الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
أبو السعود
أبو السعود
تأليف
نقولا رزق الله
هذا يعيش وذا يمو
ت ضنى ولم يدرك فطامه
النحس صير عزه
ذلا وكان له علامه
سبحان من قسم الحظو
ظ فلا عتاب ولا ملامه
الفصل الأول
صاحب الكلب الأسود
كانت الرياح شديدة، والعاصفة تثور هابة من الغرب إلى الشرق، وقد تلبدت الغيوم في السماء واقتم بها الجو فحجب نور القمر.
وهناك رجل يوسع الخطى ويقاوم الزمهرير، وقد التف بوشاح كبير، ولبس قبعة تغطي معظم وجهه، فلا يبدو منه غير لحيته التي وخطها الشيب، وعيناه اللتان كانتا تتقدان كعيون النمورة.
وكان معه كلب كبير بجانبه، وهو طويل الأذنين أسود الجلد، وله عينان تضيئان كعيني صاحبه، يوافق صاحبه، فيسير لسيره ويقف لوقوفه، وكلاهما ساكتان ينظران إلا الأفق المربد، ويهبطان من قمة عالية إلى واد ضيق.
وما زال على سيره حتى خرج من ذلك الوادي، وظهرت له عن بعد أنوار قصر فخيم، وبجانب ذلك القصر نور ضعيف كانت نسبته إلى تلك الأنوار المتألقة كنسبة شمعة الجنازة إلى أنوار المراقص.
فسار الرجل بكلبه إلى مكان ذلك النور، وفيما هو سائر رآه أحد الرعاة، فهلع قلبه من الخوف واستعاذ بالله، وحاد عن طريقه مسرعا.
أما الرجل فإنه هز كتفيه، وأسرع في سيره إلى جهة ذلك النور غير مكترث لما رآه، حتى انتهى إلى ذلك القصر الفخيم، وسمع أصوات الضحك منه، ولكنه سمع أيضا صوتا يشبه الأنين، استرعى كل سمعه.
وكان هذا الصوت خارجا من منزل حقير في حديقة القصر، وهو المنزل الذي كان يضيء فيه النور الضعيف، فتكتف الرجل، ووقف بجانب ذلك المنزل يصغي إلى ذلك الصوت.
الفصل الثاني
وقد سمع صوت امرأة تقول وهي تبكي: «أيتها العذراء الطاهرة، يا نصيرة الضعفاء وغوث الأطفال، أترضين أن يموت ولدي وليس لي سواه؟
إنه أول ثمرة من ثمرات حبنا، وإنه عزاؤنا الوحيد في أعمالنا الشاقة، فزوجي السيئ الحظ يشتغل من الفجر إلى المساء في سبيل رزقنا، وأنا لم أسئ إلى أحد بالفعل أو بالقول، حتى ولا بالضمير، وما خالفت وصية من وصايا الله.
أيتها العذراء، إننا فقيران ولا ثروة لنا إلا هذا الطفل، وهو يفضل عندنا كنوز الأرض، أتأذنين بغروب شمسه وأنت تعرفين قلوب الأمهات؟»
وكانت تستغيث هذه الاستغاثة بصوت يقطعه البكاء، وهي لا تزال في سريرها من تأثير الولادة، تعض يديها من الجزع، وتنظر إلى طفلها في مهده نظرات ملؤها الحنو والشفقة، ثم تنظر إلى زوجها وهو جاث يهز المهد، فتقول: «لقد نذرت، يا حنا نذرا، أرجو أن تتمكن من وفائه، وهو أنه إذا شفي ولدنا ذهبت وإياك حافيين لزيارة مقام السيدة.»
فسالت دمعتان من عيني زوجها، وقال: سنفعل إن شاء الله. •••
كان أثاث الغرفة التي جرت فيها الحادثة يدل على الفقر، ولكنه لا يدل على الشقاء، وكانت مادلين والدة الطفل من أجمل فتيات القرية، وهي في مقتبل العمر، وكذلك كان زوجها، وقد تزوجا منذ عام، وعرف الزوج بالجد، وعرفت المرأة بالصلاح والتقوى.
وكان الزوج ينظر إلى ولده، وقد أقتم وجهه باليأس، فقالت له امرأته: أرى يا حنا أن بكاءه قد خف.
قال: هو ذاك.
قالت: عسى أن تكون العذراء رثت لي، وأصغت إلى توسلاتي، فكفى تهز سريره، واجتهد أن تسقيه الدواء عساه يشربه الآن.
قال: سأجرب ذلك.
ثم قام إلى زجاجة الدواء، فوضع شيئا منها في إناء، وسقى الطفل، فشرب دون أن يبكي، وصاحت الأم قائلة: يا لله من عجائب العذراء! فقد أصغت إلى توسلاتي!
وقال لها زوجها: نامي الآن يا مادلين، فإنك في أشد حاجة إلى الرقاد، فألقت رأسها على الوسادة مطمئنة، ولم تكد تغمض عينيها حتى استرسلت إلى سبات عميق، وبقي الأب يهز برفق سرير الطفل، وهو يحسبه من النائمين ...
وكانت العاصفة في الخارج لا تزال ثائرة، ومع ذلك فإن أصوات الضحك كانت ترتفع من القصر إلى مسامع حنا فيقول: «هنيئا للبارونة، فإنهم يحتفلون الليلة بتنصير ولدها الذي ولد ليلة مولد ابني، ولكن شتان بين حظ هذا وحظ ذاك ...»
وعند ذلك طرق الباب، فقال في نفسه: ترى من هذا الطارق، لعله الطبيب؟!
وقام إلى الباب ففتحه، فدخل منه ذلك الرجل الأشيب وكلبه الأسود، فقال لحنا: لقد بلغ مني الجوع يا سيدي، وأنا شديد الظمأ والتعب، فهل لك أن تضيفني عندك هذه الليلة؟
قال: يعز علي ألا أجيبك إلى ما طلبت، ولكنك ترى غرفتي، فلا يوجد فيها غير سرير واحد تنام فيه امرأتي، وهو كل بيتي، ثم إن ولدي مشرف على الموت، وقد شغلني ما هو فيه عن إحضار طعام في هذا اليوم، فاقصد إلى هذا القصر فإن صاحبه يحتفل بتنصير ولده، وهو فاضل كريم، فعساك تنال حظا من الوليمة. فنظر الرجل وكلبه محدقين إلى الطفل في مهده، ثم قال له الرجل: ولكن الظمأ يكاد يقتلني، فهلا تغيثني بشربة ماء؟
قال: حبا وكرامة، فلا نبخل بما عندنا. وسقاه فشكره الرجل وودعه وانصرف.
جرى كل ذلك ومادلين نائمة، فلما انصرف الرجل، عاد حنا إلى الجثو بجانب سرير ولده، وتمعن به فوجده بلا حراك، فأخذ يده الصغيرة بين يديه فألفاها باردة، فوضع يده على قلبه، فوجد أنه لا ينبض، وقد ازرقت شفتاه واصفر وجهه، فوقف وقد وهنت ركبتاه، وجحظت عيناه، فإذا الولد قد مات وأمه لا تزال نائمة!
الفصل الثالث
ولنعد الآن بالقارئ الكريم إلى ذلك القصر الفخم الذي كانوا يأدبون المأدبة فيه، فقد وضعوا الطفل في مهد من الحرير الأبيض، وأرخوا فوقه ستائر وردية، وأقبل المدعوون يداعبونه بأقوالهم المختلفة، وهو يبتسم لهم كأنه يعلم أن هذه الحفلة أعدت من أجله.
وقد اجتمع المدعوون حوله في قاعة عظيمة، واقترح واحد منهم أن يدعو كل من الحاضرين دعوة للمولود الجديد، ويقول ما يتمنى أن يكون، فوافقوا على اقتراحه، ووقفت عرابته، وهي فتاة حسناء، فقالت: إني أتمنى أن يكون جميلا، ونهض فتى من الضباط وقال: وأنا أتمنى أن يكون باسلا، وقالت امرأة من العجائز: وأنا أتمنى أن يكون محبوبا، وقالت امرأة أخرى: وأنا أتمنى إذا كان محبوبا أن يكون محبا، فلا أسمج في عيوننا - نحن النساء - من فتى لا تنفذ إلى قلبه أشعة الغرام، وقالت أخرى: وأنا أتمنى له ألا يحب غير مرة واحدة، فقال عظيم من المدعوين، وكأنه يعرض بقول المرأة: وأنا أتمنى أن يكون له جواد للصيد يغيره كل عشرة أعوام، وأن يكون له كلب واحد أمين لا يغيره مدى الحياة.
وقال أبو الطفل: أتمنى أن يكون قوي الجسم سليم البنية والأعضاء، وتمنى له عمه أن يرث كثيرا من الناس، وقد تمنى له كل من الحاضرين أمنية على نسق ما تقدم، حتى إذ فرغوا تنهدت أم الطفل وقالت: إنكم تمنيتم له كل أنواع الخير ما خلا أمرا واحدا أغفلتموه، قالوا: ما هو؟
قالت: السعادة! ولكن لم يبق أحد بينكم لم يقل قوله، فيتمنى له هذه الأمنية.
فقال أحدهم: ولكننا لا نزال في أول الليل، ولا بد أن يجيئنا زائر جديد، فنقترح عليه أن يتمنى له «السعادة».
ولم يكد صاحب هذا القول يتم جملته حتى قرع جرس الباب الخارجي، فصاحت الأم قائلة: قد أتى زائر جديد.
وبعد هنيهة دخل رئيس الخدم فقال لصاحب المنزل: إن بالباب يا سيدي الكونت مسافرا يلتمس الضيافة ، فأدخلته دائرة المطبخ، وأتيت أسأل سيدي إذا كان يأذن له بزجاجة خمر يشربها داعيا لابنك الفيكونت.
فقال له الكونت: لقد تسرعت، فأخطأت بإدخاله المطبخ، فأدخله في هذا المكان، فإننا في يوم عيد، أتمنى أن يشترك به معنا جميع الناس.
قال: ولكنه يا سيدي زري الملابس، ويصحبه كلب.
قال: أعطه ملابس غيرها، وليدخل مع كلبه، فإننا نتفاءل خيرا بالكلاب.
فخرج الخادم ممتثلا، وبعد هنيهة دخل الرجل وكلبه في تلك القاعة التي كانت تتلألأ بالأنوار، ووقف عند بابها، فخيل لجميع الحضور حين رأوه أن تلك الأنوار قد اصفر شعاعها، وداخل قلوبهم شيء من الرعب لم يعرفوا سببه.
الفصل الرابع
غير أن الأعجب من ذلك أن الخادم حين ذهب بالملابس الجديدة إلى ذلك المسافر وجد أن ثيابه التي كانت المياه تقطر منها قد نشفت، وأن الثقوب التي كانت في ثوبه قد سدت كأنها رفئت، فنظر المسافر إلى الخادم نظرة احتقار، وقال له: أعد هذه الثياب إلى موضعها، فإن ملابسي تفضل ملابس مولاك، ثم تركه وذهب إلى القاعة التي كانوا ينتظرونه فيها.
فلما رآه صاحب المنزل نهض لاستقباله، وقال له: أهلا بك من قادم يا سيدي أيا كنت.
قال: إني رجل فاجأتني العاصفة في الطريق، فلم أجد فندقا أأوي إليه، وقد رأيت أنواركم المتألقة، وسمعت صوت ضحككم، فعلمت أنكم في حفلة أنس، ففكرت في التطفل عليكم كي أأمن شر العاصفة، فقال صاحب المنزل: حسنا فعلت، وقد أتيت على الرحب والسعة، فإن أبواب منزلي مفتوحة للأضياف.
فلبث الرجل واقفا على العتبة، وجعل ينظر إلى المقصف (مائدة الطعام والشراب) والناس من حوله، فقال: أرى أنكم في وليمة، وما أخطأت فراستي بهذه الأنوار.
قال صاحب المنزل: هو ذاك، فإننا نحتفل بتنصير ولدي، وليس له من العمر غير بضعة أيام، فتعال واشرب نخبه معنا.
فخلع الرجل وشاحه ودخل، فتبعه الكلب، وذهب توا إلى حيث كان مهد الطفل، وجلس صاحب الكلب على كرسي مع المدعوين.
وقد أجفلت والدة الطفل لدنو الكلب من مهد طفلها، وانتهرته، فحول نظره عنه إليها ، وشغل الحضور عن ذلك بالزائر الجديد، فقد كان له تأثير عظيم فيهم، فكانوا يضطربون حين ينظر إليهم، ولا يطمئنون إلا حين ينصرف نظره عنهم إلى مائدة الطعام.
وكانوا كلهم على وتيرة واحدة في اضطرابهم، لا يجسرون على مبادأته بحديث، ما خلا والدة الكونت صاحب المنزل، فإنها نظرت إليه وقالت له: لقد كنا نبحث قبل قدومك يا حضرة الضيف بشأن مولودنا الجديد أبحاثا ذكرتني بالكونت كاليوسترو، فقد عرفته في عهد شبابي، قال الزائر: وأنا كذلك يا حضرة الكونتس، فعجبت الكونتيس لقوله، وقالت له: كيف ذلك، وكم لك من العمر؟
فلم يجبها الرجل على سؤالها، وقال: لقد علمت بما كنتم تتحدثون به، فقد تمنى كل منكم أمنية للطفل حسبما أوحى إليه قلبه، قالت: هو ذاك، ولكن فاتنا أن نتمنى له أمنية لا بد منها.
قال: نعم، فقد نسيتم أن تتمنوا له السعادة.
فوقف الجميع منذهلين لما سمعوه! وقال واحد منهم: ما هذا الذي يبدو منك يا سيدي؟! لعلك من السحرة؟
قال الزائر: في بعض الأحيان، وعند اللزوم.
وقالت له الكونتيس: أحق أنك ساحر؟!
قال: نعم يا سيدتي.
قالت: إذا كان الأمر كذلك، فستكشف لنا أسرار المستقبل، فقد ألفت ذلك في صباي في بلاط لويس الخامس عشر، فإن الملكة كانت تأتي بكثير من المتكهنين، وأذكر أن واحدا منهم تنبأ لها عن الثورة فصدقت نبوءته، وقد كنت أحسب أن عهد السحر قد انقضى، فإن فتيات هذا العصر باتوا يعدونه من الخرافات، فلو ذكر الكونت كاليوسترو أمام ولدي الآن لهزأ به وبسحره.
قال الزائر: لست يا سيدتي ساحرا بالمعنى الذي يفهمه الناس عن السحر والسحراء، ولكنني أتنبأ عن الحوادث المستقبلة.
قالت: وإن السحرة اليوم يتنبئون عن المستقبل؟!
أجاب: نعم، غير أن الفرق بيني وبين هؤلاء الذين يكشفون البخت أنهم إذا سألهم سائل عن مستقبله لا ينبئونه إلا بمستقبل سعيد طمعا بالمكافأة.
قالت: وأنت؟ ألعلك تنذر بالشقاء؟
أجاب: على الأغلب الأعم يا سيدتي، فإني ما نظرت إلى هذا المستقبل إلا رأيت جوه مكفهرا ملبدا بالغيوم السوداء ؛ ولذلك أمتنع عادة عن إجابة السائلين.
قالت: أما أنا فإني جريئة، ورجائي أن تكشف لنا الحجاب عن هذا المستقبل الخفي كيفما كان.
قال: أية فائدة من هذا يا سيدتي؟
أجابت: لقد صدقت، فلا فائدة لي من ذلك؛ لأني في أواخر أيامي، ولكني أرجوك أن تتنبأ لنا عن مستقبل هذا الطفل النائم في مهده.
فرعبت أم الطفل وقالت: كلا!
فقالت لها حماتها: لا ترعبي يا ابنتي، فإنه سيقول خير الأقوال عن ولدك، فهز الساحر رأسه.
فقالت له الكونتيس: هل تريد يا سيدي أن نأتيك بورق اللعب كما كان يفعل الكونت كاليوسترو؟
أجاب: كلا، فإني أكتفي بأن أرى خطوط الكف، فأعرف الطالع ...
قالت: إذن انظر في كفه.
فساد السكوت التام بين الجميع، حتى إنه لو طارت ذبابة لسمع حفيف أجنحتها، وعاد الساحر إلى الحديث فقال: أية فائدة يا سيدتي؟ ألم أقل لك إني لا أرى في جو المستقبل غير العواصف؟
فقال له والد الطفل: لا بأس يا سيدي، ما زالت أمي تلح عليك، وفي كل حال فإني أرجو ألا تجد في كف ولدي إلا ما يدل على الخير مراعاة لحق الضيافة ولما نحن فيه.
أجاب: هذا الذي أتمناه ... ثم نهض وذهب إلى مهد الطفل النائم، فأحدقت به الأبصار كالنطاق، وهو يفحص كفه فحصا دقيقا، ثم قال: إن خطوط الكف لم تتكامل بعد.
فقالت له الكونتيس: إذن لا تستطيع أن تعلم شيئا؟
أجاب: هو ذاك، غير أني رأيت أمرا جليا.
قالت: ما هو؟
أجاب: إنه سيكون لولدكم قوة إرادة لا تغلب.
قالت: إنها كل النجاح في هذا الوجود، ولكن هل تكون له سعادة؟ فأطرق الرجل هنيهة ثم قال: «إن الإرادة تنوب أحيانا مناب السعادة، وتتغلب على الشقاء ...»
وقد قال هذا القول، وقام إلى النافذة، فأطل منها، ثم عاد فقال: لقد سكنت العاصفة، وخمدت البروق، وصفا أديم السماء، فأستأذن بالانصراف، واقبلوا امتناني لهذه الضيافة التي لا أنساها ما حييت.
فقال له الكونت: كلا، إني لا أدعك تنصرف قبل أن تشرب نخب سعادة ابني ...
قال : يعز علي أني لا أستطيع الشرب، وفوق ذلك فخير لكم ألا أشارككم في شرابكم، فإني شؤم على من أنادمهم. وقد تركهم ومضى دون أن يخطر لأحد أن يستوقفه، فتبعه كلبه.
فقالت الكونتيس بعد انصرافه: لقد خيل لي حين رأيت هذا الرجل؛ أني رأيت الكونت كاليوسترو، فقد عرفته كثيرا، وقالت إحدى السيدات: أما أنا فقد خفته كثيرا.
وقالت أم الطفل: أما أنا فقد أثرت في نظراته ونظرات كلبه تأثيرا عظيما، حتى إنها كادت تنومني. •••
وبعد ذلك ببضع ساعات تفرق الناس، وأطفئت أنوار القصر، ونقلوا مهد الطفل إلى غرفة أمه، وقد نامت الأم نوما عميقا لتأثرها بنظرات الساحر، ولم تكد تستغرق في رقادها حتى فتح باب تلك الغرفة، ودخل منه رجل، فمشى إلى مهد الطفل مشية اللصوص.
الفصل الخامس
كان هذا الرجل - ولا شك - من الذين ألفوا الدخول في هذا المنزل، وإلا لما تمكن من الوصول إلى هذه الغرفة لكثرة الخدم ولانتشار الكلاب في الحديقة، وكان قد دخل من الحديقة إلى الردهة الكبرى، وصعد السلم، فانتهى منه إلى قاعة المائدة التي كانت تتألق فيها الأنوار في أول الليل، فوقف عند عتبتها مترددا، وقد جمد الدم في عروقه وأصيب بدوار.
غير أن هذا الدوار لم يطل، فمشى إلى قصده وهو يقول في نفسه: إن لهم من ثروتهم عزاء!
وكان قد ستر تحت وشاحه جسما لم يظهر للعيون، وجعل يدخل من قاعة إلى قاعة كأنه من أهل المنزل.
حتى إذا وصل الغرفة التي كان فيها الغلام وأمه عاد إلى ما كان عليه من التردد، ثم مشى خطوة وأردفها بأخرى إلى أن انتهى إلى مهد الطفل، وهناك رأى الأم نائمة في سريرها، وقد برزت يدها من تحت الدثار، وامتدت إلى جهة طفلها كأنها تريد أن تحرسه وهي نائمة.
وعند ذلك أخرج الرجل هذا الجسم الذي كان تحت وشاحه، فإذا به جسم طفل ميت، وقد حمله فوضعه في مهد الطفل الحي، وأخرج الحي من مهده بملء الرفق، فلم يستيقظ من رقاده، وخرج به من تلك الغرفة ، فسار في الطريق التي جاء منها حتى وصل الحديقة، وكان الليل مشتد الحلك، غير أن الفجر قد بدأ ينبثق كأنه يراقب ذلك اللص ويقول له: اتق الله في سرقة الطفل!
وفيما هو يسير رأى عينين تبرقان، فوجف قلبه من الرعب، وحدق إلى العينين، فعلم أنهما عينا الكلب الأسود؛ كلب ذلك الرجل الغريب الذي حسبوه ساحرا في القصر.
عند ذلك خاف وخطر له أن يرجع الطفل إلى أمه، لكن الكلب ابتعد عنه وتوارى عن نظره، فتشجع واستمر في سيره وهو يضم الطفل إلى صدره ويقول في نفسه: مهما يكن من الأمر، فإني أنقذ امرأتي من الموت؛ لأنها إذا علمت بموت ولدها تموت لا محالة.
ومشى في الحديقة حتى قرب من منزله، وهناك جمد في مكانه من الرعب؛ إذ رأى رجلا جالسا على حجر، وكان هذا الرجل صاحب الكلب الأسود الذي دخل بيته في أول الليل وسقاه ...
وكان ينظر إليه نظرات لا تشبه في شيء نظرات البشر، فهلع قلب حنا من الخوف، واستعاذ بالله وقد أطبق عينيه، فلما فتحهما لم يجد الرجل ولا كلبه، ودخل إلى بيته، فوضع ابن سيده الكونت في مكان ولده الميت ...
وفي صباح اليوم التالي صحا الطفل وهو يبكي، فحمله حنا إلى امرأته، فأرضعته وهي تحسبه ابنها، وشكرت الله والعذراء وغيرهما لشفائه من مرضه، ثم أخذت تداعبه وتلاعبه، وقد حانت منها التفاتة إلى زوجها، فرأته جالسا في زاوية الغرفة يبكي، فاضطربت وقالت له: ما هذا البكاء يا حنا؟
قال: إننا نفرح وأسيادنا يبكون.
قالت: ماذا تعني؟!
أجاب: إن ابن الكونت مات في هذه الليلة.
ثم وضع رأسه بين يديه، وجعل يبكي ويقول في نفسه: ويح لنفسي مما جنيت! ويا ويلتاه! فسيعاقبني الله أشد عقاب!
الفصل السادس
ذكرى بهلوان
كان الاجتماع في قاعة فخمة في باريس عند مغنية نالت شهرة عظيمة في عهد قريب، بل إنها نالتها فجأة، فدهش الباريسيون لأمرها، ولم يعلموا من أين جاءتهم، كأنها هبطت إليهم من السماء، فكان بعضهم يقولون إنها إيطالية، ويؤكد آخرون أنها إسبانية، والحقيقة أنه لم يكن يعلم حقيقة أمرها أحد ...
وكانت هذه الفتاة قد أعدت في منزلها حفلة راقصة، وانتهت الحفلة، وتفرق المدعوون، فلم يبق منهم غير الأخصاء، وكانت هذه الممثلة - واسمها باكيتا - تحادثهم، فكان آخر خطابها قولها: «هذه هي حالتي أيتها السيدات والسادة، فقد كنت بهلوانة، أرقص على الحبل براتب لا يتجاوز فرنكين في اليوم قبل أن صرت مغنية في المراسح، وراتبي مائة ألف فرنك في العام!»
فصاح الرجال قائلين: هذا محال ... وقال النساء: إذن كم يبلغ عمرك؟
أجابت: خمسة وعشرين عاما، فقد بدأت بالرقص على الحبل، والغناء عند أبواب الحانات في التاسعة من عمري، إلى أن أتيح لي أن أتعلم فن الغناء على قواعده، فبلغت هذا المبلغ.
وكان بين الحضور رجل من الصحافيين فقال لها: لقد أصبح الناس عندنا يترنمون باسمك يا «باكيتا المقدسة»، ولو عملت برأيي، ونشرت مذكراتك تباعا في جريدتي ...
فقاطعته الفتاة بابتسامة تشف عن السويداء وقالت: أية فائدة من نشر مذكراتي، وحوادثي لا تختلف كثيرا عن حوادث سواد الناس المألوفة؟! فقد شقيت، وأحببت، وجعت وبردت، ورجوت ويئست، وفرحت وحزنت، وليس في كل ذلك ما يثير لجدته، ولكن إذا شئتم ذكرت لكم مقدمة عن أيام حداثتي ... فهتف الصحافي لها، وأخرج من جيبه دفتر مذكراته؛ كي يكتب ما يروقه من حوادثها.
وقد التف الناس حولها شبه دائرة، ولم يخرج عن هذه الدائرة غير فتى في مقتبل الشباب يدعى چوفر، كان منزويا في القاعة يسمع الحديث ولا يشترك مع المتحدثين.
أما باكيتا فإنها قالت لهم: إني سأبدأ حديثي، فأروي لكم حكاية فتى يلقب بالسيئ البخت. فقال الصحافي: من هو هذا الفتى يا سيدتي؟ قالت: سوف تعلم، فاسمع!
لقد تقدم لي القول أني كنت أشتغل بهلوانة في أحد الأجواق المتنقلة، وقد سافرت مرة مع هذا الجوق إلى الرين، ولم يكن لي من العمر غير اثنتي عشرة سنة، فكنا إذا أعيانا التعب جلسنا للاستراحة في الحقول التي كنا نمر بها، فتشتغل امرأة صاحب الجوق بإعداد الطعام، ويربط زوجها حبلا بين شجرتين ، فيمرنني على الرقص عليه، وكان هذا الرجل كريم الأخلاق، وجدني طفلة فرباني، وعلمني صناعته حتى أصبحت عماد جوقه، وكان يدعى كوكليش، فكان يدعوني ابنته وأنا أدعوه أبي، وكذلك امرأته؛ فقد كانت تحسن إلي كثيرا.
وقد غابت الشمس يوما ونحن في الطريق، فلقينا غلاما صغيرا عائدا إلى القرية من الحقول فاستوقفناه، وسألناه إذا كانت القرية لا تزال بعيدة، فقال: إنها تبعد مرحلة أيضا - فركة كعب - وذلك يعني عشر مراحل في اصطلاح القرويين. قلنا: ألا يوجد منزل قريب أو مزرعة قبل القرية؟ قال: نعم، فإن منزل أبي يبعد ربع ساعة، وهو وراء هذه القمة.
فابتسمت له وسألته قائلة: هل لك أن تذهب بنا إلى منزل أبيك؟ فظهرت عليه علائم الخوف الشديد وقال: كلا!
فوضعت يدي على رأسه وعبثت بشعره وقلت: لماذا؟
قال: لأنه يضربك إذا ذهبت إليه، كما يضربني لأني أخذتك إلى منزله.
فأشفقت عليه، وجعلت أتمعن في وجهه الجميل، فرأيت في جبينه أثر جرح، فقلت له: من أين هذا الجرح؟ أجاب: لقد سقطت من فوق شجرة عالية أمس.
قلت: ولماذا يضربك أبوك، لعله شرير؟ فعاوده الرعب وقال: احذري يا سيدتي أن تذهبي إليه، فقد قلت لك إنه يضربك.
فسأله كوكليش قائلا: ماذا يشتغل أبوك يا بني؟ قال: إنه يعمل في الأرض، قال: وهل المواشي التي يحرث بها الأرض ملكا له؟ أجاب: كلا! بل هي لصاحب المزرعة، وأنا أشتغل عنده مع أبي.
قال: هل يضربك صاحب المزرعة أيضا؟
أجاب: كلا، ولكن أبي يضربني دائما أبدا وبقسوة.
فاشتدت شفقتي عليه، وقلت له: ألا تدافع عنك أمك؟!
قال: إن أمي ماتت، ثم أخي يبكي، فجعلنا نلاطفه حتى انقطع عن البكاء.
فسأله كوكليش: أين هي المزرعة يا بني؟ أجاب: إنها تبعد قليلا عن بيت أبي. قال: أتريد أن ترشدنا إليها؟
أجاب: بكل سرور فإني ذاهب إليها. وأخذ يركض أمامنا، وأنا أركض في أثره، فأعجبت به كل الإعجاب.
وفيما هو يقمز قمزات الغزلان عثرت رجله، فوقع على الأرض منبطحا، وسال الدم من جرحه القديم، فصحت صيحة ذعر، وأخذت أبكي لما أصابه، ولكنه ابتسم لي وقال: لا تبكي يا سيدتي، فليس هذا بشيء بالقياس إلى ما يصيبني كل يوم، ولم يلقبني أهل القرية عبثا بالسيئ البخت أحيانا، وبالمنحوس أحيانا.
الفصل السابع
وعند ذلك صاح الصحافي قائلا: لقد أحسنت يا باكيتا، فإنك تقصين علينا أحسن القصص.
قالت: إن خير القصص ما كان حقيقة كهذه الرواية، ثم عادت إلى إتمام حديثها، فقالت: وما زلنا نسير حتى تجاوزنا منزل أبيه فسكن رعبه، وعدت إلى محادثته فقلت له: لماذا لقبك أهل القرية بالمنحوس؟
قال: لأني منكود الطالع منذ خلقت، فقد ماتت أمي وأنا لا أزال طفلا، وأبي يضربني في كل حين، وما تسلقت شجرة إلا وسقطت عنها، وما وثبت من فوق حفرة إلا وقعت فيها؛ مع أني أمهر أترابي في الوثوب، ولكني منكود الطالع - كما قلت لك - وكل ذلك بسبب «صاحب الكلب الأسود.»
قلت: من هو صاحب الكلب الأسود؟
قال: هو رجل رآني يوم مولدي، فكتب لي الشقاء في هذه الدنيا، وهذا الذي يقوله أبي حين يكون غاضبا، وكذلك أهل القرية، فلا حديث لهم إلا عن صاحب الكلب الأسود.
وقد لبث الغلام يحدثني بهذه الأحاديث البسيطة إلى أن وصلنا إلى منزل خولي المزرعة، فأحسن الرجل استقبالنا، وأعد لنا فرشا من القش وذبح لنا أوزة، وبعد الطعام أخذنا نتحدث عن الغلام.
فتنهد الخولي مظهرا تأسفه عليه، وقال: من أعظم مصائب هذا المنحوس أن أباه لا يحبه، ولو لم يلجأ إلينا لما بقي إلى الآن في قيد الحياة. قلنا: لماذا؟
قال: إن لهذا الرجل حكاية غريبة لا تحتمل التصديق، ولكنه مختل العقل بدليل أنه أقام في مستشفى الأمراض العقلية مدة عامين، فلما خرج منه كان صوابه قد رجع إليه، ولكن نوبات الجنون كانت تعاوده أيضا، ومع ذلك فقد لبث هادئا ساكتا إلى أن ماتت امرأته، وكان اسمها مادلين، فظهر كرهه لولده، وجعل يقول: إنه ليس بولده بل هو ابن الكونت، فذهلنا لما سمعناه وقلنا: كيف ذلك؟
قال: إن حنا - والد هذا الغلام - وامرأته مادلين كانا بستانيين في حديقة الكونت، وقد ولدت الكونتيس ومادلين غلامين في يوم واحد، ففي ليلة العماد مات ابن الكونت، فاشتد وقع ذلك على حنا، وفي الليلة التالية احترق قصر الكونت، فأصيب حنا على أثر هذه الحوادث بالجنون، ونقل إلى المستشفى، وبعد أن خرج منه جعل يروي حكاية غريبة محصلها أن ابن الكونت لا يزال حيا، وأن ولده هو الذي مات، فاستبدله بولد الكونت الحي؛ كي لا يقتل الحزن زوجته مادلين. ولم يثق أحد بهذه الرواية بالطبع؛ لأن الرجل كان مجنونا ...
وكان الكونت قد باع قصره والأرض الملحقة به بعد نكبته، وسافر إلى باريس. فاشتدت نكبة حنا وامرأته؛ إذ لم يعد لهما عمل يرتزقان منه، ومرضت مادلين مرضا مبرحا أفضى إلى موتها، فبدأ كره حنا لولده من ذلك اليوم لاعتقاده أنه سبب كل مصائبه، وجعل يضربه دون رحمة كلما التقى به، إلى أن هرب يوما من عنده ولجأ إلينا فآويناه، ومع ذلك فهو يصاب كل يوم بأشد ما يصاب به الإحداث حتى لقبه الناس بالسيئ البخت، مع أنه يدعى ضد لقبه أي «فليكس» ومعناه «السعيد».
وكنت جالسة بجانب الغلام حين كان خولي المزرعة يروي لنا حكايته، وقد أخذ الغلام قطعة من الخشب، وجعل يتلهى بحفر رسم نقشه عليها، فأخذت الخشبة من يده، وقلت له: من الذي علمك صناعة النقش على الخشب؟
قال: تعلمتها من تلقاء نفسي؛ إذ لا يوجد هنا معلمون.
وقال الخولي: إن له ميلا شديدا إلى هذه الصناعة، وقد نقش رسوما كثيرة تدل على صفاء ذهنه.
وقد تمعن كوكليش بهذه الرسوم وقال: إنه سيخرج نقاشا ماهرا لا محالة إذا مارس النقش.
أما أنا فقد فرحت به فرحا عظيما حتى إني لم أتمالك نفسي عن معانقته، فقبلني كما قبلته، وقال لي: ألا تريدين أن تكوني أختي؟
قلت: دون شك، قال: إنك تقولين هذا القول اليوم، ثم تسافرين في الغد، فلا أعود أراك مدى الحياة، ألم ألقب بالسيئ البخت؟!
وقد رأيت عند ذلك دمعتين سالتا من عينيه الزرقاوين، وأطرق إطراق الحزين، فأخذتني به رأفة عظيمة ونكفت - مسحت عن خدي - دمعتيه بشفتي. وصمتت باكيتا هنيهة، ثم عادت إلى الحديث فقالت: وأقمنا في منزل الشيخ نتحدث في أمور مختلفة إلى أن سألنا عن مهنتنا، ولما علم ما هي اقترح علينا أن نلعب في اليوم التالي، وأجبناه إلى سؤاله، فلما كان اليوم التالي ورآني الغلام أمشي على الحبل، هجم علي بعد نزولي، فعانقني وقال لي: إني أريد أن أفعل كما فعلت، قلت: ذلك صعب لا تستطيعه، قال: بل أتعلمه في أقرب حين إذا نويت، وكان أحد غلمان المزرعة واقفا فقال متهكما: إنك لا تستطيع تسلق الشجرة دون أن تقع، فكيف تستطيع المشي على الحبل؟! فاحمر وجهه من هذا الهزء، وبرقت عيناه ببارق دل على «قوة إرادة لا تغلب»، وقال: إني أريد أن أجرب.
ثم صعد السلم إلى الحبل الذي كان مشدودا بين شجرتين ووقف على الحبل بتوازن عجيب، فتمكن من الوقوف بضع ثوان، ثم تمكن من المشي خطوتين، فانقطع الناس عن الضحك، وأخذت أنا أشجعه، وقد أعجبت به إعجابا عظيما، فمشى أيضا خطوتين، ثم اختل توازنه، فوثب إلى الأرض دون أن يصاب بأذى. وعند ذلك صفق له الجمهور، وقال خولي المزرعة وهو يضحك: هذه أول مرة لم يسقط فيها على أنفه.
أما الغلام فإنه دنا مني، وقال لي بصوت منخفض: لقد رأيت كيف أني سأتعلم في أقرب حين، فإذا أذنوا لي أن أكون معك أصبحت مثلك في زمن قريب.
وفيما هو يكلمني اضطرب وجهه، وتبين الذعر في عينيه، فصاح قائلا: هو ذا أبي وقد أتى ليضربني.
فالتفت فرأيت حنا البستاني وهو يناهز الأربعين من العمر، وله وجه جميل غير أن الجنون ذهب بجماله.
وقد تقدم من ولده وهو يهدده بقبضتيه، ويقول: لقد أصبحت الآن بهلوانا أيها الشقي، فلو رآك أبوك الكونت على هذه الحال لقال ما يقوله جميع الناس أنك ابن بستاني، ولما صدق أنك فيكونت ابن كونت، وهجم عليه يريد ضربه، ولكن كوكليش حال دون قصده، فنظر إليه حنا وقال: أأنت هو مدير الجوق؟ قال: نعم.
قال: إذا كان الأمر كذلك، فإني أبيعك هذا الغلام، فتعلمه صناعتك، وتربح منه ربحا طائلا. فاشمأز كوكليش من هذا الاقتراح، وقال له: لست من الذين يسرقون، وليس هذا الغلام بسلعة فيباع ويشترى، فاذهب من هنا أيها الشقي، واعلم أنك إذا ضربت ولدك بعد الآن شكوتك إلى الحكام.
أما الغلام فإنه طوق عنقي بذراعيه وقال لي: لماذا لا يريد أبوك أن يشتريني؟ فإني أسير معك بملء الرضى والسرور إلى حيث تذهبين، فقلت له: إن ذلك لا يجيزه الشرع، فابق هنا سيحميك شيخ القرية، وعسى أن يقدر الله لنا اللقاء.
وقد سافرنا في اليوم التالي، ولكننا ما اجتزنا بضع مراحل حتى رأيت غلاما يسير راكضا إلينا، فخفق قلبي، وقلت لرفاقي: هذا هو المنحوس قد أدركنا، ولما وصل إلينا جعل يقبلني ويقول: لقد قدر الله لنا اللقاء كما قلت، وإني لا أفارقك بعد الآن.
وكانت يده اليسرى مربوطة إلى صدره بمنديل، فقلت له: ما أصاب يديك؟ قال: فقد ضربني أبي فكسرها.
وقد كان جوقنا فقيرا لا يستطيع القيام بأود الغلام، فاختلفت الآراء فيه، وقاموا ينوون إرجاعه إلى القرية، غير أني تعهدت بتعليمه وتدريبه على مهنتنا، فرضوا بعد أخذ ورد أن يكون معنا، وسافر وإيانا، فلم يمر به شهر حتى تمرن، وبات عضوا عاملا في الجوق. •••
مضى على ذلك ستة أعوام فترعرع الغلام حتى كاد يبلغ مبالغ الشباب، وكبرت أنا، فباتوا يحسبونني من جميلات النساء، فقد كنت في الثامنة عشرة من عمري، وكان هو في الرابعة عشرة.
وقد ارتقينا في المهنة حتى صرنا من الممثلين، وعرف مدير الجوقة رخامة صوتي، فكنت أغني في فترات الفصول أناشيد، كان يطرب لها الحضور، ويأتون في كل ليلة لسماعها.
فبينما كنت أغني ذات ليلة، دخل دار التمثيل فتى جميل الطلعة حسن الهندام، يدل كل ما فيه على أنه من طبقة أرقى من طبقة الحاضرين، ولست أدري أهو صوتي أم هو جمالي الذي جذبه إلى حضور تمثيلنا دون تمثيل الأجواق الشهيرة، ولكني أعلم أنه كان ينظر إلي نظرات منكرة، فلما انتهيت من الغناء دخلت في المكان الخاص بالممثلين، وتواريت عن أنظاره بين الكواليس، غير أنه لم يحفل باحتجابي، فاخترق صفوف الناس ودخل إلي.
وهنا استراحت باكيتا هنيهة، ثم عادت إلى الحديث، فقالت: لا بد لي قبل الخوض في تتمة الحديث أن أذكر لكم ما كان بيني وبين فيلكس في خلال هذه الأعوام التي مرت بنا، فقد كان يدعوني أخته العزيزة، ولم نكن نفترق لحظة، فإذا خلونا عطف علي دون كلفة، وقبلني بلهف وحنو، فلم أكن أدري أكان ذلك منه حب إخاء أم حب غرام، غير أن رفاقنا الممثلين رأوه مرات ينظر إلي ساهما نظرات غرام، لا تخفى على أحد من الناقدين، حتى إن مدير الجوق قال له مرة وقد رآه ينظر إلي هذه النظرات: أسرع يا بني بالنمو والكد إذا أردت أن تصير باكيتا امرأتك.
