وحدث في هذه الدورة أن أصدر مجلس إلينوى قرارات يؤيد بها قرارات مثلها أصدرتها بعض الولايات المتمسكة بامتلاك العبيد، فغضب أبراهام وعادت إليه ذكرياته القديمة عن العبيد وسوء حالهم، وكان فريق من ذوي الرأي يومئذ ينددون في الصحف بهذا النظام وينعتونه بالقسوة والظلم ومجافاة الإنسانية، ولكن ولاية إلينوى تؤيد النظام وتحبذه، ويعلن كثير من أهلها أنه يمكن الاعتماد على ولايتهم في توطيد هذا النظام ومحاربة من يودون القضاء عليه من أهل الشمال.
بيد أن أبراهام لا يستطيع أن يكتم في نفسه رأيا يرى الحق في إعلانه؛ لذلك قدم هو وزميل له من التسعة الطوال احتجاجا شديدا على قرارات مجلس الولاية بقسميه، ونشرت الصحف هذا الاحتجاج الجريء، وأشفق بعض خلصاء لنكولن من أثر هذا القرار على مستقبله السياسي، ولكنه الرجل الذي ينظر إلى الصالح العام قبل أن ينظر إلى صالح نفسه، وإنه لأهون عنده أن يناله الضر من أن يتنكب طريق الحق، على أن أهل مقاطعة سنجمون التي انتخب عنها يتلقون نبأ احتجاجه لقاء طيبا، فيثنون على أبراهام؛ لأنهم يعلمون أنه لا يقول إلا ما يؤمن أنه الحق، كما أثنى أهالي الجنوب على اعتداله وتحفظه.
ويضيق ابن الغابة أحيانا بمكر رجال السياسة وألاعيبهم، فهم يتقنون المساومة والمخادعة، ويخفون أطماعهم الشخصية وراء الكلمات البراقة والبيان الخلاب، ولا يعطون إلا بقدر ما يأخذون، إذا وافقوا اشترطوا ما يحقق مآربهم، وإن خالفوا فذلك ليشتروا بخلافهم ما يريدون، تجلت له صفاتهم في أمر لم يظن أن لأحد فيه مصلحة شخصية؛ وذلك أن رغبة كثير من الناس اتجهت إلى نقل قاعدة الولاية إلى مدينة سبرنجفيلد؛ وذلك لقربها من العمران وطرق المواصلات. وأيد فريق من أعضاء المجلس - ومنهم أبراهام - هذه الرغبة، ولكن فريقا منهم يخالفونها، ويجتهد أبراهام وبعض أصحابه في حمل هؤلاء على الموافقة، ولكنهم يساومون ويشترطون موافقة أبراهام وأصحابه على أمور أخرى ثمنا لموافقتهم على هذا الرأي، ولا يسع ابن الكوخ إلا أن يشير إلى مثل هؤلاء الساسة مرة في عبارة شديدة لاذعة قال: «هذا صنيع الساسة وهم فريق من الناس نرى أبدا لهم مآرب بعيدة عن الصالح العام، ونرى كثيرا منهم يبتعدون بهذا خطوة طويلة عن الأمناء من الرجال، إني أقول ذلك بكل صراحة؛ لأني - وأنا سياسي كذلك - لا يمكن أن يحمل كلامي على أنه يراد به طعن شخصي.»
وتغلب أخيرا رأي لنكولن وأصحابه، وتقرر نقل القاعدة إلى سبرنجفيلد، وعد هذا انتصارا له فقد جاهد من أجله جهادا متصلا.
في سبرنجفيلد
دخل أبراهام مدينة سبرنجفيلد على جواد هزيل استأجره، يحمل كل ما يملك من متاع الدنيا في جوالق صغير ذي ناحيتين وفي جيبه مبلغ لا يزيد عن سبعة دولارات، وكاهله لا يزال مثقلا بما سماه الدين الأهلي!
دخل هذه المدينة وهو اليوم ابن ثمان وعشرين، كما دخل مدينة نيو سالم قبل ذلك بنحو سبعة أعوام، لا يدري أين يتخذ مأواه أو على الأقل أين يلقي رحله لساعته.
وكانت المدينة يومئذ آخذة في الاتساع والنمو، بيد أنها كانت لا تزال تعلق بها مسحة من الغابة؛ إذ كان منبتها كغيرها أول الأمر وسط الأحراج، وكان لا يزال بها عدد كبير من المنازل أو الأكواخ المتخذة من الكتل الخشبية، على أن مباني جديدة من الآجر كانت آخذة في الظهور يوما بعد يوم، وبها أخذت المدينة كصاحبنا أيب تخلع عنها ما تخلف فيها من حياة الغابة شيئا فشيئا.
ربط أبراهام جواده إلى عامود على جانب أحد الشوارع، وحمل خرجه على ذراعه، واتجه إلى حانوت يملكه رجل من أهالي كنطكي يدعى سبيد، فسأله أيب عما يلزم من المال لشراء سرير وفرش، فلما أخبره الرجل أن ذلك يكلفه سبعة عشر دولارا أخذته حيرة شديدة، وقال له وفي نظرات وجهه أمارات الهم والربكة: «إن هذا ثمن رخيص، ولكني مع ما يبدو من رخصه لا أستطيع أن أدفعه؛ إذ ليس لدي مال، بيد أني سأحترف المحاماة ولي في الربح أمل، فهل تمهلني إلى عيد الميلاد القادم؟» وأطرق أبراهام قليلا ثم أردف قائلا: «وإذا أنا عجزت يومئذ عن أن أؤدي لك حقك، فلست أعلم ما إذا كنت أستطيع أن أؤديه لك أبدا.»
وكان الرجل طيب القلب، فتملكته الشفقة على هذا الغريب الذي لا يجد مأوى، والذي يبدو له من أمانته بقدر ما يبدو من فاقته، فقال سبيد: «اصعد إلى حجرتي فوق الحانوت، فستجد سريرا كبيرا يسع شخصين، وأنا أعرض أن نقتسمه إذا أحببت.» وصعد أبراهام إلى الحجرة وعاين السرير، ونزل وعلى وجهه أمارات الرضا، وفي قلبه شعور الغبطة بهذه الصداقة الجديدة التي سوف تقوى على الأيام.
Bog aan la aqoon