور شمعة.
ثم مل القراءة فأغلق الكتاب وصعد إلى سريره، ولكنه أبقى الشمعة مضاءة؛ إذ لم يكن في نيته النوم لخوفه حتى يشرق الصباح، وقد تاه في مهامة التفكير والشمعة تذوب وهو لا يفطن لها، إلى أن ذابت بجملتها وانطفأت، فساد الظلام الدامس في الغرفة، وهم بأن ينادي ميشيل كي يأتيه بشمعة، ولكن صوته حبس في حلقه؛ إذ ظهر له فجأة نور أزرق كأنه قد شق بطن الأرض وانبعث منها، فوثب عن سريره مضطربا منذعرا لا يعلم من أين جاء هذا النور، ثم صاح صيحة هائلة مزقت حجاب السكون؛ إذ تمثلت له صورة الكونت بالشكل الذي تعود أن يراه.
وعند ذلك انطفأ النور، وركض ميشيل إلى البارون، فوجده مضطرب الأنفاس، يكاد يغمى عليه من الرعب، فقال له: ما هذا الصياح، وما أصابك؟
قال: لقد رأيتها يا ميشيل ... رأيت الصورة.
فهز ميشيل كتفيه وقال: إنك ستقتل نفسك بهذه التصورات، فنم مطمئنا، فإن الصورة لا تعود إليك في هذه الليلة لأني سأسهر بجانبك.
وعند الفجر ركب ميشيل جوادا، وسار في طريق سانت مرتين وهو يقول في نفسه: ما دام بول سالبري قد ذهب إلى هذه القرية فلا بد لي أنا أيضا من الذهاب إليها، وإن قلبي يحدثني بأني خطوت خطوة كبيرة إلى المائة ألف فرنك التي كبر على البارون أن يجود علي بها. •••
لندع الآن البارون عرضة لتصوراته المخيفة، وفيلكس ورفيقيه يتقابلان مع بول سابري، ولنذهب بذهن القارئ إلى ذلك المستشفى الذي كانت فيها الكونتيس، فقد كانت سجينة هناك منذ سبعة أعوام، وقد ابيض شعرها وهي لم تبلغ بعد مبالغ الكهول، فإنها لم تكن مجنونة، ولكن البارون وصمها بالجنون ووافقه مدير المستشفى؛ لأنها كانت لا تفتأ تدعي أن ولدها في قيد الحياة وهو في عرف الحكومة دفين كما تثبته السجلات الرسمية، فكان قولها هذا من الأدلة المعقولة التي كان يستند إليها البارون والطبيب في إثبات جنونها.
Bog aan la aqoon