فاحمر وجهه خجلا، وبلغ منه الحياء أنه لم يعد يقبلني حين نختلي، غير أنه كان حين نفرغ من التمثيل يجلس إلي، فيروي لي حكاية الكلب الأسود وصاحبه، وكل ما كان يرويه حنا البستاني في ساعات جنونه، وينتهي من ذلك إلى قوله: إني ما خلقت لأكون سعيدا.
وقد عارضته مرارا في استنتاجه هذا، فكان يقول لي: كلا، فإني لا أنسى يوم ماتت أمي، ولم يكن لي من العمر غير خمسة أعوام، فدخل إليها أبي وهي على فراش النزع، فقال لها: إني عائد الآن من الكنيسة، وقد نذرت إلى الله إذا شفاك أن أرد الغلام إلى أهله ... لا تنظري إلي هذه النظرات، فما أنا بمجنون كما يتوهمون، ولكن وخز الضمير يكاد يفقدني صوابي، فاعلمي الحقيقة يا امرأتي العزيزة، وهي أن هذا الغلام الذي تحبينه وتحسبينه ولدك إنما هو ابن الكونت، عرفته يوم جاءنا صاحب الكلب الأسود، ووضعته مكان ولدنا الميت شفقة وإشفاقا عليك، فلم تجبه أمي بكلمة لاعتقادها أن ذلك هذيان مجنون، وضمتني إلى صدرها، فما أفلتتني حتى فاضت روحها، فلما رأى أنها ماتت غضب غضبا شديدا، واختطفني من يدها وهو يقول : أنت السبب في كل نكبتنا، ثم طرحني بعنف إلى الأرض فأغمي علي، فلما استفقت وجدت المنزل غاصا بالناس، وقد أناروا شمعة عند سرير أمي الميتة، وأخذ أبي يغني، فقد بلغ به الجنون أبعد مراميه، ومن ذلك العهد بدأ يضربني، ويتهمني تهما غريبة، على أني بت أعتقد اعتقادا راسخا أن حكاية هذا المجنون صادقة، وأني ابن الكونت فعلا، ولكن كيف السبيل إلى إثبات ذلك؟ وا أسفاه!
وكنت أرى في شعره خصلة وخطها الشيب، وقد سألته مرة عنها فقال: كذا خلقت، فقلت: إن هذه الخصلة البيضاء في شعرك ستثبت نسبك، فإنها تكون عادة إرثا في العائلات، فأطرق برأسه ولم يجب، فطوقت عنقه بذراعي وقبلته، فارتعد ثم جعل ينظر إلي ويبكي.
فقال واحد من الحاضرين: أراك نسيت يا باكيتا ذلك الرجل الذي دخل بعد انتهائك من الغناء ليلقاك بين الكواليس.
قالت: كلا، لم أنسه، وإليكم حكايته فاسمعوها. فإنه حين دخل سألته عما يريد فقال لي: لقد أعجبني صوتك، فهل تعلمت فن الغناء على يد أساتذة؟ قلت: كلا! قال: إذن فاعلمي أني غني، ولي اتصال بأحد المراسح الكبرى، فإذا شئت دفعتك إلى موسيقي ماهر تتعلمي عنه الغناء على أصوله، ثم أدخلك ذلك المرسح براتب ألفي دينار في العام، ونحن نكون من الرابحين.
فدهشت لقوله ولفداحة هذا المبلغ الذي لم يكن يخطر لي في بال، حتى حسبته هازئا فقلت له: ولكني لا أريد أن أتخلى عن هذا الجوق الذي ربيت فيه، فقد بات أصحابه بمنزلة أهلي، وأنا قوام هذا الجوق.
قال: حاشاي أن أسيء إليهم! فسأعوضهم عنك بمبلغ مناسب يكون لهم ثروة، وسأترك لك رقعة زيارتي وعنواني، وأنا موقن أنك ستزورينني وسنتفق، وكان يكلمني وقبعته في يده، ففيما أنا أنظر إليه منذهلة من اقتراحه، رأيت في رأسه خصلة بيضاء من الشعر تشبه تلك الخصلة التي في رأس «فيلكس» شبها عجيبا، حتى كأنها هي، فكدت أصيح لانذهالي، ثم ترك لي رقعة زيارته وانصرف، فلم أنتبه له لشدة ذهولي، ثم قرأت الرقعة بعد انصرافه فكان مكتوبا عليها :
البارون دي نيڤيل، شارع ميرمونستيل، رقم 13.
ولم أخبر فيلكس بشيء من ذلك غير أني لم أنم تلك الليلة، وفي صباح اليوم التالي سألته عن اسم القرية التي ولد فيها، فقال لي: اسمها سانت چرمين.
قلت: ألا تعرف القصر الذي كان فيها واسم صاحبه؟ قال: نعم، فقد كانوا يدعونه القصر المحروق، ويقولون إن صاحبه كونت، وهذا كل ما أعرفه.
ولم يكترث لسؤالي، أما أنا فقد صبرت يومين على رجاء أن يعود إلي ذلك البارون، فلما رأيته لم يعد خرجت في صباح يوم وجميع الرفاق نيام، فذهبت توا إلى قصره في شارع «ميرمونسيل».
الفصل الثامن
وقد استقبلني البارون بملء الاحتفاء، وكان عنده مدير المرسح، فعرفني به، وقال له: هذه هي الفتاة التي حدثتك عنها، ثم نظر إلي بكل احترام وقال: تفضلي بالجلوس أيتها الآنسة، فإننا على وشك الدخول في غرفة المائدة، وستأكلين معنا، والآن فلنبحث في شأنك، فقد دلني قدومك على الإذعان لنصيحتي، وسيكون لك في فن الموسيقى أعظم شأن، فكم لك من العمر؟ قلت: تسعة عشر عاما، قال: إنك لا تزالين قاصرة، فمن هو ولي أمرك؟ قلت: مدير الجوق الذي أشتغل فيه.
قال: إذن هو الذي سيتولى التوقيع عنك على عقد اتفاقنا، فاعلمي الآن أني من أهل الشغف بالموسيقى، حتى إني ألفت جوقا لا للطمع بالربح، بل لغيرتي على هذا الفن الجميل، وقد أعجبني جمال صوتك الرخيم، ولكنك في حاجة إلى درس قواعد هذا الفن، فسأعين لك أستاذا يدرسك عامين، وأعقد معك اتفاقا لمدة خمسة أعوام، فيكون راتبك عشرين ألف فرنك في العام مدة الأعوام كلها؛ أي في مدة التدريس والعمل، فما اسمك؟
قلت: باستنكيت، قال: إنه اسم لا يوافق المراسح الكبرى، وسيكون اسمك بعد الآن باكيتا، ولكن ما بالك تنظرين إلي هذه النظرات؟
وكنت شاخصة كل مدة الحديث إلى الشعر الأبيض في رأسه، فقلت: لا أجسر يا سيدي البارون على أن أذكر السبب.
قال: بل قولي ما تشائين فلا جناح عليك.
قلت: ألا تستاء مما سأقوله؟
أجاب: كلا!
قلت: كم لك من العمر سيدي؟
أجاب: ثمانية وعشرون عاما.
قلت: إنك لا تزال في مقتبل الشباب، فما هذا الشيب في رأسك؟
فقهقه ضاحكا وقال: ليس هذا بشيب يا ابنتي، بل هو إرث يرثه كل أعضاء أسرتنا.
قلت: كان أبوك مثلك؟
أجاب: نعم، وكذلك عمي.
قلت: ألك عم؟
أجاب: إنه مات، وترك ثروته لامرأته، ولكن يحتمل أن أرثها قريبا؛ لأن المسكينة لا تعيش طويلا.
قلت: أهي مريضة؟ وقد سألته هذا السؤال بلهف خجلت بعده، فقلت له: أسألك المعذرة يا سيدي لما تراه من فضولي، وعلى ذلك ستغدو كثير الثروة بعد وفاتها؟
قال: هو ذاك، فلا وارث لها سواي، فإن هذه المنكودة فجعت بولدها الوحيد، حين كانت تقيم في أرضها في «سانت مرتين»، ومن جملة مصائبها أن قصرها احترق يوم تشييع جنازة ولدها، فاعتزلت الناس أجمعين، وهي الآن تقيم في قصر لها يدعى قصر بليمور قرب فرساي، وقد سجنت نفسها فيه سجن الراهبات في الدير.
وبعد أن فرغنا من هذه الأحاديث، وعرفت كل ما أردت أن أعرفه استأذنت بالانصراف، وقد وعدت البارون أني سأخابر مدير جوقتي في شأن اقتراحه، وأعود إليه بعد غد بحقيقة ما أنويه.
ولما عدت إلى الجوقة، وجدتهم قد شغلوا بغيابي، وتباينت أقوالهم، حتى لقد اتهمني بعضهم بالميل إلى هذا الفتى الجميل الذي زارني - أي البارون - وكانت علائم الحزن الشديد بادية في وجه فيلكس، فضحكت وأخبرتهم بكل ما جرى، فسر الجميع لنجاحي، ولا سيما صاحب الجوقة وامرأته عدا فيلكس، فقد رأيت الدمع يجول في عينيه، فدنوت منه، وهمست في أذنه قائلة: طب نفسا يا عزيزي، فلا تفرق الثروة بيني وبينك، وسأكون لك ما حييت.
وفي اليوم التالي ذهبت إلى فرساي بغية مقابلة الكونتيس المعتزلة في قصرها، ولقيت عناء شديدا حتى أذنت لي بمقابلتها، فأدخلوني قاعة عظيمة، وأقمت فيها أنتظر قدوم الكونتيس.
وكان في تلك القاعة خمس صور كبيرة، لا شك أنها كانت صور أعضاء أسرة الكونتيس، فوقفت أنظر إلى هذه الصور، وأنا معجبة بما أراه، فقد كان في رأس كل صورة من هذه الصور خصلة بيضاء كخصلة فيلكس، حتى إذا انتهيت إلى آخر صورة صحت صيحة دهش عالية، فقد خيل لي أني أرى رسم فيلكس نفسه ممثلا بهذا الرسم، وعند ذلك فتح الباب، ودخلت امرأة بملابس السواد، وهي الكونتيس.
الفصل التاسع
وكنت قد ذهبت إلى فرساي، يصحبني شيخ من رفاقنا في الجوق، وكنت علمت خلال بحثي عن قصر الكونتيس، أنها تبحث عن وصيفة تقيم معها في القصر، وبما أني أصبحت واثقة أن فيلكس هو ابن هذه الكونتيس فقد دخلت عليها بحجة أني أريد الاستخدام عندها، وإنما الحقيقة أني كنت أريد أن أخبرها أن ابنها الذي تندبه لا يزال في قيد الحياة.
فلما رأيتها وجدتها امرأة تبلغ الأربعين من العمر، ولا تزال في ريعان الجمال، غير أن الهم نهكها بعد موت ولدها وزوجها، فخارت قواها، وباتت كالخيال الجميل، وقد أشفقت أن أفاجئها بهذا النبأ.
وقالت لي بلهجة تدل على أن الحنو ملكة فيها: لقد أخبروني يا ابنتي أنك تريدين أن تقيمي معي؟ قلت: هو ذاك يا سيدتي.
قالت: ولكنني أعيش هنا كأنني في دير لا أزور أحدا، ولا يزورني أحد، ألا تخشين الضجر وأنت لا تزالين في ريعان الشباب؟ قلت: كلا، فإني أرى من مخائل كرمك ما يشفع بهذه الوحدة في صحبتك.
قالت: أتريدين أن تكوني عندي منذ اليوم؟
قلت: نعم يا سيدتي.
قالت: هل أتيت وحدك؟
قلت: كلا، فقد صحبني قريب لي، وسيعود فيأتيني بملابسي.
قالت: اذهبي إذن يا ابنتي، وأخبريه بما اتفقنا عليه.
فقمت من فوري إلى الممثل الشيخ، وأخبرته بما عزمت عليه من الإقامة عند الكونتيس، فكان بيني وبينه جدال عنيف أسفر عن امتثاله لي بعد أن علم قصدي، فأوصيته بكتمان ذلك عن فيلكس وعن كل أفراد الجوقة.
فقال: إذن ماذا أقول للمدير؟
قلت: قل له إني أشتغل في مهمة تعود عليهم جميعهم بالربح الجزيل، فانصرف، وعدت إلى الكونتيس، فأقمت عندها بقية ذلك اليوم أسليها بالقراءة؛ لأن نظرها كان قد تأثر من كثرة البكاء، فلم تعد قادرة على القراءة الكثيرة.
وفي المساء دخلت إلى مضجعي في غرفة ملتصقة بغرفة الكونتيس، وحاولت الرقاد فلم أستطع، وبعد ساعة سمعت الكونتيس تصلي بصوت مرتفع، ثم ختمت صلاتها بمناجاة زوجها فقالت: أيها الزوج الحبيب، لقد قدر الله لي الشقاء حتى في آخر أيامي، فهل يريد بذلك إنذاري بأني لاحقة بك قريبا إلى دار الخلود؟ إني أحلم في كل ليلة منذ بضعة أيام حلما واحدا لا يتغير، وهو أني أرى ولدنا ولا أراه، ذلك الطفل الصغير الذي كنت أركع وإياك عند مهده، بل أراه غلاما كبيرا يشبهك أدق الشبه، كأنه أنت، وكنت أسمعه يقول لي وهو يبتسم: لا تجزعي يا أماه فهذا أنا ... أنا ابنك، فإني لم أمت! فكنت أسمع هذا الصوت، ولا أجسر أن أتحرك في مضجعي، وأقول رباه: ما هذا الحلم الرهيب؟!
ثم سمعتها تبكي بكاء يقطع القلوب شفقة، حتى لقد هممت أن أقوم إليها وأقول لها: ليس ذلك حلما أيتها الكونتيس، بل حقيقة، ولكني خشيت أن يقتلها الفرح، فقد سمعت قولا لحكيم من شعراء العرب مفاده «ومن فرح النفس ما يقتل»، فعدلت عن عزمي، وعولت على أن أتدرج في إخبارها وقاية لها من تأثير هذا النبأ.
وفي صباح اليوم التالي صحوت وصحت الكونتيس، وذهبت إليها في غرفة القراءة، وبينما أنا أقرأ لها سيرة من سير الشهداء، دخل خادم يحمل كتابا على صينية من الفضة، فتناولته الكونتيس، ونظرت في ختم البريد فاصفر وجهها؛ إذ كان هذا الكتاب واردا من «سانت مرتين» وهي القرية التي نكبت فيها، ودفعت إلي الكتاب كي أقرأه، لها ففضضته، ولم أكد أقرأ السطر الأول منه حتى اضطرب وجهي، فاختطفته الكونتيس من يدي وقالت: لقد توالت علي الأرزاء حتى لم أعد أخافها.
وقد تمكنت من قراءة الكتاب حتى إذا أتمت تلاوته شهقت شهقة عظيمة، وسقطت مغمى عليها، وناديت الخدم، وأخذوا يعالجونها بنضح الماء على وجهها، بينما كنت أقرأ ذلك الكتاب وهو كما يأتي:
سيدتي
من شأن توالي الأيام أن يلطف أحزان النفوس، ولولا ذلك لما تجاسرت على الكتابة إليك .
لقد مات في هذه الأيام رجل كان بستانيا عندكم، وقد اعترف لي قبيل احتضاره بذنب عظيم جناه.
كان هذا الرجل قد أنبه ضميره، فباح بجريمته لجميع الناس، ولكن الناس لم يصدقوه؛ لأنهم كانوا يتهموه بالجنون، ولكن هذا الرجل كان يقول الحق، وا أسفاه! وأنا على أتم الثقة من سلامة عقله حين اعترافه لي قبلما فاضت روحه.
والحكاية يا سيدتي أنه منذ ستة عشر عاما، بينما كنت تمليئن القصر عويلا، كان زوجك الكونت يسير في جنازة طفل قيد في سجل الأموات باسم دي نيفيل، ولكنه لم يكن في الحقيقة إلا ابن بستانيكم حنا وامرأته مادلين.
وقد حدثت الجناية في الليل وأنتم نيام، فإن هذا البستاني دخل قصركم يحمل ولده الميت، فوضعه في مهد ولدك، إن ولدك كان حيا يا سيدتي، وإن الأجراس لم تدق دقاتها الحزينة يومئذ لولدك بل لولد البستاني، وكان هذا البستاني قد جن حقيقة في البدء لهول ما جناه.
ثم احترق قصركم، وهجرت قريتنا مع زوجك، وتوالت السنون دون أن يقول لك أحد إن ولدك الذي تندبينه لا يزال في قيد الحياة، فإن البستاني كان مجنونا، وامرأته لم تكن واقفة على هذا السر، وهي تعتقد أن ولدك إنما هو ولدها.
ثم ماتت تلك الأم، وكان زوجها البستاني قد نذر لله أن يرد إليك ولدك إذا شفى الله امرأته، ولكن لله مقاصد تحار في كنهها العقول، فماتت الأم، واضطرب عقل البستاني، فحقد على الطفل لاعتقاده أنه كان السبب في موت امرأته، وبات يقسو عليه قسوة الظالمين.
هنا يا سيدتي يجب أن تتسلحي بالصبر الجميل عدة المؤمنين، فإن ولدك حي، ولكنك قد لا تجتمعين به إلا في دار البقاء؛ وذلك أنه منذ سبعة أعوام رثا أحد المزارعين لولدك لما كان يراه من قسوة البستاني عليه، وجاء به إلى منزله، ثم اختفى ولم يعلم أحد حقيقة أمره، غير أنهم يشيعون أنه لحق بجوقة من الممثلين كانت مرت بقريتنا، وكان مدير هذه الجوقة يدعى كوكليش.
وروى رجل من أهل القرية أنه رآه في «انفرس» يلعب ألعابا بهلوانية، وأنهم يلقبونه بلقب السيئ البخت.
وفي الختام يا سيدتي، فإني لم أخبرك بذلك إلا عملا بإرادة البستاني الأخيرة، فهو الذي سألني أن أبلغك اعترافه الأخير، على رجاء أن يرأف الله بك فيرد إليك ولدك، ويرأف بالبستاني فيغفر له هذه الجناية.
كاهن سانت مرتين
وقد وقفت أعجب من غرائب الاتفاق، فإن هذا النبأ الذي لم أجسر على إخبار الكونتيس به تولته عني رسالة في البريد!
وكانت الكونتيس قد صحت من إغمائها، وأصيبت بحمى شديدة وبهذيان، فجعلت تذكر اسم زوجها وولدها ولقب «السيئ البخت» واسم الكاهن بشكل متقطع إلى أن جاء الطبيب، وهو من الناشئة الجديدة الذين يعلمون مقدار تأثير النفوس على الأجسام، فعلم من خادم الكونتيس الشيخ كل حكايتها، واطلع أيضا على الكتاب الذي ورد إليها، فقال: إن الحزن كاد يقتلها، ولكن الفرح سوف يحييها.
فهز الخادم رأسه، وقال: هب أن ما رواه الكاهن كان أكيدا، فلا سبيل إلى العثور على الولد.
فقلت له: بل أنت واهم.
فدهش وقال لي: ماذا تعنين بذلك؟
قلت: ألم أقل لك بالأمس أني آتية لأخبر الكونتيس بنبأ مفرح.
قال: فماذا تعنين؟
قلت: أعني أني كنت عالمة بأن ولدها لا يزال في قيد الحياة.
قال: أنت تعلمين؟
قلت: نعم، وأعلم أيضا أين هو.
قال: ولكني كنت في خدمتها حين وفاة ولدها ورأيته ميتا.
قلت: لم يكن ذاك الطفل الميت طفلها.
قال: ما الذي يضمن لنا أن ذلك البستاني قد قال الحق؟
قلت: يضمنه شكل الغلام وأثر موجود فيه من أبيه، ألم يكن للكونت خصلة بيضاء في شعره الأسود؟
أجاب: نعم، وقد كانت عند صدغه الأيسر.
قلت: وهذه الخصلة نفسها موجودة في صدغ الذي يلقبونه بالسيئ البخت.
قال: إذن فهو بعينه.
وكانت الكونتيس في خلال الحديث تنظر إلي نظرات ساهية، وقد انقطع هذيانها، فلما قلت جملتي الأخيرة استوت جالسة على سريرها، وقالت لي: إذن تعرفين ولدي؟
ونظرت إلينا نظرة ملؤها الرعب، فقلت لها: نعم يا سيدتي.
فصاحت تقول: ولدي! ولدي! ثم انهملت دموعها كالسيل، فقال الطبيب: لقد أنقذتها دموعها وزال الخطر، ثم قال لي: يجب أن تسرعي، فأين هو الغلام، أتعرفين؟
قلت: نعم، فهو في باريس، وسأذهب فأجيء به في الحال.
وحاولت أن أذهب من فوري، فاستوقفتني الكونتيس وقالت: اصبري يا ابنتي، فسأذهب معك.
وقد تداخل الطبيب عند ذلك فقال للكونتيس: إنك منهوكة القوى يا سيدتي، ولا بد لك من الاستراحة، وستذهب هذه السيدة مع خادمك جاك، ويعودان بعد ساعة بولدك؛ إذ لا بد لك من التأهب لهذا التأثير الجديد للقاء ولدك.
وبعد ساعة وصلت مع الخادم إلى باريس، ودخلت في مرسح التمثيل، وبحثت عن فيلكس فلم أجده، وسألت عنه مدير الجوق، فقال لي والدموع تجول في عينيه: لقد هجرنا وا أسفاه، ولا نعلم إلى أين ذهب.
وقد كدت أجن من قلقي، فطلبت إلى مدير الجوقة أن يخبرني بكل ما جرى، فقال: نعم، لقد حدث أمر غريب لم نفهمه، فإن هذا الرجل الذي اتفقت وإياه على الغناء في مرسحه قد جاءنا بعد ذهابك، وسألنا عنك، فلما علم أنك ذهبت إلى فرساي ظهرت عليه علائم الانذهال ثم انقبض.
قلت: وبعد ذلك؟
قال: كان انقباضه أشد حين رأى «السيئ البخت» فإن فيلكس كان يغار منه عليك، وينظر إليه نظرات ملؤها الغضب، وقد سألنا الرجل عنه فقلنا إنه يدعى «السيئ البخت».
قال: إنه اسم غريب، أليس له سواه؟
قلنا: نعم، فإننا ندعوه أحيانا بالكونت.
فاشتد قلق الرجل، وقال: لماذا؟
قلنا: لأنه ابن كونتيس، وقد سرقه بستانيها منها كما يقولون.
فتراجع إلى الوراء كأنه قد ذعر من هذا النبأ، ثم ضحك طويلا، وقال وهو ينصرف: أخبروا الفتاة حين تعود أن شريكي مدير الجوق يريد أن يسمع غناءها.
ولما انصرف قال لنا فيلكس: إني أكره هذا الرجل كرها شديدا، ولا أدري لماذا، ولكننا نحن علمنا السبب، فلم يدفعه إلى هذا الكره غير الغيرة.
فصحت به قائلة: كفى، وأخبرني ببقية ما جرى!
قال: أقام فيلكس بيننا كل ذلك اليوم لم يأكل ولم ينبس بكلمة، وفي المساء عاد الذي ذهب معك إلى فرساي، فابتدره فيلكس بسؤاله: أين ذهبت بباكيتا؟
فأجابه قائلا: لقد أمرتني ألا أخبر أحدا أين هي.
قال: أما أنا فأعلم أين هي، فإنها ذهبت مع هذا الرجل الذي جاء يبحث عنها، فحاول أن يقنعه بأنه واهم، ولكن جهده ذهب عبثا، وجعل فيلكس يبكي بكاء الأطفال.
ولما دنا وقت التمثيل مثل دوره على عادته، حتى إذا فرغنا من التمثيل، وأردنا الذهاب للمبيت لم يذهب معنا، وسار في طريق آخر مدعيا أنه مصاب بصداع، وأنه في حاجة إلى النزهة.
وقد توالت الساعات، وأقبل الصباح وهو لم يعد، فذهبت إلى الرجل الذي بحث عنك لاعتقادي أن الغيرة دفعته إلى الذهاب إليه، وسألته عنه فقال لي: إنه لم يره.
وعند الظهر اشتد قلقي عليه، فذهبت إلى مدير البوليس وأخبرته بأمره، فقال لي: لقد غرق أمس في الساعة الثانية بعد انتصاف الليل فتى لم نعثر على جثته بعد، ويظهر أنه غرق منتحرا، فقد وجدنا بعض ثيابه عند الجسر، أتريد أن تراها؟
وهنا استرسل كوكليش إلى البكاء وهو يقول: لقد رأيت تلك الملابس فهي ملابسه، وقد صدق من لقبه «بالسيئ البخت.» •••
وهنا توقفت باكيتا عن الحديث، وجعلت تمسح الدموع عن خديها ثم قالت: وما عسى أن أروي لكم بعد ذلك، فإن الكونتيس لم تمت، ولكن الأطباء لبثوا شهرا قانطين من سلامتها، ولم أعلم بعد ذلك إذا كانت بقيت في قيد الحياة، فإني لم أعد أراها.
وأنا كذلك، فقد بقيت شهرا في الفراش، وكاد الأطباء يقنطون من سلامتي أيضا، ثم تغلب شبابي على العلة فشفيت، ولا أزال إلى الآن أبكي فيلكس.
وعند ذلك سمع في المجلس صوت شهيق بالبكاء، فالتفت الناس إلى هذا الباكي، والتفتت باكيتا إليه، فصاحت صيحة لا تصفها الأقلام، وهجمت عليه تعانقه، وركع هذا الباكي أمامها كما يركعون أمام المعبود، فقد كان هو نفس فيلكس الملقب «بالمنحوس»، والذي كانت تندبه باكيتا وتحسبه من الأموات.
الفصل العاشر
وانصرف المدعوون من عند باكيتا، وكلهم معجبون بحكايتها، وباتفاق وجود الذي تبكيه عندها يسمع حكايتها وهي لا تعلم، أما فيلكس فإنه بقي معها، وقد سألته عن حكايته وعن احتجابه كل هذه المدة الطويلة، فروى لها أمره مفصلا وهو كما يأتي:
عندما خرج فيلكس من المرسح، ذهب من فوره وهو بملابس التمثيل إلى منزل البارون دي نيفيل، كي يبحث فيه عن باكيتا.
وكانت الساعة الثانية بعد انتصاف الليل والبارون لا يزال ساهرا وحده، ففتح الباب بنفسه ودهش حين رآه، وعرفه، فقال له: ماذا تريد؟
قال: أريد أن أكلمك. فأدخله البارون، وسار به إلى القاعة التي كان ساهرا فيها، فقال له: قل الآن ماذا تريد؟
فقال له: إني آت للبحث عن باكيتا.
فحاول البارون أن يقول له الحقيقة، وهي أنه لم يرها، ولكنه سكت، فقال له فيلكس: إن سكوتك يدل على أنها عندك.
قال: إنك واهم يا بني، وإذا شئت طفت بك جميع غرف المنزل لتعلم أنها ليست هنا.
قال: ولكنها فارقتنا، وقالت إنها ذاهبة إلى فرساي.
قال: ذلك ممكن.
قال: ألا تعلم أين هي؟
أجاب: أرجوك أن تسكن روعك يا بني، فما أنا بسارق ولا بقاتل.
قال: ولكني أريد أن أعلم أين هي؟
أجاب: إني أستطيع أن أعيد عليك اقتراحي، وأقول لك: ابحث عنها في منزلي، ولكني أوثر الوضوح، وأن أقول لك الحقيقة.
قال: إذن أنت تعلم أين هي؟ أجاب: نعم، قال: أترشدني إلى مكانها؟ أجاب: دون شك! وأبدأ فأقول لك إنها في مأمن من كل خطر، وسأخبرك عن مكانها بشرط واحد، هو أن تجيبني على أسئلتي، فماذا تدعى أنت؟
أجاب: السيئ البخت.
قال: أليس لك اسم غير هذا؟
أجاب: كلا!
قال: ولكنهم يدعونك أيضا بالفيكونت.
أجاب: ذلك لأن أبي كان مجنونا، وكان يقول في ساعات جنونه إني ابن كونت، وإنه سرقني منه.
قال: من أي بلد أنت؟
أجاب: من قرية سانت مرتين.
فاصفر وجه البارون وقال: إنها نفس الحكاية التي روتها لي باكيتا.
قال: لعلها كلمتك عني؟
أجاب: نعم.
قال: فأين هي؟
أجاب: سأقول لك إذا وثقت بي، وأوصلك إليها في الحال.
قال: في فرساي ؟
أجاب: كلا، بل في باريس.
قال: كيف ذلك، ألم تذهب إلى فرساي؟
أجاب: كلا يا بني، فإنها لم تبرح باريس، واعلم أني أريد لها الخير كما أريده لك أيضا، وقد علمت أنكما متحابان، وأنكما ستتزوجان، وسأجعلكما من السعداء.
وقد نظر البارون عند ذلك في ساعته وقال: لقد فات الأوان، ولكن لا بأس، فسأذهب بك إلى باكيتا، وهي توافق على كل ما قلته لك، فهلم معي، ولكن سر رويدا، فإني لا أحب أن يعلم أحد أنك هنا.
وقد أخذه بيده، وسار به من قاعة إلى قاعة حتى دخل في قاعة المائدة، فأخذ زجاجة من الكونياك، وصب منها في كأسين وقال له: اشرب هذه الكأس.
قال: إني ما تعودت الشرب يا سيدي البارون.
قال: لا بأس في هذه المرة؛ لأني لا أستطيع أن أشرب وحدي.
فخجل فيلكس وشرب كأسه جرعة واحدة، أما البارون فإنه صبر إلى أن شرب فيلكس الكأس، فأدنى كأسه من فمه، ثم رمى بما فيه إلى الأرض مغضبا وهو يقول: تبا لهذا الخادم، فإنه ينسى الزجاجة مفتوحة، فيفسد الهواء الشراب، ثم أخذ زجاجة أخرى ففتحها وشرب منها، وقال لفيلكس بلهجة تكلف فيها الحنو: إنك ستتزوج باكيتا يا بني، وسأجعلك وإياها من أسعد الأزواج. فانقلب حقد فيلكس إلى حب، وجعل ينظر إلى البارون نظرات امتنان، وبعد أن شرب البارون كأسين قال له: هلم بنا الآن، فسنجد مركبة في الطريق.
وقد سار فيلكس في إثره، وكان الظلام دامسا والبرد قارصا، غير أنه كان يشعر بحر شديد، كأنه في أشد شهور الصيف، وبعد هنيهة توقف عن السير، فقال له البارون: ما بالك وقفت؟ قال: إني أشعر بصدري يلتهب. قال: ذلك لأنك لم تتعود شرب الخمور. ثم تأبط ذراعه، وسار به حتى لقي مركبة، فصعد وإياه، وأمر السائق أن يذهب بهما إلى «رصيف سلستين».
وكانت قوى فيلكس البدنية تنحط رويدا، ولكن قواه العقلية لم تتأثر من هذا الانحطاط، فقال للبارون: إذا كانت لم تذهب إلى فرساي، فلماذا قالت إنها ذاهبة إليها؟
أجاب : سأوضح لك الأمر يا بني، فأنا الذي أوعزت إليها بذلك؛ لأني خشيت أن يعترضها مدير جوقها، ويمنعها عن الاتفاق معنا، فذهبت بها إلى منزل أمي، حيث أنت ذاهب الآن.
فقال له بلهجة الحاسد: ألا تزال أمك في قيد الحياة؟
أجاب: نعم، وأنت؟
قال: إن أمي قد ماتت وأنا طفل.
قال: إذن أنت لا تثق بما يشيعون من أنك ابن كونت.
أجاب: لقد تمر بي أوقات أكاد أن أصدق هذه الإشاعة.
قال: متى؟
أجاب: حين أرى تلك الخصلة البيضاء في شعري.
فارتعش البارون، وأدار قبعته إلى جهة صدغه كي يخفي تلك الخصلة البيضاء الموجودة في شعره أيضا، ثم رآه يضطرب فقال له: ماذا أصابك؟
قال: إن صدري يلتهب.
قال: سنصل قريبا إلى المنزل، فتسقيك أمي شرابا مرطبا.
وبعد هنيهة وقفت المركبة بأمر البارون عند باب منزل، فخرج الاثنان منها، وصرف البارون المركبة، ثم صعد مع فيلكس في السلم وهو يعينه على الصعود؛ إذ لم يكن يستطيعه؛ حتى وصلا إلى الباب فقرعه البارون، ففتح لهما رجل، فلما رأى البارون نزع قبعته، وانحنى أمامه بملء الاحترام، فقال له البارون: إني في حاجة إليك.
قال: تفضل يا مولاي بالدخول.
أما فيلكس فقد عاوده الشك فيما سمعه، ولكنه كان منهوك القوى، ودخل به البارون غرفة متسعة كانت فيها حقائب معدة للسفر، فسأل صاحب المنزل قائلا: متى عزمت على السفر؟
قال: في قطار الصباح.
فقال فيلكس: ولكن أين باكيتا؟
فأجابه البارون: إنها ستحضر قريبا.
فوضع فيلكس يده على صدره وقال: أغثني بشربة ماء!
فأشار البارون إشارة خفية إلى الرجل، فجاءه بكأس ماء، ولم يلبث أن شربها حتى صاح صيحة منكرة، وسقط على الأرض لا يعي كأنه من الأموات.
فالتفت البارون إلى الرجل وقال له: لنتحدث الآن.
وعند ذلك قال له البارون: أصغ إلي الآن، فإن هذا الغلام يبقى يومين على ما تراه وهو شبه الأموات. - غير أنه سيحيى.
أجاب: نعم، ولكن بعد يومين. - ما كنت أحسب أن كأسا من الماء تفعل به هذا الفعل، فإن الماء كان صافيا نقيا لم يشبه شيء. - إنك تقول هذا القول لأنك لست كيماويا.
أجاب: كيف ذلك؟
قال: ذلك أني سقيته منذ ساعة جرعة من الكونياك، وقد أضفت إلى هذا الكونياك عصير حشيشة هندية، اكتشفها الهنود قبل أن يكتشف أهل الطب الحديث عندنا الكلورفورم، فكانوا إذا أرادوا بتر عضو مريض سقوا صاحب هذا العضو من هذا العصير، وقطعوا العضو دون أن يشعر صاحبه بألم، غير أن لهذا العصير خاصة عجيبة، وهو أنه لا يسري في الدم إلا حين يشرب شاربه شيئا من الماء بعده؛ ولذلك سقط كما رأيته حين شرب الماء.
قال: ولكن ماذا تريد أن تصنع بهذا الغلام يا سيدي البارون، وبأي أمر تحتاج إلي؟
فنزع البارون القبعة عن رأس «السيئ البخت»، وأدنى المصباح من رأسه، وقال للرجل: تعال وانظر!
فذهل الرجل وقال: الخصلة البيضاء ...! إذن إنه هو!
قال: نعم، إنه هو، فإن ذلك الكاهن الذي كتب إلى امرأة عمي كتب إلي أيضا، ولولا ذلك لعبثوا بي كما يعبثون بالأطفال، وإن هذه الفتاة التي جاءت إلي أرادت أن تمثل دورا هاما في هذه الحادثة، فإنها ذهبت إلى امرأة عمي في فرساي، ولكن الغيرة دفعت هذا الغلام إلى المجيء إلي لمخاصمتي، فسكنت جأشه، وانتهيت بأن سقيته المخدر، وجئت به إلى هنا بحجة أنه سيجد باكيتا، أفهمت الآن ما أريد؟ - كلا، لم أفهم بعد. - إني أحب الصراحة، وسأبسط لك اقتراحي، فأنت مدين لي بعشرين ألف فرنك، وإنك مسافر إلى أمريكا لتشتغل فيها، ونعم إني قاضيتك، وحكمت عليك، وبت قادرا على تنفيذ الحكم حين أشاء ولكن تراني لم أستصدر الحكم بغية تنفيذه، فهل تريد أن أعطيك وصولا بالدين؟
قال: ذلك متعلق بما تريده مني.
فضحك البارون وقال: أظنك تحسب أني أقترح عليك ارتكاب جريمة، فإذا كان ذلك؛ فإنك مخطئ لأني شريف، وفوق ذلك فلا يجمل بالبارون دي نيفل أن يذكر اسمه في محاكم الجنايات، ولكن هذا الغلام سيحرمني إرثا عظيما، فرأيت أن أقصيه عن طريقي. - وأنت تعتمد علي في ذلك؟
أجاب: دون شك ، فإنك مسافر غدا.
قال: هو ذاك. - وستذهب إلى الهافر، وتركب الباخرة منها في ساعة وصولك، فلا يستفيق الغلام إلا بعد أن تكون الباخرة قد اجتازت ثلاثين عقدة، فلا تعود إلى البر لإرجاع الغلام. - إذن أنت تريد أن أصحبه معي؟
أجاب: نعم، فإني أرى عندك هذا الصندوق الطويل وهو يفي المراد، فنضع الغلام فيه، وتشحنه في قطار سكة الحديد كصناديق البضاعة.
قال: وبعد ذلك؟ - وبعد ذلك، لا يهمك أمره، فإنه سيصحو من تخديره، ويجد نفسه في الصندوق، فيصيح مستنجدا، ويبادرون لنجدته فيخرجونه.
قال: ولكنه سيعرفني، فإنه رآني.
قال: كلا! فإنه حين رآك كان التخدير قد بدأ به؛ فهو لا يذكرك. - كل ذلك معقول، ويمكنني فعله، ولكني أعترف لك بأني ... - لا تعترف بشيء، أتريد أن أنفذ الحكم فيك، فيقبضون عليك في هذا الصباح؟
أجاب: كلا! - إذن امتثل لما أقوله لك. - أتعطيني وصلا بما لك علي من الدين؟
أجاب: نعم.
قال: ولكنك لا تعلم ما يوجد في هذا الصندوق؟
أجاب: كلا. - إذن فانتظر. وقد فتح الصندوق، فتراجع البارون مذعورا إذ وجد فيه جثة، فضحك الرجل وقال له: اطمئن يا سيدي البارون، فهذا مثال مجوف من الشمع، أريد عرضه في الولايات المتحدة، فإن الأميركيين يعجبون بهذه الأشياء. - كم كلفك هذا؟
أجاب: عشرين ليرة. - إليك مائة ليرة أجرة اغتسالك. - أنا أغتسل؟ ولماذا؟ - سر وتعلم، فإنك ستنقل هذا المثال الشمعي إلى مكان آخر، وهو سيفيدك حين يعود هذا الغلام إلى هواه. - لا أفهم شيئا مما تقول. - أقول: إن هذا الفتى يمثل، ويلعب ألعابا بهلوانية كما تدل ملابسه، فإذا سئلت عنه بعد استفاقته تقول: إنه أتاك وسألك أن تأخذه معك إلى أمريكا فأبيت، فذهب وعاد إلى منزلك في غيابك، واختبأ في الصندوق المعد للتمثال الشمعي. - كل ذلك معقول وسليم، ولكني لم أفهم بعد كيف تريد أن أغتسل؟ - ذلك أنك ستلبس قبعة هذا الغلام ووشاحه الخارجي، وتذهب إلى جسر النهر، فتسير عليه حتى تستلفت أنظار أحد رجال البوليس، وعند ذلك تخلع الوشاح والقبعة، فتضعهما على جدار - سور - الجسر ، وتلقي بنفسك في النهر، وأنت من الماهرين في السباحة، فتغوص في المياه، وتخرج منها إلى شاطئ بعيد، بحيث توهم البوليس أنك غرقت. - ولكن أية فائدة من كل هذا؟
أجاب: أريد أن يأخذوا قبعة الغلام ووشاحه إلى إدارة البوليس كي يعرفوا صاحبهما ويثقوا أنه مات غرقا.
