وينشر في الموتى كليب بن وائل
وقد أطلق مدفع الاستقلال ناموس جنازة العهد القديم المندثر، وبوق البشارة بميلاد العهد الجديد المبارك، وكأن دويه المستفيض يحمل صوت البشير ممعنا في ظلمات الغيب إلى ذرية المصريين من أهل المستقبل البعيد في عالم الذرات، متغلغلا إلى أعماق الأبد.
الفصل الثالث
الحالة الحاضرة
واجب الأمة في موقفها الحالي
من كان يسره التشبث بأهداب الأماني البعيدة، والهيام وراء أشباح الخيالات، فالعاقل من اغتبط بالشيء الواقع وإن قصر عن مدى أمله، ووقع دون غاية مبتغاه وحسبه أن يكون ذلك الواقع منطويا على عنصر الخير وجرثومة الفلاح.
ألا ما أعظم الواقع المدرك الحاصل في حوزة الأمة، وما أجل خطره وقيمته! أليس هو الدرة المستخلصة من أعماق بحر الخيال، والجوهرة المستصفاة من غمار لج النظريات والاحتمالات؟ أليس هو ذلك الشيء الماثل أمامك حقيقة ثابتة مؤكدة لا ريب فيها ولا شك، ولا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها؟ أليس هو الأساس الوطيد الذي تبني عليه الأمة نظام الحياة والعمل، والسلم المتين الذي عليه تسمو في معارج الرقي والرفعة إلى حيث يبلغ بها ما تبذله من المجهودات والمساعي؟ لذلك كان من الحزم والحكمة أن تتشبث الأمة بما يسوقه إليها الحظ من الخير الواقع أشد تشبث، وتنتفع به جهدها وتستثمره، وتتخذه وسيلة وسببا إلى غيره من الثمرات والفوائد بفضل الجد والعزم والمثابرة.
نحن لا ندعي أننا قد نلنا أقصى أمانينا القومية أو بلغنا غاية مطالبنا الوطنية، ولكننا نقول ونصرح أننا أدركنا شيئا كثيرا؛ أدركنا الأساس المتين الذي نستطيع أن نشيد عليه صرح الاستقلال التام بفضل الجد والمواظبة، وملكنا فوهة السبيل الذي إذا تضافرنا على اجتياز أوعاره واقتحام عقباته أدانا بلا شك إلى أقصى غايتنا المنشودة.
لذلك ترانا نعجب كل العجب، وتمتلئ قلوبنا دهشة من الذين لا ينفكون - إزاء هذه المغانم العظيمة والفوائد الجمة - يصيحون أن حالتنا السياسية باقية على ما كانت عليه من قبل لم يطرأ عليها أدنى تغير، فهل يقول مثل هذا إلا غافل عن الحقائق الناصعة والشواهد الملموسة أو متغافل؟
هل يشك مخلوق كائنا من كان أن بريطانيا بتصريحها الخطير (الذي اعترفت فيه بإلغاء الحماية وباستقلال البلاد) قد محت من سجلات السياسة والتاريخ تلك الصحيفة السوداء التي كانت سجلت بها على مصر الحماية المشئومة، فأصبحت مصر بفضل ذلك بلادا مستقلة ذات سيادة في نظر القانون الدولي، وفي اعتبار الدول جمعاء، وأصبح من المفروض على الدول قانونا أن تعامل مصر على هذه الصفة كما تعامل سائر البلدان المتمتعة بالاستقلال التام، ولمصر الآن كامل الحق في طلب الانضمام إلى عصبة الأمم متى شاءت، وفي صيرورتها ضمن أعضاء هذه العصبة، وأصبح غير محظور على الدول أن تعاملنا معاملة النظير للنظير، وأن تراعي معنا كل ما هو مقرر بين بعض الدول والبعض الآخر من الحقوق والحرمات والواجبات، فليس في استطاعة الدول الآن أن تنكر وجودنا مثلما فعلت حينما أوصدت في وجهنا أبواب مؤتمر فرساي، واعتبرتنا أمة عديمة الشخصية قاصرة لم تخرج بعد من طوق الحماية والوصاية، بل لا تملك حق الكلام والتعبير عن ذات صدرها.
Bog aan la aqoon