أي ثروت! أيها الرجل القوي المتين؛ ماذا أمامك من العقد والمشاكل والأزمات والمعضلات؟! أمة مظلومة مهضومة واجدة على الظلمة، غضبى على الجورة، يتأجج صدرها بركانا، ويتقد في ألحاظها لهيب ما انطوت عليه الجوانح من نار الحنق المكتومة، وتقذف السماء بصيحات احتجاجها على الجبابرة، وبصرخات نقمتها. أمة تختمر في أفئدتها عوامل الهياج، وتفرخ في نفوسها جراثيم الفتنة، ويعب عباب غيظها، ويزخر تيار غضبها، وتجيش أعماق روحها بدوافع الثورة. أمامك خضم زاخر ينذر مسامعك من أعماقه نشيش غليان الطغيان، وأزيز فوران الطوفان. أمامك في أفق البلاد المظلم المربد آيات العاصفة، وأمارات الزوبعة ينذر مسامعك من لدنها دوي قصفها مخوفا مرهوبا، وأمامك من الجهة الأخرى الدولة القوية المخيمة على أرجاء المعمورة، الممسكة بأطراف العالم، المالئة الأرض بمدافعها والبحر بأساطيلها والجو بمناطيدها - جبارة متكبرة طاغية، مصرة على تنفيذ إرادتها ضد أوامر العاطفة والإنسانية ونواميس الحق والعدالة وعلى الرغم من الأقضية والأقدار، مصممة أباءة، مطرقة كالأفعوان والحية الرقشاء، لا تؤثر فيها الرقى والتعاويذ، قاسية جامدة صماء كالقدر أو كالموت.
وفوق هذا وذاك، أمامك من أمتك الفئة ذات الأهواء والأغراض الذين لا يريدونك، ولا يحبون أن يكون على يديك انفراج الأزمة وحل المعضلة وزوال النقمة وحلول النعمة، الباذلون أقصى الجهد في العمل على تنحيتك عن مواطن المجد ومواقف الفخار.
أي ثروت! أيها الرجل الجلد المكين! ما أحرج مركزك وأصعب موقفك! فبحقك ماذا أنت صانع وسط هذه العوامل المتنازعة والقوى المتدافعة والعناصر المتكافحة المتضاربة؟ وأنت قائم بينها منفردا وحيدا كالجبل الباذخ تعصف الزوابع الهوجاء حول هامته الشماء فلا تحرك من سكينتها ولا تستخف من رزانتها، وتثور الزلازل حول أساسه فلا تزعزع من ثباته، وقد سمت قمته العلياء فوق سحب الأهواء والأغراض وضباب الحزازات الشخصية والإحن الأنانية، وواجهت شمس الحقيقة الساطعة والنزاهة الخالصة.
تقدم ثروت باشا إلى أمته فصرح لها أنه لن يقبل الوزارة حتى تجاب له شروط فيها رضى الأمة، ووفاء بأقصى ما يصح أن تطمح إليه في هذا الدور من قضيتها؛ تلك الشروط هي إلغاء الحماية وإعلان الاستقلال التام، وتأسيس برلمان تكون حكومة البلاد مسئولة أمامه، وحصر مشاكل الخلاف بين الأمتين في أربع نقاط يتولى تسويتها البرلمان المصري بعد إنشائه مع الحكومة البريطانية، وإزاء هذه الحقوق المستردة لا تعطي مصر إنكلترا أدنى شيء ولا تتقيد لها بشرط ما.
تقدم ثروت باشا إلى الحكومة الإنكليزية بهذه الشروط العظيمة، وشدد كل التشدد في طلبها، وأكد لها أنه لن يتنازل البتة عن شيء منها، وأنه لن يتولى الوزارة إلا بعد إجابة شروطه هذه بحذافيرها.
كيف تقبل هذه الشروط الجسيمة، وتجيب هذه المطالب العظيمة، وترضخ لهذا الحكم الهائل؛ إنكلترا سيدة البحار وأقوى دول العالم؟ وأين ذهبت جيوشها وأساطيلها وسلطانها الباسط جناحيه على المشرق والمغرب؟ بل أين ذهب كبرياؤها وجبروتها وشرهها الاستعماري؟
تصعبت إنكلترا في أول الأمر كما هو المنتظر وتمنعت، وفي ذلك المشقة العظمى والصعوبة الكبرى.
وأما مصر فلم تكد تصدق نبأ هذه الشروط والمطالب، وحسبته حلما من الأحلام؛ اعتقادا منها أنه يكاد أن يكون من المستحيلات قبول إنكلترا مثل هذه الشروط الجسيمة. (لقد كان الوفد المصري من قبل ذلك لا يطمع في أكثر من أن تعطيه الحكومة الإنكليزية قبل دخوله معها في المفاوضات مجرد وعد بإلغاء الحماية أثناء التفاوض)، ولا تنس أولي الأغراض والأهواء والإحن والحزازات الذين مع فرط استعظامهم هذه الشروط واعتبارها كالأحلام أخذوا يرجفون بأن الأمر ليس بالجد، وإنما ألاعيب سياسية، يقصدون بذلك إلى ترويج سوء الظن بدولة الوزير الجليل، ويبثون في الأمة من روح التشاؤم ما يثبط الهمم ويفل العزائم.
بين هذه العوامل المتنازعة والقوى المتدافعة والعناصر المتكافحة المتضاربة انبرى الرجل الكفء الضليع يكد ويعمل، مضاء في تؤدة، منصلتا في أناة، صارما في رفق، جريئا في حزم؛ والأمة المصرية والأمة الإنكليزية وأوروبا والعالم أجمع ينظر إليه نظرة إعجاب وإكبار، ويشرئب لاستطلاع نتيجة عمله العظيم، واستكشاف غاية شوطه الخطير وشأوه الرائع، كأنهم يرمقون عطارد أو المشتري أثناء سيرته المشرقة الزاهرة، ودورته المتألقة الباهرة.
وقف العالم ينظر إلى ثروت باشا أثناء تلك الفترة الحرجة العصيبة، تلك الفترة التي باتت تتمخض السياسة أثناءها عن ميلاد مستقبل أمة، لا يعلم أيجيء موفورا نضجا تاما، أم مبتورا منقوصا مشوها، أم ما هو شر من هذا؛ يولد ميتا؟
Bog aan la aqoon