قال: ولكنا في أشهر الشتاء والبرد شديد.
أجاب: لا بأس، فسأعد لك كل وسائل التدفئة، وانتظر هنا، فأخذ القبعة والوشاح وانصرف، وبعد ساعة عاد، فقال للبارون: لقد قضي الأمر على ما أردت.
قال: وأنا أعددت الصناديق في أثناء غيابك، ووضعت الفتى في الصندوق الطويل بحيث لم يبق ما يحول دون سفرك.
وبعد ساعتين ركب الرجل القطار المؤدي إلى الهافر ومعه «أبو النحوس» بداخل الصندوق، وعاد البارون إلى منزله.
الفصل الحادي عشر
كان من خاصة هذا المخدر الذي شربه «أبو النحوس» أنه يخمد كل الحواس ما خلا حاسة السمع؛ أي إن المخدر به يصبح شبه ميت، ولكنه يسمع ويفهم كل ما يقال حوله.
وقد كان كل ما علمه هذا المنكود أنهم يشحنونه إلى الهافر كما يشحنون البضائع، وأنهم يصعدون به إلى سفينة، وأن السفينة مسافرة إلى البلاد الأميركية؛ أي إنه لن يرى بعد الآن كوكليش ولا باكيتا، فكان يبذل كل مجهوداته للتخلص مما وقع فيه، ولكنه لم يستطع أن يأتي بحركة؛ إذ لم يكن يفرق بشيء عن الأموات إلا بما قدمناه.
وقد سمع رئيس المحطة يسأل «بول سالبري»؛ وهو الرجل الذي عهد إليه البارون بشحن الصندوق عما يتضمن هذا الصندوق، فسر سرورا عظيما، ورجا النجاة من ورطته، غير أن بول أجاب رئيس المحطة قائلا: إن الصندوق يحتوي تمثالا من الشمع أريد أن أعرضه في أمريكا، وأنت ترى كيف أني شددته بالحبال، فهل تريد أن أفتحه كي تراه؟
قال: لا حاجة إلى ذلك. فهلع قلب فيلكس، ثم نقلوا الصندوق الذي كان فيه إلى قارب ليوصله إلى السفينة.
وفي الطريق جعل البحار يحدث بول، فقال له: يظهر أنه حدثت جناية قتل أمس في باريس، وأن القتيلة فتاة في ريعان الشباب أصيبت بإحدى عشرة طعنة.
فقال له بول: هل قبضوا على القاتل؟
قال: كلا، ويقال أنه فتى أيضا، وأنه برح باريس في قطار إلى الهافر، ففتشوا اليوم جميع السفن الراسية هنا تفتيشا دقيقا.
قال: هل فتشوا السفينة التي سنسافر فيها؟
أجاب: دون شك.
وكان فيلكس يسمع هذا الحديث، فقال في نفسه: رباه ألا يمكن أن يخطر لهم فتح هذا الصندوق الذي أنا فيه؟
وأتم البحار حديثه فقال: إن البحر ساكن اليوم، ولكن لا يجب الركون إليه، فإنني أرى بوادر الزوبعة، وقد أخطأ ربان سفينتكم بعزمه على السفر اليوم، وربما رجع عن هذا العزم، فعاود فيلكس الرجاء.
وقال في نفسه: إنها إذا أخرت سفرها إلى الغد تنتهي مدة تخديري وأستفيق فأستنجد.
ووصل القارب إلى السفينة، ونقل الصندوق إليها، وأمر الربان بالسفر؛ فرفعت المراسي، ونشرت القلوع، وخرجت السفينة من الميناء، وبعد أن اجتازت نحو عشرين ميلا في عرض البحر، تحققت نبوءة بحار القارب، وبدأت العاصفة، وهاجت الأمواج هياجا عظيما حتى خشي على السفينة من الغرق، فأمر الربان بإلقاء الشحن إلى البحر حسب العادة في مثل هذه الأحوال، مبتدئين بالبراميل ثم بالصناديق.
فأخذ البحارة يصعدون بالبراميل من عنبر السفينة، ويلقونها إلى المياه، وفيلكس يسمع أصواتهم، ويعلم أنه لم يبق له شيء من الرجاء فسيأتي دوره قريبا.
وكان الخطر يزيد في كل لحظة والربان يصيح ببحارته، ويأمرهم بالإسراع في إلقاء البضائع وهم يمتثلون إلى أن جاء دور صندوق فيلكس، وشعر أن رجلين حملاه من العنبر، وأنهما صعدا به في السلم إلى ظهر السفينة، وأنهما يدنوان به من حافتها كي يلقياه، فتبتلعه الأمواج.
ولم يكن «بول سابري» من أهل الشر، وهو لم يوافق البارون على ما أراده إلا مضطرا بعد أن تهدده بالقبض عليه كما تقدم.
فلما رأى البحارة عازمين على إلقاء الصندوق في البحر نسي تعهده وموقفه من الحرج، وهاله إلقاء هذا المنكود في البحر وقتله غرقا، فصاح بالبحارة قائلا: احذروا أن تفعلوا، فإن في هذا الصندوق إنسانا حيا!
فذهل البحارة والربان، وأسرع بول ، فقطع حبال الصندوق بسكين وفتحه، فصحا فيلكس لدخول الهواء في رئتيه ولانتهاء مدة التخدير، وتنهد تنهدا طويلا، ثم خرج من الصندوق، وهو لا يزال بملابس البهلوان.
أما الربان فقد ذهل لهذه الحادثة، فوضع يده على كتفه وقال له: من أنت؟ قال: أنا فتى منحوس، يريدون إرساله بالرغم عنه إلى أمريكا، ونظر الربان عند ذلك إلى بول، وأشار إلى الفتى وقال: لقد عرفت هذا الرجل فهو شقي سفاك، فهم فيلكس أن يهجم عليه، ولكن البحارة حالوا دون قصده، وقال الربان: سوف ننظر في أمرك أيها الفتى، فنحن الآن في شاغل عنك بإنقاذ السفينة، وأخذ الربان يصدر أوامره إلى البحارة، فألقوا أكثر البضائع المشحونة إلى المياه، وما زال يكافح الأمواج إلى أن هدأ ثائر العاصفة عند الفجر، وسكن اضطراب الأمواج، ولما اطمأن باله جاء ببول وفيلكس كي يتم معهما التحقيق.
وكان بول قد رأى أنه بات في موقف حرج، فإن الفتى كان في صندوقه، وكان يعلم أنه فيه، فأخذ يعمل الفكرة حتى اهتدى إلى حيلة تنقذه من موقفه، فسأل الربان قائلا: ألم يفتش البوليس سفينتك قبل سفرها؟
قال: نعم.
قال: ألم يكن يبحث فيها عن فتى بهلوان متهم بقتل خليلته؟
أجاب: هو ذاك.
قال: إذن فاعلم أن القاتل هو هذا الفتى الذي وجدته في الصندوق. فضج البحارة لهذه التهمة، وأشفقوا بجملتهم على فيلكس؛ إذ لم يكن وجهه الجميل يدل على شيء من الشر.
أما فيلكس فإنه اشمأز من هذه التهمة الكاذبة، وقال: لقد كذب فيما ادعاه، فما أنا من القاتلين.
فابتسم بول وقال: بل إني لم أقل غير الحق، فقد أردت إنقاذ هذا المنكود من المشنقة، فانظروا كيف يكافئني، وقد ندمت الآن؛ لأني لم أدعكم تطرحونه في البحر، فهذا أقل ما يستحق.
فاعترضه فيلكس قائلا: بل إنك رجل سفاك أثيم. فمنعه الربان عن الكلام، وقال لبول: أوضح لنا الآن كيف اتفق وجود هذا الفتى في صندوق من صناديق أمتعتك؟
قال: ذلك سهل إيضاحه، فإن الفتى يشتغل بهلوانا، وهو يقيم في الدور السادس من المنزل الذي أقيم فيه.
قال فيلكس: لقد كذب والله!
فانتهره الربان قائلا: اسكت! ومضى بول في حديثه فقال: بينما كنت صباح أمس في منزلي إذ دخل علي هذا الفتى وهو مخضب بالدم، والخنجر في يده، فقال لي: بربك أنقذني، وقد باح بسره، وقال لي: إن الغيرة دفعته إلى قتل خليلته، وجعل يبكي ويعض يده من اليأس لخوفه من الشنق، فأشفقت عليه، وأنقذته بالحيلة التي رأيتها.
فقال فيلكس: كل ذلك كذب واختلاق يا سيدي.
فقال الربان: سنعلم الحقيقة قريبا، فقد أرسلوا إلي أمس رسالة برقية لعلمهم أني مسافر، وهذه الرسالة تتضمن أوصاف القاتل.
ثم ذهب إلى غرفته، فجاء بذلك النبأ البرقي، وكانت أوصاف القاتل المذكورة فيه تدل على أنه في الثامنة عشرة من العمر، وأنه معتدل القامة، كستني الشعر، أزرق العينين، مهنته بهلوان، فكان من عجائب الاتفاق أن هذه الأوصاف تنطبق على فيلكس، لا سيما وأنه كان لا يزال بملابس البهلوان، فغطى المنحوس وجهه بيديه وقال: رباه! إنهم لم يلقبوني عبثا «بالسيئ البخت».
أما الربان فإنه اعتبر انطباق الأوصاف برهانا جليا على صدق التهمة، فقال له: يعز علي أن تكون قاتلا، فإن عينيك لا تدلان على الإثم، ولكن التهمة ثابتة عليك على ما يظهر.
ثم نادى نائبه وقال له: كبله إلى أن نبلغ أول ميناء في إنكلترا نصلح فيه سفينتنا، وهناك نسلمه إلى إحدى السفن الفرنساوية العائدة إلى فرنسا، فتعيده إلى الهافر، فجاءوا بالأصفاد، وكبلوه وهو يبلل الأرض بدموعه.
الفصل الثاني عشر
كان يأس فيلكس عظيما في البدء، ولكنه ما لبث أن فكر في الأمر حتى استحال ذلك اليأس إلى رجاء، فقد كان شبه ميت في صندوق، وهو الآن مكبل بالقيود، فلا تذكر هذه القيود بجانب ذلك القيد الرهيب، وكانوا يريدون أن يذهبوا به إلى البلاد الأمريكية، وهم الآن يريدون إرجاعه إلى باريس، نعم إنهم سيرجعونه إليها بتهمة عقابها الإعدام، ولكن ليس أسهل عليه من نفي هذه التهمة عنه متى صار في باريس.
وفوق ذلك فقد عرف الآن كل أمره بالتفصيل، واستيقن أنه حقيقة ابن الكونتيس، وأن البارون دي نيفيل يريد إبعاده؛ كي يخلو له الجو، ولا يبقى له مزاحم في إرث الكونتيس، فكأنما تقييده وإرجاعه إلى باريس إنما كانا لخيره.
وبعد ذلك بثلاثة أيام نزل إليه الربان وهو سجين في عنبر السفينة، فحل قيوده وهو منذهل أشد الانذهال، وقال له: اتبعني، وقد صعد به إلى غرفته، وقال له: هل تعرف القراءة يا بني؟
قال: نعم.
قال: خذ هذه الجريدة واقرأ. فأخذها وقرأ ما يأتي:
إن الفتى البهلوان الذي قتل خليلته بعد أن طعنها بخنجره إحدى عشرة طعنة، قد قبض عليه في هذا الصباح في إحدى خمارات الضواحي، واعترف بجريمته.
فأبرقت أسرة فيلكس، وقال له: أرأيت الآن أني بريء؟
قال: هو ذاك، ولكن ذلك لا يوضح لي كيف أمكن وجودك في سفينتي ضمن صندوق.
فنظر إليه نظرة تدل على التناهي في الصدق والإخلاص، وقال له: إني لم أكذب في حياتي يا سيدي.
قال: هذا ممكن، فإن نظراتك تدل على صدق ما تقول، فما اسمك؟ أجاب: «أبو النحوس» أو «المنحوس» أو «السيئ الحظ»، أو ما يبدو لك أن تطلقه علي من هذه الأسماء.
قال: إنه لقب في غير موضعه، فلو كنت حقيقة كما يلقبونك لوجب أن تكون الآن طعاما للأسماك. فهز رأسه وقال: ولكني لقيت من مناوأة الأقدار ما يدل على أن هذا اللقب قد حل محله.
قال: ارو لي حكايتك يا بني، عساي أستطيع نفعك في شيء، فشرح له قصته منذ مولده إلى تلك الساعة، حتى إذا أتمها قال الربان: إذن يظهر أنك ابن كونتيس، أجاب: لم يبق عندي الآن ريب في ذلك.
قال: ومتى عدت إلى باريس تجتمع بباكيتا فتجمعك بأمك.
أجاب: هذا الذي أرجوه.
إذن سأهتم بك، فاعلم الآن أنه يوجد في ميناء بريتون سفينة فرنساوية تسافر غدا إلى بولونيا، وربانها من أصحابي، فسأعهد إليه أن يوجهك إلى باريس، ويوصي بك بعض أهل النفوذ، فتستطيع بوساطتهم مقاومة البارون دي نيفيل.
قال: إنك شريف كريم يا سيدي، وإني لا أنسى جميلك ما حييت.
قال: إننا لا نستطيع أن نبيت هذه الليلة في السفينة، وسوف ندخلها في الحوض لإصلاحها، وأنا سوف أبيت عند أحد أصحابي، أما أنت فتبيت في فندق، وعند الصباح نجتمع على رصيف الميناء، فأذهب بك إلى السفينة المسافرة إلى بولونيا. ثم أعطاه دينارين وخرج الاثنان إلى البر، فذهب الربان في شأنه وذهب فيلكس إلى أول حانة لقيها وهو يكاد يقتله الجوع، وكانت هذه الحانة غاصة بالبحارة، فطلب طعاما وشرابا، وجعل يأكل غير مكترث لأحد، وهو لو انتبه لرأى رجلين جالسين على مائدة بجواره وقد جعلا يتحدثان همسا حين رأياه، ولكنه كان في شاغل من أكله عن كل ما عداه.
وكان فيلكس متعودا على شرب الخمر البيضاء كسائر أبناء اللوار، فلما شرب من شراب الإنكليز حدثت له نشوة دعته إلى الاستزادة من هذا الشراب، وكان الرجلان اللذان بجواره ينظران إليه، ويتحدثان بصوت منخفض، وكلاهما بملابس البحارة، فكان أحدهما يقول لرفيقه: إني أرى هذا الفتى خيرا من ثلاثة من بحارتنا، وهو بحار دون شك، ولولا ذلك لما دخل إلى هذه الخمارة الخاصة بالبحارة. - هو ذاك، ولكن كيف السبيل إليه؟ - بالويسكي، وسوف ترى.
ثم التفت إلى فيلكس وقال له: أتأذن لنا أيها الرفيق أن نشرب معك كأسا من الويسكي؟
فرحب فيلكس به، وهو يكاد ينعقد لسانه من السكر، وشرب الثلاثة كئوسهم، ثم بدأ يحادثه فقال له: متى أتيتم إلى برايتن؟ - لقد وصلنا في هذا المساء. - ماذا تدعي سفينتكم؟ - مرغريتا الحسناء. - إذن هي تلك السفينة التي كانت تحطمها العاصفة، وصب له كأسا، وقال له: هل تحب ربان هذه السفينة؟ - دون شك، فإنه من أطيب الناس قلبا. - وستبيت الليلة في البر، فإن سفينتكم دخلت الحوض؟ - هو ذاك. - في أي فندق ستنام؟ - لا أعرف بعد. - إذن تنام في فندقنا، فهو من خير الفنادق، وأسرعها جريا، وكان الشراب قد نال من فيلكس وأوشك أن يصرعه، ومع ذلك فقد دهش من قول البحار، وقال له: كيف ذلك؟ أيوجد فنادق تتحرك وتسير؟
قال: بل إن فندقنا يسير، ويطوف حول الأرض.
فضحك رفيقه وقال له: إن صاحبنا يداعبك، فإن الفندق الذي يعنيه إنما هو سفينتنا، ثم صب له كأسا أخرى، فشربها فيلكس وقال له: إذن ستنامان في البر؟ - كلا، بل في السفينة. - ولكني لا أستطيع المبيت معكم فيها. - لماذا؟ أجاب: لأني اتفقت مع الربان على أن نلتقي صباحا على الرصيف، قال: ذلك لا يمنعك أن تبيت عندنا، فإننا سنقيم في هذه الميناء شهرا أيضا لنتم شحنتنا، وأنا أفطر كل صباح في قهوة الرصيف فتأتي معي.
فتمتم فيلكس كلمات لا تفهم؛ لأن السكر كان قد عقد لسانه، وخيل له أن الخمارة ومن فيها تدور به وحوله، وعند ذلك دفع الرجلان ثمن الشراب وخرجا بفيلكس من هذه الخمارة، وهما يتأبطان ذراعه، وهو لا يعلم إلى أين يسير.
وفي الصباح صحا من رقاده، وهو يشعر باهتزاز عنيف، ففرك عينيه، ونظر إلى ما حواليه، فوجد أنه كان نائما على حصير في غرفة كان بابها مفتوحا، فخرج من الغرفة فوجد نفسه على ظهر سفينة، وأن هذه السفينة قد توغلت في عرض البحر، وأن المياه تكتنفها من كل جانب، فلا أثر للبر.
الفصل الثالث عشر
ودق المنكود يدا بيد وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله! أين أنا؟ وإلى أين المصير؟ ثم شعر بيد وضعت على كتفه فالتفت، فرأى صاحبه بالأمس يقول له: إنك لم تتوقع شيئا من ذلك؟
فقال له بلهجة القانطين: أين نحن الآن؟
قال: إننا نخرج من المانش، وبعد أسبوعين نصل إلى السنغال. فغطى وجهه بيديه وقال: رباه! إني بشر، وهذا فوق طاقة البشر! وكان في السفينة رجل طيب السريرة حسن الأخلاق يدعى شارنسون؛ فحن عليه وجعل يعزيه عن مصيبته، وقد علم منه أن الربان محتاج إلى بحارة، فاختطفه على الشكل المتقدم، وأن السفينة مسافرة إلى الشواطئ الإفريقية لشراء العبيد، وهي توهم أنها ذاهبة إلى أمريكا لشحن القطن، فلم يجد المنحوس بدا من الإذعان للقضاء، وبات بحارا بالرغم عنه، فكان يذكر باكيتا ويبكي بكاء موجعا، ولم يكن من عزاء له في هذه النكبة غير صديقه شارنسون.
وقد وصلت السفينة إلى الشواطئ الإفريقية بعد سفر شهرين، فاشترى ربانها مائة وثلاثين عبدا من سيد تلك البلاد بعقود من الخرز وزجاجات الروم والأنسجة المختلفة الألوان وغير ذلك.
وكانت العادة في تلك البلاد أن قبائلها يتحاربون، ويأسر بعضهم بعضا، فمن فاز بأسر عدوه أعده للبيع، فمتى جاء البيض باعه منهم بيع السلع، وإذا تأخر قدومهم ولم يجد وسيلة لبيعه؛ أكله.
وكانت إنكلترا تثير حربا عوانا في ذلك العهد على تجار الرقيق، وقد لبثت سفنها تجوب البحار باحثة عن أولئك التجار، فإذا ظفرت بهم حكمت عليهم بالإعدام شنقا، وأعدمتهم في الحال.
فبينما كان ربان تلك السفينة عائدا بتجارته ظهرت له في عرض البحر سفينة إنكليزية، فهلع قلبه من الخوف، وحول مجرى سفينته فرارا منها إلى أن توارى عنها في ظلام الليل.
وكانت الصداقة قد استحكمت حلقاتها بين فيلكس وشارنسون، وعلم فيلكس منه أن السفينة الإنكليزية لا بد أن تدركهم، وليس بعد ذلك غير الموت، فاتفقا على أن يهربا، وصبرا إلى أن انتصف الليل، فأنزل شارنسون قاربا صغيرا إلى البحر بعد أن وضع فيه شيئا من الزاد، ونزل إليه مع فيلكس دون أن يراهما أحد، فدفعا القارب إلى جهة الشاطئ، بينما كانت السفينة تسير آمنة في عرض البحر.
وبعد ساعة سمعا لعلعة المدافع، ورأيا أنوار السفينة الإنكليزية، ثم رأيا أنها أسرت السفينة التي كانا فيها، فحمدا الله على السلامة.
وقد أقاما في ذلك القارب الصغير يومين، تتقاذفهما الأمواج دون أن يتمكنا من الوصول إلى البر، وفرغ منهما الزاد، فأيقنا من الموت جوعا، إذا لم تنقذهما يد العناية، وفيما هما على ذلك، وقد تمكن منهما اليأس، رأيا سفينة شراعية تسير بعيدة عنهما، فوقفا في القارب، وجعلا يشيران إليها إلى أن رأت تلك الإشارات وأقبلت إليهما، فأصعدهما الربان إلى السفينة، وسألهما عن شأنهما، فأخبراه بكل ما اتفق لهما، والتمسا منه أن يعود بهما إلى أوروبا.
وكانت هذه السفينة نرويجية، قادمة إلى رأس الرجاء الصالح، وستقيم في مينائه شهرين ، ثم تمر ببعض المواني، فلا تبلغ أوروبا إلا بعد أربعة أشهر، ولما لم يكن لديهما شيء من المال يدفعانه أجرة السفر وثمن الطعام، فقد اتفقا مع الربان على أن يشتغلا في السفينة مع البحارة حتى تصل إلى الوطن.
ولبث فيلكس أربعة أشهر، يشتغل هذه الأشغال الشاقة إلى أن قدر له الوصول سالما إلى مرسيليا، فسار منها لفوره إلى باريس. •••
فلما وصل فيلكس بحكايته إلى هنا سألته باكيتا قائلة: منذ كم أنت في باريس؟
قال: منذ عامين.
قالت: ماذا كنت تشتغل في خلالهما؟
أجاب: في مهنة الحفر.
ولماذا لم تعد إلى الاشتغال بمهنتك؟
أجاب: لأني لم أجد جوقنا القديم، وقد بحثت عن كوكليش، فلم أقف له على أثر.
وأنا كيف وجدتني؟
أجاب: بالصدفة والاتفاق، فقد دعاني أحد أصدقائي إلى حضور رواية في المرسح الذي تمثلين فيه فرأيتك، وعرفت منزلك وأتيت. فابتسمت باكيتا وقالت: لقد اجتمعنا والحمد لله فلا نفترق بعد الآن. فهز رأسه وقال: هيهات! فقد أصبحت الآن غنية شهيرة، وأنا خامل معدم، فالتباين بيننا عظيم.
بل إن هذا التباين خير مقرب بيننا، فقد بلغت ما لم تبلغه سواي من الممثلات، وبات راتبي أربعة آلاف فرنك في الشهر، وازدحم على بابي الأغنياء والأمراء، ومع ذلك فإني لا أزال جديرة بخطيبي فيلكس.
فركع أمامها، وجعل يلثم يدها، فقالت له: ولكن لم يحن أوان زواجنا بعد، فإني أريد أن تصير قبل ذلك من مشاهير الحفارين، ثم تجد أسرتك، وتنزع عنك لقب «السيئ البخت».
وقد قاما إلى المائدة، وكانت باكيتا تنظر إليه بملء الحب والحنو، وتسمع نبرات صوته كأنها تسمع أرق الألحان.
وفيما هما على ذلك؛ دخل إليهما شارنسون، وقال: إني أبحث عنك منذ الصباح، ولا أجدك؛ حتى إني حقدت عليك، فإني لم أأكل منذ أمس، وقد كاد يقتلني الجوع. فعرفها فيلكس بصديقه فدعته إلى الطعام، وجلسوا يتحدثون بما مر بهم من الحوادث الجسام، ويرجون أن يكون قد انقضى عهد النحس، وأن يعقبه عهد السعد.
الفصل الرابع عشر
كان في باريس محام مشهور يدعى المسيو نيفلين، نال شهرة واسعة في علم الحقوق على حداثة سنه، ولم يكن يتجاوز الثلاثين من العمر.
وكان فيلكس أو «السيئ البخت» قد اتصلت به شهرة هذا المحامي، فذهب إليه وأخبره بسر مولده وبكل ما عرفه من تاريخ حياته، فدهش المحامي لما سمعه، وقال له: إن حكايتك عجيبة، ولكن مثل هذه الأمور لا بد فيها من البراهين الدامغة، ومع ذلك فلنبحث في أمرك، فقد ولدت في سانت مرتين، أليس كذلك؟
قال: نعم.
قال: وقد ذكر في شهادة ولادتك أنك ابن رجل بستاني.
قال: ليس هذه الشهادة شهادة ولادتي أنا، بل إنها شهادة ولادة ابن البستاني الذي مات ليلة تنصيري.
قال: هو ذاك، ولكنك ربيت في بيت ذلك البستاني فبت منتسبا إليه، ثم إن مسجل الوفيات في تلك القرية يثبت أن ابن الكونت دي نيفيل مات ودفن في يوم كذا وعام كذا.
قال: إن ابن البستاني هو الذي دفن وليس ابن الكونت. - إني واثق بما تقول ولكن أين البرهان؟ إن برهانك الوحيد هو هذه الخصلة البيضاء في شعرك، وهو برهان قد يقنع العلماء والأطباء ولكنه لا يقنع المحاكم، وفوق ذلك فإن خصمك هو عمك البارون دي نيفيل، وهو خصم غني عنيد قوي، فكيف تثبت أنه نومك بمخدر، وأنه شحنك في صندوق كما يشحنون البضائع؟ إن كل ما قلته أكيد، وقد تبينت صدقك من لهجتك ومن عينيك، ولكن رجال القضاء لا يثقون بهذه الأقوال.
قال: ولكني واثق أن أمي إذا رأتني ...
لقد أخبرتك بما كان من مصير أمك، فقد ذهب عقلها، وهي الآن في مستشفى المجانين.
قال: قد يمكن شفاؤها.
أجاب: هذا ما يدعيه الأطباء، لكن لنفرض أن هذا الجنون الذي أصابها حين علمت أنك في قيد الحياة، قد يذهب حين تراك، وترى ذلك الشبه العظيم بينك وبين أبيك، أتحسب أنهم يصدقون أقوالها؟ كلا، بل يقولون إنها ازدادت جنونا، فإن كل حكايتك تشبه الحكايات الموضوعة، ولا تحتمل التصديق.
ثم إنها معقدة؛ إذ يجب في البدء أن يكون هذا البستاني في قيد الحياة ، وأن يعترف بالحقيقة أمام المحاكم، وألا يكون اشتهر عنه أنه أصيب بالجنون، فأنت ترى أن إثبات حقيقة مولدك ضرب من المحال، وأنك سيئ البخت كما لقبوك.
قال: ولكن إذا وجدت بول سالبري الذي شحنت في صندوقه، وهو شريك البارون في إثمه؟!
قال: إنك قد تجده، ولكنه ينكر ما حدث.
قال: ولكن ربان السفينة لا ينكر.
قال: دون شك! غير أنه لا يستطيع أن يثبت أن البارون قد وضعك في الصندوق، حتى ولو استطاع هذا الإثبات فإنه لا يثبت غير أمر واحد.
قال: ما هو؟ - هو أنك كنت تحب باكيتا، وقد أراد بذلك إقصاءك عنها لأنها تحبك، وهكذا ترى أن ذلك لا يقوم دليلا على أنك ابن الكونت دي نيفيل على الإطلاق.
فتأوه السيئ البخت، ثم ودع المحامي، وخرج من غرفته إلى الردهة الخارجية، وفيما هو سائر إلى الباب أدركه أحد أعوان المحامي وقال له: إنك إذا أصغيت إلي أفدتك أكثر مما يفيدك المحامي.
قال: ماذا تريد أن تقول لي؟ قال: إني خارج معك، وسنتحدث في الطريق، فلا يسمعنا أحد.
وقد ذهب الاثنان إلى حانة قليلة الرواد، فجلس كل منهما بإزاء صاحبه، وبدأ الرجل الحديث فقال: إني أدعى كاستبليون، ويلقبني إخواني بالطيب الكتوم، فليس بينهم من يكتمني سرا من أسراره، وإنما أقول لك ذلك لأبرهن لك أن الفائز بين الناس هو الذي لا يعرض نفسه لحسدهم، انظر إلى هذا المخزن العظيم في الجهة المقابلة من الشارع، فهو من أشهر المخازن وأكثرها عملا، ومع ذلك فهو على وشك الإفلاس، يحاول صاحبه الاتفاق مع دائنيه.
وانظر إلى هذا الحانوت الصغير في جانبه، فإن الناس يزدرون به، ولكن صاحبه قد أفلح، حتى إنه اشترى البناء نفسه من عهد قريب، وهذه هي حالة الناس يا بني، فإن من يسير دون أن ينتبه إليه أحد بلغ آخر الطريق الذي يسير فيه، خلافا لمن تتجه إليه الأنظار، فإنه يقف كثيرا في الطريق.
أما أنا فإني أشبه صاحب هذا الحانوت الصغير، وقد وقفت عند الباب حين دخلت على المحامي، وسمعت حكايتك بجملتها كما سمعها المحامي، حتى بت أعرفها كما تعرفها أنت.
قال: إذا كان ذلك، فكيف رأيت؟ أجاب: رأيت أنك صادق في كل ما رويته.
قال: وكذلك رأى المحامي، ولكنك ستكون على رأيه أيضا في قضيتي.
قال: كلا! فإني قد أخالفه؛ لأني لا أفهم معنى القنوط، وما أنا إلا مثل تلك الضفدع التي تسلقت الجبل، فقد كانت بطيئة السير ولكنها وصلت، وهكذا قضيتك، فإن أمرها قد يطول، ولكنك تفوز بها إذا وثقت بي واعتمدت علي، فهل تريد أن تعهد بها إلي؟ - دون شك، ولكن انظر إلى ملابسي تعلم أني من الفقراء. - إننا لا نحتاج في البدء إلى المال، فقل لي: أين تقيم؟ - في شارع مونمارتر، رقم 31. - حسنا، فعد الآن إلى منزلك واطمئن. - متى أراك؟ - عندما يحدث ما يضطرني إلى مقابلتك.
وعند ذلك افترقا، فعاد الرجل إلى مكتب المحامي، وذهب فيلكس إلى غرفته؛ حيث التقى فيها بصديقه شارنسون، فصافحه وعلائم البشر بادية في وجهه، وقال له: لقد عدت إليك بقلب ملؤه الرجاء. - قال: هل أتيت بشيء من المال على الأقل؟ أجاب: كلا! - ولكن ألا تعلم أنه ليس لدينا دراهم؟ - هذا أكيد. - كيف تريد أن نتغدى؟
فأطرق فيلكس برأسه ولم يجب. وعند ذلك سمع شارنسون صوت رجل ينادي في الطريق، وهو من أولئك الذين يشترون الملابس القديمة، فنظر الاثنان نظرة حزن إلى ملابسهما المعلقة، وقد جال في فكريهما خاطر واحد.
وقد بحث شارنسون في هذه الملابس، واختار رداء يلبس فوق الثياب (معطف)، فقال لفيلكس: إننا الآن في غنى عن هذا الرداء، فنحن في شهر أبريل، فتنهد فيلكس وقال له: افعل ما تشاء، وأطل شارنسون من النافذة ونادى الرجل، ثم قال لصاحبه: إنه سيصعد مائة وثلاثين درجة قبل وصوله إلينا، فلنتباحث في شأن هذا الرداء، فكم تطلب ثمنا له؟
أجاب: لا أعلم؟
قال: أأطلب عشرين فرنكا؟
أجاب: لا شك أنك مجنون.
قال: إنه إذا نقدنا هذه القيمة عشنا بها أربعة أيام إلى أن يتم اتفاقي مع بائع الخمور، فقد وعدني أن يستخدمني بماية فرنك في الشهر.
فابتسم فيلكس ابتسامة حزن وقال: لا يضحكني غير قولهم: إني سأغدو غنيا، فمتى تأتي هذه الثروة وأنا أبيع ثيابي كي أحتفظ بروحي في بدني. - إنك تستطيع أن تكون من الأغنياء حين تريد.
أجاب: وأنا أعلم ماذا تعني، ولكني لا أريد أن ترد إلي الثروة من هذا الطريق.
قال: ما هذا الحمق؟! ألا تعلم أن باكيتا تهواك، وأنها تريد أن تكون امرأتك.
أجاب: نعم أعلم، ولا بد لنا من الزواج. - إذا كان الأمر كذلك فلماذا لا تتزوج بها الآن؟
أجاب: لأنها تكسب أربعين ألف فرنك في الشهر، ولأني لا أكسب شيئا، ولا أريد أن آخذ درهما منها، ألا ترى كيف أني أبذل الجهد العنيف لإخفاء فقري عنها؟
فهز شارنسون كتفيه، وطرق المتجول الباب عند ذلك ففتح له، وبعد المساومة الطويلة باعه الرداء بثمانية فرنكات، فقبضها شارنسون وذهب بها لإحضار الطعام.
أما المتجول فإنه أخذ الرداء فوضعه في كيسه وانصرف، فلما وصل إلى الشارع رأى مركبة واقفة وفيها امرأة حسناء أطلت من المركبة، وأشارت إليه أن يدنو منها، فعجب لأمرها واقترب منها، فقالت له: ألم تصعد إلى هذه الغرفة العليا في هذا المنزل؟
قال: نعم يا سيدتي.
قالت: عند من؟
أجاب: عند اثنين من الفتيان.
قالت: ألم تجد في تلك الغرفة آلات تدل على أن صاحبها يشتغل بالنقش أو الحفر؟
قال: نعم!
قالت: هل اشتريت منهما ملابس؟
أجاب: نعم يا سيدتي. - إذن قل لي: أتريد أن تكسب مائة فرنك؟ - ومن يأبى الكسب أيتها الحسناء؟! - أليس لك حانوت؟ - نعم، وهو في شارع لامرتين.
قالت: اصعد بجانبي، وهلم إلى دكانك.
وقد أعطته من فورها ورقة مالية بمائة فرنك؛ كي يثق أنها غير هازلة، وسارت وإياه إلى ذلك الشارع، وسألته في الطريق قائلة: أحق أن هذين الغلامين فقيران؟
قال: ماذا يكون حال من يبيع ثيابه ليأكل؟
وكانت هذه الفتاة باكيتا، فمسحت دمعة سالت على خدها وقالت: مسكين يا فيلكس! وعندما وصلت إلى الحانوت أمرت المتكسب أن يفتق بطانة الرداء الذي اشتراه، وقالت له: خذ هذه الورقات المالية وقدرها أربعمائة فرنك، وقل لهما إنك وجدتها في بطانة الثوب الذي اشتريته منهما، وإني أرى أنك شريف، وأنك ستوصل المال إليهما لا محالة، وفوق ذلك فإني لا أعدم وسيلة أتثبت بها من الحقيقة.
قال: اطمئني يا سيدتي، فإني شريف على فقري، وسيكون ما تريدين.
الفصل الخامس عشر
أما شارنسون فإنه عاد بالطعام، وجلس يأكل وهو لا يلوي على شيء، حتى إذا فرغ من أكله قال لفيلكس: لم أرك حزينا قانطا إلا في باريس، ومع ذلك فقد اجتمعت بباكيتا.
قال: نعم، وا أسفاه! ولكنها باتت أكثر بعدا عني من قبل.
قال: لماذا؟
أجاب: ألم أقل لك إن التباين عظيم بيننا؟
قال: ولكننا في بلادنا لا نبالي بهذه الفروق، ومتى سرى الحب إلى قلبي رجل وامرأة تزوجا دون انتظار، فإذا كان الرجل غنيا، أو كانت المرأة غنية كانت الثروة للاثنين؛ إذ كلاهما يصبحان واحدا بعد الزواج.
قال: أما أنا فلست على هذا المذهب، ولا أحب أن أبحث في هذا الموضوع، وقد قام يشتغل في الحفر. واضطجع شارنسون فتاه في فيافي التفكير، وفيما هو على ذلك طرق الباب ففتحه فيلكس وظهرت على وجهه علائم السرور، فقد كان الطارق كوستيلون تلميذ المحامي الذي وعده بالنظر في قضيته، وقد بادره بقوله: إني ما أسرعت بالقدوم إليك إلا لأني أتيتك بأنباء طيبة.
فارتعش فيلكس، ورآه ينظر إلى شارنسون نظرة ارتياب، فقال له: لك أن تقول ما تشاء أمامه فإننا واحد.
قال: إني بدأت الاشتغال في قضيتك منذ الصباح، فاكتشفت أمورا كثيرة.
قال: أحق ما تقول؟
أجاب: نعم، فأصغ إلي، ألم يقل لك المحامي إنه لا يوجد غير رجل واحد يستطيع أن يثبت أنك ابن الكونت، وأن هذا الرجل يحتمل أن يكون قد مات؟
قال: الأمر ما تقول.
قال: إن هذا الرجل مات حقيقة، ولكنه اعترف بجريمته قبل الموت.
قال: لمن؟ - لكاهن قرية سانت مرتين، وقد علمت أن هذا الكاهن لا يزال حيا.
قال: أيجب أن أكتب إليه؟
أجاب : كلا ! فاصبر الآن إلى أن نعلم ماذا جرى للبارون دي نيفيل.
أجاب: إنه يقيم في باريس على ما أعلم.
قال: بل إنه مقيم الآن في أرض له في نيفرلي قرب سانت مرتين، ولا يأتي إلى باريس إلا في القليل النادر، وعندي أنه يجب أن نذهب إلى تلك الناحية فنقيم فيها بضعة أيام، فإن ذلك يفيدنا.
قال: نعم، غير أن السفر يحتاج إلى مال.
قال: هذا لا ريب فيه، غير أني أملك مائتي فرنك، ولا أدري إذا كان هذا المبلغ يكفي.
فقال له شارنسون: أتحسب أن هذا السفر لا بد منه؟ وأية فائدة ترجوها؟
قال: إذا كان صاحبك ابن الكونت دي نيفيل كما تدل القرائن، فلا بد أن يوجد في القرية من ينتبه إلى الشبه بينه وبين أبيه، وقد اتصل إلي أن الشبه تام، وأن البارون دي نيفيل قد نقل جميع رسوم أعضاء العائلة التي كانت في قصر الكونتيس إلى قصره، فسفرنا لا بد منه، وثلاثمائة فرنك تكفي.
فقال له شارنسون: إن هذا المبلغ موجود عندي.
فدهش فيلكس وقال: عندك أنت؟! - نعم، فلا تهتم لذلك. - أريد أن أعلم كيف أتاك هذا المال؟ - سوف تعلم.
وكان شارنسون واثقا من الحصول عليه؛ لأنه كان ينوي أن يقترضه من باكيتا دون أن يخبر صاحبه. وعند ذلك طرق الباب ودخل المتجول الذي اشترى المعطف، فالتفت إلى فيلكس وقال له: لقد وجدت يا سيدي في بطانة الثوب الذي اشتريته منك هذه الأوراق المالية، فخذها فهي مالك. فصاح فيلكس صيحة دهش، ومسح شارنسون عينيه كأنه يحسب نفسه في حلم.
وقد أخرج الرجل الأوراق من جيبه ودفعها إلى فيلكس، فنظر إليه فيلكس نظرة المنذهل، وقال له: إني لا أفهم ما تقول!
وسأله كاستيليون في ذلك، فأجابه المتجول قائلا: إن الأمر بسيط يا سيدي، فقد اشتريت في هذا الصباح رداء قديما منهما، وذهبت به إلى الحانوت وفتقت بطانته كي أنظفه وأصبغه وأصيره جديدا، فوجدت بين البطانة والظهارة أربع ورقات مالية، فقضت علي الذمة برد المال إلى صاحبه.
فقال فيلكس : ولكني ما خبأت في حياتي مالا على هذا الشكل، فهذا المال ليس لي.
فقال المتجول: ولا لي أنا أيضا، ثم ترك الأوراق على منضدة وانصرف، فحاول فيلكس أن يدركه، ولكن كاستيليون منعه، فقال له: ماذا تريد أن تصنع؟
قال: أريد أن أرد إليه المال فما هو بمالي.
