فقال إبراهيم اليهودي: «ومن هو؟ أريد أن أراه.»
فقال خالد: «لا سبيل لأحد إليه؛ فإن أمير المؤمنين لا يأذن في الدخول عليه لأحد. وقد طلبت مقابلته من أجل هذا الأمر، فلمست فيه مهارة غريبة، ولم أكد أسأله عن الفتاة حتى تلا علي خبرها، وعرف مساعيك، وأنك انتحلت صناعة العرافين لهذه الغاية، وأن اسمك كعراف حاييم، ونحو ذلك مما أدهشني، وكنت أود أن تلقاه لولا ما ذكرته لك من تشديد الخليفة في منع مقابلته.»
وكان إبراهيم يسمع كلام خالد وهو يفكر فيمن عساه أن يكون هذا العراف، فلما سمع ما قصه عليه من معجزاته تبادر إلى ذهنه أنه عراف كاذب مثله، ولم يستبعد أن يكون هو صاحبه الضحاك، وقد تحقق من بقائه حيا في الكوفة يوم أن التقيا بباب أبي سلمة وتناكرا، فسأل خالدا عن شكل الرجل وملبسه، فأخبره أن على عينيه عصابة، وأن لحيته محناة، فسأله عن قامته فقال: «لم أره واقفا، ولكن يظهر أنه طويل.» فلم يشك إبراهيم أنه صاحبه بعينه، وبخاصة لتنكره بالرمد، فإنها حيلة تعلمها الضحاك منه يوم أن التقوا ومعهم القصاص في معسكر شيبان بضواحي مرو، فتجاهل ولم يبد أية ملاحظة، ولكنه عزم على الحذر، فصرفه خالد وعاد وهو متعلق الذهن بذلك الزاهد، وأحب أن يلقاه ثانية فبكر إليه في الغد، وأخبره أنه التقى بإبراهيم، وأنه أطنب له فيما شاهده من كرامته ومهارته.
فلم يفرح صالح بما سمعه من هذا الإطناب، وساءه ما قاله عنه لإبراهيم؛ خشية أن يدعوه ذلك إلى الشك فيه؛ لعلمه أنه لم يطلع أحدا على تلك الحقائق غيره، على أنه كتم استياءه، وأثنى على خالد، وعمد إلى اجتذاب قلبه إليه كما اجتذب قلب المنصور قبله بتبشيره بما تتوق إليه نفسه. وكان خالد يطمع فى الوزارة، وهو أكفأ حاشية الخليفة لها، فقال له صالح: «إن الله سيكافئك على سعيك في التوفيق بين هذين المحبين بأكبر منصب تطمح إليه الأبصار بعد الخلافة.» فأدرك خالد أنه يبشره بالوزارة فانشرح صدره، ولكنه تذكر ما يحول دون ذلك من انشغال المنصور بأبي مسلم؛ إذ خشي أن ينتقم المنصور بسببه على سائر رفاقه القواد ، فيلحقه نصيب من تلك النقمة، فأراد أن يستفتي الزاهد في ذلك ، فقال له: «أحب أن أستفتيك في مسألة أخرى تهمني، وقد شغلت بالي، وبالطبع أرجو أن يكون ذلك سرا بيني وبينك.»
فقال صالح: «قل. لا تخف.»
فقص عليه خالد سبب غضب المنصور على أبي مسلم، وأنه ينوي القبض عليه خوفا منه، وأطلعه على تفاصيل لم يكن يعرفها، ثم سأله: «هل تظن أن المنصور يجعل نقمته عامة على سائر أنصاره؟»
فأطرق وهو يعمل فكرته، ثم قال: «كلا؛ لأن المنصور لم يتغير على أبي مسلم لأنه قام بدعوته، بل لأنه طمع في الملك لنفسه، وهب أنه نقم على سائر الخراسانيين، فلن ينقم عليك.»
فاطمأن باله وخرج مسرعا؛ خشية أن يأتي المنصور فيراه هناك.
الفصل الخامس والسبعون
المنصور وأبو مسلم
Bog aan la aqoon