أما لنكولن فكان ينتقل بين الناس كأحدهم، وكثيرا ما يكون دون بعضهم، فإذا أخذ مكانه في قطار أو في مركبة عامة كان بين ركابها كما كان بين الناس في نيو سالم إذ كان يبيع في حانوت؛ يتبسط لهم في القول، ويسترسل معهم في شتى الأحاديث، ويقص عليهم من قصصه، وإن له في هذا كله لمتاعا ولذة لن يحسها إلا من كان له مثل قلبه.
وكان بعض أصحاب لنكولن يشفقون من مطاولة دوجلاس، ويظنون أنه تورط في هذا الأمر. لقيه أحدهم في سبرنجفيلد قبيل سفره للقاء الأول، فصارحه بخوفه وأظهره على مخاوف كثير من أصحابه، فمشت في وجه لنكولن كدرة، ثم ما لبث أن أشرقت صفحته وابتسم ابتسامة عذبة، وقال وقد التمعت عيناه: «اجلس هنا دقيقة يا صاحبي سأقص عليك قصة: لقد سافرنا في الجولات القضائية معا وشهدنا جلسات المحاكم، وكثيرا ما رأينا رجلين على وشك أن يتصارعا؛ أما أحدهما، وهو المارد الكبير أو الصغير حسبما تكون الحالة، ففخور ذو جلبة يقفز عاليا في الهواء، ويضرب قدميه إحداهما بالأخرى، ويدق جمعي يديه واحدة بأختها يشير إلى ما يعتزم أن يصنع محاولا أن يخيف خصمه. وأما الثاني فلا ينطق بكلمة وذراعاه إلى جانبيه وكفاه مبسوطتان ورأسه ثابت فوق عاتقيه، وهو يدخر نفسه وقوته للصراع. سيضرب هذا الرجل إذا وقع الصراع ، وسيكون له فيه مثل ما ترى من ثباته قبله. اذكر ذلك ولا تنسه ... رافقتك السلامة.»
والتقى الرجلان في أتاوا واحتشد الناس في الموعد المضروب فضاق بهم مكان الاجتماع، وحانت ساعة الكلام، فوثب «المارد الصغير» إلى موقع مرتفع أطل منه على الناس، فتمزقت بالتصفيق أكف أنصاره وتشققت بالهتاف حناجرهم، وهو يرسل نظراته في جنبات المكان ويوزع إيماءاته هناك وهنا حتى سكنت ريحهم فبدأ الكلام.
وكان يومئذ في الخامسة والأربعين بادي الفتوة مرموق الشباب، يتهلل وجهه لولا كدرة طفيفة هي مما فعلته به ابنة العنقود وسكنى المدن، ولكنها كدرة كانت تنقشع حين تلتهب بالحماسة وجنتاه، وكان في موقفه بارز الصدر قوي العاتقين، تتجه نظرات الجمع إلى رأسه الضخم، فما تلبث أن تلتقي بعينيه الزرقاوين السريعتين، فترتد حاسرة كأنما عشيت من ضوء وهاج، وكانت تفتن الأنظار أناقة ملبسه ونظام هندامه، كما كانت تسحرها لفتاته وحركاته، كأنما كان يحس مثل ما يحس الممثل القدير قد عرف سبيله إلى قلوب محبيه، فهو يحرص الحرص كله ألا ينحرف قيد شعرة عما يشيع في نفوسهم السحر من مظهره.
وتكلم فكان في كلامه ثبت الجنان زلق اللسان، وكانت له في هذا الاجتماع خطة بالغ في إحكامها، ومؤداها أن يرمي لنكولن والمتشيعين له بأنهم من المتطرفين الذين يريدون حل مسألة الرق بالقوة، ثم يحمل على بقية الجمهوريين فيرميهم بالتذبذب، وراح يلقي تلك التهم فيتحمس ويعلو صوته ويكثر من الإشارات، يحسب أن ذلك يغني عن الإقناع بالحجة، وكان يسمو بعباراته أحيانا فلا ترتقي إليها أفهام الكثيرين، أو كما يقول الإنجليز كان يتكلم من فوق رءوس سامعيه، على أنه كان له من جاهه ونفوذه وهيبته في قلوب الجماهير عوض عن ذلك أي عوض، فحسبهم أنهم يستمعون إلى ذلك الذي بات يتحدث باسمه كل إنسان، حسبهم أنهم يستمعون إلى دوجلاس السياسي الأشهر والثري العريض الثراء، والأمريكي العزيز الجانب الذي سافر إلى أوروبا وحظى بلقاء بعض الرءوس المتوجة، وإن في كثير من النفوس البشرية من الغرائز ما يميل بها إلى الخضوع للسلطان والانقياد للقوة، ولو كان فيما تأمر به القوة ما هو جدير أن يقابل بالعصيان.