قال: وليس هو ماله كذلك.
قال: إذن هو للذي اشتريت منه المعطف، ولكن كيف السبيل إليه؛ فقد اشتريته في رأس الرجاء الصالح من حانوت لا أذكر اسم صاحبه، ولا أعرف عنوانه.
ولكن الأوراق المالية الفرنساوية يندر وجودها في رأس الرجاء الصالح.
هذا أكيد، ولكن الذي أعلمه أن هذه الأوراق ليست لي، وخير ما أصنعه هو أن أضعها في غلاف وأرسلها إلى ملجأ خيري.
فقال شارنسون: ما هذه البلاهة التي لا تخطر في بال عاقل؟! أتهبط علينا النعمة من السماء ونحن نكاد نموت جوعا ثم نجود بها على البؤساء؟! أيوجد في الأرض أشد بؤسا منا؟!
قال: نعم! فهي للفقراء، ولا أأخذ مالا لا حق لي فيه.
فتداخل كاستيليون في الأمر، وقال: خير ما تصنعه يا بني أن تعتبر هذا المال عارية، وأنك اقترضته من الفقراء، وسترده إليهم مضاعفا متى حسنت حالك واسترجعت ثروتك.
فأسرع شارنسون واستولى على الأوراق، فقال له فيلكس: ماذا تصنع؟ قال: اقترضها بالنيابة عنك.
وقال كاستيليون: حسنا فعلت! فإنها مهدت لنا أسباب السفر، أنسافر في هذا المساء؟
فقال شارنسون: إني مسافر معكما، ثم نظر إلى فيلكس، فرآه لا يزال مترددا فقال له: ألا تريد أن تخطو خطوة في سبيل التقرب من باكيتا؟ وقد فعلت هذه الكلمة به فعل السحر، فبطل تردده، واتفقوا على تعيين موعد السفر.
أما شارنسون فإنه ذهب توا إلى باكيتا وقال لها: إني قادم لأشكرك يا سيدتي لهبتك. فحاولت الإنكار، ولكنه أفحمها بقوله: إني رأيتك في المركبة إذ كنت واقفا في النافذة، ورأيت المتجول صاعدا إلى مركبتك، فلم يبق لدي شك حين عودته بأنك أنت صاحبة هذه اليد البيضاء.
قالت: لعله أدرك سر الحيلة؟
قال: كلا! فلو أدركها لما قبل المال بوجه من الوجوه.
ثم أخبرها بكل ما اتفقا عليه مع كاستيليون. وبعد ساعة عاد إلى فيلكس فوجد كاستيليون هناك. وسافر الثلاثة في قطار المساء إلى أوكسر.
الفصل السادس عشر
كان الفصل فصل ربيع، وكان رجل يسير ماشيا، وقد اغبرت ملابسه دلالة على سفره الطويل.
وكانت الأرض قد فرشتها الطبيعة ببساطها الأخضر، واستترت عناقيد العنب بين أوراق الكروم، وخيمت عليها أشجار الغابات، غير أن المسافر لم يكن يحفل بهذه المناظر البهيجة، وكان يسير توا إلى طاحونة لا تزال تبعد عنه نحو مائة متر، حتى إذا وصل إليها استقبله كلب بالنباح، وخرج صاحب الطاحونة ليرد كلبه عن المسافر، فحياه المسافر وسأله قائلا: ألا يزال قصر دي بربتاندير بعيدا أيها الرفيق؟
قال: أتعني به قصر البارون دي نيفيل؟ قال: هو بعينه.
أجاب: إنه يبعد من هنا نصف مرحلة فقط، فهل تريد مقابلة البارون نفسه؟
قال: نعم. - أظن أنك لا تجده في هذه الساعة. - لماذا؟ لعله سافر إلى باريس! - كلا، ولكنه خرج للصيد في هذا الصباح. - ولكنه سيعود في المساء؟! - هذا لا ريب فيه، ورجائي إليك أن تقبل ضيافتي، فنحن الآن في وقت الغداء، وإذا تفضلت بمناولة الطعام معي كنت ضيف البارون لا ضيفي، فإن هذه الطاحونة له. فلم يتردد الرجل في القبول، وعادا إلى المباحثة وهما على المائدة، فسأله صاحب الطاحونة قائلا: من أين أنت قادم؟
أجاب: من أوكسر. - أأتيت ماشيا والمسافة تزيد على تسع مراحل؟! - لم أجد جوادا، ولو خيرت لاخترت. - قل لي: لعلك تعرف البارون؟ - نعم، فقد كنت فيما مضى من أصدقائه. - يظهر أنك لم تره من عهد بعيد؟ - منذ سبعة أعوام. - أأنت قادم من باريس؟ - بل من مكان أبعد جدا، فإني قادم من أمريكا. - ما هذا السفر الشاسع؟! فإن المسافة فيه تعد بالأشهر. - هذا إذا سلمت السفن. - أغرقت السفينة التي كنت فيها؟ - وغرقت معها أموالي بجملتها، وا أسفاه! - إذن أنت آت إلى البارون لتلتمس مساعدته؟ - الأمر ما تقول، فقد خدمته خدمة جليلة فيما مضى، وأرجو أن يذكر لي هذا الجميل.
فابتسم القروي وقال: إن الصنيع لا يحفظه عادة غير أمثالنا الفقراء، وفوق ذلك فإنه ليس من أهل الكرم.
قال: إنه لم يكن كذلك من قبل.
ولبثا يتباحثان مباحثات مختلفة إلى أن سمعا نباح كلاب الصيد، فقال القروي: لقد عاد البارون، فهلم أدلك على طريق القصر.
وخرج الاثنان فسارا بين الحقول الخضراء، وكان الغريب يتنهد ويقول: ما أسعد من يكون له مثل هذه المزارع! والقروي يشرح له عن الزرع إلى أن ظهر لهما قصر فخيم يشبه الحصون المنيعة، وله أربعة أبراج شاهقة. فقال له القروي: هذا قصر البارون، وهو لا يذكر في جانب أملاكه العظيمة، وهذا هو نهر يون الفاصل بين أملاكه وقرية سانت مرتين التي تبعد ثلاث مراحل من هنا.
قال: ما هذه القرية؟
أجاب: هي التي كان فيها القصر المحروق، وهي بأراضيها من أملاك أسرة دي نيفيل. - أهي للبارون أيضا؟! - كلا، بل هي لأرملة أخيه، وستؤول إليه بعد موتها. - ألا تزال في قيد الحياة؟ - نعم، ولكنها مجنونة، ولكن أهالي القرية باتوا مجمعين على أن حكايتها أكيدة ... - حكاية الكونتيس؟
أجاب: نعم.
قال: وما حكايتها؟ - إنها تهذي وتقول: إن البستاني الذي كان عندها سرق طفلها، ووضع بدلا منه طفله الميت، فحسبت أن ولدها ميت وهو في الحقيقة من الأحياء، على أنك إذا كنت محتاجا إلى البارون فنصيحتي إليك أن لا تذكر له كلمة عن هذه الحكاية، والآن أستودعك الله! فهذا هو القصر.
وقد تركه وانصرف. فذهب الغريب إلى القصر، وقال لأحد الخدم إنه يريد مقابلة البارون، فأدخله إحدى القاعات، وبعد هنيهة أقبل البارون، فخف الرجل لاستقباله، ووقف البارون ينظر إليه نظرة الفاحص؛ لأنه لم يعرفه، أو أنه تجاهله، وقال له: من أنت؟
وقد كبر ذلك على الرجل، فقال له: ألم تعرفني أيها البارون؟ ولعلي تغيرت إلى هذا الحد؟
قال: أذكر أني أعرف صوتك ... ولكن ... - ولكن ماذا؟ ألا تعرف صديقك بول سالبري؟
فقطب البارون جبينه وقال: أأنت هو؟ ثم أخذ بيده، ودخل به الغرفة التي خرج منها وقال له بجفاء : ما جاء بك إلي؟
قال: إنك ترى من ملابسي أنني لست من السعداء. - ذلك لما فطرت عليه من الكسل، ومما تعودته من السكر. - كلا، بل لأني من أهل الطالع المنكود، فقد غرقت السفينة التي عدت بها وغرقت فيها أموالي، ولولا ذلك لما لجأت إليك.
فأخرج البارون من جيبه دينارين وقال: خذ! فهذا كل ما أستطيع أن أعطيك إياه. فتراجع بول وقال له: لعلك تمزح؟
قال: إني لا أمزح على الإطلاق. - أأعود من أمريكا بعد أن فقدت أموالي، وآتي إليك ملتجئا، فتتصدق علي بدينارين كأني من المتسولين؟
قال: إنك اقترضت مني أموالا كثيرة لم تردها، وكنت يومئذ في عهد الشباب، لا أحسب للمال حسابا، أما الآن فما لك عندي غير هذين الدينارين، فخذهما وانصرف.
قال: ولكني في حاجة إلى بضعة آلاف. - ماذا تقول؟ - أقول إنك تعلم ما بيننا. - ما عسى أن يكون بيننا أيها الرجل؟ - أنسيت؟ - ماذا؟ - الغلام الممثل البهلوان الذي شحنته في صندوقي! - ما هذه الخزعبلات، فإني لا أفهم شيئا منها؟ - أتجسر أيضا على الإنكار أيها الشقي؟ - اعلم يا بول أن المرء يستطيع إنكار كل ما يتعذر إثباته بالبراهين، ثم أخرج من جيبه قبضة من الذهب وقال له: خذ أيضا هذه الدنانير، واذهب في الحال، فإن خدمي سيعجبون - دون شك - لاختلائي بمثلك، ولا تزد كلمة فإني لا أزيد دينارا. - لقد كنت أحسبك ممن لا ينكرون الجميل.
فهز البارون كتفيه، وأدار له ظهره دون أن يجيبه، فخرج بول وهو يحرق الأرم من الغيظ؛ إذ لم يكن يخطر في باله أن يقابله شريكه في الجريمة بهذه المقابلة المنكرة.
وقد خرج من القصر يتميز غيظا، واستهدى إلى طريق قرية سانت مرتين، فسار إليها وهو يناجي البارون ويقول: لقد أخطأت أيها البارون بإساءتك إلي، فإن بيننا سرا هائلا سيكون آلة انتقامي منك إن شاء الله.
وكان التعب قد نهكه، ومع ذلك فإن الحقد كان يثير همته، فيسير وهو يتوعد البارون بقبضتيه من حين إلى حين، ويقول: ويح لك أيها الشقي! إنك قد كتبت الحكم على نفسك بالشقاء بما فعلت الآن، فقد عاملتني معاملة المتسولين، فتصدقت علي بعشرين دينارا، ولو أنك أعطيتني نصف ثروتك لما رضيت عنك. الويل لك مني! وسوف ترى ما يكون من انتقامي!
وقد كان يود الذهاب إلى سانت مرتين؛ لأنها القرية التي احترق فيها القصر والمكان الذي رؤي فيه «السيئ البخت» الذي وضعه في صندوقه منذ سبعة أعوام وهو مخدر؛ كي يشحنه إلى البلاد الأمريكية، فيخلص إرث الكونت دي نيفيل لأخيه البارون.
وقد كان واثقا أتم الثقة من أن المنحوس هو ابن أخي البارون، ولكن أين يجده وهو لا يعلم شيئا من أمره؟! حتى إنه لا يعرف اسمه، فقد تركه منذ سبعة أعوام في مدينة برنتون الإنكليزية، فهل هو باق في إنكلترا أم إنه عاد إلى فرنسا؟! وهل هو ميت أم لا يزال في قيد الحياة؟!
ومع ذلك فإن قوة خفية كانت تدفعه إلى قرية سانت مرتين، وكان قلبه يحدثه بأنه سيجد فيها ما يبحث عنه.
ولبث يسير إلى أن التقى بقروي يسوق مركبة يجرها ثوران، فاستوقفه وسأله قائلا: هل أنت سائر إلى قرية سانت مرتين؟
قال: كلا، بل إلى مزرعة بجوارها تدعى مزرعة بوانيير، وليس بينها وبين القرية سوى ربع مرحلة.
قال: إذن احملني على مركبتك فقد أعييت تعبا.
ثم صعد إلى المركبة، وسار الاثنان وهما يتحدثان، حتى أشرفا على قصر كبير مخرب فسأله بول قائلا: ما هذا القصر؟
قال: إنه «القصر المحروق»، وقد أطلقوا عليه هذا اللقب منذ يوم احتراقه.
قال: لعله احترق من عهد بعيد؟
أجاب: منذ عشرين عاما، وقد كان صاحبه الكونت من كبار الأغنياء.
قال: ماذا جرى له؟
أجاب: لا أعلم سوى أنه هجر هذه القرية مع امرأته حين مات طفله.
قال: أفقد ولدا؟
أجاب: لقد اختلفت الروايات في حقيقة هذا الولد، وأكثر الناس وقوفا عليها هم أهل المزرعة التي تسير أنت إليها.
قال: مزرعة روانيير؟
أجاب: نعم، فإن «المنحوس» نشأ فيها، ثم هرب منها.
قال: لا أفهم شيئا مما تقول!
أجاب: الحكاية أنه كان للكونت دي نيفيل - صاحب هذا القصر - طفل أصبحوا يوما فإذا هو ميت، وفي اليوم التالي احترق القصر، وبعد ذلك ببضعة أيام أصيب بستاني القصر بالجنون، فكان يقول: إن ابن الكونت الذي دفنوه إنما هو ولده، وإن الطفل الذي يربيه إنما هو ابن الكونت، على أنك إذا أردت أن تقف على تفاصيل هذه الحكاية، فما عليك إلا أن تعرج بهذه المزرعة.
قال: ألا يوجد فندق في سانت مرتين؟
أجاب: نعم، ولكنه غير مأمون، وخير لك أن تبيت في المزرعة. وبعد ربع ساعة وصل الاثنان إلى المزرعة، وهي تلك التي عرفت فيها باكيتا خطيبها فيلكس «المنحوس»، ولو رأت الآن خولي تلك المزرعة وامرأته لما عرفتهما، فقد بلغا حد الهرم.
وفي ساعة دخول بول في المزرعة اتفق أيضا دخول مركبة من مركبات الأجرة، وكان فيها ثلاثة رجال، وقد سارت توا إلى منزل شيخ القرية، وهناك وثب رجل منها، وأسرع إلى الشيخ، فجعل يعانقه ويقول: ألم تعرفني؟
وقد ذهل الشيخ وقال له: من أنت يا بني؟
قال: عجبا! ألم تعرفني؟
فحدق فيه الشيخ تحديقا طويلا، ثم قال له: يخيل لي أني رأيتك من قبل، ولكني لا أذكر أين ومتى.
وكانت ابنة الشيخ قد جاءت في تلك الساعة، فلما رأت الفتى صاحت قائلة: رباه أهذا ممكن ...؟! كيف لم تعرفه يا أبي؟ أنسيت ذلك الغلام الذي كفلته وكنا نلقبه «بالسيئ البخت»؟
قال: عجبا! أهذا هو؟
فأجابه فيلكس قائلا: نعم، أنا هو بعينه، ثم عاد إلى عناقه، ولبثوا نحو ربع ساعة وهم يتساءلون أسئلة مختلفة، وقد اجتمع حولهم بعض أهل القرية، وكلهم معجبون بالسيئ البخت، فقد أصبح يلبس ملابس الأسياد، وكان فرح الشيخ عظيما، حتى إنه أمر أن يكون هذا اليوم يوم عيد، وألا يشتغلوا فيه.
أما كاستيليون وشارنسون فقد كانا منذهلين مما رأياه، ولكن لم يكن ينتبه إليهما أحد، فقد كانت الأنظار موجهة إلى السيئ البخت.
وقد أمر الشيخ أن يعدوا الطعام، فتعشوا وهم يتحدثون إلى أن قال الشيخ لفيلكس: أتعلم يا بني أنه إذا كان جان البستاني قد قال الحقيقة، كنت أنت ابن الكونت دي نيفيل، ووجب أن ترث أموال أبيك بلا منازع؟
فقال له كاستيليون: أتسمح لي يا سيدي الشيخ أن أشترك في هذا الحديث، فإني من أهل الشرع؟
فانحنى الشيخ أمامه وقال: إن البستاني قد مات لسوء الحظ، ولكنه اعترف بالحقيقة لكاهن القرية. - وهذا الكاهن ألا يزال هنا؟ - نعم، ولكنه بلغ من العمر عتيا. - أيثق سواك بأن حنا البستاني قال الحقيقة؟ - إن ذلك هو رأي جميع أهل القرية، وكنا نحسب أن «السيئ البخت» قد مات، أما وقد عاد إلينا فإن عمه البارون دي نيفيل سيبيت على أحر من الجمر حين يعلم بعودته.
وعند ذلك دخل بول سالبري إلى القاعة فأومأ كاستيليون إلى الشيخ أن يسكت، ونظر فيلكس إلى هذا الداخل فعرفه لأول وهلة، وهاجت في صدره براكين الغضب، فهجم عليه وقبض على عنقه وهو يقول: ويح لك أيها الشقي، لقد ظفرت بك!
فنهض الجميع وهم منذهلون مما رأوه، فقال لهم فيلكس: هذا هو الذي استخدمه البارون، فوضعاني في صندوق.
وكان شارنسون عالما بهذه الحكاية، فهجم عليه أيضا كي يعاون صديقه على الانتقام منه، وقال فيلكس: أيها الشقي كيف تدافع عن نفسك الآن؟ - لا أدافع عن نفسي كما ترى، ولكني أريد أن أكفر عما أسأت به إليك.
قال: كيف ذلك؟
أجاب: باتهام البارون دي نيفيل، فإني حاقد عليه أشد الحقد. فتوسط كاستيليون في الأمر، وقال: أرى أن الأقدار تريد مساعدتنا، فدعه يا فيلكس فسيكون لنا خير حليف.
فاتقدت عينا بول ببارق من الحقد وقال: هو ذاك، ولا يدفعني إلى ذلك غير الانتقام.
الفصل السابع عشر
ولنعد الآن إلى البارون دي نيفيل، فإنه بعد انصراف بول من عنده دخل غرفته، واسترسل فيها إلى التفكير.
ولقد كان هذا البارون منذ بضعة أعوام يقيم في باريس، وهو ساكن مطمئن، فينفق عن سعة من ثروته، التي كان يبلغ ريعها مائة ألف فرنك وأكثر في العام.
وكان حسن العشرة رضي الأخلاق، كثير الاختلاف إلى محلات اللهو، ثم جاء يوم اعتزل فيه فجأة عشرة الناس، فاستقال من رئاسة النادي الذي كان يجتمع فيه مع أصدقائه، واحتجب عن الناس، فسافر مدة عامين إلى مصر وتركيا وشطوط البحر الأسود، ثم ذهب إلى روسيا وأسوج فالدنمارك، وعاد إلى فرنسا بطريق هولندا.
ولم يكن يصحبه في هذه الرحلة غير خادم غرفته - وصيفه - وهو رجل يناهز الأربعين من العمر يدعى ميشيل، ولكنه كان عنده فوق منزلة الخدم، بل كان صفيه وكاتم سره، وقد زالت من بينهما الكلفة كما سترى من خلال محادثتهما.
ولما عاد من السفر ذهب توا إلى أراضيه في الريف، وأقام هناك لا يلهو بغير الصيد، وبإدارة ثروته وثروة امرأة أخيه، فقد عين وصيا شرعيا عليها بعد جنونها.
ففيما هو جالس في غرفته يفكر بعد انصراف بول، فتح الباب ودخل منه ميشيل، فقال له البارون: ماذا ترى؟
فأقفل ميشيل الباب، واستند إلى الكرسي الذي كان البارون جالسا عليه وقال له: يظهر يا سيدي البارون أنك مستاء من هذا الرجل الذي زارك، فقد كان زري الملابس، ولكنه كان يكلمك بلهجة تدل على أنه كان بينك وبينه صلات قديمة.
فوقف البارون، وأخذ يسير إقبالا وإدبارا، ثم قال له: أتعرف هذا الرجل يا ميشيل؟
قال: كلا، ولكني أظنه «بول سابري» الذي تذكر اسمه كل ليلة في أحلامك، فانتفض البارون وقال له: اسكت ... اسكت!
فلم يمتثل ميشيل، بل قال له: لقد خيل لي أنه ذهب من عندك مستاء، ولا شك أن الاحتيال قبيح، ولكن لا بد من الرضى به في بعض الأحيان، وإني أرى أن هذا الشقي قد لا يقف عند حد. - ماذا يستطيع أن يفعل؟ - يستطيع أن يذكر حكاية الصندوق. - ليس لديه برهان. - غير أنه إذا روى هذه الحكاية فقد يصدقها كثيرون من الناس. - وهب أنهم صدقوها، فماذا يكون؟ - يكون أن أهل هذه البلاد يسيئون الظن بك، لا سيما وأنهم حاقدون عليك لعنفك وغطرستك.
فاحتدم غيظا وقال: سأزيدهم عنفا! - إنك مخطئ يا سيدي البارون، فهل تأذن لي أن أقول ما أعتقده؟
قال: قل. - أرى أن العاصفة ترعد فوق رأسينا، فإن أهالي سانت مرتين لا ينفكون يتحدثون بحادثة القصر المحروق واستبدال الطفل، وقد أكثروا من ذكر ذلك منذ عهد قريب. - وماذا علي من أحاديثهم؟ - إذا لم يكن «السيئ البخت» قد مات ... - قال: لا أعلم، ولكن لا يبعد أن يكون في عداد الموتى. - ربما، ولكن هذه الحقيقة لا يعلمها غير بول سالبري. - دون شك، وهذا الذي يريح بالي، فلو كان السيئ البخت حيا لما لقيت من بول هذا الخضوع والاستكانة. - ماذا أعطيته؟ - عشرين دينارا، فخرج دون أن يفوه بكلمة. - ولكنه خرج ليذهب إلى قرية سانت مرتين.
أأنت واثق مما تقول؟ - كل الثقة، وقد ذهب إليها فعلا. - ليذهب حيث شاء، وما علي من ذهابه إلى هذه القرية؟ - لو كان السيئ البخت ميتا لما تكلف بول عناء الذهاب إلى سانت مرتين، وإنما ذهب إليها ليعلم من أهلها حقيقة أمره. - لنفترض أسوأ الفروض وهو أن السيئ البخت لا يزال في قيد الحياة، فأية محكمة من محاكم العالم تسمع أقواله، وليس له أقل برهان على صدق ما يقول؟ - هو ذاك، غير أن أمه الكونتيس قد تعترف به. - إنها مجنونة. - يعز علي يا سيدي أن أضطر إلى إخبارك بأمر يسوءك. - ما هو؟
هو أن مدير المستشفى الذي تقيم فيها الكونتيس قد أرسل إليك هذا الكتاب الذي فتحته وقرأته، كما أفتح عادة كل رسائلك، وهذا هو، فأخذ البارون الكتاب بيد ترتعش، وقرأ فيه ما يأتي:
سيدي البارون
لقد تعودت أن أرسل إليك في آخر كل شهر تقريرا عن صحة سيدتي الكونتيس، امرأة عمك، وإليك تقريري الموجز عن صحة عقلها في هذا الشهر.
يظهر أن للطبيعة أسرارا لم يصل إليها العلم بعد، فإني بعد أن يئست من شفاء الكونتيس بدأت أرى اليوم أنها آخذة في سبيل الشفاء التام.
وإني لا أجسر أن أجزم بشفائها جزما باتا خوفا من انتكاسها، فقد مرت علي حوادث كثيرة تشبه حادثتها، غير أني أخبرك بما حدث.
فقد كنت منذ ثلاثة أيام مجتمعا مع عائلتي في القاعة بعد العشاء، فدخل علي الطبيب ، وهو أحد أعواني في المستشفى، وقال لي: أتعتقد يا سيدي أن داء الجنون يشفى؟ قلت: قد يشفى، ولكن ذلك في القليل النادر.
قال: إن الكونتيس دي نيفيل قد عاد إليها صوابها.
قلت: هذا محال، فإن جنونها يستحيل شفاؤه.
قال: إذن تفضل بالذهاب معي إلى غرفتها كي تفحصها بنفسك، فذهبنا إليها، فوجدتها جالسة قرب المستوقد وهي تقرأ بملء السكينة في كتاب، فأشارت إلي بالجلوس بجانبها، وقالت لي: إني أكلمك بملء الجد أيها المدير، فقد كنت مجنونة، أما الآن فقد شفيت، فحاولت أن أعترضها وأقول لها: إنها لم تكن مجنونة على الإطلاق، ولكنها ابتسمت وقاطعتني قائلة: لقد كنت أعلم - كما تعلم أنت - أني نكبت نكبة عظيمة بفقد ولدي الوحيد وزوجي، وأن الحزن بلغ مني أقصى مبلغ حتى إنه ذهب بعقلي، فوجدوني يوما حافية القدمين بين أدغال القصر، فكان هذا أول برهان على جنوني، وقد لبثت خمسة عشر عاما وأنا أغالب الجنون حتى غلبني، فتوهمت أن ولدي الذي دفنته بيدي لا يزال حيا، وأنه يبحث عني، ثم جاءتني فتاة ذات يوم وقالت لي: إن ولدي لم يمت، وكتب إلي بعد ذلك كاهن قرية سانت مرتين يقول: إن البستاني اعترف له بأن ولدي لم يمت، على أن كل ذلك كان وهما باطلا، والحقيقة أن ولدي ميت، وإني وحيدة في هذا الوجود، ولكني لا أريد أن أقضي بقية أيامي في مستشفى المجانين، وأؤثر أن أعيش في دير أتقرب فيه إلى الله بالصلاة إلى أن أموت.
على أن هناك مصاعب قد تعترض خروجي من هنا، فإن البارون دي نيفيل وصي علي، وهو الذي يتولى إدارة ثروتي، فقد يعترض على خروجي بواسطة المحاكم؛ إذ لا يروق له أن يحرم من إدارة ثروتي الطائلة.
ولكني وجدت حلا لهذه المشكلة، وهو أن ينقد أحد الأديرة مائة ألف فرنك مقابل إقامتي فيه، وفي مقابل ذلك أهب للبارون - بملء رضاي - كل ما أملك.
وهي يا سيدي البارون تعيد علي هذا الاقتراح منذ ثلاثة أيام، وأنا أفحصها في هذه المدة، فلا أجد في عقلها ما يدل على الانحراف أو الاختلاط، بحيث بت واثقا من أنها لا تنتكس، وأنها شفيت الشفاء التام.
فتفضل بإجابتي عما تريد أن أصنعه، واقبل احترامي.
مدير مستشفى الأمراض العقلية في أوكسر
فلما أتم البارون تلاوة هذا الكتاب قال له ميشيل: ماذا رأيت يا سيدي؟
قال: رأيت أن الأمور جارية في خير مجرى، فإذا كانت امرأة عمي قد شفيت وهي تريد الدخول في الدير، فسأوافق على إخراجها من المستشفى، ولتهب لي ثروتها فأطمئن وأستريح.
قال: إنك ساذج يا سيدي البارون.
قال: كيف ذلك؟
أجاب: لنبحث قليلا، فأنت تعلم أن حكاية البستاني صادقة، وأن كتاب الكاهن أكيد، كما أنك تعلم حكاية تلك الفتاة التي ذهبت الكونتيس، وأخبرتها بأن ولدها لا يزال على قيد الحياة، ولكن الكونتيس تقول الآن إن جميع هذه الحكايات أوهام مثلها لها الجنون.
قال: على ما يدل كل ذلك؟
أجاب: على أن الكونتيس تريد أن تخرج من مستشفى المجانين، وأنها باتت تعرف حق العرفان من أنت؟
قال: وأي خوف علي من كل هذا؟ فإني سأدفع للدير مائة ألف فرنك، وتهب لي هي كل أموالها.
فضحك ميشيل ضحك الهازئ وقال: إذا عمل سيدي البارون بنصيحتي، فخير له أن يذهب ليقيم في مستشفى المجانين بدلا من امرأة عمه.
فاستاء البارون لضحكه وقال له أوضح ما تقول!
قال: إن خروج الكونتيس من المستشفى إلى الدير يثبت أنها شفيت من جنونها، ومتى ثبت أنها عاقلة قاضتك أمام المحاكم، وادعت أنك أكرهتها على هبة مالها مقابل إخراجها من المستشفى، ففسدت الهبة، وحكمت المحكمة عليك برد المال، ويحتمل بأكثر كثيرا من ذلك. - ولكن، ما عساها تصنع بالمال؟ - تتمتع به في البدء. - إنها مريضة، أيامها معدودة، وسيعود مالها إلي. - كلا، بل يعود إلى ولدها «السيئ البخت» إذا وجدته. - إذن فاسمع مقالي، فما الذي أثبت جنون الكونتيس؟ - إصرارها على القول أن ولدها الذي دفن كما تثبته السجلات الرسمية لا يزال على قيد الحياة. - فإذا عادت إلى ادعائها السابق - وهو أن السيئ البخت ولدها - تكون قد أثبتت أن الجنون عاودها. - ولكنها لا تقول إنه ولدها، بل تعطيه أموالها على سبيل الهبة، وهي حرة بإنفاق مالها كما تشاء. - ولكن ذلك لا يتم إلا بعد قضاء أمرين؛ أحدهما أن أوافق على إخراجها من المستشفى، والثاني أن يكون السيئ البخت على قيد الحياة؟ - ألم تقل أنك تعطي المائة ألف فرنك بملء الرضى؟ - نعم، ولكن بشرط أن لا تقاضيني امرأة عمي. - إنها لن تقاضيك، وتبقى في مستشفى المجانين. - أحق ما تقول؟! - نعم، وإن السيئ البخت لا يظهر في الوجود، وإذا ظهر فلا يستطيع أن يضرك بشيء. - إذن، لمن تريد أن أمنح المائة ألف فرنك؟ - لي أنا، ورجائي أن تعذرني يا سيدي البارون، فقد بلغت الأربعين وآن لي أن أهتم بمستقبلي، فحدق فيه البارون مليا، ثم قال له: أرى أنك فقدت صوابك لسببين؛ قال ما أولهما؟
أجاب: إن هذه الأخطار التي تتوقعها لي كلها وهمية لا خوف منها.
قال: هذا ما سيظهره لك المستقبل.
أجاب: والثاني أنك شديد الطمع، فإنك تطلب مائة ألف فرنك مقابل نصيحة لا تساوي ألفا، قال: لك أن تتروى في الأمر يا سيدي.
أجاب: لقد تمعنت التمعن الكافي، فإني لم أعط في حياتي خادما مائة ألف فرنك ولا أبدأ بك. والآن فإني أريد أن تذهب غدا إلى سانت مرتين، فتخبر المسيو لوتباتي وكيلي أني في حاجة إلى الأموال المتأخرة، وأني أنتظر زيارته، فانحنى ميشيل ومشى إلى الباب، ثم عاد وقال: إن سيدي لم يفطن إلى أن غدا يوم السوق، وأني قد لا أجد الوكيل في سانت مرتين.
قال: حسنا! فاذهب بعد غد، أجاب: بعد غد يكون يوم أحد، وأرى الأفضل أن أذهب في هذا المساء فأبيت في روانيير مزرعة سيدي البارون.
قال: أتبيت خارج المنزل؟ ... كلا ... كلا، لا أريد ... وقد أخذ يرتجف من الرعب أمام خادمه بعد أن كان يكلمه بلهجة الآمر المتكبر، فعاد ميشيل قحته وقال له: أما آن لك أن تتعود المبيت وحدك في غرفتك؟ أفلا تستطيع الرقاد إلا إذا كنت معك؟
قال: اسكت ... اسكت ، هذا الذي أريده. - ومع ذلك فإنك تعلم أن صورة الكونت دي نيفيل التي تمثل صورة ولده السيئ البخت ليست موجودة في غرفتك فقد أحرقتها بيدك.
قال: اسكت ... اسكت!
أجاب: كما تريد يا سيدي، ثم تركه وانصرف، فجلس البارون وراء نافذة تشرف على النهر، واسترسل إلى التفكير العميق، وكان كثير الحزن والهم، فلبث على ذلك إلى المساء، فدخل عليه ميشيل يخبره بإعداد العشاء، ورآه حزين النفس، فقال له: أرى أنك يا سيدي البارون تتمنى لو فعلت فعل «يوشع بن نون»، فأوقفت الشمس في فلكها، فإنك لا ينتابك الخوف إلا بعد غيابها، ولا تزال تتوهم أنك ترى صورة الكونت مع أنك أحرقتها. - لقد قلت لك إني رأيتها. - ذلك خيال مثله لك الوهم. - قلت لك اسكت، فقد رأيتها بعيني أمس. - أرجو ألا تبدو لك هذه الليلة، فتنام مستريحا، والآن تفضل إلى المائدة فقد أعد لك العشاء، فمشى البارون وهو يضطرب، وسار ميشيل في إثره وهو يقول في نفسه: لا بد لي من نيل المائة ألف فرنك.
الفصل الثامن عشر
والآن فلنقل كلمة عن هذه الصورة التي يخافها البارون هذا الخوف الشديد، فإنه بعد أن نقلت الكونتيس إلى مستشفى المجانين استولى البارون على منزلها، وكانت فيه صورة زوجها الكونت في شبابه وهو يشبه «السيئ البخت» أتم الشبه، فأبقى الصورة في إطارها والإطار في الجدار، وفي تلك الليلة حلم حلما عجيبا؛ إذ مثل له أن الكونت خرج من ذلك الإطار وسرت فيه الحياة، فدنا منه وقال له: أيها البارون إنك لص سارق!
وقد صاح لهذا الحلم صيحة منكرة، فأسرع إليه خادمه ميشيل، ونظر البارون إلى الجدار فوجد الصور لا تزال في موضعها، وقال كلمات متقطعة لاضطرابه سمعها الخادم، فقال في نفسه: لا شك أن مولاي البارون قد ارتكب جريمة، ولا بد لي أن أعرفها.
وفي الليلة التالية رأى البارون نفس الحلم، ولكن الكونت تمثل له بشكل المتوعد، فصحا من رقاده منذعرا، فلبس ملابسه وعاد من فوره إلى باريس.
وقد مضت ثمانية أيام دون أن يعاوده هذا الحلم، فنسي الصورة واطمأن، ولكنه في الليلة التاسعة رأي الحلم نفسه، فذعر ذعرا شديدا ونادى خادمه، وقال له إنه رأى الصورة.
وكان الرعب متمكنا منه حتى إنه باح بسره لميشيل، فقال له الخادم: إن الأموات لا يحيون يا سيدي، والصور لا تتجسم، وخير ما أشير به عليك أن تعود إلى قصر الكونتيس في فرساي غدا، فتحرق هذه الصورة.
وقد عمل البارون بنصحه، وأحرق الصورة في اليوم التالي، ولكنه كان مضطربا، وكاد يصاب بما أصيبت به الكونتيس من الجنون، فأشار عليه الأطباء بالسفر، وسافر يصحبه ميشيل، فسافر في البدء إلى بروكسل - عاصمة بلجيكا - وصحا في ليلته منذعرا من رقاده؛ إذ تمثلت له الصورة، وقد لبثت هذه الصورة تطاره في كل مدة سفره منذ عامين، فعاد إلى فرنسا وهو يشبه الشيوخ بكثرة همه، وهناك ذهب إلى أراضيه في بريتانيا، واعتكف في الريف فأصبح من البخلاء بعد هذه العزلة، ولم يكن يفرج همه غير الصيد، فبات شاغله الوحيد.
وقد عادت الصورة إلى الظهور له، فكانت تظهر مرة في الشهر، ثم توالى ظهورها، فبات مرة في الأسبوع إلى أن ظهرت له أخيرا فاشتدت مخاوفه، وقال لميشيل: لقد عولت على أن لا أنام في الليل، وهذه خير طريقة أأمن فيها ظهور الصورة.
وبات ليلته في غرفته وميشيل في غرفة أخرى متصلة بها، وقد نزع كل الصور عن الجدران، وأخذ كتابا يطالع فيه على نور شمعة.
ثم مل القراءة فأغلق الكتاب وصعد إلى سريره، ولكنه أبقى الشمعة مضاءة؛ إذ لم يكن في نيته النوم لخوفه حتى يشرق الصباح، وقد تاه في مهامة التفكير والشمعة تذوب وهو لا يفطن لها، إلى أن ذابت بجملتها وانطفأت، فساد الظلام الدامس في الغرفة، وهم بأن ينادي ميشيل كي يأتيه بشمعة، ولكن صوته حبس في حلقه؛ إذ ظهر له فجأة نور أزرق كأنه قد شق بطن الأرض وانبعث منها، فوثب عن سريره مضطربا منذعرا لا يعلم من أين جاء هذا النور، ثم صاح صيحة هائلة مزقت حجاب السكون؛ إذ تمثلت له صورة الكونت بالشكل الذي تعود أن يراه.
وعند ذلك انطفأ النور، وركض ميشيل إلى البارون، فوجده مضطرب الأنفاس، يكاد يغمى عليه من الرعب، فقال له: ما هذا الصياح، وما أصابك؟
قال: لقد رأيتها يا ميشيل ... رأيت الصورة.
فهز ميشيل كتفيه وقال: إنك ستقتل نفسك بهذه التصورات، فنم مطمئنا، فإن الصورة لا تعود إليك في هذه الليلة لأني سأسهر بجانبك.
وعند الفجر ركب ميشيل جوادا، وسار في طريق سانت مرتين وهو يقول في نفسه: ما دام بول سالبري قد ذهب إلى هذه القرية فلا بد لي أنا أيضا من الذهاب إليها، وإن قلبي يحدثني بأني خطوت خطوة كبيرة إلى المائة ألف فرنك التي كبر على البارون أن يجود علي بها. •••
لندع الآن البارون عرضة لتصوراته المخيفة، وفيلكس ورفيقيه يتقابلان مع بول سابري، ولنذهب بذهن القارئ إلى ذلك المستشفى الذي كانت فيها الكونتيس، فقد كانت سجينة هناك منذ سبعة أعوام، وقد ابيض شعرها وهي لم تبلغ بعد مبالغ الكهول، فإنها لم تكن مجنونة، ولكن البارون وصمها بالجنون ووافقه مدير المستشفى؛ لأنها كانت لا تفتأ تدعي أن ولدها في قيد الحياة وهو في عرف الحكومة دفين كما تثبته السجلات الرسمية، فكان قولها هذا من الأدلة المعقولة التي كان يستند إليها البارون والطبيب في إثبات جنونها.
ثم جاء يوم انقطعت فيه فجأة عن ذكر ولدها والطعن على البارون دي نيفيل، واعترفت أن ولدها ميت، وأنهم أصابوا بسجنها في المستشفى حتى لا تتعرض لهزء الناس؛ لأنها كانت مجنونة حقا.
أما السبب في هذا الانقلاب الفجائي فهو أنه اتفق يوما أن إدارة المستشفى عينت طبيبا جديدا، واجتمعت به الكونتيس في اليوم التالي لتعيينه، فقالت له: أأنت الطبيب الجديد؟ - نعم يا سيدتي. - إنك ستثبت جنوني كما أثبته بقية الأطباء؟
فأجابها بلهجة دلت على تأثره قائلا: لم يكن يخطر لي يا سيدتي أن أقبل هذا المنصب في المستشفى إلى أن سمعت بحكايتك. - من الذي رواها لك؟ لعله البارون الخائن؟ - كلا يا سيدتي، بل فتاة عرفتك وزارتك منذ سبعة أعوام، إذا كنت تذكرين. - نعم أذكرها، فقد جاءت تقول لي إن ولدي لم يمت. - هو ذاك. - ولكنها ذهبت فلم أعد أراها، واختفى ولدي من باريس. - هذه هي الحقيقة بعينها. - أهي هذه الفتاة التي أرسلتك إلي؟
أجاب: نعم يا سيدتي.
قالت: وولدي؟!
