فاستراح في ظل شجرة هنيهة، ثم ركب مسرعا إلى حمام أعين، وأمر سليمان أن يذهب إلى جلنار ليخبرها بمجيئه، وسار توا إلى منزل أبي سلمة وهو لا يزال ملثما بالكوفية وملتفا بالعباءة، فلما وصل إلى الباب ترجل وأراد الدخول، فاعترضه الحراس ومنعوه من التقدم، فاستخف باعتراضهم وقال لهم: «أخبروه أني رسول أحمل إليه كتابا.»
فقال أحدهم: «لا يستطيع أحد أن يخاطبه في شيء الآن.»
فقال صالح: «ولكنني رسول جئت بخبر هام لا ينبغي تأجيله.»
قال: «مهما يكن من أمر رسالتك، فنحن مأمورون بمنع أي إنسان من الدخول عليه؛ لانشغاله بمقابلة سرية.»
فاضطرب خاطر صالح بتلك المقابلة مع هذا التشديد في منع الداخلين عليه، ولم ير بدا من الطاعة، فتحول إلى مقعد بجانب الباب وحل عقال كوفيته تخفيفا من وطأة الحر، وجلس يفكر فيما سمعه، ثم سمع تصفيقا ورأى الحراس على أثره في حركة واهتمام، وقد دخل أحدهم ثم عاد يتقدمه رجل قصير القامة، غريب الملبس، عليه عمامة كبيرة جدا، وقد كحل عينيه بكحل كثير، وأرسل سالفيه على صدغيه، وجعل لحيته شطرين، أرسل كل شطر منهما إلى جانب من صدره، وعليه جبة من الخز واسعة، وبيده عكاز يتوكأ عليه، ووراءه غلام، وقد علق على إحدى كتفيه جرابا مزركشا، وحمل أسطرلابا كبيرا، وتأبط كتابا ضخما، فلما رآه صالح اختلج قلبه في صدره من البغتة؛ لأنه يشبه صاحبه إبراهيم اليهودي خازن أبي مسلم، فتفرس فيه وقد دهش، وكاد الدم يجمد في عروقه؛ إذ تحقق أنه إبراهيم بعينه، وندم على حل لثامه مخافة أن يراه فيعرفه وينكشف أمره.
أما إبراهيم فإنه خرج وهو يمشي الخيلاء يضرب الأرض بعكازه ويلتفت يمينا وشمالا، والحرس وقوف بين يديه هيبة واحتراما، فوقع بصره على صالح، فتفرس فيه حينا وقد امتقع لونه عند رؤيته، ولكنه تجاهل وظل سائرا إلى بغلة عليها عدة موشاة بالديباج أسرع بعض الغلمان في تقديمها إليه، وساعده غلامه في الوثوب على ظهرها، ولم تكن إلا لحظة حتى ركبها وسار.
وظل صالح واقفا وقد تولته الدهشة، ثم انتبه لحاله وقال في نفسه: «ما الذي جاء بهذا الخبيث إلى هنا؟ لا بد أنه قادم بدسيسة؟» ثم التفت إلى الحاجب وقال: «هل تظن مولانا يأذن بدخولي عليه الآن؟»
فدخل الحاجب ثم عاد فدعا صالحا، فدخل حتى أقبل على أبي سلمة في قاعة كبيرة - كان جالسا وحده على وسادة في صدرها - وقد ظهر الاهتمام على وجهه، فلما رأى صالحا مقبلا ابتسم له، ورحب به، ودعاه للجلوس إلى جانبه، فهم أولا بتقبيل يده احتراما ثم جلس، فابتدره بالسؤال عن حاله وسلامته، فأجابه بالدعاء، فقال أبو سلمة: «أرجو أن تكون قد فزت في مهمتك ليتم سرورنا في هذا اليوم.»
فقال صالح: «لقد نجحت في مهمتي أحسن نجاح بفضل بركتك ودعائك، فهل نحن في مأمن من الرقباء؟»
فقال أبو سلمة: «نحن في مأمن. قل ما بدا لك.»
Bog aan la aqoon