وجاء دور أبراهام فطلع على الناس بقامته الطويلة، فهتف باسمه أنصاره وتحمسوا له، واتجهت إليه الأنظار، وإنه ليبدو كأنما أخذته من الموقف ربكة، فليس له تطلع دوجلاس وتحفزه، ونظر الناس إلى شعره الأشعث وملابسه المتهدلة، وبخاصة سرواله الذي يكشف - لقصره - عن جزء من ساقيه، وقارنوا دون أن يشعروا بين تلك الملابس وبين حلة دوجلاس الأنيقة، فبدت أكثر حقارة مما هي عليه، وكانت تستقر الألحاظ من حين إلى حين على محياه، وقد ازدادت مسحة الهم فيه وضوحا، وبدا عليه ما يشبه المسكنة والانكسار، ولكن الناس على الرغم من ذلك أو بسبب ذلك على الأصح يرتاحون إلى مظهر ذلك المحيا، ويشعرون نحو صاحبه بالحب.
بدأ الخطيب في صوت أجش تتخلله حشرجة ثقيلة، ثم ما هي إلا برهة حتى انطلقت نفسه على سجيتها، فإذا ذلك المحيا يتهلل ويشرق وتتشكل أساريره بما يهجس في خاطره، وإذا تلك العينان الواسعتان المتسائلتان تنفذان إلى أعماق القلوب، وإذا الرجل يبدو في هيئة يتقاصر عن وصفها الكلام، وتتفتح مسالك صوته، فينطلق رائقا له نبرات تتشكل حسبما يعبر عنه من المعاني، وكان إذا تحمس يعلو صوته فيدوي في أرجاء المكان، ويكون لفحولته وروعته وقع في النفوس أي وقع.
تدافعت إلى ذهنه الألفاظ، وقد جاءت كما يحب وكما يتطلب المعنى في غير زيادة أو نقص، وتزاحمت عليه المعاني وقد أسفرت عن وجوهها ومشت إلى غايتها في غير تحرج أو التواء. وبرزت في ذلك الموقف مواهبه في كمالها، فكان له ما شاء من سهولة اللفظ مع إشراقه وبلاغته ودقة المنطق مع سلاسته وسلامته، هذا إلى يقين ينفث في قوله الحرارة وتمكن مما يقول يذيع فيه الروعة، وأمثلة يسوقها للناس من حياتهم فتستقر في نفوسهم وكثرتهم من العامة، ومن وراء ذلك العبقرية التي تستعصي على التحليل وتسمو على التأويل.
وينساب السيل لا يصده عن وجهه شيء ولا تمشي - على تدفقه وجيشانه - في صفائه كدرة، والناس مفتونون وإن هم لم يفطنوا إلى سر فتنتهم، فهم مأخوذون بما يسمعون عن أن يفكروا فيما سحرهم، وإنهم لفي سكرة أشبه بما يجدون فيه أنفسهم إذ يصغون إلى لحن من تلك الألحان التي تسحر الأنفس وتملك الألباب.
ونزل لنكولن وله في قلوب السامعين من أنصاره وخصومه مكانة فوق ما كان له من قبل من مكانة، فلقد استطاع أن يقنعهم، كما استطاع أن يشعرهم بما هو أقوى من الإقناع وأبعد أثرا؛ ألا وهو الإعجاب، وإنهم ليتهامسون بعضهم إلى بعض: ليت لسادتنا وكبرائنا قلوبا مثل قلب هذا الرجل.
Bog aan la aqoon