أجاب: لا يزال حيا! فإذا كنت تريدين أن ترينه فلا بد لك من الخروج من هذا المستشفى.
قالت: رباه كيف السبيل إلى ذلك؟
أجاب: يجب أن يكون لك بي ملء الثقة، والآن فاصغي إلي، فإن أول من يجب إقناعه بشفائك هو مدير هذا المستشفى.
قالت: ماذا يجب أن أصنع؟
أجاب: لا تصنعي شيئا، وسأخبرك بما يجب أن تفعليه بعد بضعة أيام.
قالت: ولكنك إذا تمكنت من إقناع المدير فلا سبيل إلى إقناع البارون، فإن فائدته في أن أبقى سجينة.
قال: سنتفق معه، فاطمئني!
فاتقدت عيناها ببارق رجاء، وقالت: إذن لقد أتيت إلى هنا من أجلي؟
أجاب: نعم يا سيدتي.
وقالت: وهذه الفتاة التي أرسلتك؟
أجاب: إنها من أشرف الفتيات، وباتت الآن من شهيرات الممثلات، وهي قد وجدت ولدك، ولا تزال تحبه أصدق حب.
قالت: إذن سيتزوج بها؟
أجاب: إنها تكون أسعد فتاة حين تسمع منك هذه الكلمة وهي جاثية على ركبتيها.
ثم قبل يد الكونتيس، وخرج من عندها بعد أن أوصاها بالكتمان.
وحكاية هذا الطبيب؛ أنه كان في عداد المفتونين بباكيتا، وقد أفرغ مجهوده في سبيل التقرب منها، وباح لها بحبه فأخبرته أنها مقيدة القلب، وسألته أن يستبدل الحب بالصداقة، فوافقها على ما أرادت، واشتد احترامها عنده حين روت له حكايتها، فعاهدها على أن يخدمها بإخلاص، وسعى فتعين طبيبا في المستشفى بغية إخراج الكونتيس منها.
وقد عرف القراء الآن السبب في انقلاب الكونتيس، وفي هذا الكتاب الذي أرسله المدير إلى البارون.
أما البارون فإنه لم يجب المدير إلا بعد أسبوع، فكتب إليه ما يأتي:
لقد سرني كثيرا ما كتبته لي عن شفاء الكونتيس، وأنا عائد إلى باريس بعد ثلاثة أيام فأزورك، وإذا كانت قد شفيت - كما تقول - فإني موافق على كل اقتراحاتها.
البارون دي نيفيل
مضى على البارون ستة أيام كان يتلهى في خلالها بالصيد، حتى كاد ينسى ذلك الخيال الذي كان يعرض له. فبينما هو ذات ليلة يتعشى دخل عليه ميشيل فقال له: ألم تكتب بعد يا سيدي البارون إلى مدير المستشفى؟
قال: كلا! فإني أرى أن الكونتيس لا يطول عمرها، وعندي أنه خير لي أن تبقى في المستشفى.
قال: إذن أنت لا توافقني على رأيي؟ أجاب: كلا!
قال: ألا تزال تريد أن تقتصد مائة ألف فرنك؟ أجاب: الأمر ما قلت.
قال: ولكني أرجو أن تذكر ...
أجاب: ماذا؟
قال: المائة ألف فرنك التي طلبتها منك، فإن هذا المبلغ لا ينقص من ثروتك، ولكنه يمهد لك سبل السكينة والسلام.
قال: لقد سألتني هذا السؤال وأجبتك عنه، أما الآن فأقول لك: إنه إذا كانت الخدمة على شروطي لا توافقك فلك أن تتنحي وتعتزل، فلم يجبه بكلمة، وأوصله إلى غرفة رقاده، وهناك تركه وخرج من القصر من باب خفي إلى خمارة، فأقام فيها ساعة مختليا مع صاحبها، ثم عاد ودخل الغرفة المجاورة لغرفة البارون، وهي الغرفة التي تعود أن يبيت فيها كي يكون قريبا من سيده حين يدعوه.
أما البارون فإنه لبث ساهرا إلى انتصاف الليل، وهو يفكر تارة في الكونتيس ولا يعلم على ماذا يقر بشأنها، وتارة في السيئ البخت، ولا يعلم إذا كان ميتا أم لا يزال في قيد الحياة، وطورا في بول سالبري فيندم لإساءته إليه، حتى إذا انتصف الليل، وأطفأ الشمعة عادت إليه هواجس الخيال، وجعل يفكر في تلك الصورة التي لم يكن يعذبه سواها. وفيما هو على ذلك سطعت الأنوار الزرقاء فجأة، فهلع قلبه من الخوف، ونظر نظرات ملؤها الرعب إلى الجدار فرأى صورة الكونت دي نيفيل قد ارتسمت في إطارها على الجدار، فكاد يذهب عقله من الذعر.
ولكن هذه الرؤيا لم تطل أكثر من بضع ثوان؛ إذ انطفأت وعاد الظلام، ولبث البارون في سريره ينتفض من الرعب، وهو يحسب أن الرؤيا قد انتهت حسب عادتها.
وقد عول على أن لا ينام، وكيف يستطيع الرقاد وهو يعتقد الآن اعتقادا راسخا أن هذه الصورة لم تظهر له بشكل حلم، فقد رآها وهو يقظان، غير أن زمن سكينته لم يطل، فإنه بينما كان يفكر في أمره عادت تلك الأنوار إلى التآلف بشكل يخطف الأبصار، فصاح صيحة هائلة وتراجع إلى الجدار؛ ذلك أنه لم ير الصورة هذه المرة، ولكنه رأى الكونت دي نيفيل قد خرج من إطار الصورة وأصبح جسما حيا، ثم رآه يمشي إليه وعيناه محدقتان فيه تنظران إليه نظرات نارية.
ومن شأن الرعب متى تمكن من قلب صاحبه، وبلغ أقصى حدوده، أن يقيده ويمنعه من كل حركة، وهذا ما أصاب البارون، فإنه حين ظهر له هذا الخيال المجسم حاول أن يصيح صيحة ثانية، فوقف الصوت في حلقه وجمد الدم في عروقه؛ لأنه رأى رجلا حقيقيا هذه المرة لا صورته.
ولكنه بذل جهدا عنيفا فتمكن من الكلام، وقال يخاطب الخيال بصوت متقطع: ... رحماك ...! اصفح عني، فسأصلح ما أفسدت.
فتراجع الخيال بملء الجلال خطوة إلى الوراء وأشار إلى البارون إشارة الآمر أن انهض!
فامتثل وهو لا يعلم ما يريد منه، أما الخيال فإنه أخذ ينير الشمعة، فعاود البارون الرجاء، وحسب أنه سيختفي متى أضاء النور، غير أن الأمر جاء على عكس ما يتوقع، فإن الخيال بعدما أضاء الشمعة أخذ ورقا وقلما ووضعهما على المائدة، ثم أشار إلى البارون أن يكتب، فاصطكت أسنانه من الرعب وسأله قائلا: ماذا تريد أن أكتب؟ فأشار الخيال إشارة مفادها «إنك تعلم ما يجب أن تكتبه.»
قال: أتريد أن أخرج الكونتيس من المستشفى؟ فأشار الخيال برأسه إشارة إيجاب.
فأخذ البارون القلم، وقال له وهو ينظر إليه نظرات لا توصف من ذعره: ماذا تريد أن أكتب أيضا؟
فأشار إليه الخيال إشارة بمنتهى الفصاحة فهمها البارون وقال له: أتريد أن أرد لها مالها أيضا؟ فأحنى رأسه إشارة إلى الإيجاب، وأخذ البارون القلم فكتب ما يأتي: «أوافق على خروج الكونتيس دي نيفيل من المستشفى؛ لأنها ليست مجنونة ، وأتعهد بإرجاع كل أموالها إليها.»
ثم وقع على ما كتب، فأخذ الخيال الورقة، وخرج بعد أن أشار إشارة وداع إلى البارون، وعند ذلك أطفئت الشمعة، وعادت الأنوار الزرقاء إلى التألق واختفى الخيال، فضاق تنفس البارون من شدة تأثره، وسقط على الأرض مغشيا عليه.
وعندما أفاق من إغمائه كانت الشمس قد بزغت، ففتح عينيه وتنفس الصعداء، وقام إلى الغرفة التي كان فيها ميشيل فوجده ينظف ملابسه كأنه لا علم له بشيء مما حدث، فقال له البارون: ألم تسمع شيئا يا ميشيل؟ قال: ماذا تريد أن أسمع؟
قال: الخيال.
أجاب: أعاد أيضا؟! - نعم، نعم، ولكنه خرج من إطار الصورة هذه المرة. - ماذا تقول يا سيدي، لعلك فقدت صوابك؟ - قلت لك إني رأيته بعيني وهو من لحم ودم. - لم ينقصك إلا أن تقول لي بأنه كلمك. - نعم لقد كلمني بالإشارة. - أحق ما تقول؟
أجاب: بل إنه استكتبني أيضا، ثم قص عليه كل ما جرى. فكان ميشيل يسمعه ويهز رأسه حتى انتهى من قصته، فقال له: من حسن طالع البشر أن الأموات لا علاقة لهم بالأحياء.
قال: ماذا تعني؟
أجاب: أعني أن هذا الميت المنشور سيعود إلى ضريحه، ومعه تلك الورقة التي كتبتها فتدفن معه، وعند ذلك طرق الباب الخارجي، وأطل ميشيل من النافذة، فقال له البارون: من هذا؟
قال: لا أعرفه فهو رجل في مقتبل الشباب دخل في الحديقة وهو يصعد السلم الآن، وعليه الملابس السوداء شأن المحامين.
أما هذا الزائر فقد كان كاستيليون.
الفصل التاسع عشر
وقد صعد كاستيليون وطلب مقابلة البارون، فاستقبله في القاعة العمومية، فحياه كاستيليون وقال له: إني يا سيدي من المحامين أدعى كاستيليون، وقد جئت إليك في شأن خطير؛ فتبين القلق في وجه البارون وقال له: إني مصغ إليك.
قال: إني يا سيدي وكيل الفيكونت فيلكس دي نيفيل قريبك.
فأجابه البارون ببرود قائلا: إني لا أعرف لي قريبا يدعى بهذا الاسم، وقد يكون من أحد فروع أسرتنا، فهي كثيرة الفروع.
قال: كلا يا سيدي البارون، فإني أريد به ابن أخيك الكونت من زوجته الكونتيس المقيمة الآن في مستشفى الأمراض العقلية. - إن أخي لم يخلف بنين، ولست أفهم ما تقول. - وأنا ما أتيت إلا لأبرهن لك على عكس ما تقول، فإنك تعرف - دون شك - أن الكونت دي نيفيل كان له ولد. - نعم، ولكنه مات. - كلا، إن لم يمت؛ لأن البستاني حنا الذي كان عند أخيك سرق الطفل ووضع في مكانه طفله الميت. - لقد رووا لي هذا الخبر الغريب، ولكن لا بد من إقامة البرهان عليه.
قال: برهانه أن البستاني «حنا» رواه.
قال البارون: ولكنه مجنون.
فقال كاستيليون: غير أن كاهن سانت مرتين يوافق على قوله.
أجاب: إن شهادة هذا الكاهن لا قيمة لها لدى المحاكم.
ربما، ولكن يوجد شهادة أخرى لا يمكن للمحاكم إلا أن تتلقاها بالقبول.
قال: شهادة من؟
قال: شهادة رجل أعانك على إخفاء غلام ممثل يلقب «بالسيئ البخت» وما هو إلا ابن أخيك، الذي أنا وكيله.
قال: إني لا أفهم شيئا من هذه الحكاية التي ترويها.
قال: إن المسيو بول سالبري يعينك على هذه الذكرى.
قال: إذا لم يكن لديك غير هذه البراهين فقد أزعجتني دون جدوى.
قال: بل لدي برهان غير هذا، أتحسب أن الكونتيس مجنونة حقيقة؟
أجاب: هذا الذي أجمع عليه الأطباء.
قال: ولكنها قد تشفى.
أجاب: كل ذلك ممكن.
قال: وعند ذلك ترجع إليها ثروتها.
أجاب: وهذا طبيعي أيضا، ولكننا لم نصل إليه بعد.
قال: أظن أنك تعرف خطك؟ ثم أخرج من محفظته ورقة وأراه إياها؛ فذعر البارون؛ لأنها كانت تلك الورقة نفسها التي استكتبه إياها الخيال، وتعهد فيها أن يخرج الكونتيس من المستشفى، ويرد إليها مالها.
وقد كان ذعر البارون شديدا؛ حتى إنه لم يجد ما يقوله.
فقال له كاستيليون: لنفرض يا سيدي البارون أن الكونتيس لا تزال مجنونة وأنك عينت وصيا شرعيا عليها.
قال: هو ذاك، فإني الوصي الرسمي.
قال: ولكنك كثير الشواغل، وإدارة ثروتها تتعبك كثيرا، وخير ما تفعله أن تتخلى عن هذه الوصاية ... لي مثلا.
قال: ماذا تقول ؟
أجاب : أقول ما يجب أن يكون، وقد أخرج من محفظته ورقة مكتوبة مفادها تنازل البارون عن حق الوصاية، وقال له: وقع على هذا الصك!
فطاش صواب البارون ولم يجب، فقال له: وقع عليه أو تسوء العاقبة، فأخذ القلم بيد ترتجف وهو لا يجد بدا من الامتثال ووقع على الصك، ولكنه لم يكد يكتب اسمه حتى ندم وحاول تمزيق الورقة، غير أن كاستيليون كان أسرع منه إلى إخفائها في المحفظة. فأن البارون أنين الموجع، ووضع يده على عينيه، فلما فتحمها كان كاستيليون قد توارى عن الأنظار.
وعند ذلك دخل عليه ميشيل فقال له وهو يبتسم: هل جاءك هذا الرجل بنبأ سار؟
قال: أتعلم من هذا؟
أجاب: كلا!
قال: ما هو برجل، بل هو شيطان رجيم.
قال: أكان ذا قرون؟
قال: أتمزح أيها الوقح، وأنا على ما أنا من الاضطراب؟
قال: لا أمزح يا سيدي، ولكني أخاف أن يكون هذا الشيطان أغواك، فكتبت له ما أراد.
أجاب: الأمر ما قلت.
قال: هذا الذي كنت أخشاه، وقد خطر لي أن أدخل عليك حين كان عندك.
قال: لماذا؟
أجاب: لأمنعك عن أن تكتب، فإن الكتابة تبقى.
قال: وهل يعود بها الشياطين من العالم الأخير؟
أجاب: ولو لم يذهبوا إليه.
قال: ماذا تعني؟
أجاب: أعني أنك ارتكبت خطأ لا يرتكبه غير أهل البلاهة، فأعطيت هذا الرجل الذي تحسبه شيطانا - وما هو إلا من المحامين - عهدا نزعت به من الوصاية على الكونتيس من يدك وأعطيتها لسواك فتكون قد وهبت له أو لها بضعة ملايين.
قال: نعم وا أسفاه، وهو خطأ لا يمكن إصلاحه!
قال: كل شيء ممكن في هذا الوجود، فإنك لو أردت لما حدث شيء من هذا.
قال: من الذي كان يمنع حدوثه؟
أجاب: أنا، ولكن ذلك كان يكلفك مائة ألف فرنك فقط، فضننت بها علي، وتنازلت عن عشرة ملايين لغيري، ومع ذلك فإني لا أيأس من ردها إليك.
قال: لعلك تهزأ بي. - كلا، فإني أقول الجد، وإني قادر على إنفاذ ما قلته لك، ولكن ...
قال : ولكن ماذا؟ - ولكن ذلك يكلف مائة ألف فرنك لا تنقص درهما. - وإذا أعطيت ما سألت؟ - رددت إليك ما كتبت. - ولكن من يضمن لي ألا يخرج الكونت ثانية من قبره، ويكرهني على إعادة الكتابة؟ - أنا أمنعه، فإن الذي رأيته لم يكن الكونت نفسه بل ولده.
قال: ماذا تقول؟
أجاب: أقول الحقيقة، فإن التشابه بينهما عظيم، ومن رأى السيئ البخت بجانب صورة الكونت لا يسعه أن يقول إلا إنها صورته.
قال: إذن إن الذي رأيته ...
أجاب: إنما هو السيئ البخت ابن الكونت دي نيفيل وابن الكونتيس.
قال: أهو حي؟
أجاب: ولا يخطر له الآن أن يموت. - ولكن كيف دخل هذا الموضع؟ - بطريقة بسيطة؛ وهي أني فتحت له الباب فدخل. - ويحك! أأنت أدخلته علي ...؟ فأخرج ميشيل ورقة مكتوبة وقال له: هذه حوالة بمائة ألف فرنك، فإذا وقعت عليها ضمنت لك النجاح التام. - لكن هذه الصورة التي أحرقتها بيدي، ثم كنت أراها معلقة في الجدار؟ - لقد نسخت صورة عنها قبل إحراقها. - أأنت فعلت ذلك أيها الشقي؟ - إني أشير عليك أن توقع على هذه الحوالة، فذلك خير لك من الغضب. فاحتدم البارون غيظا، وهجم عليه يريد خنقه، ولكنه هرب إلى الغرفة المجاورة، وجعل يكلمه ويفاوضه من وراء الباب. •••
ولنذهب الآن إلى تلك الخمارة التي ذهب إليها ميشيل قبل الحادثة، فقد تم الاتفاق في تلك الخمارة على تمثيل الرواية التي تقدم بيانها.
وقد كان السيئ البخت وشارنسون وكاستيليون وبول سالبري وصلوا إليها عند الغروب؛ فاستقبلتهم صاحبة الخمارة بملء الترحيب، وهي أرملة كان ميشيل قد وعدها بأن يتزوجها، فوافقته على تدبير تلك المكيدة في خمارتها.
وكان ميشيل قد جاء في النهار بملابس تشبه الملابس التي كان الكونت مصورا بها؛ كي يلبسها السيئ البخت، فتتم مشابهته بأبيه، ويزيد اعتقاد البارون رسوخا أن الصورة قد تجسمت، فلبس السيئ البخت تلك الملابس، وسار مع ميشيل إلى القصر، فمثل تلك الرواية التي بسطناها، ثم عاد إلى الخمارة، ودفع ذلك الصك الذي أخذه من البارون إلى كاستيليون.
وقد قابل كاستيليون البارون ، وكان ما ذكرناه بينهما، ثم عاد إلى رفاقه، واتفقوا على أن يسافروا في صباح اليوم التالي إلى أوكسر، وفيما هم جالسون إلى مائدة جاءهم ميشيل وجلس معهم، فكان أول ما فعله أنه قال لبول سالبري: إن الشراب قد أخذ منك ويكاد يصرعك، فاذهب إلى سريرك كي تستريح بالرقاد فإننا مسافرون عند الفجر، ثم أعطاه خلسة ورقة مالية بألف فرنك فأخذها وانصرف، فجاءتهم صاحبة الخمارة وقالت لهم: هل أجيئكم بشيء من الخمر؟ فقال لها ميشيل: لا حاجة بنا إلى خمرك فقد جئت بخمر معتقة.
وكان قد أحضر معه أربع زجاجات، ففض أختامها بيده، وصب في كئوسهم وفي كأسه، فجعلوا يشربون من تلك الخمر، وهم لا يرون أنه كان يسكب ما في كأسه إلى الأرض ويوهمهم أنه يشرب.
وبعد ساعة كان الثلاثة صرعى لا حراك بهم، فنادى ميشيل صاحبة الخمارة وقال لها: لقد حاول البارون خنقي، ولكن عاد إليه رشاده بعد ذلك، ووافق على كل ما أروم، والآن لم يبق علينا إلا نقل هؤلاء المصروعين، قالت: ألا تخشى أن يستفيقوا؟
قال: كلا، فإن المخدر سينومهم عشر ساعات على الأقل، فأسرعي بإحضار مركبة النقل.
فذهبت ممتثلة، ومد ميشيل يده إلى جيب كاستيليون، فأخرج منها ذلك الصك الذي كتبه البارون وخبأه بجيبه، ثم جاءت المرأة بالمركبة فعاونته على نقل الثلاثة إليها، وسار ميشيل بها وهم عليها، فأوقفها على قارعة الطريق على بعد غلوة من الفندق ثم تركهم هناك وعاد إلى القصر.
وعند الصباح أفاق الثلاثة، فوجدوا أنفسهم على مركبة نقل في الخلاء، وجعل كل منهم ينظر إلى صاحبه وهو يحسب نفسه في حلم، فبدءوا يتساءلون عما أصابهم، ويفكرون في ليلتهم الماضية إلى أن اتفق رأيهم على أن جانيا أثيما دس لهم المخدر في الشراب، لا سيما حين بحث كاستيليون على الصك فلم يجده. فقال شارنسون: من الذي تتهمه يا كاستيليون بهذه الفعلة؟
قال: إني أتهم ميشيل فهو الذي جاءنا بالشراب المخدر دون شك.
قال: ولكنا وعدناه بمائة ألف فرنك إذا صدق في خدمتنا.
أجاب : قد يكون البارون أعطاه أكثر من ذلك نقدا فآثر خدمته.
قال: إذن أنت تعتقد أنه هو الذي خاننا؟
أجاب: بل هو الذي عبث بنا، فقد مهد لنا سبيل الحصول على الصك، ثم سرقه منا كي ينال به بغيته من البارون، في حين أنه لا يقبض منا شيئا إلا بعد حصولنا على الإذن.
قال: والآن ماذا نصنع؟
أجاب: نذهب إلى أقرب قرية، ونتمعن في أمرنا عسانا نهتدي إلى طريقة تضمن لنا الفوز على هؤلاء المنافقين.
فوافقوه على اقتراحه وهموا بالمسير، وعند ذلك وصل جنديان، فسألهم واحد منهما قائلا: ألا يوجد بينكم فتى يلقب «بالسيئ البخت»؟ فقال له فيلكس: لعلك تعرفني؟
قال: نعم، فقد عرفتك من هذه الخصلة البيضاء في شعرك.
قال: نعم، أنا هو، فماذا تريد مني؟
أجاب: أريد القبض عليكم، فإنكم متهمون بسرقة الفندق الذي كنتم فيه أمس، وقد ترجل عن جواده من فوره وبيده الأصفاد يريد أن يكبل بها هذا المنكود الذي لم يلقب حقا بالسيئ البخت، وحاول الثلاثة أن يعترضوا، فقال لهم: لا فائدة من اعتراضكم على الإطلاق، فقد صدر إلي أمر قاضي التحقيق بالقبض عليكم والإتيان بكم إلى أوكسر.
قال أحدهم: ولكن بماذا يتهموننا؟
أجاب: أما قلت لكم إنهم يتهمونكم بسرقة الخمارة التي كنتم فيها؟
قال فيلكس: ولكن هم الذين سرقونا.
أجاب الشرطي: ستقول هذه الأقوال أمام قاضي التحقيق.
قال فيلكس: دعنا نأكل على الأقل، فإننا لم نأكل شيئا بعد.
قال: ستجدون في السجن ما يكفيكم من الطعام، والآن هلموا بنا فلا فائدة من الاعتراض.
وقد كبل أيادي الثلاثة، وسار بهم في طريق أوكسر، فجعل شارنسون يتأوه ويعاكس فيلكس فيقول: إنك لو تزوجت باكيتا لكنت الآن من الأغنياء ولما أصبت بهذا الشقاء.
قال: إن الأقدار لا تزال تناوئني، ولكن لا بد لي من الفوز؛ لأن لكل شيء نهاية.
قال: بماذا تفوز؟
أجاب: بقوة الإرادة؛ فهي أمضى سلاح.
قال: أما أنا فلا أتمنى الآن إلا أن يحلوا قيدي.
وقال كاستيليون: وأنا لا أتمنى إلا أن يأذنوا لي بالكتابة .
قال فيلكس: لماذا؟
أجاب: لأكتب إلى رئيسي المحامي في باريس، فينقذنا من هذا الموقف.
وقال أحدهم: ولكنا متهمون بسرقة!
أجاب كاستيليون: [سنتمكن] منها، وعسى أن يكون ذلك لخيرنا بإذن الله.
وبعد ساعة وصلوا إلى السجن، فبينما كان الجندي يطرق بابه دنا الجندي الآخر من كاستيليون وقال له: ألا تعرف أحدا هنا يكفلك؟
أجاب: كلا!
قال: وصاحباك؟
أجاب: كذلك، فإننا جميعنا من باريس.
قال: إذا رمت أن ترسل برقية إلى رئيسك المحامي تعهدت لك بإرسالها.
قال: أشكرك، ولكني أؤثر إرسال هذا النبأ إلى ممثلة شهيرة تدعى باكيتا، وهي تقيم في شارع سانت لازار نمرة 89.
أجاب: ليكن ما تريد، فماذا تريد أن أكتب لها؟
قال: اكتب لها هذه الكلمات: «احضري إلى أوكسر، فإن السيئ البخت في السجن.»
قال: سأفعل، فاطمئن! وقد دخلوا جميعهم إلى السجن، وجاءهم السجان بخبز أسود جاف كان طعامهم، ورأى ما كان من نفورهم.
فقال لهم: إني آتيكم بما تشتهون من الطعام بشرط أن تدفعوا ثمنه.
فقال كاستيليون: ليس لنا درهم.
قال: ومع ذلك فإنكم متهمون بالسرقة.
أجاب: هذا خير دليل يثبت براءتنا، فإن كنا سرقنا في هذه الليلة كما يدعون، فأين ذهب ما سرقناه؟
قال: أليس لكم أحد هنا يمدكم بما تحتاجون إليه؟
أجاب: كلا، ولكنا ننتظر الإعانة غدا من باريس.
قال: إذا كان ذلك فسآتيكم بطعام شهي؛ على أن تنقدوني ثمنه متى وردكم المال، فإني لا أرى منكم ما يدل على أنكم من أهل الشر، وأنا رجل فقير، قالوا: سنرد لك مالك مضاعفا فاطمئن.
فذهب السجان، وعاد إليهم بعد حين باللحم والخمر والفاكهة والخبز الأبيض، فأكلوا وشربوا، ثم ناموا من فورهم لفرط ما لقوه من العناء.
أما باكيتا فقد وصلها التلغراف بعد ساعة من إرساله، فجزعت جزعا شديدا، وأسرعت إلى كوكليش مدير جوقها القديم، فقالت له والدموع تجول في عينيها: تأهب للسفر إلى أوكسر في قطار نصف الليل، فإن فيلكس مسجون هناك.
الفصل العشرون
لقد تركنا الثلاثة نائمين، وكان السيئ البخت بينهم نائما وهو يبتسم، فقد كان يحلم حلما يسره؛ ذلك أنه رأى نفسه في محترف جميل يتشوق إلى مثله كل حفار مبتدئ بهذا الفن الجميل، وقد وضعت فيه الرسوم البديعة والتماثيل المتقنة، وازدحم الناس حول صاحب هذا المحترف ينظرون إليه نظرات الإعجاب والإجلال، وكلهم من أصحاب الوسامات، وكان هذا الحفار الذي يعجبون به واقفا بينهم، فحانت منه التفاتة إلى المرآة، فرأى أن هذا الحفار إنما هو فيلكس نفسه الملقب بالسيئ البخت، ورأى في عروة ثوبه زرا أحمر يدل على أنه قد بات هو أيضا من أصحاب الوسامات كهؤلاء المحدقين به.
ولم يكن هذا كل ما رآه في حلمه، فقد رأى أيضا في إحدى زوايا القاعة صاحب الكلب الأسود - الذي تقدم ذكره في بدء هذه الرواية - وأمامه كلبه، وقد سقط ميتا وهو ينظر إليه نظرات تشف عن اليأس، ثم إنه رأى أيضا على مقعد بجانبه امرأتين تبتسمان وهما لا تنظران إلى التمثال الذي صنعه، واستحق به الوسام وإعجاب الناس، بل إلى طفل صغير كان يلعب أمامهما على البساط، وكانت إحدى هاتين المرأتين بيضاء الشعر، ولكن وجهها يدل على أنها لا تزال في عهد الشباب، فأحبها دون أن يعرفها، وحدثه قلبه أنها أمه، أما المرأة الثانية فقد عرفها لأول وهلة، فإنها كانت باكيتا، وكانت أم هذا الطفل ولكن من أبوه؟
وهنا استفاق فيلكس من رقاده لصوت كاستيليون قبل أن يعرف والد الطفل وقال: لقد نمت نوما لذيذا.
وقال شارنسون: وأنا صحوت خائفا.
قال فيلكس: وأنا رأيت حلما جعلني من السعداء، ثم قص عليهم حلمه وختمه بقوله، ولكنها أضغاث أحلام وا أسفاه!
فقال شارنسون: أما أنا فإني أعتقد بصحة الأحلام، وإني أنبئك بذهاب نحسك بعد موت الكلب الأسود.
قال: لا شك أن النحس سيفارقني بقوة إرادتي، ولكن متى وفي أي حين، وعند ذلك دخل عليهم السجان، وقال لهم: أبشروا فقد جئتكم بخبر سار فإن سيدة حسناء جاءت من باريس وهي مهتمة في شأنكم، فصاح فيلكس صيحة سرور وقال: إنها باكيتا لا محالة، قال: لا أعرف اسمها فإنها أرادت في البدء أن تقابل قاضي التحقيق، فامتنع عن مقابلتها، فأرسلت بطاقة زيارتها إلى النائب العام، فاستقبلها بالترحاب والإكرام.
فقال كاستيليون: إن صاحبنا جائع، فهل تريد أن تأتيه بطعام؟ قال: بل أأتيكم جميعكم بكل ما تشتهونه، فقد ثبت لي الآن أنكم من كرام الناس.
ولنعد الآن إلى بول سالبري الذي أهملنا ذكره لاهتمامنا بسواه، فقد كان هذا الرجل كما عرفه القراء لا أدب له ولا ذمة، وكان قد انضم إلى فيلكس ورفيقه ووعدهما بمعاونتهما في مشروعهما لسببين؛ أحدهما الانتقام من البارون، والثاني الطمع بالكسب، فقد وعدوه بمبلغ جزيل إذا اعترف لدى المحكمة بما كان بينه وبين البارون.
ويذكر القراء أنه حين حاول ميشيل تخدير الثلاثة بالخمر التي جاء بها من القصر خلا ببول فأعطاه ألف فرنك وقال له: اذهب ونم، فإننا مسافرون عند الفجر وأنت محتاج إلى الرقاد.
ومثل هذا الشقي يبلغون منه ما يريد حين ينفحونه بمثل هذا المبلغ، فقبض المال وذهب إلى سريره دون أن يفوه بكلمة.
وكان الشراب قد تمكن منه فنام من فوره، وبعد ساعة؛ أي بعد أن زال الخمار صحا من رقاده وقد سمع لغبا، فوثب من سريره وأطل من النافذة فرأى ميشيل يحمل الثلاثة إلى المركبة وهم كالأموات، فأسرع بالنزول ودنا من ميشيل فوضع يده على كتفه، فالتفت ورأى بول فقال له: أهذا أنت؟
قال: نعم، فماذا تصنع؟
قال: كما ترى فإني أتأهب للسفر، فهل تأتي معي؟
قال: إلى أين؟
أجاب: إلى مسافة ميل من هذه الخمارة حيث نوصل أصحابنا.
قال: لعلهم مسافرون؟
أجاب: نعم.
قال: إني أحب أن أقف على حقيقة هذا السر.
أجاب: إن السر واضح فإن المياه قد تغيرت مجاريها.
قال: لم أفهم ما تقول.
أجاب: مع أن الأمر جلي لا إبهام فيه، فإن البارون كان يأبى بالأمس أن يعطيني مائة ألف فرنك.
قال: واليوم؟
أجاب: واليوم أعطاني إياها، وهذا هو كل السر.
قال: أيكون المال لك وحدك؟
أجاب: من تريد أن يكون شريكي فيه؟
قال: لا بد لنا من زيادة في الإيضاح ؛ فإني لا أحب الغموض.
أجاب: ماذا تريد أن تعلم بعد؟
قال: إنك كنت تخدم بالأمس السيئ البخت.
أجاب: واليوم أخدم البارون؛ لأنه أعطاني ما طلبت.
قال: وأنا من تريد أن أخدم الآن؟
قال: كم وعد «السيئ البخت» أن يعطيك مقابل إقرارك.
أجاب: خمسون ألف فرنك.
قال: ولكنك لا تقبضها إلا بعد استيلائه على الإرث؟
أجاب: هو ذاك؟
قال: أتريد أن تقبض نصفها وتتخلى عن خدمته؟
قال: متى؟
قال: الآن.
أجاب: لقد رضيت. فأخرج ميشيل محفظته من جيبه، وهي مكتظة بالأوراق المالية، وأعطاه خمسة وعشرين ألف فرنك، ثم قال له: هلم بنا الآن فقد أصبحت من أعواني.
وقد عرف القراء ما كان من السيئ البخت ورفاقه، أما الشقيان فقد انصرف كل منهما في شأنه، فعاد ميشيل إلى قصر البارون، وبحث بول في جيوب الثلاثة، فأخذ كل ما كان لديهم من المال، وسار في طريق أوكسر؛ كي يذهب منها إلى باريس حسب اتفاقه مع ميشيل.
ولكنه كان يعرج على كل خمارة يلقاها في طريقه، فلما وصل إلى أوكسر كان السكر قد أخذ كل مأخذ، فاضطر على أن يبيت في الفندق، وأن يسافر في اليوم التالي.
وفي صباح ذلك اليوم الذي قبض فيه على الثلاثة، وسافر بول سالبري إلى أوكسر، صحا الناس المجاورون للخمارة على صياح صاحبتها.
وذلك أن هذه المنافقة - شريكة ميشيل في آثامه - هبت في ذلك الصباح، وجعلت تبكي وتعول وتستنجد بالناس، فأسرع الناس إلى نجدتها، وسألوها عن سبب عويلها فلم تجبهم بشيء، ولكنها سارت بهم إلى خزانتها، وأرتهم إياها فرأوا قفلها مكسورا.
وكانوا جميعهم يعلمون أنها باعت منذ يومين أرضا لها بتسعمائة فرنك، ثم علموا منها أنها أودعت المال في هذه الخزانة، وأنها أصبحت اليوم فإذا به مسروق، وقد اتهمت بالسرقة الثلاثة الذين كانوا عندها؛ أي فيلكس ورفيقيه، دون أن تشير إلى بول سالبري، فهاج أهل القرية، وساروا بجملتهم إلى قاضي التحقيق ينتصرون للمرأة، ويسألونه القبض على هؤلاء الثلاثة، فأصدر القاضي أمره بالقبض عليهم، وأرسل الجنود للبحث عنهم، فأدركوهم وساقوهم إلى السجن كما تقدم.
وفي اليوم التالي بينما كان النائب العام في غرفته وصلته بطاقة زيارة، كتب عليها اسم باكيتا الممثلة الأولى في المرسح الإيطالي في باريس، فدهش لهذه الزيارة، وأمر بإدخالها عليه في الحال، وقد دخلت يصحبها كوكليش، فحكت له شيئا من حكاية السيئ البخت، واستطردت منها إلى الثناء على أخلاقه وأدبه، وأنه لا يمكن أن يكون من مرتكبي الجرائم.
فأجابها قائلا: إن قاضي التحقيق لم يسمع أقواله بعد، حتى أقف منها على حقيقة أمره، ولكني واثق ثقتك من أنه بريء من هذه التهمة مع رفيقيه، غير أن الإفراج عنه الآن محال؛ لأن التحقيق لم يبتدئ بعد.
قالت: ولكن ألا يؤذن لي بأن أراهم؟
قال: هذا محال يا سيدتي أيضا، فإني لم أستنطقهم بعد.
قالت: ومتى تريد سؤالهم؟
أجاب: الآن، إكراما لخاطرك.
قالت: إذن سترى يا سيدي أنهم بعيدون عن مواقف التهم، فحاول أن يجيبها، غير أنه سمع ضجيجا شديدا قرب غرفته، وسمع قائلا يقول لحاجب غرفته: لا بد لي من مقابلة النائب العام فإني من رجال الأمن ويحق لي الدخول عليه حين أشاء.
فقام النائب وفتح الباب بيده، فوجد جنديا قابضا على رجل، وكان ذلك الجندي هو الذي عهد إليه كاستيليون أن يرسل النبأ البرقي إلى باكيتا.
أما الجندي فإنه حين رأى النائب العام قال له: هذا هو السارق يا سيدي وهو سكران كما تراه.
ثم دفعه إلى وسط الغرفة فسأله النائب قائلا: ماذا تدعى أيها الرجل؟ قال: إني أدعى بول سالبري على ما أظن؛ لأني سكران، وإني لا أكذب مطلقا في حال السكر، ولا أكتم أمرا من أموري.
وقد كان يقول الحقيقة، فإنه حين ذهب إلى أوكسر وصل إليها سكران - كما تقدم ودخل الفندق - وهنا طلب أيضا زجاجة من الخمر فزادته سكرا على سكره.
وقد اتفق أن هذا الجندي كان ساعتئذ في تلك الخمارة، فدعاه بول إلى الجلوس معه، وانطلق لسانه بالكلام كعادة أغلب السكارى فأخبره بكل ما حدث فقبض عليه الجندي وجاء به إلى النائب العام كما بسطناه.
الفصل الحادي والعشرون
ولنعد الآن إلى البارون دي نيفيل فإنه رضي عن خادمه ميشيل أتم الرضى، وأخذ يتداول وإياه بعد الحوادث المتقدمة فقال له: لا يستطيع سواي إخراج الكونتيس من المستشفى، فإذا لم أوافق على خروجها بصفتي الوصي عليها، بقيت فيه إلى أن تلقى حتفها. فقال له ميشيل: إني أسديك نصيحة يا سيدي البارون.
قال: ما هي؟ أجاب: هي أن تسافر بعيدا مدة عام على الأقل.
قال: إلى أين؟
أجاب: إلى أية بلاد تختارها؛ وذلك كي لا تدع سبيلا لمدير المستشفى إلى الاتصال بك فيضغط عليك؛ لأنه يعتقد أن الكونتيس شفيت من جنونها.
قال: اصبر فسأغير معتقده، ثم قام إلى منضدة، وكتب إلى مدير المستشفى الكتاب الآتي:
سيدي
تجد في ضمن كتابي هذا حوالة بقيمة خمسة آلاف فرنك، هي قيمة القسط الأول من نفقات الكونتيس.
إن هذه المنكودة قد اشتد مرضها فوق ما كنت أظن، حتى إن الجنون مثل لها أن تتفق مع عصبة إجرام هم الآن جميعهم في السجن؛ لأنهم ارتكبوا منذ يومين جريمة السرقة في البلد الذي أقيم فيه بعد أن حاولوا خديعتي، وأن واحدا منهم يدعي أنه ابن الكونتيس، مع أن ولدها قد مات وله من العمر ثلاثة أيام.
وإني مرسل إليك مع كتابي صورة من شهادة وفاته منقولة عن السجل الرسمي في سانت مرتين.
أما أنا فإني مضطر إلى السفر إلى ألمانيا، وسأراك بعد عودتي.
البارون دي نيفيل
ثم ختم هذا الكتاب، وعهد إلى ميشيل أن يذهب به إلى إدارة البريد، وبعد ساعة ركب مع خادمه مركبة أوصلتهما إلى نيفرس، فركبا القطار البخاري الموصل إلى مرسيليا، فبلغا إليها بعد يومين، وسافرا منها إلى إيطاليا.
وبينما كان مدير المستشفى، يقرأ كتاب البارون كانت البارونة تقرأ أيضا كتابا وصل إليها بواسطة ذلك الطبيب، الذي كان متفقا مع باكيتا، وهذا ما جاء في الكتاب الذي كانت تقرؤه:
سيدتي الوالدة الكملية الاحترام
لم يبق لك أقل رجاء بمحاكمة هذا الشقي الذي سلبك أموالك؛ إذ ليس لدينا برهان على جريمته ، وقد جعلك مجنونة في عرف جميع الناس، ولكني عولت مع أصحابي على اختطافك من المستشفى، وسأشتغل وأعيش وإياك من كسب يدي أهنأ عيش، فإني ولدك الذي طالما بكيته والذي لم يجد إلى الآن اسما يسمى به فلقب بالسيئ البخت.
