لقد برهن جرانت على كفايته في بعض المواقع وإن لم تكن مواقع ذات بال، ولكن حسبه النصر فيها على أي حال، ولعله لا يتخلف عنه النصر إذا ألقيت على عاتقه القيادة في المعارك الكبيرة. إن الرئيس لا ينسى أنه استطاع أن يستولي على حصني هنري ودونلسن في فبراير سنة 1862، وهي سنة الكروب والهزائم، واستطاع كذلك أن يحمل الجنوبيين على التراجع في معركة حامية خاضها في أبريل من تلك السنة.
وكان الرئيس لا يعرف جرانت معرفة شخصية، ولكن هاتيك الانتصارات في أوقات عز فيها النصر تنم عن كفاية، وتدل على بطولة، ألا إن قلب الرئيس ليحس أنه الرجل المرجو، وإنه ليتحدث عنه حديث الواثق من كفايته كلما جاء ذكره، وإن القواد ليلمسون أن الرئيس شديد الإقبال عليه، وأنه ليبدو لهم أنه مرسل إليه عما قريب فمعطيه الراية؛ ولذلك أخذ يدب الحسد في بعض القلوب، فبينما كان الرئيس يثني عليه ذات مرة إذ قال بعض جلسائه إنه لا يكاد يفيق من السكر، فاستمع إلى الرئيس الذي لا تفارقه النكتة أبدا، قال لنكولن: «أرجو أن تدلوني أي نوع من أنواع الويسكي يحب ذلك الرجل؛ لأرسل منه برميلا كبيرا إلى كل قائد آخر!»
وأيقن لنكولن وقد اتجه قلبه إلى جرانت أنه اهتدى إلى القائد الذي يكون في ميدان القتال مثل هذا الرئيس في البيت الأبيض؛ رشيدا لا يزوغ بصره، قويا لا يكل عزمه، ثابتا لا يخف حلمه، حكيما يعرف ما يأخذ مما يدع، جريئا مؤمنا يرى الحياة الحق أن يموت في سبيل مبدئه.
هكذا يفكر الرئيس أن يعطي جرانت لواء القيادة، ولكنه يؤثر أن يتريث قليلا، كشأنه في كل ما يفكر فيه من أمر. •••
أراد الجنوبيون أن يهجموا هجوما قويا على العاصمة الشمالية فيضربوا الاتحاد الضربة القاسمة، فزحف قائدهم الكبير لي بجيشه وعبر نهر بوتوماك، وسار حتى أصبح على خمسين ميلا أو نحوها من وشنطون في مكان يدعى جتسبرج، وهناك التقى به جيش الشماليين، وكان على رأسه القائد ميد وقد جعله لنكولن قائدا لجيش بوتوماك لعله يصيب النجاح.
ودارت في هذا المكان معركة عنيفة دامت ثلاثة أيام، وقد استبسل الفريقان فيها واستقتلوا وتوالى بينهما الجزر والمد، وكأنما طلب لهم الموت فتسابقوا إليه جماعات، وانتهى الصراع بانسحاب لي ولكن في ثبات واطمئنان، وكان ذلك في اليوم الثالث من يوليو سنة 1863.
وعدت هذه المعركة التي سقط فيها أكثر من عشرين ألفا من الضحايا فاتحة الانتصارات الكبيرة لأهل الشمال؛ فقد يئس لي من الزحف على عاصمتهم وأيقن أنهم قوة لا تغلب، وسوف ينصرف بعدها عن الهجوم إلى الدفاع.
وما إن وصل إلى وشنطون نبأ ارتداد لي مكرها حتى تدفق الناس إلى حيث يجلس الرئيس، وهم من فرط ما قد سرهم من النبأ لا يدرون ماذا يفعلون للتعبير عما في نفوسهم نحو هذا الحصن الحصين وهذا العتاد المتين؟
ونام الرئيس ليلته ملء جفونه لأول مرة منذ قامت الحرب، وفي اليوم التالي حمل إليه البرق رسالة من جرانت، وكانت له القيادة على ضفاف المسيسبي، وفض الرئيس البرقية وقلبه يخفق؛ فإن له في جرانت أملا، وقرأ الرئيس فإذا جرانت ينبئه نبأ عظيما؛ فقد سقطت في يده فكسبرج. وكانت هذه المدينة لمناعتها ولأهمية موقعها تسمى جبل طارق المغرب؛ إذ كانت مفتاح النهر إلى الجنوب، ولقد جمع فيها أهل الجنوب ما استطاعوا من قوة وعدة، وكان جرانت قد اتجه إليها منذ فاتحة ذلك العام، وكان هو وجنوده يلقون النار الحامية من المدافعين عنها، ولكنه لم يعبأ بما كان يلقى، ولبث يعمل في هدوء حتى أحكم الخطة فأحاط بالمدينة، ثم أتى حاميتها من فوقهم ومن أسفل منهم، وما زال بهم حتى أجبروا على التسليم تاركين في يده ثلاثين ألفا من الأسرى، وعددا هائلا من البنادق والأسلحة، ومقدارا كبيرا من المئونة والزاد.
ولا تسل عما فاض في العاصمة الشمالية من مظاهر الجذل والحبور، فلقد شعر الناس بقرب انكشاف الغمة، والتمعت في سمائهم بوارق الأمل في النصر النهائي بعد هذا العذاب الشديد.
Bog aan la aqoon