وإن صديقه هرندن - وهو العليم به - ليحار في أمره ويحاول أن يرده إلى ما يعلم من حال معيشته وعلاقته بزوجه، فيجد في هذا ما هو عسي أن يكربه كما يكرب من كان في مثل موضعه من الناس، ولكنه يرى همه أكبر من تلك الأمور التي يعرفها ويظنها أسبابا له.
هل عادت السياسة تشغل نفسه؟ أم هل عادت معضلة الرق تقلق خاطره؟ أم أن ما يكربه اليوم هو ما ذكرناه من قبل مما يكرب كل نفس كبيرة؛ إذ يحس صاحبها أنه قد يعيش مجهولا غير مفهوم؟ أو الإرهاص الذي يسبق كل رسالة كبيرة؟ ولكن هذا الهم بين جنبيه من قديم ولا تزيده الأيام إلا وضوحا. هو في الواقع ذلك الإحساس الذي يهجس في كل نفس ملهمة، والذي يبدو على ملامح صاحبها في صورة من صور الهم، وما هو إلا التطلع للمستقبل تطلعا يكاد يخترق حجب الغيب.
وليته يجد في كنف امرأته ما يذهب عنه بعض همه، وأين هو من هذا وهي كثيرا ما تكون سبب ما به؛ فما تزال تعنف عليه وتغلظ له في القول، وإن ذلك ليؤلمه وإن يكن ألفه ووطن النفس فيه على الصبر، وإنما مرد ألمه إلى أن يطمع أن يسكن إلى زوجه كما يسكن الناس إلى زوجاتهم فلا يجد إلى ذلك سبيلا.
على أنه يثق اليوم أن مسلكها معه وليد مزاجها الحاد وأعصابها المرهفة، فلم يعد يظن بنفسه الظنون ويخشى أن يكون ذلك منها استخفافا بأمره، فهي تعيش اليوم في رغد بفضل ما يكسب من مال، بنت طابقا ثانيا لمنزلها وقد أصبح المكان الذي يقع فيه من أحسن جهات المدينة، واشترى لها زوجها عربة جميلة تغدو فيها وتروح في أنحاء سبرنجفيلد، وإن لم يره فيها الناس قط! ولن يمر أسبوع دون أن تدعو الأصدقاء والصديقات إلى حفل بهيج تقيمه في بيتها، وقد جددت أثاثه وزينته أحسن زينة، وبلغ عدد من حضروا حفلا عندها مرة ثلاثمائة من خمسمائة مدعو حال المطر دون حضور بقيتهم!
وإنه ليضع ماله كله في متناول يدها لتصيب منه ما تشاء بغير حساب، وقد ترك لها أن تفعل ما تحب فيما يتصل بأمر المنزل والحديقة، يثني على كل ما تفعل ويرضى بكل ما تقول. إذا عن لها أن تسأله مرة عن أمر فجوابه الذي لا يملك غيره هو امتداح ما ترى هي من رأي، حتى ملابسه تشتريها هي له كما تشتري ملابس أحد أبنائهما، وهو بهذه الطاعة يطمع أن يسكن هياجها ويخفف حدتها، ولكنه يجد منها التبرم حتى بمسلكه هذا! قالت لأختها مرة: «إنه لا وزن له إذ يكون في البيت، ولن يفعل هنا شيئا أكثر من أن يدفئ نفسه ويقرأ، وما ذهب إلى السوق مرة في حياته، وإني أنا التي أعنى بكل هذا ... إنه لا يعمل شيئا، وإنه لأقل الناس فائدة وأضيعهم حياة على وجه الأرض.» على أنها على الرغم من ذلك يشيع السرور في وجهها؛ إذ تثني أختها على أبراهام، وتتنبأ له في غده بعظيم القدر. وكثيرا ما كان يراه صديقه في مكتبه قد بكر إليه قبله بساعات، فيدرك لم ترك منزله هكذا مبكرا، وكثيرا ما كان يعلم أن صاحبه بقي بالمكتب في الظهيرة فأكل بعض لقيمات وقليلا من الجبن يشد بها متنه، وكثيرا ما علم كذلك أن أبراهام لبث في المكتب إلى قبيل منتصف الليل.
وقد تنتظر امرأته مقدمه عند الغداء، فلا يحضر، فترسل ابنيها الكبيرين يبحثان عنه، فإذا هو في دكان يحيط به نفر من الناس بين عامل وحوذي ونجار وتاجر، وهو مسترسل بينهم في قصصه ونوادره، يشاركهم في ضحكهم إذا ضحكوا ويسألهم عن أحوالهم إذا فرغ من حكاية، ويرد على أسئلتهم، ويقرأ لهم خطاباتهم، كما كان يفعل وهو عامل في دكان أو وهو موظف في البريد.
فإذا انطلق إلى داره لم يمنعه تأخره حيث كان من أن يقف مرات يكلم هذا، ويرد على تساؤل ذاك، ثم هو يعابث ابنيه ويمازحهما جاهرا بصوته، وهما يتواثبان حوله يحاول كل منهما أن يسبق أخاه في تناول ما يمد به إليهما يده من حلوى، ويشرح أبوهما للناس سبب تصايحهما مرة بقوله: «ما الحيلة وليس معي إلا ثلاث قطع وكل منهما يريد لنفسه اثنين؟!» وتعلم أمهما منهما بكل ذلك فتغضب وتصرخ، فيطرق أبوهما برأسه، ويدعها في هياجها لا ينبس ببنت شفة حتى تنفس عن نفسها غيظها كله.
ويحذر وهو يلاعب ابنيه في بيته أن تفاجئهم أمهما فتقلب سرورهم نكدا؛ إذ تعد عملهم عبثا بالنظام؛ ولذلك يستصحب الابنين الكبيرين أيام الآحاد إلى المكتب، فيلاعبهما كيفما شاء، ثم يدعهما يمرحان ويلعبان، وكأنما ينتهزان بعد رقابة أمهما فيأخذان من المرح والزياط بأكبر نصيب، ويشهد أثر ذلك هرندن في اليوم التالي؛ فيما يرى من أوراق ممزقة ومقاعد ملقاة ومداد سائل على القماطر!
ودخلت عليه ذات ليلة وبين يديه ضيف من رجال القانون، فسألته هل نفذ ما طلبت إليه من أمر، فأجاب أنه نسي، فعنفته قائلة إنه يهمل ما تطلب إهمالا معيبا، ثم خرجت معجلة وشدت وراءها مصراع الباب في عنف، فدقت به مصراعه الثاني دقة قوية، وعجب الضيف ونظر إلى أبراهام فضحك يهون المسألة لصاحبه، ثم قال: «لو أنك علمت مبلغ ما في هذا العمل من شفاء لها ومبلغ ما فيه من خير، وكيف تستمتع به حقا، ولو أنك عرفتها كما أعرفها؛ لسرك أنها تجد فرصة لتنفجر ولتنفس عن نفسها ما تشعر به.»
وراض أبراهام نفسه على ألا يغضب مما تؤذيه به، فلا فائدة من الغضب ولا نتيجة له إلا ازدياد غضبها وثورتها، ولقد بلغ بها الأمر أن رآها بعض الناس ذات يوم تدفعه إلى خارج البيت بخشبة مكنسة قديمة!
Bog aan la aqoon