ويضايقها منه صراحته فإنه يقص على أصحابه وزوجات أصحابه ما لا يسمح العرف بذكره من شئون حياته، فإذا انصرف هؤلاء عكر عليه تأنيب زوجته إياه ما بثه حديثهم في نفسه من سرور.
وتنظر إليه أحيانا وهو يغادر الدار إلى المحكمة فتقول في غضب: «كم أنبهك لتترك هذه القبعة القديمة وقد اشتريت لك غيرها؟» فلا يفعل أكثر من أن يخلعها ويمسحها بطرف ردنه ثم يضعها على رأسه، وينطلق تشيعه نظراتها الغاضبة، فإذا أخفت هذه القبعة القديمة ذات يوم ومدت إليه يدها بالجديدة حذرته أن يدس فيها الأوراق، ولكنه يعود من عمله وفيها من الورق ما يملأ حقيبة صغيرة!
وتحب ماري أن يكون في بيتها خدم من السود وهو لا يطيق ذلك ويصر على عناده مخالفا إياها فيما تريد. قالت ذات مرة لصديق عقب مشادة بينها وبين خادمتها: «إني لعلى يقين من شيء واحد وهو أنه إذا جرى القدر على مستر لنكولن فلن تجدني روحه أبدا أعيش خارج حدود ولاية من ولايات الرق.»
ولكن زوجه على الرغم من ذلك جميعا تحبه وتكبره، وكأنها تبصر من وراء الغيب ما يخبؤه له الغد من جاه ومجد، كتب لنكولن إلى صديقه سبيد بعد زواجه بعام ينبئه أنه رضي النفس قرير العين، ويعتذر إليه من عدم زيارته إياه بقصر ذات يده وشواغل عيشه، ثم يبشره أنه قد صار له غلام.
وكانت ماري تغار أشد الغيرة كلما اتجه بالحديث إلى إحدى زوجات أصحابه، وبلغت بها الغيرة أنها كانت تحاول أن تباعد شيئا ما بينه وبين أصحابه أنفسهم، فلا تحب أن يقضي بينهم من الوقت إلا ما تسمح به ليكون لها أكثر فراغه، وكان هذا يؤذيه ويضايقه ولكنه لم يكن يملك غير الإذعان.
فإذا خرج وإياها للرياضة أو لزيارة أسرة صديقة حرصت ماري على أن يظهر بمظهر يليق به، فأتت له بثياب أصلحتها المكواة، وحرصت على نظافة قميصه ودقة رباط عنقه وخلو قبعته من الورق وبراءتها من التراب، وعنيت بالتماع حذائه وحسن مشيته، ويطيعها زوجها إلى ما تريد، وتتمنى لو اتبع ذلك النظام كل يوم، ولكنها لا تلبث حتى تراه وقد عاد أشبه بفلاح يتنكر في زي أهل المدينة؛ فحلته متهدلة متكسرة، وسرواله الطويل منتفخ عند ركبتيه، ورباط عنقه يدور حول ذلك العنق حيثما اتفق، وقد أرخى ذراعيه إلى جنبيه، ونظر إلى محدثه وشفتاه مضمومتان ضمة من ذاق خلا أو ارتشف رشفة من دواء مر، وكأنه إذ يحدق فيه بعينيه الواسعتين، ويستمع إليه يفكر في شيء آخر لا يمت إلى الحديث بصلة!
وكثيرا ما كان يرى لنكولن بعد زواجه مضطجعا إلى ظهر كرسي أسنده إلى الحائط، وقد مد رجليه على كرسي آخر، وألقى برأسه إلى خلف، وأمال قبعته حتى تغطي جبينه وعينيه، ولبث ويداه مشتبكتان حول ركبتيه يتفكر مليا، لا يستطيع أحد أن يقطع عليه تيار فكره، ويخرج من هذا بمقالة يكتبها أو بشعر يترنم به.
وكانت مسحة الهم التي عرف بها محياه منذ صغره ترتسم على ذلك المحيا كلما خلا إلى نفسه أو جلس صامتا بين صحبه، ولا تنقشع إلا إذا قص قصة أو تندر بحادثة، ثم يعود إلى وجهه ما يساوره من هم لا يتبين على اليقين مبعثه، فماذا كان يكربه وقد تزوج وذهبت حيرته؟ أكان مرد همه إلى ما يكرب كل نفس كبيرة من إحساس صاحبها أنه قد يعيش مجهولا غير مفهوم؟ لقد ذكر شيئا من هذا حين كتب إلى صاحبه يقول إن مرد شقائهما إلى أنهما يحلمان على هذه الأرض أحلام الفردوس.
بيض وسود
بينما كان يتطلع أبراهام إلى مقعد في الكونجرس، وقد أوشك أن يفرغ ما أجبر عليه من انتظار، كانت البلاد كلها في شغل بما جد من تلك المشكلة التي نجمت من وجود العبيد فيها منذ عهد الاستعمار، ولقد كان لهذه المشكلة خطر أي خطر في سياسة البلاد؛ ولهذا وجب أن نأتي بحديثها على سرده.
Bog aan la aqoon