فكان فرح الكونتيس عظيما بهذا الكتاب، وأقامت تنتظر الليل بفارغ الصبر، وفي المساء تغيرت الممرضة التي كانت تخدمها، ودخلت عليها فتاة حسناء لم تكن رأتها من قبل في المستشفى، أما تلك الفتاة فإنها هجمت عليها، وجعلت تعانقها وتقول: ألم تعرفيني؟ ألم تذكريني؟ فذكرتها الكونتيس وقالت لها: أما أنت التي جاءتني عندما ...
قالت: نعم، أنا التي أتيت إليك في فرساي، وقلت لك: إن ابنك لا يزال في قيد الحياة.
وكانت هذه الفتاة باكيتا، فوضعت سبابتها على فمها، وقالت لها: صبرا يا سيدتي، فقد احتلت حتى دخلت المستشفى بصفة ممرضة، والمفاتيح معي، وسنهرب في هذه الليلة إذ يوجد مركبة تنتظرنا على بعد خطوات من الباب الأكبر، فأجابتها بصوت يرتجف قائلة: أيكون ولدي فيها؟ قالت: نعم.
فضمتها إلى صدرها وقالت لها: بارك الله فيك! فستكونين ابنتي ...
مرت الأيام وتوالت الشهور، ففي صباح يوم من أيام مايو الجميلة في باريس، خرجت باكيتا الحسناء من منزلها عند الساعة السابعة وهي بملابس الربيع، وكانت المركبة تنتظرها عند الباب وفيها كوكليش وامرأته، وقد تبنيا باكيتا وكانت تدعوهما بأبويها، فصعدت إلى المركبة بتلك الرشاقة التي تعلمتها من الألعاب الرياضية، ساق الحوذي الجياد، فالتفتت امرأة كوكليش إلى زوجها وقالت له: من كان يظن منذ عشرة أعوام أننا نصل إلى ما نحن فيه؟ فقال لها زوجها: لقد أصبت، فإن هذه النعمة لم تكن تخطر لنا في الحلم.
قالت: إننا عائشان الآن كأرباب الدخل الثابت، والمجد التالد، نركب المركبات كأغنى الأغنياء، ولا تخلو جيوبنا ساعة من المال، وكل ذلك بفضل باكيتا.
فتنهدت باكيتا وقالت: ومع ذلك فإني أعد نفسي تعسة وما عزاني غير سعادتكما.
فقالت المرأة بلهجة غضب: إن فيلكس غير مصيب بعناده.
وقال كوكليش: إن لعزة النفس حدا، ولكنه تجاوز كل حد.
فقالت المرأة: حين تزوجت كوكليش لم يكن لديه درهم واحد، في حين أني كنت أملك ألفا وخمسمائة فرنك، ومع ذلك فإنه لم يمتنع عن زواجي، ولم يضطرني إلى أن أجذبه من أذنه ليتزوجني، بل تزوج بي واستعان بمالي على إنشاء مرسح نقال.
فتنهدت باكيتا أيضا وقالت: ولكن فيلكس على غير ذلك، فإنه لا يرضى أن يتزوج بي إلا متى اتسع له مجال الرزق.
قالت: ولكنه بات الآن كثير النفقات، فإنه ينفق على أمه أيضا منذ عامين.
فقال كوكليش: وعلى صديقه أيضا شارنسون؟
أجابت: نعم، هو بعينه. - ولكني لا أدري كيف يحتمل هذا الرجل أن ينفق الناس عليه وهو يبلغ ثلاثين عاما من العمر، أما كان يجدر به أن يبحث عن عمل يرتزق منه، فقد أرهق فيلكس بنفقاته؟
قالت: كم يكسب فيلكس من صناعة الحفر؟
أجاب: أربعة أو خمسة آلاف فرنك في العام.
قالت: ولكنه ماهر في صناعته، وسيكون له يوما شأن عظيم. فتنهدت المرأة وقالت: ولكن ذلك لا يكون إلا بعد زمن يا ابنتي ...
وقال كوكليش: إن نجاحه لا يكون كنجاحك، فإنك بلغت إلى القمة في أقرب حين، فقالت باكيتا: ذلك لأن طريق النجاح في المراسح أقرب من سواها، ولكن رجائي وطيد في فوزه في المعرض، الذي سيفتتح في الخامس عشر من هذا الشهر. - تحسبين أنهم سيقبلون التمثال الذي نحته؟ - هذا لا ريب فيه، وإني أرجو أيضا أن ينعموا عليه بوسام.
وكانت المركبة قد بلغت بهم إلى شارع سانت لازار، وخرجت منه حتى بلغت قوس النصر، وهناك التقت بفارس جميل رأى باكيتا فاصفر وجهه، واضطربت أعضاؤه حتى كاد يسقط عن جواده، أما باكيتا فإنها ابتسمت له وحيته، وأشارت إلى السائق أن يقف، فاشتد اصفرار الفارس ورفع قبعته بملء الاحترام، ثم دنا من المركبة، فمدت باكيتا له يدها مصافحة على الطريقة الإنكليزية، وقالت له: أتريد أن تصفح عني أيها البرنس العزيز؟
فاحمر وجهه بعد اصفراره ولم يجب، فقالت له: ألا تصفح عني لأني أرجعت إليك رسائلك دون أن أفتحها ؟
فتمتم البرنس كلمات لا تفهم، وقالت له باكيتا: تفضل بزيارتي في هذا المساء واشرب الشاي عندي فإني محتاجة إليك ... ثم ودعته بابتسامة، وأمرت سائق مركبتها بالمسير.
فقالت امرأة كوكليش بلهجة ملؤها الدهش: من هذا الذي رأيته يا ابنتي، أهذا الفتى الجميل من الأمراء؟
قالت: إنه من أمراء الروس، ويدعى البرنس ماربولوف، وثروته لا تقل عن مائة مليون روبل.
قالت: أهو يريد أن يتزوجك؟ فابتسمت باكيتا وقالت: لا يعوزه غير إرادتي، فإذا أردت عقد زواجي في هذا المساء.
فتنهدت زوجة كوكليش وقالت: من كان يخطر له أن يكون هذا مستقبلك حين كنت ترقصين على الحبل؟
قالت باكيتا: ولكن ليس هذا هو الذي أحبه حتى أتزوجه. •••
لم تخطئ باكيتا فيما روته عن ثروة هذا الأمير الروسي، فقد كان له على حدود آسيا من الأراضي ما تبلغ مساحته مساحة مملكة ...
وكانت أمه قالت له حين أرسلته إلى باريس: اذهب بحراسة الله إلى عاصمة العواصم، وافعل كل ما يوحيه إليك الشباب، وأنفق ما تشاء من غير حساب، فإنك مهما أسرفت لا تنفق إلا القليل من ريع ثروتك. وقد قالت له هذا القول؛ لأنها كانت من ذلك العنصر الروسي القديم الذي أخذ تقاليده وتعاليمه من عهد الإمبراطورة كاترين العظيمة، فقد كانوا يعتقدون أن الشريف لا يصير من أهل الدربة والسياسة إلا إذا استرسل في صباه إلى ملاذ الشباب، واندفع مع تيار ملاهيه، غير أن هذه الأميرة كانت فراستها مخطئة في ولدها، فقد كان شديد الرزانة على حداثة سنه، كثير الميل إلى الفنون الجميلة، شديد التعلق بأصحابها إذ كان منهم، فقد كان شاعرا موسيقيا.
وهو في باريس منذ عامين لم يقل أحد عنه كلمة سوء، وقد اشتهر بميله إلى الرسوم والتماثيل، حتى إنه إذا عرض شيء منها للبيع كان في مقدمة الشارين.
وقد اتفق مرة أن دوقا عرض أمتعته للبيع، وبينها صورة من خير ما جادت به قرائح المصورين، فذهب لشرائها وزاحمه عليها أحد المولعين بالرسوم، فجعل يزيد في ثمنها حتى امتنع الرجل عن شرائها والدموع تجول في عينيه لعجزه، وقد سأل البرنس عنه فقيل له: إنه رجل أنفق كل ثروته على شراء الرسوم المتقنة لشدة ولوعه بها، فأرسل إليه الصورة في اليوم التالي وكتب عليها: «تذكار من البرنس ماروبولوف إلى فلان.» فاشتهرت هذه الحادثة في باريس، وجعل الناس يتحدثون بكرم الأمير.
وقد قلنا: إنه كان موسيقيا، فكان يختلف إلى مراسح الغناء، حتى استقر على المرسح الذي تغني فيه باكيتا، واستمر يسمع صوتها الرخيم مدة ستة أشهر، ويفرغ كل ما عنده من الجهد في سبيل التعرف بها فلا يجد إلى ذلك سبيلا؛ لأنها كانت تقصي عنها جميع عشاق صوتها، وكان آخر ما فعلته أنها أرجعت إليه رسائله دون أن تفتحها، فتأمل مقدار دهشته حين استوقفته في الطريق، وسلمت عليه دون كلفة، ودعته إلى زيارتها.
وقد كان اضطرابه عظيما حتى إنه عاد من فوره إلى منزله وهو شبه المجانين، فأقام فيه إلى المساء ورأسه بين يديه يفكر في حل هذا اللغز، فلا يجد له حلا إلا أن هذه الحسناء قد مالت إليه بعد ذلك الجفاء.
وفي المساء تأنق في ملابسه، وذهب إلى النادي كي يقضي الوقت بين أصحابه إلى الساعة العاشرة، فأجفل أصحابه لما رأوه من اصفراره، وسأله واحد منهم عما أصابه فقال له: إني أسائل نفسي منذ هذا الصباح إذا كانت السعادة تقتل صاحبها.
فأجابه المركيز دي شاومري قائلا: إنك أدرى الناس بأسرار السعادة، فإنك أغنى رجل في أوروبا.
وأقام بين أصحابه إلى الساعة العاشرة، ثم ركب مركبته وذهب إلى باكيتا، فوجدها في قاعة جميلة لا ينيرها غير مصباح واحد، وكل ما رآه كان يدل على أنها لم تكن تنتظر سواه، فأجلسته بإزائها وقالت له: كم لك من العمر أيها البرنس؟ - سبعة وعشرون عاما.
قالت: أما أنا فإني أزيدك بعام، ويحق لي أن أسديك نصيحة؛ فاضطرب وقال لها: بماذا تنصحينني؟
قالت: أنصحك أن تكون صديقي.
فحاول أن يركع أمامها، ولكنها أوقفته وهي تبتسم، وقالت له: هل أردت أن تكون صديقا لي؟
فوقف البرنس حائرا، ينظر إليها ولا يفهم ما تعنيه، فقالت له: اعلم أيها البرنس أني فتاة شريفة لا أريد أن أخدع أحدا، ولو كان قلبي طليقا لما أحببت سواك، فقد حويت من الصفات ما يدفع كل امرأة طاهرة إلى حبك، ولكني قلت لك إني لا أملك قلبي؛ ولذلك أردت أن تكون صديقي، ولا أجد خيرا من أن أبسط لك تاريخ حياتي للوصول إلى هذه الغاية.
فأجابها بصوت مختنق قائلا: تكلمي، فاندفعت باكيتا في بسط تاريخها وتاريخ فيلكس منذ الحداثة إلى هذه الساعة، والبرنس يصغي إليها وقد تأثر من حكايتها إلى أن سالت دموعه، وثارت فيه الشهامة الروسية، فتغلبت فيه المروءة على الحب، وقال لها: لماذا لا تتزوجان؟
قالت: لأنه لا يريد. - لماذا؟!
أجابت: لأني غنية بما أكسبه من مهنتي وهو فقير.
قال: ولكنه مثال ماهر كما تقولين.
قالت: هو ذاك، وسيعرض تمثالا جميلا في هذا العام، فأخذ البرنس يدها بين يديه وقال لها: لقد اشتهرت في باريس بأني من المولعين بالفنون الجميلة، وأني من مريدي أصحابها، فإذا ظللت رجلا منهم بحمايتي أصبح من المشاهير.
قالت: لا ريب عندي في ذلك.
قال: أين يقيم خطيبك؟ - في منزل صغير في أوتيل رقم 17 ملك أحد خدم أبيه. - ألا يزعجه ذهابي إليه؟ - كلا، إلا إذا علم بما كان بيننا.
قال: اطمئني، فإني لا أذكر اسمك، واعلمي أني لست صديقك فقط بل حليفك أيضا، وقد أخذ منذ تلك الساعة يحدثها أحاديث مختلفة دون أن تبدو منه كلمة تشعر منها باكيتا بيأس قلبه، ثم ودعها وعاد إلى النادي.
ولقد كان هذا البرنس من أهل العزيمة والإرادة والصبر على الشدائد، فإنه كان يحب باكيتا أصدق حب، حتى إنها لو أرادت منذ ساعة لتزوج بها وباتت من الأميرات، ولكنه حين وقف على حقيقة أمرها رثى لها ولخطيبها، وتناسى كل ذلك الحب الذي كان يغلي في صدره كما تغلي المياه في القدور، ولم يعد يخطر له إلا أنه يجمع بين هذين الحبيبين بجامعة الزواج، ويمهد سبيل النجاة لذلك الخطيب الأنوف.
وقد اتفق حين وصوله إلى النادي أنهم كانوا يتحدثون بصناعة النقش، فيزعم بعضهم أن هذا الفن قد انحط عن مقامه القديم، ويقول آخرون: بل إنه سائر في سبيل الارتقاء، وإنه يوجد كثير من البارعين فيه لم تمهد لهم حظوظهم سبيل الظهور، فاغتنم البرنس هذه الفرصة، وانضم إلى أصحاب هذا الرأي، فأبدى رأيه في هذا الموضوع، ثم قال لهم: ودليل ذلك أنني علمت بالأمس عن فتى يقال أنه أبرع مثال ولا يعرفه أحد، فهل سمع واحد منكم باسم فيلكس المثال.
فقال واحد منهم: إني قرأت منذ يومين هذا الاسم تحت تمثال رأيته من آيات الصناعة. قال: عند من وجدته؟
أجاب: عند بائع رسوم، وقد أخبرني أن هذا الفتى سيعرض مثالا جميلا في المعرض القادم.
قال: إني أعرف عنوان هذا النقاش، ولا بد من زيارته، فمن يريد منكم أن يصحبني إليه؟
فأجابه مركيز من الحضور قائلا: أنا.
قال: ألا يزال بيتك في شارع هيلدر؟
قال: نعم.
قال: إذن سأمر بك غدا بين الساعة الثامنة والتاسعة، وقد اتفقنا على ذلك. وعاد الحاضرون إلى المباحثة في غير ذلك من الشئون.
كان يوجد عند الكونتيس خادم قديم يدعى أنطوان، لازم الكونتيس إلى أن أدخلوها مستشفى المجانين، فجمع كل ما اقتصده في مدة خدمته أربعين عاما، واشترى منزلا صغيرا في شارع أوتيل، فلما هربت الكونتيس من المستشفى بمساعدة الطبيب وباكيتا - كما تقدم - جاءت إلى خادمها القديم مع ولدها السيئ البخت واختبأت في منزله، ولم يكن خوفها من الحكومة أن تبحث عنها بعد فرارها فتردها إلى المستشفى؛ لأن الجنون لا يعد من الجرائم، ولا تقبض الحكومة على المجانين إلا إذا كان في إطلاق سراحهم ضرر على الناس، ولكنها كانت تخاف من البارون - وهو وصيها - أن يعثر عليها ويعيدها إلى المستشفى، فإنه قادر على إثبات جنونها وله الحق بالحجر عليها.
وكانت عائشة مع ولدها عيشة الفقر، ولكنها كانت تعد نفسها من أسعد البشر، فكان فيلكس يشتغل شغل الواثق المطمئن من فوزه في النهاية.
وكان صديقه شارنسون مقيما معه، وقد استخدم سبع مرات كي لا يكون عالة على صاحبه، ولكنه لم يكن يستطيع الثبات، حتى انتهى بأن قال لصاحبه: إني أنا الذي يجب أن ألقب «بالسيئ البخت» لا أنت. فابتسم فيلكس وقال له: وزد على ذلك أنك ما خلقت قوي الإرادة مثلي.
أما كاستيليون فإنه عاد إلى العمل في مكتب المحامي الذي كان يشتغل عنده، وقد يئس من إعادة الإرث إلى فيلكس بعد أن اختلس منه ميشيل ذلك الصك الذي كتبه البارون كما تقدم.
وكان فيلكس يكسب رزقه بشيء من السعة، وإنما كان الفضل في ذلك لباكيتا، فإنها اتفقت سرا مع أحد تجار التماثيل فكان يشتري من فيلكس بمالها كل ما ينحته فيزيده هذا الرواج رغبة في العمل وتفننا فيه، وهو لو علم أن باكيتا كانت تشتري تماثيله لقنط، ولما بلغ شيئا مما بلغه من الفوز بهذه الصناعة.
وكانت باكيتا تزوره، وهو مع أمه من حين إلى حين، فكان يتنهد وهي تبكي إلى أن قال لها يوما: أقسم لك بالله وبشرفي أني لا أميل إلى سواك، ولا أتزوج غيرك مدى الحياة، ولكني لا أقدم على الزواج إلا متى نلت شهرتي، وخلصت من هذا الجهاد في معترك الحياة؛ إذ لا أستطيع أن أقبل منك درهما.
ففي ذلك اليوم الذي قابلت فيه البرنس أرسلت إلى فيلكس تخبره أنها ستتغدى في حديقة منزله مع كوكليش وامرأته، وجاءته عند الظهر وجاءت بأجود الطعام والشراب، وكان هذا كل ما يقبله منها.
وقد وجدت فيلكس واقفا أمام التمثال الذي كان عازما على عرضه في المعرض، وهو ينظر إليه وعلائم الاضطراب بادية في وجهه، فسألته قائلة: ما بالك مضطرب البال؟
قال: إني خائف.
قالت: مما الخوف وهذا التمثال من آيات فن النحت؟
فتنهد وقال: لا أنكر ما تقولين، ولكني أخاف مناوأة الأقدار، فقد تعودت البخت السيئ في كل أعمالي.
قالت: ألا تعتقد أني ملكك الحارس يا فيلكس؟
أجاب: نعم ... ولكن ...
قالت: ولكنك لا تزال تخاف من صاحب الكلب الأسود؟!
أجاب: نعم، ألا تزالين تشككين بنظراته وتأثيرها؟
فضحكت وقالت: ما هذه الخرافات يا فيلكس؟
فقال لها شارنسون: إنك مخطئة يا سيدتي.
قالت: لعلك رأيته أنت؟
أجاب: نعم.
قالت: متى؟
أجاب: حين كنا في الغابات، فبت أعتقد فيه نفس اعتقاد فيلكس.
قالت: أما أنا فإني أرى غير رأيكما، وسأنبئكما بأمر لا بد أن يكون.
قال: ما هو؟
قالت: هو أن المحكمين في المعرض سيحكمون بالجائزة لتمثال فيلكس.
قال: وبعد ذلك؟
أجابت: وبعد ذلك يشتري تمثاله أحد المولعين بالفن بما يعادل ثقله ذهبا وسوف تريان.
الفصل الثاني والعشرون
غادرنا فيلكس وحبيبته باكيتا يتحدثان عما يكون من أمر التمثال الذي صنعه فيلكس؛ ليعرض في معرض التماثيل والصور، وكانت باكيتا في ذلك النهار ملازمة فيلكس وأمه، ثم عادت إلى منزلها لتستقبل البرنس الروسي، أما فيلكس فإنه نام تلك الليلة وكان يحلم بالفوز، ولم يكن يطمع بالنجاح إلا لطمعه بازدياد حب باكيتا له، فقد كان كلما رآها تنبت في قلبه بذرة جديدة من بذور الحب.
وقد حلم في تلك الليلة أن تمثاله قد قبل في المعرض، ثم نال الجائزة، ثم أحدق به الناس يهنئونه، ثم جاءه أمير من كبار الأغنياء، فبسط أمامه من الأوراق المالية ما يعادل ثروة، وقال له: هذا ثمن تمثالك إذا شئت بيعه، ثم أنعم عليه بوسام، ثم جاءت أمه، فوضعت يده بيد باكيتا وباركت لهما في الزواج.
وقد صحا عند ذلك من رقاده، فأقام هنيهة يفتكر في هذا الحلم السار، ثم عاد إلى الرقاد، فعاوده الحلم نفسه، ولكنه اختلف في آخره، فقد وجد نفسه في إدارة المعرض، ووجد الناس محدقين به، ولكنه لم يجد الرجل صاحب المال.
ثم رأى أن الزحام قد اشتد، وحال الناس بينه وبين تمثاله، فجعل يخترق صفوفهم حتى تمكن بعد الجهد من الوصول إليه، وهناك صاح صيحة هائلة؛ ذلك أنه رأى رجلا انهال على تمثاله بمطرقة من حديد فحطمه تحطيما، والناس سكوت من حوله، كأن على رءوسهم الطير ... أما هذا الرجل فقد كان صاحب الكلب الأسود الذي كان يعاوده منذ كان في المهد صبيا.
وعند ذلك أرعدت السماء ، فصحا من رقاده لهزيم الرعد، وأومض البرق، فرأى على وميضه تمثاله الذي رآه في الحلم محطما، وأقام بقية ليلته ساهرا لا يستطيع الرقاد، بل لا يريده حذرا من أن يعاوده هذا الحلم الرهيب، فيرى تحطم تمثاله الذي كان يشتغل فيه منذ عام.
وعند الصباح دخل عليه شارنسون فقال له: ماذا أصابك في هذه الليلة؟ فقد كانت أمك تسمع صوتك كل الليل.
قال: لقد رأيت الكلب الأسود في حلمي.
ثم قص عليه حلمه. فقال له شارنسون: لقد أصبحت الآن على رأي باكيتا، ولم أعد أخاف صاحب الكلب الأسود، فإنك تماديت في الخوف منه حتى بت تراه في أحلامك.
وفيما هما يتحدثان؛ سمعا صوت مركبة وقفت عند الباب، فأطل شارنسون من النافذة، ورأى رجلين تدل مركبتهما وملابسهما على أنهما من كبار الأغنياء.
وقد خرجا من المركبة وطرقا الباب، ففتح لهما الخادم أنطون، وسألاه إذا كان المسيو فيلكس في المنزل، فهرع فيلكس إلى استقبالهما، وبادره واحد منهما بقوله: إن اسمي يا سيدي يحن إلى سماعه أصحاب الفنون الجميلة، فإني أدعى البرنس ماروبولوف، وقد أتيت أستأذنك بمشاهدة تماثيلك.
فانحنى فيلكس بملء الاحترام، ومشى أمام الرجلين إلى المعمل.
ودخل فيلكس المعمل، وتبعه البرنس ورفيقه وفي أثرهم شارنسون، فوقف البرنس على عتبة باب المعمل وقفة المندهش المأخوذ؛ إذ رأى ذلك التمثال الذي عزم فيلكس على عرضه في المعرض، ثم التفت إلى صديقه المركيز، وقال له بصوت سمعه فيلكس: إنهم لم يخدعوني، وإن الرجل يستحق أن يكون من أهل الشهرة.
فخفق قلب فيلكس سرورا. ودنا البرنس منه فقال له: لا شك أنك كثير الانشغال، وأخاف أن نكون قد أزعجناك بهذه الزيارة؟
قال: كلا يا سيدي! فأهلا بك.
قال: إني أبني قصرا في الشانزليزه، وأود أن أزينه بالنقوش، وأن يتولى رسمها الأكفاء مثلك، فإني أراك من أساطين هذه الصناعة.
فانحنى فيلكس وقد احمر وجهه لهذا الثناء.
فقال له البرنس وقد أشار إلى التمثال: أليس هذا التمثال من صنعك؟!
أجاب: نعم يا سيدي، وإني أشتغل به منذ عام.
قال : أليس في نيتك أن تعرضه؟
أجاب: نعم، وسأرسله غدا إلى المعرض. - أبشرك بأنهم سينعمون عليك بوسام، والآن فاعلم أني رجل حر الضمير، لا أحب المؤاربة وإني أحدثك بملء الصراحة، فإني من المولعين بالفنون الجميلة، وقد اتصل بي أمر تمثالك، فأتيت خصيصا مع صديقي المركيز كي أشتريه منك قبل عرضه. قال: ولكني يا سيدي ...
قال: وكنت أستطيع أن أصبر، فأشتريه بعد العرض، ولكني أريد أن يعلم الجميع أنه لي حين عرضه، ورجائي أن تعذرني، فإني من عشاق الفن الذين يقال عنهم أنهم أصغر عقولا من الأطفال، وأشد جزعا من النساء، فلا أستطيع أن أصبر فأشتريه عند العرض.
فطاش عقل فيلكس، ولم يدر ما يجيب، ومضى البرنس في حديثه فقال: أما الثمن فعليك أن تعينه، وأرجو أن تعلم أني لا أحب المساومة في مثل هذه الصفقات.
وكان شارنسون واقفا وراء فيلكس فهمس في أذنه قائلا: اطلب غاليا ... ثلاثة آلاف فرنك ... وقد سمع البرنس هذه الكلمات فابتسم، وخشي أن يعمل فيلكس بنصح صاحبه ويطلب هذا الثمن، فقال له: تقول إنك اشتغلت عاما بهذا التمثال، أليس كذلك؟
أجاب: هو ذاك يا سيدي. قال: إذن أيرضيك أن تبيعني إياه بخمسة وعشرين ألف فرنك؟
فاصفر وجهه بعد الاحمرار، وحسب أنه حالم فلم يجب، ولم يقو شارنسون على الوقوف، فجلس على كرسي، وقرص يده كي يتحقق أنه في يقظة.
أما البرنس والمركيز فإنهما ابتسما مما رأياه، وأخذ البرنس محفظته فأخرج منها ورقة وقال: إني سأعطيك حوالة لأمر حاملها بقيمة خمسة وعشرين ألف فرنك على مصرف «هوتنجر وشركائه».
وقد حاول أن يكتب الحوالة ولكن فيلكس كان قد ثاب من ذهوله فقال له: لا تفعل يا سيدي فإن هذا محال.
فذهل البرنس وقال له: كيف تقول إنه محال؟
قال: دون شك، فإني لا أستطيع أن أقبض ثمن التمثال إلا حين تسليمه، ولا سبيل إلى تسليمك إياه الآن.
وكانت باكيتا قد روت للبرنس أمورا كثيرة عن أنفة فيلكس، فتوقع منه هذا الرفض وقال له: أرجو أن تعذرني، فإني لا أرى رأيك .
قال: ولكن ... يا سيدي ... - إني ما أتيت إلى هنا إلا لأني واثق من امتلاك هذا التمثال الذي ستكثر المزاحمة عليه في قاعة المعرض.
وأنا بعتك إياه، ويجب أن تكتفي بكلامي. - إني لا أشك في كلامك، وقد وثقت كل الثقة، فاسمح لي أن أعطيك عربونا. ثم أخذ أوراقا مالية بقيمة خمسة آلاف فرنك فدفعها إليه، ثم قال له: سأمر بك بعد يومين، أتفق معك على النقوش التي سترسمها في منزلي الجديد، فإني مدعو الآن إلى الطعام مع صديقي المركيز، وقد ودعاه وانصرفا. فوقف فيلكس حائرا منذهلا يقول: إني لا أصدق ما كان، وأظنني حالما، فقال له شارنسون: وأنا مثلك فإن مثل هذه السعادة يندر أن تحدث لأمثالنا في اليقظة ... وعند ذلك فتح باب المحترف ودخل منه رجل فقال: لقد بلغت أوج السعادة يا فيلكس، فقد بات الأمراء يزورونك.
وقد قال هذا القول، وبرقت عيناه ببارق من الحسد، واصفرت شفتاه، مما يدل على أن الحسد قد بلغ منه أقصى حدوده، غير أن فيلكس لم ينتبه إلى شيء من ذلك، فقد شغله هذا الهناء الذي هو فيه عن كل ما عداه في الوجود.
وكان هذا الرجل الذي دخل في مقتبل الشباب لا يتجاوز الخامسة والعشرين من العمر، طويل القامة نحيف الجسم، تدل نظراته على الرياء وابتسامه على الكذب والمخادعة.
وكان يدعى «أنتنور»، وهو مصور، غير أنه لم يكن من أهل الحذق في صناعته، فكان أكثر عملائه من طبقة الفقراء لرخص أثمان صوره؛ إذ كان يرسم الصورة كلها بعشرين فرنك أو بعشرة فرنكات.
وكان من أظهر عيوبه الحسد، فلا يسوءه أمر مثل هناء سواه، حتى إنه كان يؤثر الخسارة على أن يرى سواه من الرابحين، ثم إن داء الحسد كاد يكون مرضا مستحكما فيه، فإن حسده لم يكن قاصرا على الذين يعرفهم، بل كان يتناول جميع الناس على السواء، مثال ذلك أنه إذا كان جالسا في نافذة غرفته، ومر به رجل في مركبة فخمة، أو مر به إنسان عليه ظواهر النعمة غضب وأرغى وأزبد ، وجعل يشكو حظه العاثر، ويهدد السماء بقبضتيه، فما رأى نعمة على إنسان إلا وتمنى زوالها، وما سره غير شقاء الناس.
ومع ذلك فقد كان رزقه ميسورا لا سبيل إلى الشكوى منه، ولكنه فطر على الحسد الذميم، فكان يشتغل نصف يومه بالارتزاق، وينفق بقية يومه مشتغلا في قطع رزق سواه.
وكان يقيم في منزل مجاور لمنزل فيلكس، وسطح منزله يشرف على مسكن جاره، بحيث إذا صعد إلى السطح يرى كل ما يجري فيه.
ثم إنه علم بأن جاره يلقب «بالسيئ البخت» ومن كان له هذا اللقب لا يكون من أهل السعادة، فاتصل به بسبب الجوار، وبات من أصدقائه، وإنما فعل ذلك كي يلزمه، ويطلع على أخباره السيئة كي يمتع نفسه بشقائه؛ إذ لم يكن يلذ له غير شقاء الناس.
غير أن هناءه بشقاء جاره لم يكن دائما، فقد كان ينغصه زيارة باكيتا الحسناء لفيلكس من وقت لآخر، فتثور فيه عوامل الحسد، فيحقد عليه ويهيج غضبه لا سيما حين يرى أنها تهواه، وأنه سعيد في حبها، فكان يزور فيلكس في أكثر الأحيان فيستقبله خير استقبال، وأنى له أن يعلم ما يجول في قلبه من الحسد، فكان يراه يصور ذلك التمثال البديع، ويرى في كل يوم منه ما يدل على بلوغه أبعد حدود الإتقان في الصناعة، فيحم من حسده، ويود لو خسر عاما من عمره وتمكن من تحطيم ذلك التمثال؛ إذ أيقن أنه سيكون له شأن، وأن جاره سيبيت من النابغين، ويذكر اسمه في عداد المشاهير.
وقد كان اتفق قبل يوم أنه رأى من نافذة غرفته باكيتا وفيلكس يتنزهان في الحديقة، فكاد يجن من حسده، وبات من غيظه بليلة الملسوع، ثم رأى في اليوم التالي أن أميرا روسيا ومركيزا فرنسيا يزوران هذا الجار السعيد، فكان ذلك غاية الغايات، وكاد يسقط مغشيا عليه من القهر؛ لأنه كان يعرف هذين الوجهين بالنظر.
وقد صبر إلى أن خرجا من عنده، فدخل إثر خروجهما على فيلكس وهو لا يزال متأثرا من فوزه، فجعل ينظر إليه وإلى شارنسون وإلى الأوراق المالية التي كانت لا تزال على المائدة، وهو يكاد يذوب من الحسد.
أما فيلكس فإنه أسرع إليه حين رآه، فصافحه وقال له بلهجة الصديق الودود الذي يريد أن يشارك صديقه بهنائه؛ قل لي أيها الصديق: أأنا في حلم أم في يقظة؟
فقال له أنيتور: ماذا حدث أيها الصديق؟
قال: إن البرنس قد اشترى التمثال الذي صنعته.
قال: أحق ما تقول؟
أجاب: انظر! مشيرا إلى الأوراق المالية.
فنظر إليها وقد اصفر وجهه، فقال: هذه خمسة آلاف فرنك.
قال: لقد أخطأت، فليست هذه القيمة سوى عربون البيع؛ أي دفعة على الحساب. قال: دفعة على الحساب؟!
أجاب: نعم، فإن أصل الثمن خمسة وعشرون ألف فرنك.
فضحك أنيتور ضحكا هيستريا، وقد هاج به الحسد حتى إنه لم يعد يدري ما يصنع، فقال: الحق إنها ذكية الفؤاد تعرف كيف تفيد. فذهل فيلكس وقال له: من تعني؟
قال: هي.
قال: من هي؟!
أجاب: باكيتا، فتراجع فيلكس منذعرا، وأخذ العرق البارد يتصبب من جبينه.
فقال أنيتور: عجبا ألم تكن داريا بهذا؟!
فانقض فيلكس عليه، فقبض على عنقه، وقال له: تكلم أيها الشقي.
فتخلص أنيتور منه وقال: إن الأمر واضح كل الوضوح، فإن البرنس ماروبولوف يعشق باكيتا وهو دون شك الذي ...
فصاح فيلكس صيحة المصعوق، وانطرح بين ذراعي شارنسون شبه مغمى عليه، فسري عن أنيتور، وطابت نفسه بهذا المشهد الأليم.
غير أن فيلكس لم يلبث أن ثاب إلى رشده، فمشى إلى أنيتور مشية المتوعد، ووضع يده على كتفه فقال له: أوضح ما قلته. - ولكن ماذا تريد أن أقول لك بعد؟
فقال شارنسون لصديقه: إني أنصحك أيها الصديق أن تقبض على هذا الرجل من كتفيه، وتدفعه إلى خارج الباب.
قال: كلا، بل أريد أن أقف منه على الحقيقة.
فقال أنيتور: أية حقيقة تعني؟
قال: حقيقة ما قلته أيها الشقي. - ما الذي قلته؟ - قلت إن البرنس ... - نعم، قلت إن البرنس عشق باكيتا. فشعر فيلكس أن رجليه قد وهنتا، وقال له: لقد كذبت أيها الشقي!
قال: وإذا برهنت لك على أني قلت الحق؟
أجاب: لا بد لك من أن تبرهن البرهان الساطع الذي لا ريب فيه إذا أردت أن تبقى في عداد الأحياء. وقد اصفر وجهه من الغضب، وتوهجت عيناه، وارتجفت شفتاه، فقال له: نعم إنك كاذب أيها الشقي، وسأسحقك كما أسحق الزجاج، فعلم أنيتور أنه قد تورط؛ لأنه لم يقل ما قاله إلا عرضا، وقد قرأ سورة القضاء عليه في عيني فيلكس، ولكنه تجلد وقال له: إن مثل هذه الأمور لا يكون برهانها حاضرا عند الطلب، فلا بد لك من إمهالي، ولكني سآتيك بالبرهان.
وقد مشى إلى الباب يحاول الانصراف، فاندفع شارنسون في أثره، ولكن فيلكس رده عنه وقال له: دعه يذهب إلى حيث يشاء، فإني أعرف كيف أجده.
فسار أنيتور حتى إذا خرج من الباب اطمأن على نفسه، وعادت إليه قحته فقال: تبا لهما من أبلهين!
أما فيلكس فإنه ألقى نفسه بين ذراعي صديقه، وجعل يشهق بالبكاء، ويروي بدموعه ثيابه وثياب شارنسون. •••
وأما أنيتور فإنه اطمأن كل الاطمئنان، حين صار في الشارع، وأخذ يتمعن في أمره ويقول في نفسه؛ لا أنكر أني سررت سرورا عظيما بشقاء هذا الجار العزيز، ولكني أخاف أن يكلفني هذا السرور ثمنا غاليا، ولا بد لي من التأهب لما قد يحدث، فقد يكون لي شأن جلل مع هذا العاشق الغيور. ثم صعد إلى منزله وهو يقول: إن فيلكس لا يعرفه أحد وهو لا يعرف أحدا، فمن أرشد البرنس الروسي إليه إلا باكيتا؟ وكيف ينقد البرنس خمسة وعشرين ألف فرنك مثل هذا الأبله إلا إذا دفعه العشق إلى مثل هذا الكرم. إني ليس لي بلاهة هذين الرجلين، ولا توجد ممثلة في الوجود تحملها الفضيلة على طرد مثل هذا الأمير الذي يعدونه أعظم غني في هذه البلاد؛ إذن لا بد أن يكون عشيقها بلا أدنى شك، وأظن أني خلفت لأكون من كبار رجال السياسة، ولو أني لا أعرف شيئا مثلهم، ولكن لي ما لهم من قوة الاستنتاج. وقد ذكر وهو يناجي نفسه بهذه الأقوال أنه رأى مركبة البرنس سارت في طريق غابات بولونيا، فقال في نفسه: لا شك أن هذا البرنس يريد أن يتناول طعام الغداء في سانت كلو أو في فندق مدريد فلأتبعنه لأرى ما يكون.
وقد تردى بوشاح يقيه من البرد، وخرج من المنزل، فسار أيضا في طريق الغابات، وكانت المركبات يندر مرورها في مثل هذه الساعة في طريق الغابات، بحيث سهل عليه أن يصف مركبة البرنس لأصحاب الحوانيت، فعرفوها ودلوه كيف سارت.
وقد علم أن المركبة سارت إلى سانت كلو فسار إليها، فوجد البرنس وصديقه المركيز جالسين في ردهة الفندق المشرفة على الطريق يشربان كأسين من الفرموت قبل دخولهما قاعة الطعام ... فصعد إلى الردهة، وجلس عند منضدة بجانبهما، وطلب أيضا كأسا من الشراب، فجعل يشرب ويصغي إلى الحديث.
وقد سمع المركيز يقول للبرنس: مسكين هذا الفتى، فقد حسب أن أبواب السماء فتحت له.
وكان يعني بهذا القول فيلكس. فابتسم البرنس ابتسامة حزن، وأجابه قائلا: نعم، غير أني حين أخبر باكيتا بما صنعت معه تكون أسعد حالا وأتم سرورا منه، فارتعش أنيتور، ثم سمع المركيز يقول لصديقه: متى عزمت على أن نراها؟
قال: سأذهب إليها في هذا المساء. - في أية ساعة؟ - بين التاسعة والعاشرة.
فاكتفى أنيتور بما سمعه، ونادى الخادم، فنقده ثمن الشراب، ثم انصرف وقد عرف كل ما أراد أن يعرفه.
الفصل الثالث والعشرون
سار أنيتور مسرعا، وهو يعد نفسه أسعد خلق الله بهذا البرهان الذي ناله دون أن يبذل في سبيله شيئا من الجهد، وجعل يناجي نفسه فيقول: إن فيلكس شديد الغيرة سريع الغضب، فإذا أخبرته شفاها بهذا البرهان لا أأمن بوادر حدته، وكذلك صديقه فإنه أشد نزقا منه، فخير لي أن أمتنع عن مقابلته، وأن أكتب له كتابا ينوب عن المقابلة.
وقد استقر رأيه على هذا الخاطر، فذهب إلى إحدى المقاهي، فطلب معدات الكتابة، وكتب إلى فيلكس الرسالة الآتية:
سيدي
ما تعودت أن أقول إلا ما أعتبره حقا، فأروي ما أرويه، وأنا على أتم الوثوق، والله يشهد أني ندمت الندم الشديد على ما زل به لساني اليوم، فقد نغصت عيشك، وجعلتك من أنكد البشر، حتى وددت لو محوت هذه الإساءة بدمي، ولكني خلقت محبا للحق ميالا إلى الصراحة، فساءني أن أراك - وأنت جاري - غائصا في بحار الأوهام، وأردت - على الرغم مني - أن أوقفك على الحقيقة.
