وأحدثت القصص الدينية أثرها في نفس الصبي، وظلت عالقة بلبه وخياله، وجرت في كيانه مجرى الدم في عروقه، واختزنت حافظته ألفاظها بنصها، حتى ليتحرك بها لسانه وإن لم يقصد.
وثمة شيء جذبه إلى أمه وإن كان ليحب مرح أبيه وطلاقة روحه؛ وذلك هو معرفتها القراءة والكتابة، ثم رغبتها في أن يتعلم الصبي على الرغم من مجادلة زوجها إياها في ذلك؛ إذ كان يرى الصبي أحوج إلى الفأس منه إلى القلم، وحجته أنه لا يعرف من الكتابة إلا أن يرسم اسمه ومع ذلك فهو يكسب بفأسه ما يقيم أود أسرته.
وجاء في تلك الأيام بعض ذوي قرباهم، فأقاموا إلى جوارهم، واستأنس الغلام وأخته بالقادمين، وأقبلا على خالتهما وخالهما يستزيدانهما الأنباء والأقاصيص، وازداد الصبي تعلقا بخالته؛ إذ علم أنها تقرأ وتكتب كأمه، وتحبذ مثلها أن يتعلم «أيب» القراءة والكتابة على الرغم من معارضة أبيه.
وبدا للصبي يوما فسأل عن أسرته وأين نشأت وممن انحدرت، ولكنه سمع ردودا مهمة لم ترو ظمأ نفسه أو لم يتسع لها خياله، وبدا أبوه في حيرة من أمره؛ فهو إن أجاب ابنه على قدر ما يفهم ظل تساؤله قائما، وإن أطال وفصل لم يقو الصبي على متابعته.
وهل كان يستطيع الصبي أن يدرك أن أجداده الأولين جاءوا من إنجلترة منذ مائة وسبعين عاما، وأنهم كانوا من أوائل من انتجع الرزق في هذه الأصقاع البرية، وأنهم نزلوا أول ما نزلوا بولاية ماساشوست في الشمال، ثم انتقل بعض ذريتهم إلى ولاية فرجينيا، ومن هؤلاء انحدر جده الذي سكن مقاطعة كنطكي حيث لا يزالون يقيمون؟
لم يفهم الصبي شيئا من هذا، فلا علم له بإنجلترة ولا بالجهات الشمالية ولا الغربية، ولكنه يرهف سمعه إلى أبيه إذ يقص عليه حكاية غريبة عن جده القريب، فبينما كان أبوه وأخواه يساعدون أباهم في الغابة كما يساعد «أيب» اليوم أباه، إذ انطلقت رصاصة من بين الأدغال فأصابت ذلك الأب فخر صريعا لتوه، وجرى الأخوان نحو الكوخ وتركاه وحده، وبرز من بين الأشجار أحد الهنود الحمر وحمله يريد أن يأخذه إلى داخل الغابة، وبينما كان يقاوم ويصرخ عاد أحد الأخوين ببندقية من الكوخ وصوبها إلى رأس ذلك الهندي فأرداه.
سمع الطفل ذلك الحديث وقلبه يخفق فرقا؛ إذ رأى مبلغ ما أحدق بأبيه من خطر وهاله موت جده على تلك الصورة، وماذا عسى أن يمنع أن يصيب أباه اليوم مثل ما أصاب جده بالأمس؟ وبأي قلب يذهب إلى الغابة بعد اليوم؟ ولكن أباه يفهمه أن هؤلاء الهنود قد أبعدوا صوب الغرب، فلن يوجد في الغابات منهم إلا عدد ضئيل لا خوف منه.
وأخذت الأم تعلم ابنها وابنتها حروف الهجاء رسما ونطقا، والصبي مبتهج بما يتعلم حتى جاء رجل إرلندي الأصل، فأقام في تلك الجهة مدرسة لتعليم الأطفال، بنيت من كتل الخشب كما تبنى الأكواخ، وأرسل الصبي إليها فيمن أرسل من أبناء الجيران، وإنه ليطفر فرحا وغبطة. وهناك كان الصبية يجلسون على الأرض، فيدار عليهم كتاب واحد ويظلون طيلة نهارهم يتمرنون على نطق الحروف وتركيب الكلمات. ويسأل الصبي نفسه في لهفة شديدة متى يستطيع أن يكتب ويقرأ كما تفعل أمه وخالته.
ولقد ظل أثر معلمه الأول ومدرسته الأولى مستقرا في أعماق نفسه على مر الأعوام، وثمة شيء آخر علق بنفسه وظل يذكره بعدها بأعوام؛ وذلك هو الوعظ الديني الذي كان يلقيه على الناس في تلك الأصقاع أحد المبشرين تحت الأشجار، أو في كنيسة أقيمت كذلك على نمط الأكواخ. ولقد رأى الصبي ذلك الواعظ ذات يوم يلقي حديثا طويلا على السامعين من غير أن يستعين بكتاب، فعجب لذلك وأعجب بالرجل، وقد كان ذلك أول حديث عام ينصت إليه خطيب الغد الذي لن يجاريه في قومه خطيب.
ومما رآه الصبي كذلك يومئذ، وأثر في خياله، وحير عقله؛ قوم من السود كان أبوه يستوقفهم كلما مر أحدهم به في الطريق العامة، ويسألهم أن يبرزوا جواز مرورهم، وكانت السلطات قد اختارت أباه ملاحظا للطريق! وقد كان منظر هؤلاء السود وذلة نفوسهم مما يألم له الصبي ويدهش، وكانت إجابة أبيه على أسئلته في هذا الصدد مبهمة محيرة، وهو لا يني يتساءل ما ذنب هؤلاء، وما عملهم، وما أصلهم، ولم كانوا كذلك سودا مضطهدين. ولو تفتحت حجب الغيب لأبيه لرأى ابنه في غد محرر هؤلاء العبيد، ومخرجهم مما هم فيه من هوان. ولقد بدأ عطفه عليهم في تلك السن، وأخذ بعدها يؤذيه منظرهم، وينقبض خاطره كلما ذكر مذلتهم. فهل كان يدري الصبي أن القدر يعده ليكتب في تاريخ الإنسانية صفحة من أجل الصفحات بتحرير هؤلاء المساكين الأرقاء؟ لم يكن يدري من ذلك شيئا، وحسبه أن يرثي اليوم لحالهم، ففي هذا الرثاء خير بداية، وإن لم يفكر بعد في غاية.
Bog aan la aqoon