تلك هي تعلات المتردد الحائر تصور لنا حالا من الحالات المستعصية على الفهم، ولقد آلت المسألة آخر الأمر إلى القطيعة، وانصرفت عنه ماري أوين وهو لا يدري أيعد ذلك فوزا أم يعده خيبة.
وما له يتورط بعد ذلك في صلة جديدة، ولم يستنشق نسيم الراحة إلا من أمد قريب؟ إنه لم يكد ينصرف عن ماري أوين حتى أخذ يتصل بماري تود.
كانت هذه الفتاة الجديدة تنتمي إلى درجة في المجتمع فوق درجته، وكانت مثقفة مهذبة شديدة الذكاء، تدير الحديث إذا جمعها بالنابهين من أهل المدينة مجلس فتسحرهم بتوقد الذهن وقوة المبادهة ولطف الإشارة وأناقة العبارة. وكانت ماري إلى ذلك ذات طموح إلى هدف بعيد، فكانت نظرتها إلى الشباب من جنس نظرتها إلى الحياة، المقدم فيها عندها من تثق أنه إذا نال يدها يخطو بها إلى ما تمد إليه عينيها وخيالها من نفوذ ونعمة وجاه، وكانت فتاة قلقة كأنها من فرط توثبها الطائر المرح؛ لا يحط على غصن إلا ليثب منه إلى غصن.
وكان لنكولن ممن يختلفون إلى دار أخت لها في سبرنجفيلد، كما كان دوجلاس ممن يختلفون إلى تلك الدار، كأنما صحت عزيمة ذلك القزم أن يأخذ على المارد كل طريق يسلكه، ولو كان غير طريق السياسة.
وكانت أختها زوجا لأحد التسعة الطوال، فعرفت ماري من أختها شيئا غير قليل عن لنكولن، كما كان زوج أختها صديقا حميما لصاحبه سبيد، وقد تحدث إليها وإلى أختها عن لنكولن أحاديث كثيرة كلما تطرق الكلام إليه.
وكانت ماري قد جاءت لتقيم مع أختها زمنا، وأخذت الرجلين عيناها السريعتان النافذتان، ولكنهما استقرتا على أبراهام، وكان دوجلاس خليقا أن ينال عندها الحظوة بما كان يبدو من ذكائه ودهائه ولباقته وكياسته، وبما كان يشع من ظرفه وحسن سمته وأناقة هندامه. ولقد كان يبتغي إليها الوسيلة بكل ما في وسعه لا تفلت منه فرصة ولا تفوته حيلة، ولكنها اتجهت إلى ابن الغابة في هندامه المتهدل القصير على جسمه المرهف الطويل، ولم يخشن في عينيها وجهه المسنون الذي يحمل في حضرتها من البلاهة بقدر ما يحمل من هموم الأيام، ولم ينب عن ذوقها شعره الأشعث الذي يصور للعين ألفاف الغابة!
وأخذ ابن الأحراج يزداد من حبها بقدر ما يفقد دوجلاس منه، ولكنه يسر إلى صديقه سبيد ذات يوم أنه لا يشعر قبلها من الحب ما هو عسي أن يفضي بهما إلى الزواج، ثم يهم أن يكتب إليها بعد ذلك ...!
وكان عجبا أن تتجه ماري إلى أبراهام دون دوجلاس وهي فتاة طامحة، وهو يبدو في كل أمر متحفظا يؤثر الهوينا، بينما كان دوجلاس مثلها طموحا يتوثب لا يكاد يفتر له عزم، ولقد عرف أنها كانت تحلم بالبيت الأبيض، وتحلم بالزوج الذي يرجى له أن يتخذ مقعده هناك يوما ما، وإذا كان الأمر كذلك فأي الرجلين كان عسيا أن يصل بها إلى ما تحب؟ وكيف تترقب ذلك على يد ابن الغابة، ولا ترجوه على يد دوجلاس؟
ولم يكن عجبا أن يتردد أبراهام في صلته بها من أول الأمر؛ فهو كلما ذكر عسره ومنبته استحى وساوره مع الحياة الهم. وإنه ليراها في بيت أختها الفسيح الأنيق موضع إعجاب كل زائر، حديث النفس في خلوتها لكل شاب، تتكلم الفرنسية وتحسن توجيه الكلام وإدارة الحديث، كما تجيد الحوار وتعرف كيف تسر كل متكلم وتتخذ أقرب السبل وأيسرها إلى قلبه. وإنها مع ذلك لذات كبر وأنفة، وذات حسن وظرف، وإن لم تصل ملاحتها إلى مستوى ذكائها. وإنها لقوية الشخصية تسحر محدثها بوداعتها وظرفها إذا رضيت، وتقهره بنظرتها العنيفة المخيفة إذا غضبت. وإنها لتدل بمكانة أهلها وجاههم تالده وطريفه! ومنهم من كان ذا شهرة في حرب الاستقلال، ومنهم من كان حاكما لإحدى الولايات؛ ومنهم أبوها وكان قائدا في حرب سنة 1812 كما كان رئيس مصرف كنطكي، وكان ذا مال وجاه، يملك الخيل المطهمة والعبيد المؤتمرين بأمره، والأرض الواسعة التي تدر عليه الخير ... وأين من هذا كله المحامي الفقير الذي ولد في كوخ، والذي لم يجد له مأوى في المدينة إلا ما كان من معونة صديقة سبيد! والذي استنكف أن يوكله في قضية له إنجليزي في المدينة قائلا عنه: «إنه يبدو كفلاح يشهد البهلوان لأول مرة.»
على أنه لم يكن يعلم مقدار حرصها على كسبه؛ فإن هذه المرأة الذكية كانت توقن كلما قارنت بينه وبين ذلك القزم - الذي يشبهها أعظم الشبه - أن المستقبل له، فثمة شيء تحسه ولا تستطيع أن تقول ما هو ينبئها أنه عظيم، وإن لم يبد عليه اليوم شيء من العظمة.
Bog aan la aqoon