إن المدموازيل باكيتا تحبك ولا جرم، فهي تدل بذلك على أنها من أهل الذوق والفطنة.
ولكن أموال الأمير الروسي لها سلطانها على العقول ثم على القلوب، فبها يمكنه أن ينيلها كل مشتهياتها، كأن يشتري لأصحابها أحسن الجياد، وأفخم المركبات، ويشيد لها أعظم القصور، وإن شاءت يشتري لها مجد من تحب.
إنه قول شديد يعز علي أن أقوله لك، ولكنك أحرجتني في هذا الصباح، وحسبتني أتجنى عليك، فأكرهتني على أن آتيك بالبرهان، فلم أجد بدا من أن أبرهن لك على صدق ما أقول، فاعلم الآن أنك أردت أن تقف على حقيقة الصلات الكائنة بين المدموازيل باكيتا والبرنس الروسي، فما عليك إلا أن تتبع إيضاحاتي الآتية:
اذهب قبل الساعة العاشرة من هذا المساء إلى منزل الآنسة باكيتا، أو أكمن بجوار منزلها، وهناك ترى بعينك مركبة البرنس تقف عند بابها، وترى البرنس داخلا منزلها دخول من تعود زيارتها دون كلفة. والسلام عليك من صديقك المخلص.
أنيتور
فلما أتم كتابة هذه الرسالة ضحك وقال: سوف أبلغ بهذه الرسالة كل ما أريد، ثم نادى رجلا من السعاة، فعهد إليه بإيصال هذه الرسالة إلى فيلكس بعد أن دله على منزله، فقبض الرجل أجرته، وانصرف مطمئنا إلى منزل فيلكس وهو لا يعلم أنه يحمل إليه اليأس بشكل رسالة.
أما فيلكس فقد كان من أتعس الناس حالا، وقد بذل شارنسون كل ما في وسعه بغية تعزيته فلم يجد سبيلا إلى العزاء؛ لأن كلمات أنيتور كانت قد علقت بذهنه، ثم أخذت تتجسم وتتعاظم كبقعة الزيت تسقط صغيرة ثم تتسع وتمتد.
وقد كان يقول لصديقه: كيف يقول لي أنيتور هذا القول إذا لم يكن واثقا منه؟ ثم يضرب الجدار برأسه من يأسه، فقد كانت هذه أول مرة خامره الشك بباكيتا تلك التي نشأ وإياها منذ الحداثة ولم يحب سواها في الوجود، بل تلك التي لولاها تمثل خيالها له لما استطاع التغلب إلى الآن على مصاعب الحياة.
فلما جاءت رسالة أنيتور كان مثلها مثل الصاعقة تنقض على الرءوس، ولم تكن ظواهر حاملها تدل على شيء مما فيها؛ ولذلك فتح له الخادم الباب، وأذن له أن يصعد برسالته إلى فيلكس وكذلك شارنسون، فإنه أخذ الرسالة من الرجل دون أن يخامره شيء من الشك ودفعها إلى صديقه، فلما فتحها فيلكس وقرأها صاح صيحة يأس منكرة، وسقط على مقعد شبه مغمى عليه.
وكانت الرسالة قد سقطت من يده فالتقطها شارنسون، وقرأها فأصيب باضطراب عظيم، غير أنه لم يكن يريد التسليم بصحة ما جاء فيها ويصدق كاتبها، فقال: كلا! إن هذا محال ... إنه بعيد عن التصديق، وأما أنيتور إلا منافق نمام حسود.
فهز فيلكس رأسه وقال: كلا إنه قال الحق. - بل أنت مخطئ أيها الصديق، وفي كل حال فإني سأقف على الحقيقة بجملتها. - كيف ذلك؟ - سأذهب بنفسي في هذا المساء فأكمن بجوار منزلها. - وأنا أيضا. - كلا أيها الصديق! بل أنت تبقى وأنا أذهب وحدي، فأعود إليك بالخبر اليقين، وأقول لك: إن أقوال هذا الزنيم إنما كانت وشايات سافلة فتثق بكلامي، أليس كذلك؟ - لا شك عندي بصدق إخلاصك وطهارة قلبك، ولكن لا تحاول إقناعي فلا سبيل إليه. - أيها الصديق ...! - إني سأصحبك في هذا المساء، فإني أريد أن أرى شقائي بعيني. - لعلك جننت يا فيلكس؟ - كلا! وحبذا الجنون، بل حبذا الموت! ولكن عقلي لا يزال سليما لنكد طالعي، وسأكون قويا على احتمال هذه النكبة، وسوف ترى، وقد سكت بعد ذلك فلم يقل كلمة بشأن باكيتا، ولم يذكر الأمير الروسي بكلمة، وعند الظهر جلسوا إلى المائدة، فرأت أمه من عينيه ما يدل على السويداء، ولم تعلم أن اليأس يجول في قلبه، فقد تمكن من امتلاك نفسه وإخفاء حزنه القاتل عن تلك الأم الحنون التي لو علمت بنكبته لقتلها الحزن لا محالة.
وفي الساعة التاسعة قال لشارنسون: هلم بنا فقد أزف الوقت، قال: ألا تزال مصرا على الذهاب معي؟
قال: نعم، فأطرق برأسه، ثم ذهب فجاء بمركبة فصعد الاثنان إليها، وأمر فيلكس السائق أن يذهب بهما إلى شارع سانت لازار، وبعد نصف ساعة وصلت المركبة، فأوقفها في مكان يشرف على منزل باكيتا.
وكانت تقيم في الدور الأول، ويوجد بالقرب من نوافذها مصباح غازي، كان فيلكس يرى على نوره داخل قاعة الاستقبال المشرفة على الطريق، وقد أوقف المركبة، وأقام ينتظر بملء السكينة، فكانت سكينته ترعب شارنسون، وهو لا يجسر أن يقول له كلمة.
حتى إذا أزفت الساعة العاشرة أقبلت مركبة فخمة، ووقفت عند باب باكيتا، ثم خرج منها رجل، وكان هذا الرجل هو البرنس، وقد شعر شارنسون أن يد فيلكس تضطرب في يده، حين رأى البرنس دخل المنزل، وحين رأى أنه لم يبق سبيل للشك فيه.
أما فيلكس فإنه التفت إلى صديقه وقال له: كيف رأيت؟ أوثقت الآن؟ فلم يجبه بكلمة، وأمر المنكود السائق أن يعود إلى المنزل. •••
أما أنيتور صاحب هذه الفعلة المنكرة الشنعاء، فإنه عاد إلى منزله في المساء، وأقام ينتظر ما يكون من نتيجة رسالته.
وقد رأى فيلكس وشارنسون خرجا من المنزل في الساعة التاسعة، فأيقن أنهما ذاهبان إلى منزل باكيتا، وأن الرسالة فعلت فعلها، ولكن بقي عليه أن يعلم ما يكون من تأثيرها بعد عودتهما، فوقف وراء زجاج النافذة يراقب رجوعهما، فرآهما عادا وأعطيا السائق أجرته دون أن يبدو عليهما شيء من علائم الاضطراب، وقد دخلا المنزل، فلم يعد يرى شيئا، ولكن سطح منزله كان يشرف على غرفة فيلكس، فصعد إلى السطح كي يهتم بمراقبته، فقد راعته سكينتهما، وخشي أن يكون الأمر قد انقلب عليه.
وهناك رأى فيلكس وحده في الغرفة وهو عاكف على الكتابة، ثم رآه وضع ما كتبه في غلاف، ووضع في طيه الأوراق المالية التي أعطاه إياها البرنس في الصباح عربونا لثمن التمثال.
فبرقت أسرة أنيتور، وقال في نفسه: إنه يرد المال إلى الأمير، فما عساه يصنع بعد ذلك؟
أما فيلكس فإنه بعد أن ختم الكتاب الذي كتبه أخذ مطرقة من حديد، فارتعش أنيتور من الفرح، وانهال فيلكس بالمطرقة على ذلك التمثال فحطمه في بضع ثوان، وكان قد أقفل باب غرفته من الداخل فسمع أنيتور أنهم يطرقون الباب من الخارج.
ولكن فيلكس لم يكن يصغي إلى شيء من ذلك، فلما أتم تحطيم تمثاله ذهب إلى الجدار، فانتزع منه مسدسا، وهم بأن يطلقه على صدغه، ولكن الباب فتح في تلك اللحظة، ودخل منه شارنسون تتبعه امرأة هي أم فيلكس، وقد انقض شارنسون عليه بسرعة التصور واختطف المسدس من يده، فتمتم أنيتور قائلا: تبا لهذا القبيح، فلو تأخر لحظة لقضي الأمر. •••
إن المرء خاضع لناموس السلوان، فهو يتعزى عن كل نكبة في هذا الوجود، مثال ذلك أنيتور، فإنه بعد أن أسف أسفا عظيما لنجاة فيلكس من الانتحار بفضل صديقه شارنسون أقبل يعزي نفسه، فيقول: إني ليكفيني أن يحطم تمثاله، ويرد المال إلى الأمير، ويقنط من التي يحبها، فأية فائدة من موته؟ فإنه لو انتحر لمات مرة واحدة، أما الآن فإنه يموت في حياته مرارا كل يوم.
وقد تعزى بهذا القول، ونزل عن السطح إلى غرفته، فخلع ملابسه ونام آمنا مطمئنا كأنه الإمبراطور تيطس في أيام نعيمه، وكان قد تعب كثيرا في ذلك اليوم، فاستغرق في الرقاد إلى أن تعالت الشمس، ولم يصح إلا حين سمع قرعا شديدا متواليا على باب منزله.
وقد نهض من سريره، وذهب ليفتح الباب، وهو يحسب الطارق عميلا من عملاء التصوير، فلم يتمالك عن إظهار انكماشه حين فتح الباب، ورأى أن هذا الطارق إنما كان شارنسون صديق جاره فيلكس، وكان شارنسون قد زرر سترته إلى العنق وظهرت عليه علائم الخطورة، فما شك أنيتور أنه قادم إليه لشأن جليل.
أما شارنسون فإنه دخل من فوره، فأقفل الباب وقال له: إنك لم تكن تتوقع زيارتي كما أرى؟ قال: كلا! فإنك لم تشرفني بزياراتك قبل الآن. - إني مستعجل، ولا يتسع وقتي لتبادل أقوال لا طائل فيها، فسأخبرك عن السبب في زيارتي بغاية الإيجاز. فأدرك أنيتور شيئا من قصده ولم يتمكن من إخفاء خوفه. فقال له شارنسون: إن صديقي فيلكس معرض الآن لخطر الموت، فقد أصيب بنوبة شديدة حطم في خلالها تمثاله.
قال: ما هذا الخطأ العظيم؟ - وبعد أن حطم تمثاله أراد أن يقتل نفسه، ولكني حلت دون قصده بمساعدة أمه، وبينما كنا نهتم به ذهب الخادم وعاد بالطبيب، فأخبرناه بكل ما جرى، وأشار علينا أن نخبر المدموازيل باكيتا، وبعد ساعة جاءت باكيتا، ثم جاء بعدها البرنس لعيادة صديقي المنكود، وبعد أن وقفا على حقيقة ما كان؛ انجلى لنا الحق، وعلمنا أنك رجل شقي أثيم، تفضلك الوحوش الضواري.
قال: ماذا تقول؟
أجاب: أقول إن الوقت لا يتسع لزيادة الإيضاح، فاعلم الآن السبب الذي زرتك من أجله، إن صديقي فيلكس مريض لا يستطيع مبارزتك، أما أنا فقد عولت على قتلك ولم يكن لي وقت لإرسال شهودي إليك، فجئت بنفسي كي نتفق على شروط القتال في الحال، فحاول أنيتور أن يماطل كسبا للوقت، فقال: إني لا أجد سببا وجيها يحملني على مبارزتك، ومع ذلك فإني راض بها، فأرسل إلي شهودك.
قال: لقد قلت لك إني أتيت بنفسي كي أتفق معك الآن فإني إذا أمهلتك إلى أن يحضر الشهود أركنت لا محالة إلى الفرار.
قال: إنك تمزح.
أجاب: بل أقول الجد، فإن مركبتي واقفة تنتظر عند بابك.
قال: لماذا؟
أجاب: سوف ترى، فإنه يوجد في هذه المركبة سيفان ومسدسان، أحدهما المسدس الذي حاول فيلكس أن ينتحر به.
قال: ولكن ليس لديك شهود.
أجاب: سأجدهم حالا.
قال: وأنا ليس لي شهود.
وقال: سنجد شهودك أيضا، فهلم بنا!
قال: لا شك أنك مجنون، أتحسب أني أقاتلك في رائعة النهار؟
قال: إذا كانت الشمس هي التي تزعجك فاطمئن بالا، فإننا سنتبارز في ظل الأشجار في غابات سيفير.
قال: ولكن أين الشهود؟
أجاب: سنمر بإحدى حانات سانت كلو، ونطلب إلى أربعة من الضباط أن يكونوا شهودنا فلا يمتنعون. - ولكن لي أصدقاء لا بد لي من أخبارهم . - أين هم أصدقاؤك؟ - في باريس. - نذهب إليهم. - وإذا أبيت أن أبارزك اليوم؟ - بل تبارزني. - من يرغمني؟ - أنا! ثم لطمه على وجهه لطمة احتقار، ثم فتح سترته، وأخرج مسدسا من جيبه وقال له: لقد أخطأت حين قلت لك إنه يوجد مسدسان في المركبة والحقيقة أنه يوجد واحد منهما معي وهو هذا، فإذا أبيت أن تتبعني أطلقته عليك وقتلتك دون شفقة، فرأى أنيتور أنه منجز وعيده، وآثر المبارزة على القتل، ولم يبق سبيل للتردد، فقال له: هلم بنا!
وقد خرج الاثنان إلى المركبة، فأمر شارنسون السائق أن يذهب بهما إلى سانت كلو.
وعندما رأى أنيتور أنه جالس وحده مع شارنسون في المركبة، وأن هذا العدو الجديد الذي اكتسبه بحسده ورعونة أخلاقه مسلح بمسدس ينذره به في كل لحظة، أصيب برعب عظيم، شأن جميع ذوي الكيد والأخلاق المنحطة.
وقد كان يقول: إن المبارزات همجية محضة ومن متخلفات القرون الوسطى، وإنما كان يقول هذا القول بين أصحابه لجبنه، حتى إذا دعي يوما إلى المبارزة يتمسك بهذا المبدأ، ويتخذه ذريعة للتنصل دون أن يتهم بالخوف.
أما شارنسون فقد كان مصمما على مبارزته، لا يثنيه شيء عنها، حتى إنه كان ناويا قتله إذا امتنع، فكان يصوب عليه المسدس في الطريق حذرا من فراره.
وسارت المركبة، فاجتازت الغابات، وذهبت مسرعة إلى جهة قرية بولوني، ولم يكن أنيتور يعرف أحدا في هذه القرية، فما عسى ينقذه من موقفه الرهيب؟
وكان كلما شعر أن المركبة تقترب من سانت كلو يصفر وجهه، ويشتد خوفه حتى يتحول إلى رعب، وقد رأى شارنسون ذلك منه، فقال له على سبيل التهكم: إني أخاف عليك عاقبة الروع في ساحة القتال، فتجلد فلا ينقذك الخوف مما أنت فيه. وكأنما قد أثر فيه هذا القول وهاج كبرياؤه، والكبرياء تشبه الشجاعة في بعض المواقف، فزال ذلك الخوف الذي كان سائدا عليه وقال له: إني لا بد لي أن أقتلك في هذا المعترك.
قال: ليس ذلك ببعيد بعد أن كدت تقتل صديقي، فإن من كان نذلا مثلك يكون عادة حسن الطالع، وقد نظر إليه نظرة احتقار صاعقة وامتنع عن محادثته، وسارت المركبة حتى وصلت إلى خمارة «الرأس الأسود»، فأوقفها شارنسون وقال له بلهجة الآمر: اخرج من المركبة واحذر أن يخطر الفرار ببالك.
فوقع هذا الكلام عليه وقع السوط وقال له: كيف أهرب وأنا عازم على قتلك؟!
قال: حسنا! فهلم بنا!
وقد دخل الاثنان الخمارة وكان فيها كثير من الضباط، فنظر شارنسون إليهم نظرة الفاحص، واختار من بينهم ضابطا لا يزال في مقتبل الشباب، وعليه مخائل اللطف وكرم الأخلاق، فحياه وقبعته بيده وقال له: لقد اختصمت يا سيدي الضابط مع هذا الرجل خصاما دعا إلى المبارزة، فاتفقت وإياه اتفاقا تاما على أنه لا بد من قتل واحد منا، ثم إننا نقيم في أوتيل، وجميع أصحابنا في باريس؛ ولذلك عولنا على أن نتبارز في غابات سيفير، وأعددنا السلاح في المركبة التي جئنا فيها، ولم يعد يعوزنا غير الشهود، فأتينا إليك نلتمس مساعدتكم في هذه المهمة، فإن الضابط الفرنساوي لا يمتنع عن هذه الخدمات.
فقال له الضابط: إنك تقول الحق، ولكن اسمح لي أن أسألك سؤالا في هذا الشأن.
قال: تفضل يا سيدي وسل ما تشاء.
قال: أريد أن أعلم إذا كان سبب المبارزة يدعو حقيقة إلى القتال حتى الموت، وإذ كان الصلح غير ممكن بينكما.
فاتقدت عينا أنيتور ببارق من الرجاء، وأجاب شارنسون الضابط موجزا فقال: لي صديق كشقيق وقد وشى هذا الرجل إليه بالمرأة التي يحبها، وقال عنها أقوالا كاذبة فأراد صديقي قتله، ولكنه أصيب عقب هذه الحادثة بحمى تركته لا يعي، فهو لا يستطيع القتال.
فأجابه الضابط قائلا: ما زال الأمر كما تقول فإن السبب وجيه، ولا بد فيه من القتال.
وبعد هنيهة خرج شارنسون وأنيتور من الخمارة وسارا في طريق الغابات يتبعهما الضابط وثلاثة من أصدقائه، فوصلوا بعد ساعة إلى المكان الذي تعين للقتال، فقال شارنسون مخاطبا الشهود: لقد عرفتم - أيها الأسياد - أن السبب الذي يدعونا إلى القتال خطير، وإننا اتفقنا على أن نقتتل حتى الموت، فتفضلوا بوضع الشروط على هذه القاعدة، فعين الشهود الشروط، واقترعوا على السيف والمسدس، فإذا أنيتور كان يود أن يكون القتال بالسيف؛ لأنه أقل خطرا، ولأن الجرح البسيط فيه يدعو إلى توقيف القتال، خلافا للمسدس فإن رصاصه يعطب كيفما أصاب، ولكن القرعة أصابت المسدس، فامتقع وجه أنيتور بصفرة الموت، وأخذت أعضاؤه ترتجف حين أعطوه المسدس حتى رق له الضباط.
وقد أوقفوهما في مواقف القتال، وكان لكل منهما الحق في أن يطلق مسدسه متى شاء، فلما صدر أمر الشهود بإطلاق النار كان أنيتور البادئ، ولكن يده ارتجفت من الخوف فأخطأ المرمى، وعند ذلك مشى إليه شارنسون وهو يبتسم ابتسامة المحتقر، فركض أنيتور يحاول الفرار من رعبه، ولكن رصاصة شارنسون أصابته في ساقه، فصاح صيحة ألم شديدة وسقط على الأرض، فأسرع الشهود إلى نجدته، ورد شارنسون المسدس إلى جيبه وهو يقول: إني كنت أوثر قتل هذا النذل ولكني أكتفي بما حدث، فلا يصعد بعد الآن متجسسا إلى السطوح.
الفصل الرابع والعشرون
مضى على هذه الحوادث عام، وأصبح البرنس ماربولوف الروسي يقيم الآن في قصره الذي شاده في الشانزليزه، ذلك القصر الفخم الذي لا يزال الباريسيون يضربون به الأمثال إلى الآن، وكان الفصل فصل صيف، ومن عادة الأمير أن يبكر بالنهوض فيركب جواده ويسير متنزها بين الغابات.
على أنه في ذلك اليوم لم يتنزه حسب عادته، وقد بلغت الساعة الثامنة وهو لا يزال بملابس البيت في غرفته، وراء نافذة تشرف على ردهة القصر وعلى الشارع، وكان في الردهة جواد عربي كريم يصهل كأنه يدعو سيده بالصهيل وقد استبطأ قدومه.
وكانت أنظار البرنس تتجه إلى الشارع كلما سمع صوت مركبة، وكان كل ما فيه يدل على نفاذ الصبر، إلى أن مرت إحدى تلك المركبات الكبرى التي تنقل المسافرين عادة من المحلة، ووقفت عند باب القصر، فنسي البرنس مقامه ونادى البواب بنفسه من النافذة، وأمره أن يسرع بفتح باب حديقة القصر، فأسرع البواب إلى الامتثال وفتح مصراعي الباب، فدخلت تلك المركبة وفيها نحو اثنتي عشرة حقيبة من حقائب السفر، وفتح بابها فخرج منه رجل شيخ، نحيل الأعضاء، طويل القامة، يظهر عليه أنه عصبي المزاج، شديد القوة، براق العينين، غليظ الشفتين، تدل هيئته بجملتها على أنه من ذلك الجنس التتري.
أما ملابسه فقد كانت شبه ملابس الشعوب التي تسكن شمال آسيا؛ أي إنه كان مرتديا بمعطف مبطن بالفرو، وعلى رأسه قبعة كلها من فرو السمور، الثمين النادر الوجود، وفي صدره شارة تدل أنه متقلد وسام القديسة حنة، وقد استقبله البواب - وهو روسي - بملء الاحترام مما يدل على أنه من عظماء الروس.
أما البرنس فإنه أسرع إلى استقباله، فعانقه معانقة الأهل أو الأصدقاء، وقال له: لقد وصل إلي تلغرافك وأنا أنتظرك منذ أمس بذاهب الصبر ...
فقال له الشيخ: وأنا تلقيت كتابك يا مولاي، فهرعت إلى تلبية أمرك من فوري، وسافرت ساعة وصوله، فتأبط البرنس ذراعه ودخل به إحدى قاعات القصر، فجلس، وبقي الشيخ واقفا فقال له البرنس: إني دعوتك لتنقذ فتى عجز جميع أطباء باريس عن شفائه وحكموا عليه بالموت.
فلم يجبه الشيخ. فقال له البرنس: إن هذا الفتى صديقي، فرفع الشيخ يده إلى السماء دون أن يجيب. فقال البرنس: إنك أمهر طبيب في جميع روسيا.
قال: هذا الذي يقولونه عني غير أنه يوجد أمراض لا حيلة فيها للطب، ولا يفيد فيها العلم.
قال: هو ذاك، ولكن رجائي فيك وطيد.
قال: أين المريض؟
أجاب: هنا في منزلي، ولكن لا بد لي قبل أن تراه أن أروي لك عنه ما يجب أن تقف عليه. قال: إني مصغ إليك يا مولاي.
وقد كان هذا المريض - كما توقع القراء - فيلكس نفسه، فروى البرنس للطبيب كل ما عرفه القراء من حكايته، وبسط له اجتهاده، وبساطة عيشه، وشغفه بباكيتا، وكيف هاج ذلك الشقي أنيتور في قلبه عوامل الغيرة حتى أصيب بحمى أضلت صوابه، فحطم تمثاله، وحاول أن ينتحر. ثم قال للطبيب: وقد لبث بعد ذلك شهرا ونحن قانطون منه، فقد أصيب بالجنون، ولكن صوابه عاد إليه بعد ذلك، فعادت إليه الرغبة في العمل، وأراد أن يعيد صنع تمثاله الذي كان يرجو أن يفوز فيه كل الفوز في المعرض.
وقد وهمت ووهمت المرأة التي يحبها وحسبنا أنه شفي، ولكنا كنا منخدعين فقد كان وجهه يزيد اصفرارا في كل يوم، وبان له خطان زرقاوان تحت عينيه، وكان يسعل سعالا جافا يتمزق به صدره، إلى أن قال لنا الأطباء يوما إنه مصدور، وإن هذا المرض قد استعصى فيه حتى تعذر شفاؤه، فكان بعضهم يقولون: إنه لا يعيش أكثر من ستة أشهر، ويقول آخرون: إنه سيسقط بسقوط أوراق الخريف.
قال: إني أريد أن أراه.
فأخذ البرنس بيده وقال له: هلم بنا إليه.
وكان هذا الطبيب يدعى كوكلين - وهو آسيوي الأصل - ولد قنا (عبدا) في أرض البرنس ماكوبولوف.
وقد أعتقه من الرق جد البرنس؛ أي إنه من عليه بعدم الاشتغال في الأرض، ومنع عنه تلك الضريبة التي كان لا بد لكل قن من دفعها لسيده ولو اشتغل في غير أرضه، وذلك قبل أن يمتنع الرق من بلاد الروس.
وقد درس منذ حداثته الطب، وبرع فيه حتى بات أشهر طبيب في روسيا.
واتفق مرة أنه كان طبيب إحدى فرق الجيش فأسره الشركس، وأقام في أسرهم اثنتي عشرة سنة، فلم يكن هذا الأسر في بلاد تقرب من الهمجية ليبعده عن الاشتغال في العلم، بل إنه اكتشف كثيرا من الأسرار الطبية كانت مودعة في صدور أولئك الشراكسة، فلما عاد إلى روسيا تعاظمت شهرته حتى ذاعت في كل البلاد.
على أن كوكلين لم يكن مشهورا فقط بطبه وعلمه، بل اشتهر أيضا بمروءته وكرم قلبه.
ولم يكن ينسى أنه خلق عبدا لأسرة ماكوبولوف، وأن جد هذه العائلة أعتقه من الرق، وعلمه بدلا من أن يشغله بحراثة الأرض، فآلى على نفسه أن يخدم هذه الأسرة الكريمة ويخلص لها الولاء مدى الحياة، فقد كان مدينا لها بالحرية والعلم.
وكان السبب في قدومه إلى باريس، أن البرنس كتب إليه كتابا بسيطا يدعوه فيه إلى موافاته، فترك عملاءه وأشغاله ولبى الدعوة من فوره؛ كي لا يدع البرنس ينتظره ساعة أكثر مما يلزم لحضوره. أما فيلكس فإنه نقل إلى قصر البرنس في أوائل أيام مرضه؛ لأنه بات من أصدقائه المخلصين، ولم يمتنع عن قبول دعوته لاستحكام الصداقة بينهما، وقد أنشأ معملا للتصوير في قصره، فكان فيلكس لا يخرج من هذا المعمل، وهناك كانت تراه أمه حين تزوره في كل يوم، فإنها بقيت في منزلها في أوتيل، وكذلك باكيتا فقد كانت تزوره هناك كل يوم، أما شارنسون فقد بلغ من كرم البرنس أنه أكرهه على الإقامة في قصره وملازمة فيلكس؛ إذ كان يراه شديد الائتناس به.
فلما دخل البرنس بالشيخ الطبيب المعمل، وجد فيلكس عاكفا على العمل، فقال له البرنس: إني أعرفك أيها الصديق بصديق لي جاء في هذا الصباح من روسيا لزيارتي، فصافحه فيلكس دون أن يخطر له أن هذا الرجل من الأطباء، ثم عاد إلى عمله وجعل يحدثهما وهو يشتغل حسب عادته، فقال له الطبيب: اسمح لي يا سيدي أن أسألك سؤالا لا بأس إذا دل على سذاجتي، فإني تتري.
قال: سل يا سيدي ما بدا لك. - كم يقتضي لك من الزمن أيضا لإتمام هذا التمثال؟ - ستة أشهر على الأقل.
وقد أجابه على سؤاله وعاد إلى العمل، بينما كان الطبيب يفحصه بالنظر أدق فحص، ثم خرج البرنس به فسأله قائلا: كيف رأيت؟
قال: إن مرضه شديد، ولكنه يبقى عائشا ما زال تمثاله لم يتم. فانتفض البرنس وقال: ولكن ألا يمكن أن تنقذه؟
قال: إني لا أستطيع أن أتقيد بوعد يا مولاي.
قال: لماذا؟
أجاب: لأن مرضه ليس في صدره؟
قال: إذن أين هو؟ فوضع الطبيب سبابته على جبينه وقال: إنه هنا.
قال: إذا كان ذلك فإن شفاءه ممكن.
أجاب: لا أستطيع أن أجزم بشيء.
ثم أطرق مفكرا وسأله قائلا: لعلك تعرفه يا مولاي من عهد بعيد؟
قال: منذ عام.
قال: أتعلم شيئا من طباعه؟
أجاب: بل أعرفه حق العرفان.
قال: أكان قبل مرضه قوي الإرادة؟
أجاب: هذه أخص مميزاته فقد اشتهر بها.
قال: إذا كان الأمر كذلك فإني أتعهد بإنقاذه.
مضى ثلاثة أشهر والطبيب لا يزال في قصر البرنس يجتمع كل يوم بفيلكس، وفيلكس لا يعلم أنه طبيب، بل إنه لم يكن يكترث لشيء في الوجود إلا لتمثاله، وقد اتفق في تلك الليلة أن جميع الأنوار أطفئت في القصر، ولم يبق نور إلا في القسم الذي كان خاصا بإقامة الطبيب في آخر الحديقة.
أما فيلكس فإنه كان قد أطفأ مصباحه، ولكنه لم يكن قد نام بعد، وقد فتح نافذة غرفته أي نافذة محترفه (معمله) فإنه كان يأبى أن ينام إلا في المعمل، وجلس وراءها يتحدث مع صديقه شارنسون، إلى أن قال له شارنسون، أما أنا فلا أريد ذلك، فظهرت علائم الاستياء على فيلكس وقال له: إنك لا تزال عاملا على مخالفتي، فلماذا تريد أن تمنعني عن النزول إلى الحديقة؟
قال: لأن الهواء قد برد، والبرد يؤذيك.
أجاب: بل إني أشعر بالهواء محرقا كأنه خارج من أتون. - إذا كان لا بد لك من الذهاب إلى الحديقة فأذهب وإياك. - كلا فإني أريد أن أكون وحدي، فناداه باسمه بلهجة المتوسل، فأجابه فيلكس قائلا: إنك تعلم يقينا بأني ماضي العزيمة وأن إرادتي لا تغلب. - وأنا أيضا لي مثل قوة إرادتك ومضاء عزيمتك. فاتقدت عينا فيلكس ببارق من الغضب، وقال له: لو علمت أنك تخاطر بصداقتنا بهذا العناد لما أقدمت عليه.
قال: ما هذا الجنون؟ - أصغ إلي واعلم أنك إذا لم تقسم لي بشرفك على أن تبقى هنا ... - ماذا يكون؟ - تكون هذه الساعة آخر العهد بيني وبينك. - ولكن لماذا تلح الليلة بالخروج إلى الحديقة؟ - هذا سر لي ما أحب أن أبوح به. فاضطرب شارنسون، ولكنه لم يجسر بعد ذلك على إصراره، فتنهد تنهدا طويلا وسكت.
أما فيلكس فإنه ألقى على كتفه وشاحا وخرج حتى بلغ الباب المؤدي إلى الحديقة، فوجده مفتوحا فقال في نفسه: لقد صحت ظنوني فإن البرنس لا شك عند هذا الرجل، وقد مشى في الحديقة رويدا وهو يقف من حين إلى حين مصغيا، ولا يسير إلا في الطريق المفروشة بالرمل ؛ إخفاء لصوت خطواته، فكان يسمع أصواتا مختلفة شبه الهمس، تصل إلى أذنيه عن بعد.
وفيما هو على ذلك سمع بين هذه الأصوات صوت امرأة فخفق قلبه خفوقا شديدا؛ إذ أيقن أن هذا الصوت صوت باكيتا، وقال في نفسه: إنها لا محالة مع البرنس، ولكن أي شأن لها عنده في هذه الساعة؟ وقد مشى إلى مصدر الصوت - أي إلى المكان الذي كان يقيم فيه الطبيب - فكانت الأصوات تقترب من أذنه، ولكنها كانت لا تزال بعيدة عنه فلا يستطيع أن يتبينها ويفهمها، حتى وصل إلى ما تحت النوافذ ووقف يصغي، ولكنه لم يفهم شيئا أيضا.
وكانت النوافذ عالية، وقد زرعت الأشجار الباسقة عندها، فتسلق شجرة كانت أغصانها ملاصقة للنافذة، وهناك انجلت له الأصوات، وبات يرى داخل تلك الغرفة التي كانت تضيء فيها الأنوار، فرأى في وسطها منضدة كبيرة كان عليها كثير من الكتب والأوراق، ومنضدة أخرى عليها القناني المختلفة وآلات كثيرة شبه آلات المشتغلين بالطبيعيات والكيمياء، ثم رأى كوكلين جالسا قرب المستوقد وأمامه البرنس وهو مصفر الوجه مقطب الجبين، وقد أخذ يد باكيتا بين يديه والدموع تسيل من عينيها، فجمد الدم في عروقه، وجعل يصغي إلى الحديث أتم الإصغاء، وكان كوكلين يتكلم والاثنان مصغيان إليه، فكان مما قاله وسمعه فيلكس قوله:
لقد كان مرض صديقك يا سيدتي نفسانيا محضا في بدئه، فإن هذه الرواية التي رويتها لي عنه أثرت فيه أبلغ تأثير، فقد فتكت نفسه بجسمه، وكان مثله مثل السيف الكثير المضاء يتلفه الغمد، فقال البرنس: ألا يمكن أن تكون مخطئا يا كوكلين؟ - إني أتمنى أن أكون مخطئا، ولكني واثق مما أقول لسوء الحظ. - ولكنه ساكن هادئ منذ حين. - ذلك لأنه يشتغل. - ماذا تعني؟ - أعني أن له الآن غرضا يسعى إليه، وهو إتمام التمثال الذي حطمه، فتتغلب إرادته على المرض وهي ستتغلب إلى أن يدرك هذا الغرض. - ومتى أدرك هذا الغرض؟ - يكون ذلك اليوم بدء نزعه. فغطت باكيتا وجهها بيديها، وجعلت تبكي بكاء مرا، ومضى الطبيب في حديثه فقال: نعم، إن ذلك اليوم يكون بدء أيام نزعه، فإن إرادته تتلاشى بعد إدراك غرضه، فترتخي أعصابه، وتخمد نظراته بالتدريج، ويحل الضعف محل القوة، ويسري مرض الجسم في مسراه إذ لا تبقى قوة من الإرادة توقف سيره، فيدركه الانحلال تباعا حتى يموت دون ألم.
وكان البرنس يسمع أيضا، فلما وصل الطبيب بقوله إلى هذا الحد، وقف البرنس فجأة وقال: أما سمعتما؟
فقال الطبيب: ماذا؟
قال: هنا وراء هذه النافذة قد سمعت حسا، ثم ذهب مسرعا إلى النافذة، وأطل منها فلم ير أحدا، فقال الطبيب: ولكني لم أسمع حسا.
قال: أما أنا فإني سمعت، وأنا على اليقين. - ماذا سمعت؟ - وقع خطوات. - إن الجميع نيام في القصر.
وقد دنا الطبيب أيضا من النافذة وأطل منها باحثا، ونظر إلى جهة القصر، فلم يجد فيه أثرا لأحد، فقال لقد خدعك سمعك يا مولاي.
قال: كلا، فلم أكن من المخطئين. - ولكن ماذا تحسب؟ - تعال معي، فإني أتمنى أن أكون مخطئا، ثم أخذ مصباحا، وخرج إلى الحديقة، فتبعه الطبيب وباكيتا، وكانت السماء قد أمطرت في بدء الليل، فرطبت الأرض، فمشى البرنس إلى جهة النافذة وهو يصوب أشعة مصباحه إلى الشجرة الكائنة بجانب النافذة ويقول: لقد خيل لي أني سمعت صوت انكسار غصن، ثم جعل ينظر إلى الأرض المبتلة تحت الشجرة، فصاح فجأة قائلا: انظرا! انظرا!
ذلك أنه رأى عند جذع تلك الشجرة آثار قدمين، ورأى غصنا منكسرا حديثا ساقطا إلى الأرض، وقد جعل ينظر إلى آثار القدمين نظرات تشف عن الرعب، فقالت له: باكيتا ماذا ترى؟
قال: أرى آثار قدمي فيلكس، فإنه يلبس حذاء طويل الكعب كما تعلمين، ولا شك أنه كان جاثما فوق تلك الشجرة، وقد أصغى إلى حديثنا وسمع الحكم عليه بالموت.
فصاحت باكيتا صيحة خوف شديد، وسقطت بين ذراعي الطبيب، أما البرنس فإنه جعل يسير راكضا إلى جهة القصر.
وقد ظهر له - وهو يركض - نور في معمل فيلكس، فأيد هذا النور ظنونه، فأمعن في الركض، حتى إذا وصل إلى السلم سمع صوتا يشبه صوت وقع المطارق، فصعد درجات السلم أربعا فأربعا، وكان كوكلين قد تمكن من لحاقه وهو يحمل باكيتا بين ذراعيه، أما الصوت فقد كان يزيد وضوحا كلما اقترب البرنس من المعمل، ثم سمع البرنس صوت شارنسون قد امتزج مع تلك الأصوات، وصحا خدم القصر، فتسارعوا من كل صوب حتى إذا وصلوا إلى باب المعمل سمعوا شارنسون يقول: ما هذا الذي تصنعه، لعلك جننت؟!
وكان باب المعمل مقفلا من الداخل، فدفعه البرنس بكتفه فانفتح وتجلى له عند ذلك منظر غريب، فإنه رأى فيلكس واقفا أمام تمثاله وبيده مطرقة، وقد حطم بها للمرة الثانية ذلك التمثال، وأصابه بما أصاب به التمثال الأول بعد ما بذله من الجهد العنيف في إعادة صنعه بالرغم عن اعتراض شارنسون.
وقد وقف البرنس والطبيب وباكيتا حائرين منذهلين، ينظرون إلى فيلكس، وهم لا يشكون في أنه من المجانين.
أما فيلكس فإنه نظر إلى الطبيب وقال وهو يبتسم: لقد حكمت علي يا سيدي الطبيب منذ هنيهة بالموت، وقلت: إن اليوم الذي ينتهي فيه صنع تمثالي يكون أول أيام نزعي ولذلك حطمت التمثال لأني لا أريد أن يتم؛ إذ إني لا أريد أن أموت.
الفصل الخامس والعشرون
يوجد في مدينة باي في سويسرا فندق يعرف باسم «فندق الملوك الثلاثة»، واشتهر أنه خير فنادق سويسرا، ولا سيما بردهته المتسعة التي كانت مياه الرين تنساب تحتها انسياب الأفاعي، وتظهر من يمينها الجبال المعممة بالثلوج البيضاء، ومن اليسار بسط الخضرة الزمردية؛ ولذلك كان يكثر اختلاف الناس إليه، وكلهم من الأغنياء وأصحاب المقامات العالية.
ففي أواخر شهر يونيو سنة 1860 كان بين زوار هذا الفندق رجل تدل نضارة وجهه على أنه لم يبلغ بعد حد الكهولة، ولكن بياض شعره، وانحناء قامته، وضعف همته، كل ذلك كان يدل على أنه بلغ مبالغ الشيوخ، وكان جميع المقيمين في هذا الفندق من الفرنسيين والإنكليز والألمانيين يهربون منه مذعورين حين يخرج من غرفته بعد الطعام، ويجلس بينهم في الردهة.
وكانت ملابس هذا الرجل تدل على أنه من النبلاء، وقد جاء في مركبة من مركبات البريد يصحبه خادمان، كانا يدعوانه بلقب البارون، وفي أصبعه خاتم من الماس يبلغ حجم فصه حجم البندقة الكبيرة، ولا يقل ثمنه عن مائتي ألف فرنك.
