تلك هي العلامات الثلاث مجتمعات لأبي العلاء: إطناب في الإعجاب، ونهاية في الزراية، وحيرة في كلام واصفيه كحيرة المتحدثين عن خوارق الغيب وعجائب الأساطير.
وإذا بلغ من تعدد الجوانب برجل واحد أن يقول قوم إنه فخر بني الإنسان، ويقول قوم إنه كلب وحمار، ويسلكه أناس في زمرة الشيطان ويحسبه أناس وليا مستجاب الصلاة، ويخيل إلى فريق أنه ساحر وإلى فريق أنه طرفة من الطرف وأسطورة من الأساطير؛ فذاك هو الأفق الواسع، وتلك هي العظمة الباقية ... ومن شهده في زمانه فلا حاجة به أن ينتظر ألف عام ليعلم أنه باق إلى ألف عام، وأنه محتفل به بعد ألف عام، أو ينبئ الدنيا بامتداد خبره ما بقي لعصره خبر بين سجلات العصور. •••
وها قد مضى اليوم ألف سنة هجرية على اليوم الذي ولد فيه أبو العلاء لثلاث بقين من شهر ربيع الأول سنة ثلاثمائة وثلاث وستين. ولد كثيرون في هذه السنين الطوال كما ولد، ومات كثيرون كما مات، وتكررت الولادة والوفاة في الأمم العربية مئات الملايين من المرات، ولكن ذلك المولد النادر لم يتكرر قط في هذه السنين، ولم يزل مولد ذلك الوليد حادثا فردا بين ثمرات الأصلاب والبطون، يستحق أن يعاد إليه من سنة إلى سنة، ومن جيل إلى جيل، ومن ألف عام إلى ألف عام.
وبين الذين كررتهم الدنيا ألوف من أمثال ذلك المسكين المغرور الذي أغضبه السؤال عن أبي العلاء بين يديه، ورأى من سوء الأدب في مجلسه أن يعاد له اسم على مسمع منه، ولكن التاريخ الذي كررهم كثيرا ومل من تكرارهم طويلا لم يدركه الملال من ترديد اسم أبي العلاء المغضوب عليه وعلى من سأل عنه. ولم ير من سوء الأدب أن يصبح ويمسي بتمجيده، وأن يحصي الأحقاب بعد الأحقاب لملاقاته في يوم عيده. بل رأى من سوء الأدب أن تمضي ألف سنة ولا يستوقف الزمن الماضي محتفلا بذكراه، مستعيدا لميلاده، مشيرا إلى مطلعه كما يشار إلى ظواهر الكون التي تستعاد، لأنها قلما تعود.
ولقد وقف على قبره - يوم وفاته - ثمانون شاعرا أو يزيدون، وتقف على قبره اليوم أمم العروبة جمعاء، وأمم شتى من جميع الأقطار والأنحاء، مئين أو فوق المئين، ينوب منها الشاهدون عن الغائبين.
وإذا عدل الزمان، فهذا الوفاء هو سواء الميزان، بين أناس وسموه بعزة القدر، وأناس وصموه بخسة الحيوان. •••
تسلفت هذه الذكرى قبل ست سنوات.
وكانت الصحف السورية قد نقلت إلينا في ذلك الحين أن حكومتها فرغت من مراجعة رسم التابوت الذي أزمعت إقامته في المعرة على قبر أبي العلاء، وأنها تعد العدة للاحتفال بانقضاء ألف سنة هجرية على وفاة الشيخ، والصواب على مولده كما هو ظاهر، وكما نشير إليه بعد سطور.
فخطر لنا أن أبا العلاء قد دعي من حظيرة الخلود إلى شهود ذكراه، وأن الأمد لا يزال فسيحا بيننا وبين ذلك اليوم المشهود؛ ففي ذلك الأمد متسع لرحلة علائية حول الكرة الأرضية، يرى فيها ما يعنينا أن يراه، ويقول فيها ما ينبغي أن يقول، أو نقول نحن على لسانه ما يشبه مقاله في أوانه، قياسا على ما صنع هو في السماء حين حدثنا في رسالة الغفران بلسان الأدباء والشعراء، وجعل لهم من كلامهم وأخبارهم دليلا له في كلامه وأخباره.
فكتبنا يومئذ سلسلة هذه الفصول التي سميناها «رجعة أبي العلاء»، وعرضنا فيها حوادث الدنيا كما تتمثل له ولمن ينظرون إلى أمور العصر الحاضر مثل نظرته في سائر الأمور. ونحسب أننا أتينا بصفوة الآراء التي توافقه وتستخلص من جملة تفكيره، ما لم يكن قد تغير نظره بعد موته، وهو مستحيل!
Bog aan la aqoon