وهو في هذا الفندق منذ ثمانية أيام، لا يظهر لأحد في النهار، يقيم كل يومه في غرفته ويأكل فيها، حتى إذا أقبل الليل خرج إلى الردهة، يستنشق النسيم البليل. ومن عجيب أمره أن الناس كانوا يتشاءمون من وجوده، فإذا جاء بينهم أو ظهر لهم في الردهة انقطعوا عن الضحك، وتفرقوا كأنهم رأوا الشيطان الرجيم، وهو ينشغل عنهم بما فيه لا ينتبه إلى شيء مما يحدثه وجوده بينهم.
وقد قال عنه كونت من الإيطاليين حين رآه أول مرة: إن لهذا الرجل عينا شريرة، فاتخذوا تعويذة للوقاية من عينه أو اهربوا؛ فذلك خير لكم، وبعد العشاء ترك الفندق بعد أن قال: إنه ما زال هذا البارون يقيم فيه، فإن البلايا ستنقض على رءوس المقيمين فيه، وكأنما الأقدار أرادت أن تصح نبوءة هذا الإيطالي، فإنه في اليوم التالي مات رجل من زوار الفندق فجأة حال خروجه من قاعة الطعام، وفي اليوم الذي تلاه اختصم سائح فرنسي مع ضابط نمساوي وهما في الردهة، فأدى خصامهما إلى مبارزة أدت إلى قتل النمساوي؛ فأخذ الأكثرون يميلون إلى تصديق نبوءة الإيطالي، وجعلوا يبرحون هذا الفندق إلى سواه.
أما صاحب الفندق فقد رأى أن وجود هذا البارون عنده سيكون السبب في خرابه، ولكنه لا حيلة له به، فليس في قوانين البلاد شريعة تسري على أصحاب العيون الشريرة، فصبر على مصيبته، وسأل البارون مرة كي يطمئن فقال له: هل في نية سيدي البارون أن يقيم طويلا عندنا؟
فغضب البارون لسؤاله وقال له: سأقيم ما زلت مرتاحا، وأنا مرتاح على ما أفتكر.
وبعد ذلك بيومين جاء إلى هذا الفندق زائر غريب، وسمع حديث الزائرين عن هذا البارون، فضحك وقال: إني أريد أن أوازن بين قوة عيني وقوة عينه.
فأحدقت الأبصار بهذا الزائر الجديد، ولم يكن قد انتبه إليه أحد من قبل، ودخل قاعة الطعام، فجعلوا ينظرون إليه نظرات تشف عن الرعب، وقد اعترف من نفسه أنه من أصحاب العيون الشريرة؛ أي إنهم كانوا بواحد فأصبحوا باثنين ...
كان هذا الرجل الذي دخل طويل القامة، براق العينين، يلبس الملابس السوداء وعليه دلائل العظمة، وكانت نظراته تشبه السهام النارية، وهو قليل الضحك، ولكنه ضحك الهازئ المتهكم. وكان حين دخل، دخل في إثره كلبه، وهو يستلفت الأنظار بسواده وبريق عينيه، فانزوى حين دخوله في زاوية الغرفة.
وقد دخلت بعد دخوله فتاة إنجليزية، فرعبت من بريق عينيه، ثم ما لبثت أن علمت أنه كلب حتى اطمأنت وهدأ روعها.
أما الحضور فإنهم بعد أن رعبوا من صاحب الكلب الأسود، جعلوا يحدقون في الكلب، وينظرون إلى صاحبه نظرات المستطلع الفاحص، فقال لهم وهو يبتسم: أحق أن هذا البارون بلغ بعينيه الشريرة هذا الحد؟
فأجابه أحد الفرنساويين قائلا: هذا الذي يروونه عنه، أما أنا فلا أصدق شيئا مما يقولونه عن تأثير العين.
قال: ولكنك مخطئ، ثم حدجه ببصره، فارتعش الفرنساوي، وحبس لسانه عن الكلام.
وكان أحد الإنكليز حاضرا، فخطر له أن يقاوم نظرات صاحب الكلب الأسود، وبعد هنيهة صاح قائلا: لعل عينك شريرة أيضا؟
فأجابه بملء السكينة قائلا: نعم! وعند ذلك ابتعد عنه الذين كانوا يجاورونه على المائدة مسرعين، فقال لهم وهو يبتسم: لقد أخطأتم بخوفكم مني، فإن نظراتي لا تصيب الناس بالسوء إلا حين أريد أن أسيء إليهم، فاطمئنوا ولا تخافوا، فإني حسن النية، ولا أريد أن أسيء إليكم في شيء.
فاطمأن الحاضرون بعض الاطمئنان، وعاد إلى الحديث فقال: إن لي نظرات ممغنطة ولها قوة خفية عجيبة أبلغ بها ما أشاء، وأنوم من أشاء، فإذا كان هذا البارون يسيء إليكم بوجوده بينكم فإني أنقذكم منه.
قالوا: ولكن كيف؟
أجاب: بنظرة.
وقد عاد إلى الفرنساوي زهوه وذكاؤه بعد اطمئنانه، فقال له وهو يضحك: إنك تنقذنا منه، وبعد ذلك؟!
فضحك صاحب الكلب الأسود أيضا، وقال: تريد أن تقول ومن ينقذكم مني بعد ذلك؟! أجاب: هو ذاك. - أنا أنقذكم من نفسي، فإني مسافر بعد غد صباحا . - ومن الآن إلى هذا العهد؟ - أخلصكم من صاحبكم، فأين يمكن أن أراه. - في الردهة عند المساء. - حسنا! فاعتمدوا علي. ولم يفه بعد ذلك بكلمة، وأتم طعامه بملء الشهوة، ثم خرج من القاعة يتبعه كلبه.
وقد أراد الإنكليزي أن يداعب الكلب من قبيل المجاملة والتودد لصاحبه، ولكنه لم يكد يضع يده على فروته حتى جذبها، وقد اهتز وانتفض، كأنه قد أصيب بهزة من تيار كهربائي، أو كأن يده قد لمست النار.
وتوالت الساعات بعد طعام الغداء، وذهب جميع المقيمين في الفندق إلى الردهة، وبلغت الساعة الثامنة من المساء دون أن يحضر صاحب الكلب الأسود، وعند ذلك نهضت الفتاة الإنكليزية التي كانت قد ذعرت من الكلب، ومشت بضع خطوات في الردهة، فتعثرت بذيل ثوبها، وسقطت على الأرض سقوطا لم تكن تتوقعه ولا يتوقعه أحد، فعاود الناس الرعب، وانقطعوا عن الأحاديث، وقد بلغ الخوف منهم أشد مبالغه، ولم يعلموا أكان سقوط الفتاة من عين البارون، أم من عين هذا الزائر الجديد.
ثم ظهر لهم أن صاحب الكلب الأسود كان يختار قاعة الطعام، حين نهوض الفتاة، فأيقنوا حين دخل إلى الردهة أن هذا السقوط إنما كان منه لا من البارون. أما صاحب الكلب الأسود فإنه دخل غير مكترث لما رآه من رعبهم، ومشى إلى منضدة، فنادى الخادم وسأله أن يأتيه بزجاجة من البيرا وبسيكار هافاني، فجعل يشرب ويدخن.
وعند ذلك دخل البارون يصحبه أحد خدمه، فجلس أيضا في تلك الردهة، وهو يبتسم ابتساما يشف عن الكبرياء؛ إذ كان يعتقد أن جميع الحضور سيهربون حين دخوله كعادتهم، ولكنهم لم يفعلوا شيئا من ذلك، بل لبثوا في مجالسهم كأنهم باتوا واثقين من أن صاحب الكلب أسود سوف يحميهم من عينه الشريرة.
وكان صاحب الكلب الأسود ينظر إلى الحضور دون أن يلتفت إلى البارون، فلما استقر به المقام نهض صاحب الكلب من مجلسه، ودنا منه وسيكاره في يده، فقال له: أتأذن لي أيها البارون أن أشعل سيكاري من سيكارك؟ فانتفض البارون كأن قوة كهربية قد هزته ، وصاح صيحة رعب، ثم تراجع منذعرا، فإن نظراته التقت بنظراته، فانتفض هذا الانتفاض، وأصيب بهذا الرعب الذي لا يوصف.
في الساعة السادسة من صباح اليوم التالي كثر اللجب في فندق الملوك الثلاثة، فقد كان خادما البارون يذهبان ويجيئان، وهما تارة يجيئان عن مركبة الأومنيبوس وتارة يطلبان بيان الحساب، وعلى الجملة فقد كان كل ما يفعلانه يدل على تأهبهما للرحيل، وقد جلس كل زائر من المقيمين في الفندق في نافذة غرفته، وأقام ينتظر رحيل البارون بذاهب الصبر، إلى أن أتت مركبة الأومنيبوس، وحملت صناديق البارون إليها، فكان أشد الناس سرورا بهذا الرحيل صاحب الفندق.
ثم ظهر البارون مستندا إلى كتف أحد خادميه، وهو منحني القامة، وقد تدلت شفته السفلى من الضعف وخمد نور عينيه، فكان من رآه يحسب أنه بلغ مائة عام من العمر، وهو لم يتجاوز الأربعين بعد، ولكن الهم والخوف صيراه إلى هذه الحال.
وقد صعد إلى المركبة وقال لسائقها: أسرع بالابتعاد عن هذا الفندق، فإن كل ما فيه مجلبة للشر، وكان الكلب الأسود واقفا هناك كأنه كان ينتظر مرور المركبة، فلما مرت به نبح مرتين بشكل يختلف عن نباح الكلاب المعروف، فأجفلت الجياد وجمحت.
وكان صاحبه واقفا في ردهة الفندق، وبجانبه ذلك الفرنسي الذي أنكر تأثير العين، فقال له: هل صرت تؤمن بتأثير العين؟
فأجابه بصوت يضطرب قائلا: شهد الله أنني أول من آمن!
قال: أحق ما تقول؟
أجاب: دون شك، وإن من ينكر قدرتك يكون من المجانين. - لقد صدقت. - ولكني لم أطمئن بعد كل الاطمئنان. - لماذا؟ - لأني لا أزال خائفا منك، وقد تكون حللت محل البارون، فنكون قد استبدلنا شرا بشر، فابتسم وقال له: ولكني قلت لك: إني لا أسيئ إلا حين أريد.
قال: أي إنك لا تسيء إلا إلى الذين تكرههم.
أجاب: هو ذاك. - إذن أرجو ألا أكون من المغضوب عليهم في عرفك؟ - لماذا تريد أن أغضب عليك، وأنت من أهل الظرف والكياسة كما أرى.
قال: وزوار هذا الفندق ألا تكره أحدا منهم؟
أجاب: على الإطلاق .
قال : ولكني كنت أود أن يكون أمرنا معك على خلاف ذلك.
قال: لعلك كنت تود أن أسافر؟ - هو ذاك. - طب نفسا، فإني سأسافر بعد الظهر في القطار الذاهب إلى لوسرن. - أأنت ذاهب إلى لوسرن؟
أجاب: وبعد ذلك إلى ريت.
قال: إني أدعو لك بالسلامة، ولكن بقي لي سؤال، أتأذن لي أن أسألك إياه.
أجاب: سل ما تشاء.
قال: لقد رأيت منك أنك أكرهت البارون على السفر بنظرة واحدة نظرتها إليه، فهل انتهى ضرره عند هذا الحد؟
أجاب: كلا!
قال: لعله يصاب بعد ذلك بمصاب؟
أجاب: دون شك، فهو سيموت موتا عجيبا.
وكان بعض الناس قد دنوا منهما، وسمعوا الحديث، وكان بينهم السائح الإنكليزي، فقال لصاحب الكلب الأسود: إني لو عرفت ذلك من قبل لتبعت البارون، فابتسم وقال له: إنك تستطيع اللحاق به أيها اللورد، فإنه سيكون بعد ثمانية أيام عند «معبد الدين»، فإذا أردت أن تدركه فلك ذلك، ولكني أحذرك من أمر لا بد أن تحذر منه؛ هو ألا تدعه ينظر إليك حين موته.
قال: وإذا نظر إلي ماذا يكون؟
أجاب: يكون أنك تموت أيضا في العام نفسه.
قال: لا أبالي بالموت فقد كنت عازما على الانتحار في هذا العام؛ لأني مللت الحياة.
وعند ذلك وقفت مركبة سفر عند باب الفندق، وخرج منها رجلان وامرأة، وكانت المرأة بارعة الجمال غير أن وجهها كان يدل على الهم والقلق، وهي لا تفتأ تنظر إلى أحد الرجلين نظرات إشفاق، فإنه كان يمشي مشيا بطيئا يدل على ضعفه، وعلى أنه ناقه من مرض.
أما هؤلاء الثلاثة المسافرون فقد كانوا باكيتا والأمير الروسي وفيلكس الذي حطم تمثاله؛ لأنه لا يريد أن يموت.
وقد عرفهم صاحب الكلب الأسود، وأسرع إلى الاختباء كي لا يروه.
الفصل السادس والعشرون
وقد كان مضى نحو ستة أشهر على حادثة نبوءة الطبيب التتري التي دفعت فيلكس إلى تحطيم تمثاله.
ومن ذلك العهد لم يعد يشتغل، فقد كان كل همه أن يعيش، وأن يتغلب على المرض حتى يعود إلى إجهاد قواه بالعمل ، ويصبح من مشاهير المثالين، وينال ما يطمح إليه من المجد في هذا الفن، ولم يكن يريد من كل ذلك غير إسعاد باكيتا، فإنها لم تعد خطيبته، بل أصبحت امرأته، فقد تزوج بها منذ ستة أشهر ...
وذلك أنها انتهت بالتغلب عليه، فقالت له يوما بعد تلك الحادثة: أتريد أن تموت دون أن تدع لي اسمك؟ وإنما قالت له هذا القول؛ لأنها كانت تعلم العلم اليقين أن حبها أنجع دواء له، وكانت أمه تعرف ذلك أيضا، فاستعانت بها عليه، وتمكنتا من إقناعه، فعقد زواجهما، وأخذ يتعافى منذ ذلك اليوم.
أما الأمير الروسي فقد تغلبت مروءته على غرامه، فاستبدل ذلك الحب القديم بوداد مكين، واقترح عليهما السياحة معه في جبال سويسرا فوافقاه، وكان يصحبهم شارنسون، ولكنهم أضاعوه في مدينة «باد»، وإليك بيان السبب؛ ذلك أنهم كانوا قد ذهبوا توا من باريس إلى ستراسبورج، ثم ذهبوا منها إلى باد أو «بادن».
وقد كان شارنسون في مدة السفر كثير الهواجس والتفكير، فسأله فيلكس مرارا عن سبب هواجسه، فكان يلزم الصمت ولا يجيب، وعندما وصلوا إلى ستراسبورج دخلت باكيتا مرة إلى غرفته، فوجدته يكتب على ورق ألوفا من الأرقام، ثم سافروا من ستراسبورج إلى باد، فبينما هم في القطار صاح شارنسون قائلا: وجدتها! وجدتها!
فقالت له باكيتا: ما هذه التي وجدتها؟!
أجاب: الطريقة ...
فابتسم البرنس إذ علم قصده، وذهل فيلكس وباكيتا، وقال شارنسون: نعم، إنها طريقة لا سبيل فيها إلى الخطأ، وهي طريقة تفليس بنك الروليت (لعبة من القمار).
فجعل كل من الحضور ينظر إلى رفيقه نظرات تدل على الشك، وقال شارنسون: إني خلقت كسولا لا أحب العمل، ومع ذلك فإني شديد الأنفة، ويعز علي أن أعيش طول عمري بنفقاتكم، فعولت على أن أشتغل وأكسب ثلاثمائة ألف فرنك. فضحك الثلاثة، ووصلوا بعد ساعة إلى باد، وهناك جرب شارنسون طريقته، فنجحت بضعة أيام، ولم يتمكن من تفليس البنك ولكنه ربح كثيرا.
ولما أراد رفاقه أن يواصلوا سفرهم امتنع عن الذهاب معهم، وقال لهم: سوف أوافيكم متى تم لي ما أريده من جمع الثروة ... فسافروا وتركوه في باد، وهذا هو السبب في افتراقهم. فإن هذا الأبله أراد أن يكون غنيا من القمار.
ولنعد الآن إلى ما كنا فيه، فإنه بعد سفر ذلك الرجل الذي كانوا يلقبونه بالبارون، وصل فيلكس وباكيتا والأمير الروسي إلى فندق الملوك الثلاثة، وكان قد اختبأ صاحب الكلب الأسود - كما تقدم - كي لا يروه، ولكن فيلكس التفت، فرأى كلبه ينظر إليه محدقا بعينيه الصفراوين، فقاوم فيلكس نظراته، وعند ذلك خرج صاحبه من مكمنه يريد الدخول في الفندق، فارتعش فيلكس، وتراجع خطوة إلى الوراء، غير أن ذلك لم يدم غير لحظة، فابتسم ابتسامة الواثق من فوزه وقوة سلطانه على نفسه، ثم مشى إلى صاحب الكلب، وقال له: لقد عرفتك.
فضحك وقال: أحقا إنك عرفتني؟
قال نعم، فأنت علة مصائبي من حين كنت في المهد صبيا إلى الآن، فإني ما رأيتك مرة إلا أصبت بنكبة. - هذا أكيد. - إذن فاعلم أني لم أعد أخشاك. - أحق ما تقول؟ - بل أنت الذي ستخشاني، فإن سلاحي أمضى من سلاحك. - فقال له بلهجة المتهكم: ما هو سلاحك؟ - إن سلاحي هو «قوة الإرادة».
فطأطأ صاحب الكلب رأسه صاغرا، أما كلبه فإنه أركن إلى الفرار، وقد لبثا هنيهة وصاحب الكلب خاضع صاغر لا يجسر أن يلقى نظرات فيلكس، ثم رفع رأسه ونظر إليه وقال له: أرى أنك غلبتني حقيقة أيها الفتى، فإن سلطاني العظيم الذي يسمونه «النحس» لا يقهره غير قوة واحدة؛ هي تلك القوة الهائلة التي يدعونها «الإرادة».
فابتسم فيلكس وقال: إذن أنت تعترف أنك مغلوب؟ - نعم! - ألم يعد لنظراتك تأثير علي؟ - كلا! - وهل امتنعت عن التحديق إلي، فلا تقرب مني بعد الآن؟ - بل إنك تراني مرتين بعد. - لماذا؟ - لأني أريد في المرة الأولى أن أخدمك خدمة جليلة، وفي الثانية أريد أن أقول لك من أنا. ثم حياه وانصرف، يشيعه فيلكس بالنظر حتى توارى عنه وراء الأعمدة القائم عليها الفندق فوقف مطرقا، وقد تاه في مهامه التفكير، فلم ينتبه إلا لصوت يقول له : ما بالك تفكر يا فيلكس؟ وفي أي أمر تفكر؟ فالتفت فرأى الأمير الروسي، فقال له: لقد تغلبت عليه والحمد لله، وجعلته يهرب مني كما كنت أهرب منه قبلا.
قال: من هذا؟ - هو صاحب الكلب الأسود الذي كنت أكلمه.
فذهلت باكيتا وقالت: عجبا! إننا ما رأيناك تكلم أحدا!
وقال البرنس: ولا أنا.
فقال فيلكس: كيف ذلك ألم تريا ذلك الرجل الطويل القامة المرتدي بملابس سوداء؟
فنظر كل من البرنس وباكيتا إلى صاحبه نظرات حزن أليمة تدل على اعتقادهما بأنه مجنون.
وأدرك فيلكس سر هذه النظرات، فابتسم وقال لهم: كلا، لست بمجنون كما تتوهمان، فقد رأيته عشر مرات في حياتي، ولا شك أنه من الجن، أو أنه ذلك الذي يدعونه «قرينة»، ولكل إنسان قرينة - كما تعلمون - تظهر لأصحابها بأشكال مختلفة، وبعضها لا تظهر لصاحبها، ولكنها تناجيه في الخفاء، وإني أعجب كيف أنكما لم تريا الرجل وكلبه!
فقالت باكيتا: إني لم أر شيئا من هذا، ولكني أعتقد «بالقرينة»، وأذكر أن الكهنة يصلون صلاة خاصة لطردها، ألم تعد تخاف منها؟
أجاب: كلا، فقد غلبتها، فطوقت عنقه بذراعيها، فتركهما البرنس، ودخل الفندق ليهتم بإيجاد الغرف الصالحة له ولهما.
وفي المساء جلسوا إلى المائدة العمومية، وجعلوا يصغون إلى الحديث العام، فسمعوا السائحين يتحدثون بحكاية البارون، وكيف أن صاحب الكلب الأسود طرده بنظرة، وقد عرف فيلكس من كلامهم أنهم يعنون به صاحب الكلب، فكان بعضهم يعجبون كيف أنه برح الفندق، وبعضهم يقولون: إنه وفى بعهده وسافر كما وعد.
ولكن فيلكس لم يقف بانذهاله عند هذا الحد، فإنه رأى حين انتهاء العشاء رجلا دخل قاعة الطعام، وكان هذا الرجل صديقه شارنسون، وقد صاح الثلاثة صيحة دهش، فإن هيئة شارنسون كانت تحمل على الشفقة، حتى لم يجسر أحد منهم على الابتسام لقدومه، وبعد أن استقر به المقام سأله البرنس قائلا: كيف أنت والطريقة التي وجدتها؟ - على أسوأ حال. - ألم تتمكن من تفليس البنك؟ - بل هو الذي فاز بتفليسي، فإنكم بعد أن سافرتم خسرت كل ما ربحته، وكل ما كان معي . - وكيف أتيت؟ - جاد علي أصحاب البنك بنفقات السفر. فابتسم البرنس وقال: لقد كنت أتوقع لك ذلك، فإنه منذ إنشاء نوادي القمار التي كان يجب على الحكومات محاربتها وإغلاقها، ومعاقبة أصحابها وحسبانهم من أخطر المجرمين، والناس يفكرون في إيجاد الطرق للكسب، فكانوا يلقون ما لقيت من الخسر. - أما أنا فلم أكن أتوقع هذا الفشل.
قال: مسكين يا شارنسون.
أجاب: بل إني لم أكن أتوقع أن أرى الشقاء ممثلا في «بادن» كما رأيته.
قال: كيف ذلك؟
وقد حاول أن يروي ما رأى وما اتفق له، ولكن باكيتا همست في أذنه قائلة: لا يجب أن نخبر بأمرنا قوما قد لا نراهم غير هذه الليلة؛ لأننا مسافرون في الغد إلى موسكو.
الفصل السابع والعشرون
مما يزيد في جمال سويسرا، ويجعلها من أبدع بلاد المعمور، تلك البحيرة العظيمة التي طالما هاجت قرائح الشعراء، والتي يعدها أهل سويسرا أرض الموعد وجنة عدن.
وكانت باخرة فاخرة تسير في تلك البحيرة، وقد ظهرت على يمينها جبال «أريت» التي كانت تشبه - بالثلوج المتراكمة على قممها - رأس شيخ معمم بالبياض، وإلى يسارها القصور الفخمة والرياض الغناء، وقد صفا لون السماء، كأنها امتزجت بمياه البحيرة الساكنة الزرقاء.
وكان جميع المسافرين والمتنزهين واقفين على ظهر تلك السفينة يمتعون أنظارهم بجمال الطبيعة، ويتحدثون فرحين بما كان يتجلى لهم من هذه المناظر البديعة التي تسحر العقول، وبينهم ثلاثة رجال هم فيلكس وصاحباه، قد أحدقوا بامرأة حسناء هي باكيتا.
وكانت علائم السرور بادية على جميع الوجوه ما خلا شارنسون، فقد كان منقبض الصدر كئيب السحنة؛ لأنه كان علل النفس بالثروة، فإذا بهذا الرجاء حلم استفاق منه، فوجده أضغاث أحلام، وألفى نفسه أكثر إفلاسا مما كان عندما حاول الربح من وراء المائدة الخضراء.
أما فيلكس فقد كان يستنشق نسيم الصباح بملء رئتيه، ويبتسم لامرأته، ويضغط على يد صديقه الأمير الروسي الكريم، كأنه يشير بهذا الضغط إلى أنه بات من أسعد الناس.
وقد سمع البرنس من يقول لباكيتا: أظن أنه شفي.
فابتسم فيلكس وقال: نعم، لقد شفيت لأني أردت، ومن أراد فقد قدر.
وفيما كانت الباخرة تسير رأت باكيتا على الضفة اليسرى منزلا أنيقا، فقالت: انظروا، ما أجمل هذا المنزل!
فنظر البرنس وفيلكس إلى المكان الذي أشارت إليه، فرأيا منزلا جميلا تحيط به الأشجار الباسقة، وتتكسر أمواج البحيرة الزرقاء على جوانبه، وتنهدت باكيتا وقالت: كم كنت أود أن أعيش هنا ولو شهرين.
فقال البرنس: أتريدين أن تشتري هذا المنزل؟ وكان واقفا وراءه رجل من أهل سويسرا، سمع قول البرنس الأخير فقال له: لقد فات الأوان يا سيدي، فإن هذا المنزل قد اشتراه منذ ثلاثة أيام شيخ يظنون أنه فرنسي ولا يصحبه غير خادمين، ولكنه مريض جدا، والظاهر أنه على وشك الموت.
قال: كيف عرفت ذلك؟
أجاب: إني تاجر من أهل برن
Berne
وإني أسافر منها كل يومين إلى زيوريخ
Zurich ، وقد كنت وإياه في مثل هذه السفينة منذ ثلاثة أيام، فعلمت أن أيامه باتت معدودة، وإذا صبرت أسبوعين عرض هذا المنزل للبيع؛ إذ لا بد من موت صاحبه.
وبينما الباخرة تسير إذ وقفت فجأة، فإن قاربا خرج من الشاطئ، وسار إليها وهو يلوح براية، وكان في هذا القارب اثنان أحدهما راكب والآخر بحار، وقد خطر لباكيتا خاطر حين وقوف السفينة، فسألت السويسري قائلة: هل يوجد بين البيوت الصغيرة التي نراها في هذه القرية بيوتا معدة للتأجير؟
قال: نعم يا سيدتي.
فقالت لرفاقها: أتريدون أن ننتهز فرصة قدوم هذا القارب إلينا، فنسير فيه إلى هذه القرية؟ فقال البرنس: أتريدين أن ننتظر فيها وفاة صاحب المنزل الذي أعجبت به.
أجابت: كلا، ولكن هذه البراري أعجبتني، وأظن أن فيلكس يرغب في تمضية بعض الوقت هنا، ولست أعلم لماذا؟ فقال لها فيلكس: ألا تعلمين السبب؟
أجابت: كلا. - إنه واعدني على اللقاء هنا. - من ذا الذي واعدك؟ - صاحب الكلب الأسود. فجمد الدم في عروق باكيتا من الرعب وحسبت أن الجنون قد عاد إليه، غير أن فيلكس قال لها بملء السكينة: لا تجزعي فإنكم لا ترونه، أما أنا فإني أراه ماثلا أمامي.
قالت: من هو ؟ - صاحب الكلب الأسود. وقد دل بأصبعه على صاحب الكلب الذي كان يراه حقيقة، ولكنه لم يكن يراه هذه المرة كما تعود أن يراه من قبل، إذ تمثل له واقفا على سطح ذلك المنزل الجميل الذي رأته باكيتا، وقد تعاظم فبلغ أربعة أضعاف حجمه العادي، حتى بان كأنه تمثال «غليوم تل» المشرف على مصب الرين، وكذلك كلبه فقد كان نائما عند قدميه، وقد كبر حجمه على نسبة كبر حجم سيده، وبسط يده إلى فيلكس، كأنه يقول له: احضر لأخدمك الخدمة التي وعدتك بها. •••
وانقضى فصل الصيف، وعاد السياح إلى بلادهم، وتراكمت الثلوج على القمم، واربد وجه السماء بعد ذلك الصفاء، فلم تعد تسمع بعد حفيف الأشجار غير هزيم الرعود وبكاء الأمطار، وقد خلت الفنادق من الزائرين وأقفلت أبوابها، وأخذ الجبليون يتأهبون للقاء عدوهم الهائل وهو الشتاء.
ومع ذلك فقد بقي في قرية «فنتري» بعض الغرباء وهم البرنس ورفاقه.
وكانت باكيتا قد نزلت من الباخرة إلى القارب مع رفاقها، فأوصلهم إلى البر، وذهبوا إلى تلك القرية التي شاق منظرها باكيتا، فاستأجروا منزلا فيها، وهم لا يزالون هناك منذ ثلاثة أشهر، فكانوا يقيمون بجوار ذلك المنزل الجميل الذي لم يكن يخرج صاحبه المريض منه، فيعلمون من هو. وقد جاء زمن البرد القارص، ومع ذلك فلم يظهر فيلكس رغبته في العودة إلى باريس، وأشار البرنس وباكيتا مرتين بالعودة، فكان يجيبهما أنه يريد البقاء هنا، فلم يلحا عليه؛ لأنهما كانا يريانه يثوب إلى العافية، ولم يعد يذكر الكلب الأسود ولا صاحبه، فلم يجدا بدا من الامتثال لرغبته. إلى أن اتفق ليلة أن شارنسون عاد إلى ذكر العودة إلى باريس، فقد كان ذلك اليوم مظلما، لم يبصروا فيه نور الشمس، وكانت السماء غائمة منذ الصباح، ولكن فيلكس امتنع عن الموافقة، فقال له شارنسون: ما هذا الجنون؟! فقد أصبحنا أسرى في هذا المنزل. - ذلك سيان عندي. - ولكن لماذا هذا العناد؟ - لأن عدوي أصبح صديقي، وهو لا يريد أن أسافر. فصاحوا جميعهم قائلين: ماذا تقول؟ وأي عدو تعني ؟ - صاحب الكلب الأسود. فأطرقت امرأته برأسها حزينة، إذ أيقنت أنه لا يزال عنده شيء من الجنون.
فأدرك فيلكس ما جال في خاطرها، وقال لها وهو يبتسم: كلا لست مجنونا، ولكني أعتقد بصاحب الكلب الأسود؛ لأني أراه في كل يوم. وانظروا إلى هذه النافذة فإننا نرى منها المنزل المقيم فيه ذلك الرجل الفرنسي الذي لا يعرف أحد اسمه، ففي كل مرة أنوي السفر كنت أرى من هذه النافذة صاحب الكلب واقفا على سطح المنزل يشير إلي بالبقاء، فأبقى.
قالوا: ولكنك تعلم يقينا أنه رسول الشر.
أجاب: إن شره لا يصيبني أنا الآن، بل يصيب صاحب هذا المنزل.
قالوا: وأية فائدة لك من ذلك؟
أجاب: هذا أمر لا أستطيع أن أبوح به، ثم انقطع عن الحديث.
وفيما هم على ذلك سمعوا دويا هائلا لا يقاس به دوي الرعود القاصفة، فتكسر زجاج النوافذ، واهتز المنزل اهتزازا عنيفا، وتشوه وجه البحيرة بالزبد، وأخذت أجراس الكنائس تدق، فجزعوا جزعا شديدا، ما خلا فيلكس فإنه ابتسم ابتسام المطمئن، وقال: لقد وفى صاحب الكلب الأسود بما وعد.
أما هذا الدوي فقد كان سببه أن قطعة عظيمة من الثلج انهارت من قمة الجبل، فكسرت ما كان في طريقها من أشجار الغابة، وهبطت على المنازل فدمرتها.
الفصل الثامن والعشرون
في تلك الليلة قبل انهيار جبل الثلج بقليل، كان رجلان يتحدثان في ذلك المنزل الذي يقيم فيه الرجل المريض، والذي كان يظهر صاحب الكلب الأسود فوق سطحه.
أما هذان الرجلان فقد كانا ميشيل خادم البارون دي نيفيل وبول سالبري، وأما الرجل المريض فقد كان البارون دي نيفيل نفسه، ذلك الرجل صاحب العين الشريرة الذي ألقى الرعب في قلوب المقيمين في فندق الملوك الثلاثة، ولم يكن مرضه إلا من تقريع ضميره؛ لذلك الجرم الذي ارتكبه ولشدة خوفه من الموت.
فكان ملازما الفراش منذ شهرين، وقد خلا طبيبه الذي كان يعوده كل يوم بخادمه ميشيل في ذلك الصباح، وقال له: إذا كان لسيدك أهل في فرنسا، فيجب أن تكتب إليهم؛ كي يحضروا إليه، فإنه لا يتم هذا الشهر.
وبعد ذهاب الطبيب أصيب البارون بذهول شديد، ذهب بصوابه وأعقبه هذيان، فكانت تتراءى له أشباح مختلفة، ويردد ذكر اليوم الأخير، وعقاب الله الرهيب.
وقد كان ميشيل وبول سالبري يتحدثان في غرفة مجاورة لغرفة المريض، فقال بول: هل أنت واثق مما تقوله لي؟ - كل الثقة. - ألم يكتب البارون وصيته؟ - كلا، ولمن يوصي بثروته وهو لا أهل له؟ - يوصي بها لي ولك. - هذا الذي أرتئيه، ولكنه لم يكتب وصيته بعد. - ولكنك تعلم مع ذلك ما قاله لنا الطبيب. - دون شك. - إذن إن الوقت غير متسع. - بل لدينا نحو شهر. - إن الإسراع محمود في هذا الموقف. - هو ذاك، ولكننا سنظفر بالمال على أي حال، فإني أعرف أين وضع محفظته، وكل ما فيها أوراق مالية تبلغ قيمتها نحو نصف مليون فرنك. - والعقارات لمن تكون؟ - ستكون لك، إنما لا أحب أن ألح عليه بكتابة وصيته. - لماذا؟ - ألم تعلم أنه يوجد في هذه القرية قوم من الباريسيين؟ - نعم. - أتعلم من هم؟ - كلا. - إذن، فاعلم أن واحدا منهم يدعى فيلكس، وهو صاحبنا الملقب «بأبي النحوس»، فذعر بول وقال: ابن البارون؟ أهذا ممكن؟ - هذه هي الحقيقة. - لقد كانت تمر ساعات بالبارون يشتد عنده تقريع الضمير، فيظهر ميله إلى إرجاع الثروة إلى ابن أخيه. - كلا، فإن هذا لن يكون! - وقد اتفق لي أني رأيت فيلكس وأصحابه يمرون بالقرب من هنا. - إنك ترعبني بهذه الأقوال. - ولكن فصل الشتاء قد هجم، وسيعودون إلى باريس. - لا يهدأ لي بال إلا بعد سفرهم.
وهنا سمعا صوت البارون يصيح وينادي: ميشيل! فأسرع ميشيل إليه، فسأله البارون قائلا: ماذا قال لك الطبيب في هذا الصباح؟ - ولكن ... يا سيدي ... - قل ماذا قال ولا تخف عني شيئا، فإني أريد أن أعرف كل شيء بالتمام. فسكت ميشيل، وقال البارون: لقد قال إني على وشك الموت، أليس كذلك؟
فأطرق ميشيل برأسه ولم يجب، فقال البارون: إني مستسلم إلى الأقدار، ولكني أريد أن أكتب وصيتي ... أريد أن أرجع إلى ابن أخي وأمه المال الذي سرقته منهما. فارتعش ميشيل، ودخل عند ذلك بول فطمأنه بنظرة مفادها: اطمئن، فلا يزال في الوقت متسعا لإخفاء هذه الوصية.
ولكن ساء فأله، فإن قطعة الثلج الهائلة قد انفصلت في تلك اللحظة عن قمة الجبل، وسقطت على المنزل فدمرته. •••
وعندما أشرق الصباح، وأخذ الناس يرفعون أنقاض المنزل، وفي طليعتهم فيلكس وشارنسون والأمير الروسي، وجدوا بين أنقاض ذلك المنزل الخشبي جثتين ورجلا لا يزال على قيد الحياة، فإن جسرا من الخشب سقط عليه فكسر ذراعه وساقه، فكان من عجائب الاتفاق أن الرجلين السليمين وهما ميشيل وبول قتلا، والرجل المحتضر وهو البارون سلم من الموت، وكان أول من أخرجه من بين الأنقاض فيلكس، فلما رآه البارون عرفه من فوره، وقال له: سأرد إليك مالك، فلا يزال أمامي بضع ساعات أعيشها لعمل ما يجب عمله، والحمد لله! •••
في ليلة من ليالي الشتاء - وقد مضى على الحادثة المتقدمة عامان - وقفت مركبة فخمة عند باب قصر جميل في شارع فتراندري، وخرج منها رجل وامرأة بملابس الحفلات الراقصة، وهما الكونت والكونتيس دي نيفيل؛ ذلك أن الكونت فيلكس دي نيفيل الذي كان يلقب من قبل «بأبي النحوس» كان قد تمكن بواسطة عمه البارون الذي كان موشكا على الموت، وصديقه الأمير الروسي، وأمه، وكاهن قرية سانت مرتين من إثبات حقيقة مولده بحكم أصدرته المحكمة، وكان البارون قد رد إليه أموال أبيه، وأوصى له بكل ماله الخاص، ومات بعد أن غفر له فيلكس كل إساءته الماضية.
وكان فيلكس قد قضى هذين العامين دائبا في التصوير، وصنع تمثاله القديم أبدع صنع، فأنعمت عليه الحكومة بوسام، قلده إياه وزير المعارف بيده في حفلة حافلة.
وكانت أمه لا تزال في قيد الحياة، وقد عاد إليها شبابها بعد أن عاد إليها ولدها، ففي تلك الليلة عاد فيلكس مع امرأته باكيتا من أحد المراقص بعد انتصاف الليل، وكانت باكيتا قد اعتزلت المراسح، ولم يعودوا يدعونها إلا بالكونتيس، فلما عادا إلى المنزل وجدا الكونتيس - والدة فيلكس - لا تزال ساهرة وهي تداعب ولدهما، فقد كاد يبلغ عاما من العمر، وهو يشبه والده أتم الشبه كما يشبه فيلكس أباه.
وقد لقي فيلكس من هناء العيش ما لقيته أمه وامرأته وجميع أصدقائه، فإنه بعد استيلائه على ثروة أبيه أنعم على كوكليش صاحب المرسح القديم بمبلغ جزيل، فعاش من ريعه إلى آخر العمر. وعين رأسمال كبيرا لشارنسون، فاشتغل بالتجارة، وفاز فوزا باهرا حتى كاد يصبح من كبار الأغنياء، وأعان باستيليون فاشترى مكتب رئيسه المحامي.
أما الأمير الروسي فإنه تزوج أميرة من أميرات موسكو، وكان في كل عام يزور فيلكس، فيقيم معه ردحا من الزمن.
وقد زالت هواجس فيلكس، ولم يكن يلذ له غير التصوير الذي يقضي فيه عدة ساعات كل يوم.
فبينما هو ذات يوم يشتغل في معمله إذ رأى ضبابا كثيفا قد تلبد في المعمل، ثم رأى في وسط ذلك الضباب رجلا جالسا على كرسي وبين رجليه كلب، فرجع خطوة منذعرا إذ علم أنه صاحب الكلب الأسود، ولكنه لم يلبث أن سكن روعه عندما رآه يبتسم، فقال له: أهذا أنت؟ فإني لم أرك من زمن بعيد.
قال: ألم أقل لك إني سأراك لأخبرك من أنا قبلما أفارقك الفراق الأبدي؟ فاعلم الآن أني لست من الإنس ولا من الجن، بل إني روح الفأل والشؤم، لا يراني غير من أحل فيه، ولا أحل إلا في العقول الكبيرة الناضجة، فقل لمن لا يعتقد بالنحوس والسعود أنه ليس من أصحاب العقول، وهذا آخر العهد بيني وبينك، وعليك سلام الله!
وعند ذلك انقشع الضباب، واختفى الشبح، فنظر فيلكس إلى ما حواليه، فرأى لوحة كتب عليها بحروف كبيرة المبدأ الذي تغلب به على النحس ألا وهو «قوة الإرادة».
وعاش فيلكس مع امرأته وولده أهنأ عيش، وظل أصحابه يداعبونه ويذكرونه بلقبه القديم «أبو النحوس» إلى أن فكر في اختيار لقب جديد هو «أبو السعود».
Bog aan la aqoon